تنبع الغرائبية في قصة الكاتب المغربي من مشهد يومي يكاد يكون مكررا لتكشف ما يمور داخل عاديته من صراعات وغربة. فعدم التآلف بين طقم الأسنان وصاحبه يتحول إلى صراع بينهما يفضي إلى أن يصير وجهه مدمى عاكسا كل ما هو غريب وبعيد عن جسده وروحه.

مجزة العشب الأخضر

حميد الهجّام

محرك مجزة العشب يئز ممزقا سكون الحديقة، وحوله العشب الأخضر تتناثر دراراته في الهواء، والشمس، كانت، رائقة المزاج، وأشعتها، تتسلل عبر سجف سحب بيضاء، بدت، كالعهن المنفوش، وبياضها الناصع يتبدد في صمت على امتداد السماء. في حضن منظرته اقتعد جعفر حلبي كرسي البوليستير خلف مائدة مستطيلة تنتصفها مزهرية كريستال من فمها تدلت زهيرات مارغريت ذابلة،سلا البستاني الاعتناء بها على غير عادته. اغتاظ جعفر حلبي حين دهمه خاطر عابر أن الفتى لا يصلح كبستاني واغتاظ أكثر حين تذكر أنه لا يحب أن يشغل أبناء البادية، ولم يكن ليقبله لولا إلحاح حماته.

غير بعيد عن جسده المترهل، وفي ركن المائدة بمحاذاته، كانت كائنات أخرى تقاسمه الوجود في ذلك المكان إذ بعد حين وهروبا من إحساس غريب بالفراغ  راحت عيناه تستكشفها كما لو تلمحها للمرة الأولى..فنجان قهوة من الخزف الصيني ... غليون من الخشب البني اللامع ... علبة التبغ وعلبة عود ثقاب كبيرة الحجم .. أقلام .. كتب سميكة ... فوق الكتب، كان،  طقم أسنان ... من النوع الذي لا نظير له في قواميس الموجودات، بدا بفكيه العلوي و السفلي و لون دورته الوردية كأنما يضفي التنافر اللازم لسيمفونية الألوان. كان هناك وأسنانه البيضاء باتجاه جعفر حلبي الذي سرعان ما تركزت قدرات ذهنه على الطقم كابحة ذلك الشعور العذب الذي استشعره قبل قليل وهو يرنو إلى تلك الأشياء.

زاغت عصافير خياله طائرة نحو حدائق ماضيه ... تذكر أيام كان يتمتع بأسنان ناصعة البياض كالحليب. بحركة تلقائية أغلق مذكرته ورماها بقرف فوق المائدة فأزعجه صوت ارتطامها فاستنجد بسرعة بتقليب ورقة في مذكرة ذكراه وراح يستعذب أيام كان يراهن رفقة رفاق صباه على من يفتح قنينة البيرة بأسنانه. تذكر تلك الأيام فانهمرت مع أشعة الشمس أطياف أخرى وأوراق أخرى ... أشجار الصفصاف الباسقة، كانت تمتد بعيدا في خطين متوازيين ومتناظرين، مسيجة الممشى، المبلط بالكونكريت الأحمر، المفضي رأسا إلى باب الخروج...كانت المنظرة، عند باب الدخول، تبدو كإيوان بلاط روماني، و قد كان ارتفاعها عن الممشى، يغذي لدى جعفر حلبي،عند دخوله، شعورا بالقوة والمهابة والجاه.

توقف أزيز محرك المجزة و صار بإمكانه سماع خطوات زوجته و هي تتنقل في أرجاء البيت، في الجناح الفوقي ... دهمت ذهنه صورتها وهي تعرض جسدها الممشوق على مرآة البهو المنيفة، صورتها وهي تلج غرفة النوم ... وهي تستلقي بغنج فوق غطاء السرير المخملي. أحس بمزيج من الامتعاض والتقزم وعيناه تتسمران على طقم الأسنان .. تذكر انه لم يستأنس به بعد وقد حاول جاهدا تفسير ذلك النفور لزوجته التي كانت تصر على أن لا تراه بدونه، عبثا شرح لها أنه جسم غريب عن الجسد وأن أعضاء الجسد تنبذ كل جسم غريب.

وكان قد أردف ضاحكا .. أعضاء جسدي تعاني من الكزينوفوبيا، ويلزمني وقت طويل حتى أتمكن أنا سيد جسدي من مؤالفته وهذا العنصر الغريب ... علت وجهه طيف بسمة حين استعاد ذكرى ذلك المساء حين كانا يتناولان البايلا في أحد مطاعم الكوستا ديل سول ...

- راضي... راضي...

دهمته رجفة إثر سماع صوتها المتلألئ في بحر السكون الذي يحيط به، وبعد برهة، لمح بذلة ابن أخته الزرقاء تركض قادمة من جهة حوض السباحة ... حين بلغ الأخير درجات المنظرة توقف، وبعد أن حيا سيده، صعد الدرجات واختفى داخل البيت ولم يعد يسمع سوى وقع خطواته الكتيمة فوق السلم الممكت المفضي إلى الجناح الفوقي.

كان لما يزل يداعب أزهار ماضيه في رياض ذكراه حين انتبه أن عينيه مسمرتان من جديد على طقم الأسنان، وكان الأخير ينظر إليه شزرا. تراءى له في لحظة خاطفة انهمر إبانها نور الشمس ثم ما لبث أن غاب بعد أن حجبته سحابة حمقاء كانت تسبح في سمت السماء، أن طقم الأسنان مثبت في جمجمة والجمجمة فوق الكتب و الكتب فوق المائدة.ارتبك وانفزع, بيد أنه استعاد هدوءه وسلامه الداخلي بعدما أوحى لنفسه أنها محض أوهام قد يكون مصدر انبثاقها خوفا أو رغبة ... وكان قد مد يده نحو غليونه حين مرق بجانبه البستاني خببا.نهض ... ولم يع سبب نهوضه ولم يع أيضا كيف صاح بغيظ.

-هيه..إلى أين؟ التفت البستاني و قد كان ذا بنية قوية و... ووجنتاه منتفختين بشكل كان يثير اشمئزاز جعفر حلبي كلما نظر إليه...أخبره أنه سيخرج سيارة السيدة من المرآب.

صرف النظر وعاود الجلوس فانتبه إلى أنه يمسك بقوة على شيء ما ... بحركات بطيئة بطء سير أفكاره عبأ الغليون وأشعله وراح يعب التبغ المسقي بشره رضيع استيقظ لتوه ... فكر في تلك الأثناء أن التدخين دون طقم الأسنان ضرره مضاعف إذ أن النيكوتين يدلف رأسا إلى رئتيه.هم بتثبيته لكنه عدل عن ذلك بعدما تذكر الألم والشعور بالاختناق اللذان يستحوذان عليه حينذاك. كان يلهو بعينيه متتبعا دخان التبغ المتبدد أشباحا في الهواء، حين تسلل إلى أنفه خيط عطر" دون" الذي يستثيره على نحو مبهم كلما تشممه.التفتت حواسه قبل أن يلتفت جسده فتناهى إلى مسامعه وقع خطواتها وهي تتدرج ارتفاعا وبعد برهة كانت إمامه، الزوجة المحترمة في أوساط المجتمع الراقي.حيته ببسمة حمراء فاقعة و رد عليها بأخرى زرقاء,اقترب جسدها فاتلع بعنقه  وحين هم بإطباق شفتيه على شفتيها أشاحت عنه بوجهها و قبلته أسفل أذنيه ثم رنت ضحكة أرجفت كامل جسده المترهل فرنا إلى وجهها ووقفت هي إلى جانبه تداعبه ثم جلست على ركبتيه وأخرجت من محفظتها منديلا ومسحت أثار أحمر الشفاه الذي كان قد ارتسم على عنقه، استسلم هو إلى دعاباتها لكن ملامحها تغيرت فجأة ونبست و هي تبعد جذعها.

- باي حبيبي...

علق قبلته في الهواء و قال لها بغيظ.

- كان من المقرر أن نذهب معا و في سيارتي ... قال في استغراب

- عليك أن تستحم أولا وتغير ثيابك ... وضحكت ... وكانت يدها تلهو بأزرار قميصه الرياضي ... وأضافت بصوت طفولي ... يجب أن أمرّ على بائع الورود وعلى الصائغ تلزمنا هدية تليق بمقام مدير المشتريات.

- اذهبي لوحدك نهى، واعتذري لهم بالنيابة عني ... أشعر بالعياء، بعياء شديد.

- كوم توفو .. مون شيري .. ولو أني سأفتقدك ... على أي حال لن أتأخر..

غمزت بعينها اليمنى ثم لملمت جسدها المضمخ بذلك العطر الفاغم وولته ظهرها ولم يدر كيف أثار اهتزاز ردفيها شيئا ما بداخله وكان للمساحة العارية أعلى فستانها المتلألئ أثر في روحه لم يفهم سبب انبثاقه ... ومضت ... ومضيا ... وكان الجو رائق المزاج والشمس، كانت،أشعتها تلهو منسابة عبر أعشاب نبات النفل المتدلي من على سقف المنظرة البهية راسما فوق أرضيتها المبلطة بالرخام الإيطالي المتلامع، أشكالا، كانت تتموه كلما تحركت أغصان نبات النفل إثر مروق نسائم نهاية هذا الصيف الوادع الهادئة.

هدر محرك السيارة الرياضية الحمراء  وكبست قدم صلدة على دواسة البنزين فسعلت السيارة  وانطلقت ثم نأت ومعها نأى الصوت الهادر إلى أن انتفى ولم يعد يتردد في أذني جعفر حلبي مالك مطاحن الأفراح سوى رجع صداه متماوجا و... جارحا.أحس في تلك اللحظات أن قوة ما تكبس على روحه وتضغط على جسده إلى أن يستحيل مجرد صفحة من صفحات كتاب لا عنوان له.  

كان طقم الأسنان في تلك اللحظة يستلذ وجوده في الهواء الطلق ... لكن ودون توقع، فجأة، ودونما رغبة في إيذاء  أي كان ... تحرك الطقم وتقدم عدة سنتيمترات حتى بلغ حافة غلاف الكتاب وكاد يسقط من فوق الكتب لكنه ببراعة دار حول نفسه كدوامة ثم عاد إلى مكانه قبالة جعفر حلبي. لم يصدق الأخير ما حصل و اعتبره ضربا من الاستيهام الناتج ربما عن خوف شديد أو رغبة شاذة، ربما، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد إذ سرعان ما تأكد أن ما اعتبره استيهاما، إنما هو حقيقة وأن حركة سحرية لعينة نمت في الطقم في زمن ومكان محددين. و فعلا ... أنشأ طقم الأسنان في الاهتزاز كنابض، قفز من فوق الكتب وصدر إثر تلك القفزة صوت غريب ممزوج بقهقهة انفتح إثرها فكا الطقم على مصراعيهما كما لو كان الطقم يهم بابتلاع شيء ما، وتواصلت بهلوانيات الطقم أمام ذهول جعفر حلبي وازدادت غرابة، حيث شرع في النط فوق المائدة وبدا حينها لجعفر حلبي أن الطقم يسخر منه كما لم يسخر منه شخص من قبل. اغتاظ وقرر في قرارات نفسه أن ينتقم من الطقم الملعون بتحطيمه وتحويله إلى مجرد هشيم. مد يده محاولا الإمساك به لكن الطقم انفلت وكما لو أنه مدفوع بقوة دفع هائلة، قفز وحط مائلا على انحناءة فاز المارغريت.حاول الإمساك به ثانية، لكنه وثب وتدحرج دائرا حول نفسه، راكضا على امتداد حافة المائدة.

يكاد يسقط حين يفتح فكاه مقهقها لكنه يكمل وثبه متقدما إلى الأمام وجعفر حلبي يحاول الإمساك به، لكنه يخفق.تملكه العياء وأنفاسه فقدت انتظامها وقد بدا ذلك واضحا من صدره الذي كان ينبض بقوة من تحت قميصه. كان الطقم اللعين يتوقف مباشرة حين يتوقف جعفر حلبي لاسترجاع أنفاسه. بعد هنيهة وبحركات تنم عن مكر فطري يعيد الكرة، وفي إحدى اللحظات نط من على المائدة في قفزة بارعة ليستقر فوق درابزين المنظرة وهناك يدور حول نفسه بسرعة فائقة حتى يكاد يختفي بفعل الخداع البصري وفجأة توقف مستعيدا وضعيته الأولى،الأسنان البيضاء في اتجاه جعفر حلبي الواقف إزاء المائدة وجسمه يخفق بقوة، بقوة شديدة. ظلا على هذا الوضع إلى أن خفت وطأة هيجان جعفر حلبي فهم بالإمساك به مرة أخرى لكنه توقف مسمرا في مكانه حين سمع دويا قاصفا أطلقه الطقم اللعين. تسمر في مكانه هلعا، وفي ذهول استند بيديه إلى المائدة حتى لا يتهاوى و عيناه ظلتا مسمرتين على الطقم اللعين الذي شرع يزأر كما تزأر الحيوانات المفترسة. وفي لحظة حاسمة اهتز في مكانه، واستجمع قواه ثم انطلق طائرا كقذيفة طوربيد قاطعا المسافة بين درابزين المنظرة وجعفر حلبي، وفي رمشة عين، وبحركة فظيعة انقض فكاه على أنف جعفر حلبي وبنفس سرعة الطيران عاد الطقم إلى مكانه فوق الدرابزين بينما الدم يتناثر ويغمر المائدة البيضاء ويتطاير من وسط وجه جعفر حلبي الذي بدا كما لو أنه فقد شكله الآدمي. لم يتوقف عن الصراخ وحفرة بيضاوية الشكل تفور دما، دما قانيا هلاميا، تتوسط وجهه المستدير بينما الطقم ينظر إليه من فوق الدرابزين في زهو وشعور بالانتصار، ينظر إليه ساخرا والأنف الناتئ المدمى يتمرغ وسط بركة رغاء من الدم القاني الهلللللللللامممممممممي