يتناول هذا المقال للناقد السوري، علاقة التقاطع بين الفضاء الافتراضي الشعري والفضاء الافتراضي الرقمي من خلال تجربة شاعر مصري حظي ديوانه باحتفاء نقدي خاص. ومن خلاله نتعرف على سمات العلاقة بين الشعر والأنترنيت.

الشِّعر سيّد مائدة التكنولوجيا

قراءة في تجربة شريف الشافعي

حمزة رستناوي

يتحوّى الشعر فضاء افتراضيا اصطلحنا على توصيفه بالمِخْيال الشعري، فضاء تنجزه القصيدة، يتشاكل مع الفضاء الواقعي عبر نسيجه اللغوي، ويتشاكل معه أيضا لكونه يمثل انزياحا عن "الكتابة الافتراضية في الدرجة صفر". فالكتابة الشعرية هي فضاء افتراضي، وكذلك الفضاء الرقمي، حيث إن شبكة الإنترنت تشكل فضاء افتراضيا حديث الظهور في التاريخ البشري. ما هي العلاقة بين الفضاء الافتراضي الشعري والفضاء الافتراضي الرقمي؟ فكلاهما يمثل فعلا تواصليا، مُتَحَكّما به من قبل المستخدمين ضمن سياق بنية سابقة، قوامه ـ أي الفعل التواصلي ـ الكشف والمغامرة والملاحة navigation عبر فضاء من البيانات، وطرائق التشكّل الإلكترونية أو "الشعرية". كلاهما يعبر عن فضاء افتراضي يتماهى ويتشابه مع حياتنا اليومية، من زاوية تركز ليس على التقارب، بل على التماهي والاكتشاف والمغامرة أو التوظيف المنفي.. الخ. وفي الحقيقة لا يقتصر توصيف الفضاء الافتراضي Virtual Reality على الفضاء الرقمي والفضاء الشعري، بل هناك فضاءات متعددة، نجدها في الحكايات وأفلام الكرتون وأفلام الخيال العلمي و قصص الخوارق والمعجزات وأساطير الشعوب.. الخ.

يقدم الشاعر المصري شريف الشافعي في مجموعته "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" (الجزء الأول من مشروع: الأعمال الكاملة لإنسان آلي، دار تالة، دمشق، ط2، يوليو 2009) يقدم فرصة لدراسة العلاقة بين الفضاء الافتراضي الرقمي والفضاء الشعري، حيث إن الفضاء الشعري في المجموعة يتحرك ويبحر في فضاء رقمي افتراضي، فنحن أمام فضاء افتراضي مركب. إن الفضاء الرقمي، وهو فضاء حديث نسبيا في الثقافة العربية، هو فضاء وافد إلينا من الغرب بكل حمولاته ومصطلحاته و "عوالمه غير الشعرية"، بما استقر ـ لدينا ـ من تعريف للشعرية كمفهوم يتسم بحساسية للتعامل مع المفردة واللغة ضمن مجالها الحيوي الخاص. وهنا تبرز قضية جديرة بالوقوف عندها في مجموعة الشافعي، ألا وهي الحضور الرقمي ـ الوافد ـ بصيغته الفجة أحيانا في اللغة الشعرية، بل في الحصن الحصين للغة العربية أي "الشعر".

"تمشطينَ شَعْرَكِ المجعّدَ بعصبيّةٍ أمامي
في حين أضغطُ بهدوءٍ على لوحة مفاتيح الكمبيوتر
أكتب حروفَ اسمكِ في مُحَرِّكِ (Yahoo)
نيرمانا Nirmana
نيرما Nirma
نيرميتا Nirmitta
نيتا Nitta
ميتا Mitta
تيتا Titta
نيرمالا Nirmala
نيرفانا Nirvana
نيرفا Nirva
نورينا Noreena
نوريتا Noritta
ناريمانا Narimana
نيرمينا Nermina
نون Noon
نونا Nona
ن N"

يستحضر الشاعر هنا تقنية اللعب اللغوي في بناء القصيدة، فهو يكتب القصيدة متأثرا ومستخدما هذه التقنية على صعيد المفردة أو على صعيد اللوحة المشهدية المكونة من المفردة، ويظل اللعب فضاء لممارسة الحرية، ويستعير لغة رياضية وهندسية على غرار المعادلات الرياضية: 

المدهشُ،
"أن إجاباتي كلّها جاءتْ صحيحةً"

لاحظ كذلك هذا المقطع:
"لذلك أخطأ إصبعي في نَقْرِهِ لوحةَ المفاتيحِ
كتبتُ "Normal" بدلاً من "Nirmala"
هنا ابتسم مُحَرِّكُ (Yahoo) بحنانٍ مفرطٍ"
هنا نجد محاولة لأنسنة محرك البحث ياهو؟
"الفرقُ بين نيرفانا و "Miss Universe 2007"
أن الأخيرةَ جغرافيا مستقرّةٌ في التاريخ
في حين أن نيرفانا
تاريخٌ يرفضُ الاستقرارَ فوق أيّةِ جغرافيا"

إن النصوص الشعرية في هذه المجموعة تضرب عرض الحائط بالذائقة التقليدية للشعرية العربية. نلاحظ حضورًا للغة الإنكليزية، نلاحظ اشتغالاً على الفكرة وليس على الجملة الشعرية. إن نصوص هذه المجموعة كتبت على غرار قصص الخيال العلمي، يشغلها هاجس البحث والكشف عن عوالم ومجاهيل، في فضاء افتراضي رقمي. عنوان المجموعة الشعرية: "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية"، فهناك بحث: المغامرة، نيرمانا: كائن افتراضي، بأصابع ذكية: إحالة إلى الثورة العلمية والتقنية والخيال العلمي. وهناك عنوان ثانوي للمجموعة الشعرية: "200 محاولة عنكبوتية لاصطياد كائن منقرض"، محاولة: المغامرة، عنكبوتية: تحيل للشبكة العنكبوتية "الإنترنت" وإلى فضائها الافتراضي الرقمي، لاصطياد: فكرة المغامرة، كائن منقرض: تكسير حاجز الزمن وإحالة لفضاء الخيال العلمي.

أما عنوان السلسلة الشعرية التي جاءت المجموعة كإحدى إصداراتها فهو: "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، الأعمال الكاملة: عمل موسوعي يتحوّى مصالح افتراضية لإنجاز كبير، إنسان آلي: يحيلنا للفضاء الافتراضي المستقبلي والخيال العلمي. فالمجموعة الشعرية تقوم على مغامرة البحث والكشف والتعرف على الكائن الافتراضي "نيرمانا".

لكن: من هي نيرمانا؟

يمكن تلمس الإجابة في متن النصوص الشعرية المعروضة:

ـ فهي كائن غير متفق على تسميته وتوصيفه، فهي: نيتا ـ ميتا ـ تيتا ـ نيرمالا ـ نيرفانا ـ نيرفا ـ نورينا ـ نوريتا ـ ناريمانا.

ـ وهي كائن محايث/ متعالٍ عن الإنسان، يتقاطع مع الأنثى الكونية والمحبوبة الصوفية:

سَأَلْتُها: "مَنْ أنتِ؟"
قالتْ: "أنا أنا"
سَأَلَتْنِي: "مَنْ أنتَ؟"
قلتُ: "أنا أنتِ"
و"نيرمانا" جرس الإنذار المتكفل بتنبيه وحراسة الشاعر:
"التهمَت الأمواجُ نيرمانا، فصاحتْ بي":
"الْزَمْ شقَّتَكَ،
وأغْلقْ محبسَ الماءِ بسرعةٍ"
و نيرمانا من آيات الله المسبحة، لكن لا تفقهون تسبيحها:
"وحدي،
أواصلُ السجودَ للإلهِ المعبودِ في غُرْفَتِي
خاشعًا متضرّعًا
متمنّيًا أن تكونَ كلماتُ نيرمانا،
التي تردّدُها كثيرًا ولا أَفْهَمُها"،
تعني "سبحانَ الله"
ونيرمانا هي السراب، الوهم، الهاجس المرضي:
"الأشعّةُ المقطعيّةُ" على المخِّ
كشفتْ بوضوحٍ
عدم وجود خلايا مصابةٍ بـ "متلازمةِ نيرما"
وكذلك:
"جهازُ كشفِ الكذبِ
أطْلَقَ إشارةَ تنبيهٍ"،
عندما سُئِلْتُ عن نيرما، فقلتُ: "إنها السرابُ"

فنيرمانا قابلة للتجلي بكل الأشياء، وهي لا شيء، فهل هي الحقيقة الصوفية للوجود؟ أم هي النور الإلهي؟ أم هي المونادات؟ هي النفس؟ الروح؟ البوذا؟ عشتار؟

لكن ما يميزها أنها كائن افتراضي، يتحرك في فضاء رقمي وشعري. هي الحقيقة الكبرى، ولكنها في نفس الوقت شيء عادي مبتذل، يعيش معنا، يومي؟! يظهر هذا في استخدام تقنية المفارقة في بناء نصوص المجموعة مثال:

"قبلَ أن أتشاجرَ معها
بسبب مزاحِها السخيفِ جدًّا
قالتْ بصوتٍ لَمْ أسمعْ مثله من قبل":
"سَامِحْنِي.. أنا فعلاً كَلْبَةٌ!" 

إن مجموعة الشافعي "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" عمل شعري مترابط، يتضمن مائتي قصيدة صغيرة أو على حد ما ورد على الغلاف "200 محاولة شعرية لاصطياد كائن منقرض". هو مغامرة شعرية ضمن فضاء متشابه على امتداد المغامرة، لذلك يمكن النظر إليه ككتاب ومنجز شعري، وليس ككتاب يضم قصائد شعرية. لكن ما يلاحظ، من وجهة نظر كاتب هذه السطور، أن نصوص الشافعي لا تقدم نفسها على ذات السوية، فهي متفاوتة من ناحية حضور التقنيات الشعرية، وتوظيفها الجمالي:

"أقودُ سيارتي منذ عشر سنواتٍ
ببراعةٍ حَسَدَتْنِي عليها الطُّرقُ/
المفاجأةُ التي عانَقَتْنِي
أنني فشلْتُ في اختبار القيادةِ،
الذي خَضعْتُ له خارج الوطنِ/
الضابطُ أخبرني
أنني أطلْتُ النظرَ إلى المرآة/
صَارحْتُهُ بأنني معذورٌ في الحقيقةِ
كانت نيرمانا جالسةً في المقعدِ الخلفيِّ!/
رغم عدم حصولي على الرُّخْصَةِ
شَعرْتُ بسعادةٍ لا تُوصَفُ
لأنني تَمَرَّنْتُ على قيادة ذاتي
في المشاوير الاستثنائيّةِ"

نجد توظيفًا للبناء القصصي، نجد هنا مفارقة شعرية جميلة، الفضاء الشعري كنقيض للفضاء الحياتي، حيث تتحكم بنا القوانين الهندسية، السخرية من الذات، والتأويل الشعري للفشل. فهذه المجموعة تعرض لقصائد جميلة، توظف اليومي وتعتني بالتفاصيل، في إطار لوحة شعرية تعيد تجميع التفاصيل للوصول إلى إدهاش شعري جميل.

"فكّرْتُ أنا في وَضْعِ صورتِي على عُمْلَةٍ ماليّةٍ
أو حتى طابعِ بريدٍ
كي أرْتبطَ بقيمَةٍ ما
في حالةِ اختناقِ أنفاسِي
في مصنعِ التّبْغِ الذي أمْتَلِكُهُ"

وتقترب هنا من التوصيف الهيجلي للفن: "إن الفن يقدم لنا الأشياء ذاتها التي نراها في الطبيعة، لكن مستنبطة من الداخل، وهو لا يعرض الأشياء الطبيعية كما هي في الطبيعة، ولكن بعد أن يكون أضفى عليها طابعا مثاليا idealization، وبفضل هذه المثالية يضفي الفن قيمة على بعض الموضوعات التي تبدو تافهة أو غير ذات قيمة في ذاتها، ويجعلنا ندرك أبعادا جديدة في بعض الموضوعات". و بالمقابل عند هذه المحاولة:

"غير معتَرَفٍ بالفلز الْمُشِعِّ "نيرمانيوم"
في الجدولِ الدوريِّ الحديثِ للعناصرِ الكيميائيّةِ
هو من اكتشافي أنا
ولا أحدَ يصدّقُ وجودَهُ غيري
ربما لأنني الوحيدُ
الذي رحتُ ضحيّة تفاعلاتِهِ الانشطاريّةِ
ربما لأنني الكيميائيُّ الوحيدُ في هذا الوجودِ
أو ربما لأنني الوحيدُ
الذي لا أفقَهُ شيئًا في الكيمياءِ"

هنا يعتمد النص على تقنية الهذاء، والمفارقة فيه خافتة غير محفزة. لاحظ: النيرمانيوم هو فلز مشع من اكتشاف "كاتب النص"، "رغم أنه لا يفقه شيئا في الكيمياء". فالشاعر أحياناً يترك لنفسه ولقلمه العنان ليكتب دون تدخل من آليات الوعي إلا في حدود ضيقة، وهذا ما أدخل بعض قصائد المجموعة في سردية مفرطة قريبة، بل هي ذاتها اللغة اليومية من دون الاتكاء على تقنيات الإدهاش والمفارقة والانزياح، هذه التقنيات الأساسية التي لا يمكن للشاعر الاستغناء عنها. على سبيل المثال:

"مَشَيْتُ حافيًا فوق الأحجارِ والمساميرِ،
من منتصفِ الليلِ إلى الصّباحِ
ليس بمحضِ إرادتي،
ولا رغبةً في تقليدِ نيرمانا،
كما توهّمَ البعضُ
وكما توهَّمْتُ أنا/
الحقيقةُ السخيفةُ
أنني التزمْتُ ـ مُجْبَرًا ـ بقوانينِ السوقِ
حيث فُرِضَتْ على محلاتِ الأحذيةِ،
والمحلاتِ كلها،
مواعيدُ صارمةٌ
لفتحِ وإغلاق أبوابها".  

شاعر وباحث من سورية