رغم أن مطر القصيدة لا ينقطع في العراق، ورغم هالات الانكسار والوجع. تطل بنا قصيدة الشاعر العراقي هنا على «شاعر لا يموت» يواصل تخطيط آماله وآلامه على البياض، يطل من أعلى سقف الكتابة كي تظل قصيدته كينونة يقظى ممسكة بالضوء. سامقة ممتدة في الزمن الآني والمستقبل.

تمسكي بمقبض الضوء

مكي الربيعي

1

سماء فارغة،

تمرقُ الريح من ثقوبها،

أنظرْ:

السوادُ يندسُ بين فخذي المعنى.   

تتخشبُ الكلمة.   

لم يبق منها. سوى جلدٍ لا صق

على عظم هشْ.   

أتسمعُ؟

كلما تحرك الحبرَ تتأوهُ القصيدة.   

 

إعطني المفتاحْ.   

أريدُ أن أفتحَ القفل.   

أريدُ أن أزحزحَ الحجرَ الثابت.   

أن ألصقَ أجزاء ُمزهرية الكون المتناثرة في رأسي.   

لن أكلم أحدا،  

أجلسُ تحت شجرة الكلمات،  وأهز جذعها،  

يتساقط ُ رطبُ الهواءَ نديا ً في حجري.   

 

غداً،  يأتي الناس لصالة العرض،  ولا يرون شيئاً

يثير إنتباههم.   

ماذا ستقول للفراشات التي ستطيرُ من خوذِ الجنودِ

ميتة؟ .   

 

يومَ تفرُ الأسماء َ بجلودها.    

إلى أينَ؟

نحو ظلٍ لا حائطَ له.   

أيها الغناء،

أريدُ أن أنحتَ الهواء فانوساً،  وأعلقه ُ

في الشرفةِ المقابلة.   

 

سلاماً على موجةٍ تجمعُ قلق الماء لتدفئه في رمل

الشاطئ.   

سلاماً على غيمةٍ تجففُ أعشاب المطر من الدخان.     

سلاماً على زنجيةٍ،  

ترفعُ سقفَ نهديها لتمرركَ من تحت ليلها الأبيض. 

 

حجرٌ،  

تنحته ُالقسوة.   

كائن ٌغريبٌ،

كلما يسكرُ،  يرفع ساقهُ ويبولُ على الكرةِ

الأرضية.   

 

حجرٌ آخرَ 

ينحته ُ الكلام،  

يهطلُ من أوراقهِ مطرٌ كثيفْ.   

رمل ٌ،  

كلما رأى ريحاً مقبلةً،  

يضعُ الأزميلَ بيدها،  ويقولُ لها :

إنحتيني.   

 

أحاولُ أن لا ينقطعَ الكلام بيننا،  لذلكَ،  

أشده ُبحبل الكلام الذي يليه.   

هكذا أشكلُ حبري،  ولداً  

يصيرُ عكازتي بعد غيابٍ طويلْ. 

 

أقولُ للرسام :

بهدوءٍ،  إنزلْ الطيرَ من اللوحةِ ،  ألا ترى

جناحه ُ يقطرُ دماً؟.   

  

مرةً،  أجلستُ البرقَ على ركبتي وخلعتُ خفيهِ،  

قلتُ لهُ:

هذا كتابي أهبه ُ إليكَ،  فاملأه بالشيفرات الغامضةِ،

سمي الصحراءَ،  وإلقني ومضة فوق سريرها.   

 

حجرٌ بلسانٍ مقطوعٍ،  في فمهِ كلام ٌ كثير.   

يريدُ أن ينطقَ،  غير أن الحبرَ يتفتتُ بين شفتيه.   

 

ليسَ كلما يقال يمكنُ تصديقهُ،  

هناكَ أشياءٌ تشبه ُ وجودَ خل ٍّ وفي ّْ.   

 

يُطفأُ الشمسَ وأوقدها،  

من أدخلَ الشمسَ في قفص المصباحْ ؟.   

أيها القمر إنتبه،  رماة

الحجارة كثيرون،  أخافُ عَليكَ أن تنكسرْ.        

اليدُ حقيقة أخرى،  لزهرة تخفي مفاتنها في أفواه الفراشات.

حشرجة في حنجرة الكمان، إسحب القوس قليلاً،

لتخرج الغصة من فمه.    

تعبتْ يدي من الطرق.   

أيتها الريح،  إفتحي البابَ،  

أريدُ أن أتبادلَ معكِ الحديثْ.   

أمي ترْجمان كلام الماء،  

وأبي رأيتُ اللغة تتقطر من أصابعه،  

كان غنياً،  بما يكفي لدرء الشبهات عن الشعراء.   

قالَ :

إمحو الأسودَ،  

إلا الحبر الأزرقَ إياكَ أن تمحوهُ،  خذهُ،  

نضجهُ،  وربيهِ،  إبنٌ بارٌ يصلي على قبرك

بعد فوات الأوانْ.   

مطرُ القصيدة   

لا ينقطع ،    

هكذا ردد الشاعر وهو يزيل عن أصابعه  

بقايا الغيوم ْ.   

حتى بعد الموت،  

تتنضدُ القصائدَ في جمجمة الشاعرِ ولا يجد من يوصلها.   

المتنبي.   

تمثيلاً وليس حصراً.

حين تضعُ أذنكَ على قبرهِ،  تسمعُ حفيف شجر،  وصوت

يرتجلُ المطرْ.   

لهذا،                                                                                     

رأيتُ في حلمي جرة مليئة بالنجوم،  

تحملها فتاة في العشرينَ،  

يحرسها وعلٌ بريٌّ،  

كلما تخطو تتساقط النجوم من الجرة على قميصها.   

قلتُ :

دعيني أحملُ عنكِ الجرة.   

قالتْ :

ألا تخافَ على قميصك من الأحتراق ؟.   

قلتُ :

ليحترقَ.   أبي قبلي أخذ الشمسَ من يدها،  وعادَ الى البيتِ ويديهِ مليئتين بالحروق.     

                            

شجرةٌ هذه أم ْ رأسٌ ؟

الجذورُ تتشبثُ بأسنانهِ،  وفي القحفة ينبتُ غصناً     

بوردةٍ حمراء.   

ذلك َ،  

ما رآه «عبد الخالق الركابي»* ذات مرةٍ،  فأنتابهُ

العجبَ مما رأى.   

 

ورأيتُ البيتَ يمتلأُ بالدخان،  

خلعتُ قميصي لأطفأ بهِ سكارة الحرب،  

إحترقَ البيتُ،  ومازالت النار تبلل قميصي وأعصره.   

 

قلتُ:

الشاعر لا يموت،  لماذا لا تريدينَ أن تصدقي أيتها الطبيعة

أتكئ على ما رآه ُ إبن عربي :

( الروحُ في النور جوهرٌ لا يتجزأ ).   

( الواحدُ مفتتحُ العددِ ).   

 

أيها الفراغُ،  ألا تسمع وقع خطاي تتبعكَ؟.   

إنتظرْ،  أريدُ أن أقدمَ لكَ الأريكة هدية،  

كذكرى،  لتعارفنا أولَ مرةٍ في مقهى حسن عجمي*. 

 

2

القبةُ واطئةٌ،  

الشيخُ يضعُ دكة الصوت تحت قدميهِ،  ويصعدُ،  

ليضعها عمامة فوق رأسه.    

 

في المرآة .   قالتْ الزوجةُ:

نسيتُ المشط َ،  وأغلقتُ البابَ عليه.   

 

قال ولدهُ :

غداً أشتري صمغاً. لألصق اللون الأزرقَ

بالقبة.   

 

خبئوا العشبةَ،  الأفعى أبدية .   

 

كأن طائراً  يحملُ البرقَ بمنقارهِ،    

كأن البرقَ لغةٌ تملأُ جرة السماء،  

هذا مصباحٌ،

يخلعُ الغيبَ حلتهُ عليه. 

مطرٌ،  يضعُ يده على رأسي،  إعترافاً

بإطمئنان السماء لغلتها هذا العام من الحبر الأزرقْ.    

عبثاً،  

يحاولُ الحلمَ أن يقرأ ظنون الشعر بتكرار الأسئلة.   

يدٌ،  نذرت نفسها لتنظيف واجهات الهواء من الدخان.   

سكيرٌ، يحارُ آخرَ الليلِ،  

( أخمرٌ هذا في قدحٍ،  أم قدحٍ ولا خمرُ)؟.      

 

كم يبدو الوقت ضيقاً على جسد الأنسان ؟

شهقة جرس يعلوه غبار.   

يتطاير الفراغ من حوله كمثل فراشات قابلة للكسر.    

 

في الموقد،  

ألقي الأشجار جميعها،  

لن تضيءَ جبلا ً يكللهُ الظلامَ،  الحبُ وحدهُ،  الكاشف الأعظم لطريق الحرية.   

 

شتاء،  في أسفل الوادي سَفحتَ دمي،  

في أعلى الجبل سفحتُ دَمكَ،   

عندما ذاب الثلج أول الصيف،  جرف دمينا.   إختلطا.   

ظل يدفع بهما،  حتى

مصب الفراتْ.

 

أنتَ.   تتذوق الآن طعم دمي في الماء الذي تشربهُ،

أنا.   أتذوق الآن طعم دمك في الماء الذي أشربهُ،  

في الخبزِ،  

كذلك نتذوق الطعم ذاته،  

أليسَ الماء من نضجَ السنابل ؟.   

 

على كتفك تسقط يدي،  

على كتفيَّ تسقط يدك،  

إذهب وأفتح الباب،  

أنا ذاهبٌ لأفتحها،  

يا إلهي،  هل نحن فتحنا الباب ذاتها ؟

أقول لشجرة الجوز :

تفضلي الأريكة جاهزة،  

تقول للنخلة :

تعالي نجلس في الظل وندخن الكلامْ.

 

على رؤوس أصابعي،  

بحذرٍ،  

أدخلُ رواق الفكرة،

أفتحُ الصندوق وأطلق طيورالهواء من 

أسرها.   

 

سقطتْ وردة من جسدها،  

ـ أين سقطتْ ؟. 

ـ لا أدري !!

أيها البياض،  ناولني يدي،  أريدُ أن أبحثَ تحت قميصها

 

سقط َ الصوت من فمي،  

ـ أين سقط ؟.   

ـ لاأدري !!

أيها الكلام،  ناولني المحبرة،  أريدُ أن أسوي الأزرقَ دراجة أطوفُ بها البلادْ.

 

فقدت الغيمة خرافها،  

ـ أين فقدتها ؟. 

ـ لا أدري !!

أيتها السماء،  ناوليني العصا،  أريدُ أن أهشَ الضباب

لأمسكَ المطرْ.   

 

الأرضُ أضاعتْ نخلتها،  

ـ أين أ ضاعتها ؟.   

ـ لا أدري !!

أيها البستان،  ناولني سعفة،  أريدُ أن أكنسَ السماء من الظلام لأستدلَ عليها.   

البلبلُ يغني،  

ـ من يسمعهُ ؟.   

ـ لا أحدَ ؟.   

أيها الصفير،  ناولني الشجرة،  أريدُ أن أسوي القفص      فضاءً.

جسدٌ يتحولُ إلى كلام،  بأي لغةٍ يخاطبُ الناس،  وليس

هناكَ مشتركاتٌ بينهما ؟. 

ـ وهذا الدخانُ ؟

ـ تكادُ تنفدُ علبة سكائرهِ،  وما من أحدٍ يجيء.   

واطىءٌ سقف الفراشاتِ،  الوردة تكادُ  تختنقُ،  

قل للحديقةِ:

إرفعي السقفَ قليلاً.   

حلمٌ،  يسحبُ بأذيال ثوبهِ موجة سقطت من فم نورس

على ضفة النهر،  

الموجة تحملُ  كرسياً،  

الكرسيُ يرى الشجرة من بعيدٍ،   

يركضُ نحوها،  

إماهُ،  الشجرة تفتحُ ذراعيها،  وتعيدُ الكرسي غصناً أخضر في حقلها الشاسعْ. 

 

دمٌ على قميص الفراغ يسيل،  

يالها من طعنة نجلاءْ!!.   

 

أيتها المقهى تمسكي بكرسيِّ الجالسَ عليهِ،  

قبل أن تنقلب العربة المليئة باليقينْ.   

 

فرسٌ من خشبٍ يثيرُ الغبارَ،  

أقولُ لهُ :

لا تدسَ السنبلة بيدي،  

أخافُ عليها أن تسرقَ.   بين خطوط يدي سنينٌ عجافْ.   

لا تدسَ الحمامة تحت قميصي،  

أخافُ عليها أن تؤكلَ.   تحت قميصي ثعلبٌ ماكرْ.   

لا تدسَ الحُلمَ تحت وسادتي،  

أخافُ عليه أن يتشظى.   تحت وسادتي وشاةٌ كثيرونْ.   

 

قلتُ للفراشة :

خذي بيدي،  القصيدة مدينة معلقة في الغيم،  وأنا أجهل دروب الفضاء. 

 

أيتها الأنثى،  

لماذا أنتِ قلقة ؟ 

دعِ 

جسدك يجمعُ النساء المتساقطات من قميصي.   

اليدُ تتأوهُ،  

وفوق سرتك يكتب فمي سيرة الماء،  

يتساقط الفراغ من أصابعي،   

أقول لكِ :

إجمعيهِ،  

الشتاءُ قادمٌ،  وليس لدينا حَطبٌ يدفيء

الأريكة.   

 

دعِ

همزة الوصل المتدلية من فتحة القميص،  

توصلني إلى آخر المشتهى،

  

دعِ

نخلة الشَعرِ تلم طيور يدي الشائهة.   

 

مستعجلاً،  

أفتح ُبابَ الوردةِ،  

وأعلقُ المفتاحَ في المسمار،  

أريدُ أن أثير الشغب في الشوارع الخلفية،   

أريدُ.    

آهٍ،

تمسكي بمقبض الضوءِ،  

الأريكة تكادُ تطيرْ. 

  

*  أحد الروائيين العراقيين المهمين.  

*   مقهى في بغداد يلتقي فيها الكتاب والشعراء العراقيين. (سابقا).  

 

سيدني/إستراليا