تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية

إدوارد سعيد

ولد محمود درويش سنة 1941 في قرية "البروة" الفلسطينية، والتي دمّرها الاسرائيليون بعد ذلك بستة أعوام. ولقد سُجن مرّات عديدة وتعرّض لمضايقات السلطات الإسرائيلية أثناء عمله كمحرّر ومترجم في صحيفة الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح". وحين وصل إلى بيروت في مطلع السبعينيات، كانت شهرته كشاعر لامع ـ والشاعر الأكثر موهبة بين مجايليه في العالم العربي دون ريب ـ قد تأسّست أصلاً. وسرعان ما التحق بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية، وبات شاعر فلسطين الوطني الأول غير الرسمي. لكنّه، في الآن ذاته، حافظ على صلة وثيقة مع المجتمع الإسرائيلي والثقافة الإسرائيلية، وكان واحداً بين قلّة من العرب الذين يعرفون ويتذوقون الشعراء العبريين الكبار، من أمثال بياليك.بعد عام 1982 انخرط درويش في حالة النفي المتجوّل، فعاش في عواصم عربية مثل القاهرة وتونس قبل أن يستقرّ في باريس حيث يقيم اليوم(1).

ولأنّه رجل على قدر من الذكاء الرائع الحقّ، فقد لعب دوراً سياسياً هامّاً في منظمة التحرير الفلسطينية (على مضض دائماً). وطيلة عقد كامل على الأقل، كان شديد القرب من ياسر عرفات كمستشار أولاً، ثم كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بدءاً بالعام 1978. لكنّه لم ينتم إلى أي حزب سياسي، وكانت سخريته اللاذعة، واستقلاله السياسي الشرس، وحساسيته الثقافية ذات الصفاء الاستثنائي كفيلة جميعها بإبقائه على مسافة من الخشونة المألوفة في السياسة الفلسطينية والعربية. وسمعته الهائلة كشاعر جعلته يمتلك قيمة سياسية لا تُثمّن، ومعرفته الوثيقة بالحياة والمجتمع في اسرائيل أسدت النفع الكبير لقيادة منظمة التحرير. لكن قلقه حيال العمل السياسي المنظّم لم يفارقه على الدوام، وتنامى في أواخر الثمانينيات على نحو محدد. في الآن ذاته كانت رؤيته للسياسة تراجيدية وسويفتية(2) ، ولم يكن من المدهش أنه استقال من عضوية اللجنة التنفيذية احتجاجاً على توقيع "إعلان المبادىء" مع اسرائيل في خريف العام 1993. وملاحظاته الحادّة في هذا الصدد تسرّبت إلى الصحافة ونُشرت على نطاق واسع في العالم العربي وإسرائيل.

في عام 1974 التقيت بمحمود درويش للمرّة الأولى، وبتنا أصدقاء مقرّبين منذ ذلك الحين. وهو رئيس تحرير "الكرمل"، الفصلية الأدبية والفكرية التي تطبع في قبرص، والتي نشرت العديد من مقالاتي. لكننا لا نلتقي إلاّ لماماً، ونتواصل عبر الهاتف في معظم الأحيان. ودرويش يقرأ بالإنكليزية والفرنسية، ولكنه ليس طليقاً في أيّ من اللغتين رغم إقامته في فرنسا طيلة عقد كامل.  والأمر راجع إلى أن وسطه الوجداني والجمالي يظلّ عربياً، وإسرائيلياً بدرجة أقل (لأسباب واضحة). ورغم سخريته اللاذعة وحقيقة أنه يقيم بعيداً عن فلسطين وإسرائيل، فإن له حضوراً طاغياً في حياة الشعبَيْن معاً. جمهوره عريض واسع في العالم العربي (في عام 1977 كانت كتبه قد باعت أكثر من مليون نسخة)، ليس في أوساط الفلسطينيين فحسب، وعلى الرغم من أنه أبعد ما يكون عن النموذج الشعبوي.

وهو مقروء ولافت للانتباه على نطاق واسع في اسرائيل، بسبب اقترانه الطويل باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وإحدى قصائده، التي عبّرت عن رأي حاد وساخط ضدّ إسرائيل، تسبّبت في اندلاع نقاش داخل الكنيست(3)، بحيث تبيّن أن نبرته ذات وَقْع بالغ القوّة والتأثير على جمهوره الآخر. ولم يسبق لأية شخصية أدبية فلسطينية أخرى أن امتلكت تأثيراً مشابهاً، ولا يُستثنى من ذلك الروائي إميل حبيبي الذي فاز بجائزة اسرائيل عام 1992 وأدانه درويش بسبب قبولها.

عند درويش يدخل الخاصّ والعامّ في علاقة قلقة دائمة، حيث تكون قوّة وجموح الأوّل غير متلائمة مع اختبارات الصواب السياسي، والسياسة التي يقتضيها الثاني. ولأنه الكاتب الحريص والمعلّم الماهر، فإن درويش شاعر أدائي من طراز رفيع، ومن نمط لا نجد له في الغرب سوى عدد محدود من النظائر. وهو يمتلك أسلوباً ناريّاً، لكنّه أيضاً أسلوب أليف على نحو غريب، مصمّم لإحداث استجابة فورية عند جمهور حيّ. قلّة قليلة من الشعراء الغربيين ـ من أمثال ييتس Yeats وولكوت Walcott وغنسبرغ Ginsberg ـ امتلكوا ذلك المزيج النادر الآسر الذي يجمع بين الأسلوب السحري التعويذي الموجّه للجماعة، وبين المشاعر الذاتية العميقة المصاغة بلغة أخّاذة لا تُقاوم. ودرويش، مثل أقرانه الغربيين القلّة، فنّان تقني مدهش يستخدم التراث العروضي العربي الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة على الدوام. ذلك يتيح له أن ينجز أمراً بالغ النُدرة في الشعر العربي الحديث: براعة أسلوبية فائقة وفذّة، ممتزجة بحسّ بالعبارة الشعرية يجعلها أشبه بالمنحوتة بإزميل، بسيطة في نهاية الأمر لأنها بالغة الصفاء.

قصيدة "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، المترجمة في هذا العدد، كُتبت ونُشرت في عام 1992. ولقد انبثقت من سياق مناسبات متباعدة: الذكرى الـ500 للعام 1492 (سقوط غرناطة، ورحلة كولومبس إلى أمريكا)، سفر درويش إلى إسبانيا للمرّة الأولى، وأخيراً قرار منظمة التحرير الاشتراك في عملية السلام تحت رعاية روسية ـ أمريكية وانعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991. والقصيدة نُشرت أولاً في صحيفة "القدس العربي"، اليومية الفلسطينية التي تُحرّر وتُطبع في لندن.والحقّ أن هذه المقطوعات الشعرية تنطوي على نغمة الكلل وهبوط الروح والتسليم بالقدر، والتي تلتقط ـ عند العديد من الفلسطينيين ـ مؤشّر الانحدار في أقدار فلسطين التي، مثل الأندلس، هبطت من ذروة ثقافية كبرى إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معاً.

ودرويش يقتبس العبارة الأولى (أحد عشر كوكباً) من سورة يوسف في القرآن الكريم: "إذْ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين". ويطالبه أبوه بألاّ يقصص رؤياه على أحد من أخوته لكي لا يؤذوه بسبب ما وهبه الله من قدرة على الرؤيا. ثم يعلم يوسف أنّ الله اختاره لتأويل الأحداث، الأمر الذي يعني منحه قوى النبوّة المباركة. وهكذا يتولّى الراوي في قصيدة درويش مزايا ومخاطر القدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون، وهو هنا معنى سقوط الأندلس بالنسبة إلى الفلسطينيين وقيادتهم على وجه الخصوص. ومن المذهل أن درويش يتنبأ ـ فعلياً ـ بأحداث العام التالي، حين وقّعت اسرائيل ومنظمة التحرير إعلان المبادئ في أيلول (سبتمبر) 1993. لكنّ ما يمنح القصيدة تجانسها الفنّي ليس طبيعة موضوعها بقدر وجهة توسيعها للطَوْر الأكثر راهنية في شعر درويش، نحو مواقف جديدة وتصوير جديد، الأمر الذي تلتقط هذه الترجمة الممتازة قدراً كبيراً منه.

ومنذ أن غادر درويش بيروت عام 1982، وموضوعات شعره الرئيسية لا تدور حول مكان وزمان النهاية (حيث الإشارة الملحّة المتكرّرة إلى مختلف المنافي الفلسطينية) فحسب، بل حول ما سيحدث بعد النهاية، وهيئة العيش عبر زمان المرء ومكانه، وكيف يصبح اللقاء بعد الخاتمة موقفاً منفرداً وإكزوتيكياً دون ريب، يقتصر على الشاعر وشعبه. وفي عام 1984 كتب يقول: "تضيق بنا الأرض، تحشرنا في الممرّ الأخير"، وتابع:.. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا من نوافذ هذا الفضاء الأخير، مرايا سيصقلها نجمنا. إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ وفي "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، لم تعد الأرض والأعداء وراء التحكّم بالقضية وحشر الشعب نحو النهاية. الآن جاء دور الـ "نحن" والقَدَر، كما يتمثّل في سقوط غرناطة عام 1492، وهنا المسؤولية. والشعر اليوم يستبدل التاريخ كموقع للحدث، تماماً كما في قصيدة والاس ستيفنز Stevens "عن الوجود الصرف": النخلة عند نهاية الروح، وراء الفكرة الأخيرة، تنهض في المسافة البرونزية مثل طير ذهبي الجناحين.

لكن انسحاب درويش في هذه القصيدة ليس شبيهاً بانسحاب ستيفنز في الأبيات السابقة، أو ييتس في "الإبحار صوب بيزنطة". الشعر عند محمود درويش لا يقتصر على تأمين أداة للوصول إلى رؤية غير عادية، أو إلى كوْن قصيّ من نظام مُتعارف عليه، بل هو تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية، ولضغط كلّ منهما على الآخر. والمفارقة تتعمّق على نحو لا يُحتمل حين تُناط خصوصية الحلم بواقع فاسد مهدد، أو تتمّ إعادة إنتاجها بفعل ذلك الواقع تحديداً، مثلما يحدث في القسم الحادي عشر من القصيدة، حين ينهار الجدل القلق بفعل تكرار كلمة "كمنجات"، دون أن يُحلّ التلاحم أو يُرتقى به. هذه السمة المشدودة، أو المعلّقة عن سابق عمد في شعر درويش الراهن، تجعل من ذلك الشعر نموذجاً على ما أسماه أدورنو Adorno بـ "الأسلوب المتطاول"، حيث التقليدي والأثيري السماوي، التاريخي والجمالي المرتقي، تمتزج جميعها لتقديم حسّ ملموس بالغ بما يجري وراء أمر لم يسبق لأحد أن عاشه في الواقع الفعلي.

ترجمة: صبحي حديدي  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ نُشرت هذه المقالة في العدد 48 (شتاء 1994) من الفصلية الأمريكية المعروفة Grand Street، وجاءت بمثابة تعريف نقدي موجز بشعر محمود درويش بمناسبة ترجمة قصيدته "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" في المجلة. ولقد قام بالترجمة إلى الانكليزية منى أنيس ونايجل رايان، وراجعها الشاعر الباكستاني آغا شهدي علي والباحث الاسلامي أحمد دلال، وأشرف إدوارد سعيد على الصياغة النهائية للترجمة.
(2) ـ نسبة إلى الروائي الإيرلندي المعروف جوناثان سويفت.
(3) ـ يشير إدوارد سعيد إلى قصيدة "عابرون في كلام عابر".