فعل القراءة وتأزّم التمثيل

توني موريسون ومحمود درويش

ستيفن هيث

 

أزمة موضوع الدراسات الأدبية، وفكرة الأدب ومقاربته كما تطرحها النظرية الأدبية الحديثة، هي أزمة مفارقة تناقضية في إمكاناتها ومؤثراتها(1). الأدب يُزاح ويُجزّأ ويُنتزع من أيّ جوهر هوية منفصل «فتَزيغُ الحدود هنا بين الخطابَيْن الأدبي وغير الأدبي»، ويجري إغراق الأدب أكثر فأكثر في النَصّية «أما من هويّة بذاتها لأية كتابة، كما يجزم جاك دريدا»، ويُردّ الأدب داخل تلك النَصّية ذاتها الى جنون الكلمات «المرء أبعد ما يكون عن القراءة حين يمسك بالنص في موضع معيّن، في استخراج أطروحة ما، معنى ما أو حقيقة"، دريدا أيضاً». وذلك الاستبدال، وتلك العودة إلى النصّانية والقراءات البلاغية، توجد جميعها في ترابط وثيق مع ضغوطات كبرى على الموضوع وعلى الأدب: ضغوطات من وسائل الإعلام والشبكات الإخبارية؛ ومن التمييع الثقافي للمعنى، ومن الفروقات المثارة حول أية هويّة، وحول الهوية الوطنية أساساً. (...) ومسألة تمثيل Representation في الأدب تعيدنا إلى ذلك التمثيل الذي يجمع المشكلات معاً، بنهاياتها الفضفاضة وفروقاتها وكسورها ومآزقها.

وإذا كان ثمة ما نطلق عليه اليوم اسم "الأدب"، بمعنى أغراضه، فهو كتابة وقراءة الصراع من أجل التمثيل، وفهم ذلك على أنه استكشاف للاختلاف والتشابه، وللتعبير عن الهويّات الاجتماعية ـ التاريخية وتناقضاتها، وهو تدقيق ونقد وصياغة تعابير التمثيل ذاته: لغته، نظامه، علاماته. والأدب بذلك، وفي هذا الإدراك لواقعه، هو حالة إفراط. إفراط لجهة الهويّة على سبيل المثال، مثلما لمساءَلة الهوية، للّغة في موضعها مثلما للّغة في اشتغالها، وللعمل مثلما للنص.

حالة من هذا النوع أشارت إليها توني موريسون(2) في عرضها لوضعية الكاتبة السوداء، وعلاقتها مع تراث الرواية كجنس حكائي، والشكل الذي ينفتح في سيرورة انكشاف تفكيكي ـ حواري Deconstructive-Dialogic  لطُرُز الهويّة والشكل، تلك التي تتأكد في الوقت ذاته ضمن عمليات التصريح بالهوية والمطالبة بها. أو هي أيضاً، وبصورة مختلفة، حالة قصيدة «عابرون في كلام عابر» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي تنطق بمطمح إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة فلسطين المستقلة، وتعبّر بقوّة عن أحاسيس وتجارب أمّة ووطن، وتفعل ذلك في القصيدة بوصفها قصيدة أوّلاً. بدورها «كلمات عابرة» تنقل وتحوّل التمثيل المُعطى، متحركة ضمن حالة تبادل من الـ «نحن» والـ «أنتم»، وتترك الأشياء على قلق. إنها تكتب تاريخاً مختلفاً في الحقيقة، ولكنها تكتب ذلك على وجه التحديد: تكتب تاريخاً للحاضر.

وقصيدة درويش تذكرة دراماتيكية بحقيقة الفعل الرمزي بوصفه فعلاً، كما تذكّر بحقيقة الأدب داخل العالم. في ذروة الانتفاضة، "ثورة الحجارة"، تصبح القصيدة موضوع نقاش في الكنيست، وتستفزّ حالة واسعة من فعل القراءة وتأزّم التمثيل. إنها تذكرة دراماتيكية، وحقيقة عامة النضال في سبيل التمثيل مسألة أدبية وسياسية معاً، وهذا لا يعني دمج الإثنين في مكوِّن واحد لـ «اختزال» الأدب إلى سياسة كما يُقال، بقدر ما يعني تأكيد التمثيل على وجه الدقة. المسألة بالتالي تتصل بالأدب فعلياً، بقوّة النتاج ليس ضمن أُطُر الحدود القديمة أو الجديدة ـ القديمة للنصّ أو النصّانية، وليس ضمن أيّ مجال تخصّصي منفصل أو معرفة شاملة كاملة باللغة، التي هي في واقع الأمر نظرية قصوى. «مقاومة النظرية هي... مقاومة القراءة»، هكذا يعلّق بول دي مان وهو يسعى إلى توصيف النظرية كحالة خاصة لصيقة بالمعرفة الأدبية والنصية. اإن من واجب الناقد أن يؤمّن أشكال المقاومة للنظرية"، هكذا يردّ إدوارد سعيد وهو يسعى لتوصيف النظرية كشكل تجريدي من خصوصية السيرورة التاريخية. الأدب ينتج نوع الأفعال والعلائق التي يحتاج الانتباه التمثيلي إلى التركيز عليها الآن، وحيث يجري إدراك مسائل الإيديولوجيا والقيمة، والصراع من أجل التمثيل في عملية الكتابة ـ القراءة التي هي جوهر الأدب. والصراع اليوم، في ميدان تقييم الأدب، ملزَم سياسياً باجتراح أشكال جديدة تنطوي على الانخراط بدل الإنابة، وتعتمد على تآلفات إنسانية ذات مغزى أكثر من اعتمادها على أغلبيات مسجلة. 


ترجمة: صبحي حديدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ستيفن هيث Heath أستاذ الأدب الحديث في جامعة كامبرج (بريطانيا)، والنصّ فقرات من المحاضرة الاستهلالية لمنهاج االنظرية الأدبية الحديثة ب الذي افتُتح للمرّة الأولى في تشرين الأول (أكتوبر) 1988. وقد نُشر النصّ الكامل للمحاضرة في العدد الثاني (صيف 1989) من فصلية Critical Quarterly.
(2) ـ الروائية الأمريكية الحائزة على جائزة نوبل للآداب، 1993