للقصة التونسية مذاقها الخاص الذي تبلور منذ أن أجرى محمد المسعدي حواره السردي الخصب مع التراث العربي الرسمي، والبشير خريف حواره الموهوب مع الموروث الشعبي في (الجلة في عارجينها) وها هو إبراهيم درغوثي يواصل هذا اللون المتميز من الكتابة القصصية ويقدم تنويعه الفريد عليه.

منــــازل الكــلام قصة قصيرة

إبراهيم درغوثي

كلام اليوم السابق.
آلو.. . . آلو. . . آلو. . . ويرن الجرس في مكان قريب. يرن في مكان بعيد. في قرية نسيتها رحمة الرب. في مدينة ضاحكة حد التخمة. في ريف أجرد أغبر. تحت ظل شجرة زيتون معمرة. زيتونة لا شرقية ولا غربية. يرن في عمارة ذات عشرة طوابق. عمارة بلا مصعد كهربائي. بناها صاحبها من أموال جمع زكاة المؤمنين الذين يخافون ربهم. يرن داخل جهاز هاتف نقال في يد مراهق. في جهاز هاتف من مخلفات الحرب العالمية الثانية. تحفة. تحفة ياسيدي يزّين بها مغرم بعاديات الزمن الغابر كومودينو بيت النوم. يرن الجرس في السماء السابعة. يرّن تحت الأرضين. يرّن في قمر منسي في مجرة ميتة منذ مليون سنة. يرن تحت وسادة شابة هيفاء كغصن البان، أنيقة صدرها نافر تزينه تفاحتان فواحتان لذة للناظرين. وعجيزتها مكبوسة داخل سروال دجين. شابة مطلقة واحسرتاه. وا أسفي عليك يا شقيقة ريم الصحاري. شابة كلمت حبيبها من فوق سرير الزوجية، وبعلها يستحم، لكنها تمادت في الحديث. نسيت أنّ البعل يتهيأ لها فتمادت في الحديث حتي فاجأ مناجاتها من وراء الباب الموارب فخبط صوتها علي الحائط، وسحق نيران حبه تحت حذائه الملّّمع حديثا وطلقها ثلاثا. يرن الجرس ثم يعاود الرنين فتسكته يد حانية: آه حبيبي! كيف حالك؟ طيب والحمد لله !. .يرد علي ندائه صوت هامس: الّلطف يا لطيف الطف بعبدك الضعيف. تخمد أنفاسه خبطة يد خشنة: ألم أطلب منك يا ابن القحبة ألا تعود إلي هذا الرقم. .. آلو. .. صمت ثقيل. صمت لزج. صمت ضاج بالمقت والكراهية. ثم ينهمر سباب مقذع يملأ فضاء القاعة الصغيرة. يدك المكان صوت غاضب يسب ويلعن. بألفاظ فاحشة. جارحة. ويعود الهمس من جديد. .. همس لطيف: آه روحي أنا في انتظارك علي نار الشوق. صوت طفل ساذج يدعو أمه إلي العودة إلي البيت فأبوه في حالة غضب كافر. صوت كهل يعاكس بنتا. همسات وشخير. تأوهات عند الفجر. في القيلولة. عند السحر. في منتصف الليل. ما أحلاك يا عسل. أموت في عين الغزال. سأنتحر تحت عجلات المترو غدا. انتظري رسالتي قبل الموافقة. أنا في حاجة إلي النقود يا والدي. الطائرة ستغادر المطار بعد ساعة سأنتظر قبلتك الأخيرة فلا تخيبي رجائي.

عامل المحل يعشق حكايات ألف ليلة وليلة
عند السابعة صباحا أضع المفتاح في ثقب قفل باب البوتيك وأديره دورتين إلي اليمين وأدفع دفة الباب حتي تخبط الحائط. يضج المكان بأحاديث الأمس والبارحة. تختلط الأصوات وتتدافع في كل الاتجاهات. يتساقط كثير من الكلام علي الأرضية صريعا مدمي ينز منه القيح والروائح الكريهة. وتحتضر بين رجلي آهات المتيمين بحبيبات هجرن قلوبهم. ويفوح عطر الأقاحي في الركن الأيمن من البوتيك. عطر كلام عن الحب قالته البارحة شابة قبل أن تغادر المكان. أكنس هذا الكلام الميت وأرميه في سلة المهملات. وأفتح الشباك ليطرد هواء الصباح الجديد بقية الكلام المتطاير في الجو. يتقافز الهمس متكاسلا وتساقط دموع التوسل كرذاذ مطر الخريف. وتخشخش كلمات الرياء داخل طبلة أذني حتي تكاد تثقبها ثم تنقشع هذه الضجة شيئا فشيئا وتعم السكينة أرجاء المكان. فأذهب إلي طاولتي الصغيرة المنتصبة قبالة الأبواب الأربعة ذات الواجهات البلورية. أتفقد أجهزة الهاتف. أحنو عليها أكلمها. أوشوش في آذانها وألثم أفواهها، ثم أعلقها علي الأذرع الفولاذية. وأعود إلي الطاولة. أصفف فوقها القطع الفولاذية الصفراء والبيضاء. وأخرج من الدرج الصغير كتاب ألف ليلة وليلة أعدم بحكاياته وقت الفراغ. 

حكاية الكلام الممنوع من الصرف التي فيها ذكر الست شهرزاد
الباب مفتوح طول النهار وعرضه يستقبل حرفاء الكلام المباح والممنوع من الصرف العلني. فيدخل بصمت الحكماء. تدخل بحذر غزلان البراري. يدخلان بضجيج الشباب. يدخلون دخول الفاتحين. يدخلن بخفر العذاري. وتمتلئ فسحة الانتظار بهرجهم وضجرهم وصمتهم وحديثهم الهامس. تمتلئ القاعة الصغيرة بابتساماتهم وضحكهم الضاج. تمتلئ القاعة بدموعهم وتوسلاتهم... بغضبهم وكلامهم النابي. ..كلمة واحدة ويخرج من المقصورة هائجا هيجان ثيران حلبات القتال. كلمتان وتخرج جذلي تكاد الدنيا لا تسعها. ... ما أحلي الكلام. ما أمر الكلام. كلام في عذوبة غنوة العندليب. كلام خشن كجذع شجرة عجوز. كلام في حلاوة العسل المصفي. كلام لذيذ كالفستق. كلام يفتح القلوب المغلقة بسبعة أقفال. كلام لطيف. كلام موحش كالظلام.  كلام في كلام في كلام. وينفجرون بكل فرح الدنيا. هذيان محموم وهتافات ودموع تغني عن الكلام. انتصار وخيبة. جنة ونار هذه الأمتار العشرة المربعة. جنة بها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ونار تلظي يصلاها الأشقي.  وأنا من وراء طاولتي أتابع هذه الدنيا الصغيرة. أتابع هذه الدنيا الصغيرة وأقرأ ما تيسر من حكايات الست شهرزاد. فتختلط عليّ الأشياء. تصير الحياة عالما من ورق. وتتحول شخصيات حكاياتي إلي آدميين من لحم ودم. أراهم بقلبي يغادرون الكتاب فأبتسم لهم. وتشجعهم ابتساماتي المتواطئة فيفتحون أبواباً وشبابيك داخل الورقات ويذهبون. يختلطون بمرتادي المحل. يتبادلون معهم التحايا ويشدون علي الأيدي المرتعشة. ويقرأون لهم أشعار الغزل والرثاء. يباركون للناجحين. ويضعون أيديهم بلطف علي أكتاف المنهزمين. وأنا أبحث عن خواتم لبدايات قصص ألف ليلة وليلة. وبدايات لأحداث هرب أبطالها من الأسطر الأولي من صفحات الكتاب. هربوا وتركوا الحكايات بلا معني. والمعاني بلا حكايات. وأمتلئ بكل أوجاع الدنيا حين تدفع آلة الهاتف فاتورة الحساب. وأتوجع حين تعلق سماعة الهاتف علي الذراع بعنف. حين تعلق بغضب. حين تعلق بسخط. وأبتسم لخريف يحنو علي الجهاز كما يحنو حبيب علي حبيبه. فيرد علي ابتسامتي ويمضي في حال سبيله. ويخرج مرتادو دكاكين الكلام. يخرجون تاركين المكان للواقفين في البهو والمتلصصين علي الشفاه وعلي عدادات ماكينات الكلام.

حكاية قوت القلوب مع حبيبها غانم بن أيوب المتيم المسلوب
عند الساعة الثامنة وقفت أمام الدكان امرأة شابة قاعدة النهد، أسيلة الخد، بطرف كحيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، عليها أحسن ما يكون من الثياب: معطف من القطن الأسود تحته قميص أحمر وتنورة بنفسجية. كانت الشابة تحمل علي كتفها حقيبة أنيقة. وفي يدها مجلد كبير الحجم يحمل عنوان: دليل الحيران في عناوين وهواتف الأحبة والأغيار والأهل والجيران. وقفت الشابة أمام الباب لحظات ثم دخلت تدق جليز البوتيك بكعبها العالي. أشرعت أول باب قابلها وافتكت من المرأة المنهمكة في حديث أضجر المترقبين سماعة الهاتف وقذفت بها خارج الكشك. وسدت الباب بقامة تفضح غصن البان، وبعطر أرق من النسيم إذا مر علي البستان. ظلت في الكشك أكثر من ساعة. كانت تخرج بين الفينة والأخري تقف ساهمة، لا تتكلم، فقط كانت تنظر في الفراغ بعينين قال الله كونا فكانتا تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر. ثم تطلب مني أن أحول ورقاتها النقدية إلي قطع صفراء كبيرة، أو بيضاء صغيرة، تلقم بها الجهاز وتضع السماعة علي أذنها ثم تطلب أرقام من المجلد تظل تعيدها بلا كلل ولا ملل. كانت تعتري هذه المرأة حالات عجيبة. كانت أحيانا تبدأ في بكاء هستيري يدمي القلوب الحجرية. ثم تصمت لحظات لتبدأ ضحكة تكاد لا تنتهي. إلي أن يمل الواقفون وراءها هذه اللعبة فيسلوها. إلا أن نظراتهم الحيري لا تفتأ تراقب من بعيد ما يدور في مقصورة الهاتف.

ظل العطر الغالي والكعب العالي في الدكان من الصباح إلي المساء. وظللت أحوّل أوراق النقد إلي قطع معدنية إلي أن سمعت أزيز عجلات في الخارج. وقفت أستطلع الأمر فإذا بسيدة الكعب العالي ملقاة علي الرصيف. وإذا بأبطال قصتي يصفقون بأجنحتهم ويطيرون خارج الكتاب. رأيتهم يحطون علي المرأة ويعودون بها إلي الدكان. أجلسوها علي أريكة في الركن. ثم هووا عليها بمراوح صغيرة أخرجوها من جيوبهم، إلي أن عاد لها الرشد. فوضعوها داخل حكايتها القديمة، ونادوا أن تعالي يا شهرزاد قصي علي هذا الرجل حكاية قوت القلوب مع حبيبها غانم بن أيوب المتيم المسلوب. لكن شهرزاد امتنعت عن الكلام المباح قائلة إنها ما عادت قادرة علي الحكي بعد أن ألجم لسانها ما تسمع وما تري من عجائب وغرائب يشيب من هولها الولدان. ولكن هو ذا كتابي بين يديه فليقرأ منه ما يشاء. وانصرفت كما جاءت تاركة وراءها عطرا يأخذ بمجامع القلوب.

وعدت إلي كتابي أقرأ منه: بعد أن عفا الخليفة هارون الرشيد علي محظيته قوت القلوب، ووعدها بأن يهبها إلي حبيبها غانم بن أيوب، هبة كريم لا يرجع عن عطائه. ساحت في أرض الله الواسعة تبحث عنه إلي أن وصلت هذه المدينة العجيبة. مدينة الجسور المعلقة والمباني الشاهقة. لم تعرف كيف الوصول إلي المارستانات والمشافي والخانات. ولم تعرف كيف تعبر فوق نهر دجلة إذ رأت الجسور محطمة. ولم تعثر علي صياد يساعدها علي العبور فجلست علي حافة النهر تبكي حظها التعيس وتذكر أيامها السعيدة مع حبيب ما عادت تعرف كيف تصل إليه. ظلت هناك إلي أن غابت الشمس فخافت أن تقع في أيدي قطاع طرق أو لصوص يبيعونها في سوق الرقيق. فقامت وذهبت تطرق أول باب قابلها. فلم يجب علي ندائها أحد. وتمادت في طرق الأبواب إلي أن امتلأت باليأس والفجيعة. فقررت العودة إلي النهر. في طريق عودتها قابلتها إحدي قهرمانات القصر فسألتها قوت القلوب إن كان بلغها خبر عن حبيبها غانم بن أيوب. فتلكأت ولم يطاوعها لسانها علي الرد. ولما وضعت الشابة في يدها حفنة من الدنانير الذهبية. قالت لها القهرمانة إن حديثا يدور في المدينة عن موت غانم بن أيوب المتيم المسلوب، في حادث سيارة ملغومة بمائة كيلو غرام من الحرية، علي الطريق الرابطة بين مدينة السلام وسجن أبي غريب. فجنت الشابة ومزقت فستانها المرشوش بالربيع. وذهبت تبحث عنه في مكان الحادث. وجدت بلور السيارة مهشما، وآثار دماء علي الكرسي الخلفي، ونتفا من اللحم الآدمي وراء كرسي السائق مباشرة. غمست إصبعها في الدم اللزج ورفعته أمام عينيها. نظرت في الإصبع الملطخ بالدم ومسحته علي جسم سيارة عسكرية من نوع هامر و. .. يدعوني حريف إلي فك نقوده فألبي النداء. أغلق الكتاب. أضعه علي الطاولة وأضع في يد الطالب قطع النحاس. وأذهب أقف أمام الباب أشم هواء الشارع، وأتفرج علي السيارات والعابرين حثيثا تحت المطر. وأعود إلي حكاياتي فيمتليء البوتيك بعطر قوت القلوب.  ويضج المكان بصراخها المحبوس بين دفتي الكتاب. 

وما هذه بأغرب من حكاية مسرور السياف وما جري له يوم الانقلاب علي السلطان

منذ أن خطا خطوته الأولي داخل الدكان عرفته رغم إتقانه التنكر. فقد لبس بدلة تاجر شامي وغطي رأسه بعمامة هندية ووضع في رجليه مركوبا مصريا. كان كلما خطا خطوة، ترك وراءه بقعة دم كبيرة. فصحت في وجهه أن قف مكانك يا رجل، وعد إلي حكايتك القديمة. قال:

ـ مستحيل هي فرصتي الأخيرة، مادمت وحدك في الدكان، ولا شاهد غيرك علي خروجي من بين دفتي هذا الكتاب.  ومضي إلي مقصورة الهاتف المقابلة لطاولتي. نفض رجليه من الدم ودلف إلي الداخل بحذر. رأيته يؤلف أرقاما كثيرة، ويهتف إلي عدد كبير من الأشخاص، ويتكلم بعصبية مفرطة. يشتم ويسب مرات ويلين في الحديث مرات أخري، إلي أن سال الدم من تحت باب المقصورة. فعلق السماعة علي الذراع بنرفزة. وخاض في الدم إلي أن وصل باب الخروج.  ناديته إلي أين أنت ذاهب يا مسرور؟ أما سمعت بالانقلاب الذي أطاح بسلطانك هذا الصباح؟ فكل إذاعات العالم تتحدث عنه، وعن القصر الذي أحرقه المتظاهرون بعد أن عاثوا فيه فسادا. قال:

ـ والله لا أدري إلي أين أذهب. لقد تقطعت بي السبل بعد أن رفض الجميع استقبالي في بيوتهم. أنا مسكين يا أخي فقد كنت أنفذ الأوامر العلية. وانخرط في بكاء يقطع الأكباد.  ارتبكت في أول الأمر وأنا أشاهد بأم عيني مسرور سياف السلطنة يبكي كالطفل الصغير. ثم تداركت الأمر فعضضت علي قلبي وقلت له بتشف:

ـ لن تجد الآن من يفتح لك باب النجاة يا سيف السلطان. وتركته واقفا أمام الباب. وذهبت أبحث عن مكنسة وقطعة قماش أمسح بها آثار أقدامه الملوثة بالدم. فدس سيفه تحت عباءته الطويلة. وذهب إلي حيث لا أدري.

بعدما غاب عن ناظري ندمت ندما شديدا لأنني نسيت أن أطرح عليه سؤالا ظل يؤرقني وأنا أقرأ في الليالي:
ـ لماذا لم يرفض مسرور السياف مرة واحدة أوامر السلطان؟
وما هذه بأعجب من حكاية طاقية الإخفاء
وضع شاب جميل، كالبدر ليلة تمامه، فوق الطاولة شاشية ماجيدي. قال إنه وجدها بجانب الهاتف داخل المقصورة. وذهب في حال سبيله. جلبت الشاشية انتباهي. فجعلت أقلبها بين يدي متمليا منظرها البديع، وزينتها الفخمة. فقد كانت تخلب اللب بالرسوم التي تزدان بها: رسوم أزهار وأطيار وحيوانات أسطورية، طواويس برؤوس آدمية، وأحصنة مجنحة وآدميين علي وجوههم مناقير جوارح. إلاّ أن ما يعيب هذه الشاشية أنها لم تكن جديدة. فآثار السنين ظاهرة علي حافتها المسودة. قلبت الشاشية بين يدي مدة ثم وضعتها فوق رأسي. أطل من المقصورة المقابلة لطاولتي رجل. رأيته يبحث عني بعينيه ثم سمعته يتمتم:

ـ أين ذهب هذا الملعون؟
ظل الرجل واقفا برهة في الباب ثم رفع صوته مناديا:
ـ أين أنت يا صاحب المحل؟ أريد فك هذا الدينار إلي قطع نحاسية.

ذهب في ظني أن الرجل أعمي. لكن الحاضرين في بهو الانتظار صاروا يلتفتون باتجاه الطاولة والحيرة ترجهم رجا إلي أن قال قائلهم:

ـ قد يكون خرج لقضاء حاجة وسيعود.
امتلأت بالخوف والرهبة وغادرت المكان. مررت وسط الكتلة البشرية المتراصة وسط بهو الدكان دون أن يحس أحد بمروري، لكن قبل وصولي إلي باب الخروج بخطوتين، دفعني طفلان يتشاجران فوقعت. ووقعت الشاشية من علي رأسي. فانكشفت لهم. صاحوا بصوت واحد:
ـ أين كنت يا رجل نحن في حاجة إلي قطع النقود النحاسية.

فأدرت لهم ظهري. وقصدت طاولتي. وأنا لا أكاد أصدق أذنيّ. هل أصابتهم غشاوة فعموا عن رؤيتي؟ أم أنني تحولت إلي شبح؟ غمرني عرق بارد سال علي جبيني وبلل كامل بدني. عرق لزج جعل ثيابي تلتصق باللحم وتضغط عليّ حتي كادت تذهب بروحي. فتركت الطاولة. وذهبت أروّح عن نفسي بالوقوف أمام الباب إلي أن خلا المكان من الزبائن. فعدت إلي الشاشية أضعها علي رأسي. وعدت إلي القراءة في الكتاب إلي أن رأيت كهلا يقف في باب الدكان.. تردد الرجل لحظة ثم دخل المحل. التفت يمينا وشمالا. ثم اقترب من الطاولة. ظهر الارتباك في عينيه. إلاّ أن يده اليمني تحركت بسرعة. اختار من النقود المصفوفة أمامه كدسا من الدنانير دسها في جيبه وبسرعة ولج إحدي كبائن الهاتف. حين أطل برأسه بعد دقائق. وجدني وراء الطاولة. قال وهو يداري ارتباكه:

ـ اعطني بضع مئات من الملاليم.
ثم استطرد:
ـ أين كنت؟ لم أجدك في الداخل قبل قليل.
صدق ظني. هاأنذا أمتلك شاشية عجيبة. شاشية تخفيني عن الأعين. شاشية تجعلني قادرا علي الاستماع إلي الآخرين، والتلصص علي أسرارهم، علي حكاياتهم الصغيرة، علي كذبهم علي نفاقهم، علي تفاهاتهم علي. ..

وكان البهو فارغا. والمقاصير ملآي بمرتاديها. قلت: لأجرب الاقتراب من زبون خفية. واقتربت من المقصورة القريبة من الباب. أحسست بجسمي خفيفا وبأنني أكاد أطير. كنت أتحرك كالطيف. فمددت يدي أفتح الباب. لكنه أحدث صوتا جلب انتباه الرجل المنهمك في الوشوشة. التصقت بالجدار. فمد الرجل يده وأعاد إغلاق الباب دون أن يحس بوجودي. كان الرجل المحترم في خمسينات العمر. وكان جسمه مكتظا باللحم والشحم. سمعته يغازل الصوت الأثيري ببذاءات، ويطلب منه موعدا للتلاقي. قال الرجل المحترم: ستجد المفتاح تحت وسادة أمام الباب. تعال رأسا إلي بيت النوم. ستجدني في انتظارك. وازداد كلامه بذاءة فازددت انكماشا في الركن إلي أن بدأ الرجل في التأوه و الأنين. ولا أدري كيف انطلق جمع يدي إلي فمه. ثم أردفت الجمع بصفعة علي قفاه، وبركلة علي بطنه. كان الرجل يتقي الصفع والركل بيديه. كان مرعوبا فالضربات تأتيه من حيث لا يعلم. ولا أحد يشاركه المكان فعلق السماعة كما اتفق واندفع هاربا. جريت وراءه إلي أن اختلط بالمارين فركلته علي مؤخرته وعدت إلي الدكان. وأنا ألج الباب. رأيت الرجل يشتبك في عراك بالأيدي والكلام النابي مع جمهور الشارع. فرفعت الشاشية عن رأسي، وذهبت أجلس وراء طاولتي.

وصرت كلما دخل زبون أو زبونة واحدة من المقاصير، وكان بهو الانتظار فارغا إلا ودخلت وراءه. فامتلأت بالضجيج. .. بالكلام. .. بالهمس. .. بالبكاء. .. بالنحيب. .. بالعياط الهستيري... بالضحك. .. بكل الأصوات العذبة والحزينه. وامتلأت بالأمل والفجيعة. ..بكل تعب الدنيا وشقاء الأنفس... بكل سعادة الأرواح وتعاساتها. عند الثامنة إلا دقائق وكنت منهمكا في ترتيب الدكان استعدادا للمغادرة، رأيت شيخا يلج الباب. حياني الرجل بأدب جمّ واتجه نحو الطاولة. قال:
ـ هذه شاشيتي يا ولدي لقد نسيتها هنا.
وضم الشاشية إلي صدره. وخرج.
حين عاد لي الرشد جريت وراء الرجل فلم أجد له أثرا. كان الشارع الطويل فارغا وكانت بقايا من روائح الرجل تملأ المكان.

كلام اليوم اللاحق
هذا ما كان من أمر قوت القلوب البغدادية فإنها ظلت تخرج كل يوم من بين دفتي كتاب الحكايات العجيبة ـ التي لو كتبت بالإبر علي آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر ـ تكلم عريسها الشهيد داخل مقصورة التاكسيفون، إلي أن ماتت ذات يوم بين يدي بالذبحة الصدرية، فدفنتها بين دفتي الكتاب وأعدتها إلي عالم الحكايات. مّا ما كان من أمر الشيخ صاحب طاقية الإخفاء، فإنه كان يزور كل يوم دكانا من دكاكين التاكسيفون، يتناسي في الصباح شاشيته المجيدي القديمة في مقصورة من المقصورات، ولا يعود إلاّ مساء بعد أن يكتشف صاحب الدكان خوارق الشاشية. وأمّا ما كان من أمر مسرور السياف، فإن واحدا من الجماعة التي اقتحمت القصر، وكان في الأصل عبدا من عبيد السلطان، قد عرفه حين رآه يحاول الهرب علي ظهر سفينة افتكها من صياد سمك. فدل عليه القوم. فأخرجوه من النهر. وجردوه من سيفه. وجروه من رجليه إلي أن وصلوا إلي ساحة النصر. فعلقوه علي بقايا تمثال السلطان. وجلدوه إلي أن أغمي عليه فألبسوه جلد حمار. وربطوه بحبل علي سارية جرار البلدية. وسحلوه في الشوارع...

 تونس