هو الآن يرحل عنا ليسكن فينا

فرانسوا باسيلي

وجعني خبر غياب محمود درويش، حدَّ البكاء، ومثل الكثيرين، لم أصدق، وتساءلت، ما إذا كان هو النَّوم، الذي أحبَّه، واعتبره شقيق الموت؟ "هل الموت نوم طويلٌ، أم النَّوم موت قصير؟". ولا شيء يشبهه... والأغاني تقلده... تقلد موعده الأخضرا... هو الآن يرحل عنا" ليسكن فينا.

رافقتني أشعار "محمود درويش"، في السجن، وفي المنفى، وفي الوطن، ومنذ قصائده الأولى، التي جاورت شعبه، وعبَّرت عن ألمه، وأمله، وتحديه للمحتلّ، إلى الكتابة الأكثر تركيباً، وجماليةً، وعمقاً، والتي عبَّرت عن هموم الإنسان، وتوقه إلى الجمال والحرية والعدالة الإنسانية. شدَّت أشعاره عزيمتي، وعزيمة شابات عديدات، في مواجهة السجن والتحقيق والتعذيب:

سدّوا عليّ النور في زنزانة
فتوهّجت في القلب شمس مشاعل
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي
فنما على الجدران مرج سنابل"

كما كانت أشعاره معيناً لشباب وأطفال (كورال عباد الشمس/ اتحاد المرأة الفلسطينية بالقاهرة)، على تحمل قسوة المنفى، والحفاظ على الهوية، من خلال غنائهم، قصائده الأولى، ثم قصائده الجديدة.

"وطني
يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور ورقة المتفائل
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا
ميلاد عاصفة وعرس جداول"،
"لأجمل ضفة أمشي
فلا تحزن على قدمي من الأشواك
إنَّ خطاي مثلُ الشمس
لا تقوى بدون دمي"،
"ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا
ونرقص بين شهيدين
ونزرع حيث أقمنا نباتاً سريع النمو
ونحصد حيث أقمنا قتيلا".

بالإضافة إلى أنها شكَّلت زاداً لابن موسيقي، لحَّن قصائده، التي افتتن بها، وغناها، طفلاً وشاباً:

"على هذه الأرض سيدة الأرض
أم البدايات
أم النهايات
كانت تسمى فلسطين
صارت تسمى فلسطين
سيدتي
أستحق لأنك سيدتي
أستحق الحياة"،
"مساء صغير
على قرية مهملة
وعينان نائمتان
أعود ثلاثين عاماً وخمس حروب
وأشهد أن الزمان يخبىء لي سنبلة
يغني المغني عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغني يغني".

على قلبه مشى، بين قلب مريض بالأمل، إلى قلب "أصيب بالحكمة". بين حياة شكَّلته طفلاً، وحياة شكَّلها شاباً ثم رجلاً، ومضى بها نحو المستقبل، "من ريح إلى ريح"، حيث لا وراءه إلاّ الوراء. سعى نحو التجديد، ونحو الجمالي: "وغنِّ فإن الجماليَّ حرية". أقام مملكته اللغوية الخاصة، وتحصَّن خلفها: "أنا لغتي". حارب التخلف، والفكر الظلامي، معلناً: "الله للجميع وليس احتكاراً لأحد". جاهر بالقطيعة مع القبلية، ومع الأحادية، ومع التطرُّف: "سنصير شعباً حين ننسى ما تقول لنا القبيلة... حين يُعلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرة". فتنته الحكاية التي تتناسل من الحكاية، حتى صارها، وفتنه الإيقاع حتى سكنه، وسحرته الكلمات.. روَّضها، فسحرنا، ولا عجب أن كانت حكايات "ألف ليلة وليلة"، أولى الحكايات التي قرأها، وتأثر بها.

شغله سؤال الهوية: من أنا؟ وتمرَّد على إجاباته المباشرة الأولى،"سجِّل أنا عربي"، مقامراً بجماهيرية القصيدة، مسافراً بالسؤال إلى آفاق أكثر تعقيداً ورحابة، معترفاً: "ما زلتَ صغيراً على سؤال يحيِّر الفلاسفة. لكن سؤال الهوية الثقيل قد أقعد الفراشة عن الطيران". لكنه، وبعد رحلة طويلة في غياهب المعرفة، وصل إلى إجابته/ الحكمة:  "الهوية هي ما نوَرِثُ لا ما نرث. ما نخترع لا ما نتذكَّر. الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة".

كنتَ قاسياً عليكَ؟! ربما؛ لكن هذه القسوة هي ما جعلتك أنت أنت، الشاعر الناقد لشعره، المنتصر للإبداع والإنسانية في آن: "ليس هناك ما يمنع أن تكون مناضلاً وأن تكون عاشقاً"، "الشاعر ليس مراسلاً حربياً"، كنتَ الشاعر الذي يكسر القوالب والأصنام، وكل ما يعيق إبداعه، ويمضي نحو تحقيق وجوده كشاعر، يسعى "إلى الشعر الصافي، البعيد عن ضغط اللحظة الراهنة"، متسائلاً: "هل ما نشرته هو شعر حقيقي؟ لست متاكداً أنني حققت طموحي.. للشعر فاعلية لم أحققها حتى الآن". الشاعر الذي نجح في أن يكون صوتاً خاصاً وجماعياً في آن، في أن يطرح أسئلة الميتافيزيقيا، وأسئلة الحب، والذي نجح في أنسنة العدو: "لمعرفته، سواء للمصالحة أو للحرب". نستمع إلى شاعرنا، ونتعلَّم: ألاّ نفرح بما نفعل، أن نكون أكثر صرامة في نقد أنفسنا، وألاّ نخشى الاختلاف، وأن نخلص للإبداع ولحقول المعرفة، ولإنسانيتنا، وأن نتحاشى الاقتراب من المثال، في كتاباتنا.

أحزنه تمزيق الوطن، انفطر القلب المتعب، ولم يستطع أن يقف حيادياً. وجَّه نقداً لاذعاً للحرب المجنونة، بين الإخوة السجناء: سجين يستقوي على سجين، أي مهزلة! "القاتل قتيل أيضاً"، وأعلن انتصاره للحياة، في وجه انتشار ثقافة الموت: "أقولُ: الحياةُ التي لا تعرَّف إلاّ بضدٍّ هو الموت.. ليست حياة!".

يا ساحر الكلمات، ومروِّضها، أيتها القامة الثقافية السامقة، أيها الشاعر، الذي أثرى الشعر الإنساني، والفكر الكوني. هل نعزي أنفسنا؟ أنعزّي جبال الجليل؟!

ولا شيء يشبهه... والأغاني تقلده... تقلد موعده الأخضرا... هو الآن يرحل عنا" ليسكن فينا! 


Faihaab@gmail.com

عن جريدة الأيام الفلسطينية 17 أغسطس