محمود درويش تحت سماء القاهرة

ناصريون وقوميون في حضرة الظل الأخضر

محمود قرني

أعجبني بشدة ذلك الوصف الذي أطلقه ناقد بريطاني يرثي محمود درويش عندما قال "إنه بدأ كلاسيكيا ثم تحول إلى شاعر شعبي". وأظن أن النظرة الغالبة في النقد العربي لم تُقارب مثل هذا المعنى، رغم دقته وشدة صوابه، فدرويش تحول من مجرد شاعر فصيح يرتبط، بقوة، بحقبة الحداثة العربية ويقف على رأسها، إلى كونه شاعرا للضمير العام وفي الضمير العام، كان قائدا عندما يتكلم عن الثورة، وعاشقا يهرف كصبي بين الأغرار عندما يتكلم عن العشق، ومطرودا ومطاردا وفقيرا وآثما عندما ينشد العدالة في فضاء الله الذي يعج بالمظالم، فقد شغلته أشجار الزيتون والأصابع الخشنة التي تبزه كل يوم تحت نيران الاحتلال، بأكثر مما شغلت الايدي الناعمة للزعماء الذين كانوا يطلبون إليه التماس الأعذار وغفران الخيانات، وعرائض المديح..

وتحول محمود درويش إلى شاعر شعبي هي نفسها قصة الصراع التي خاضها عشرات الشعراء عبر التاريخ بين واجبهم تجاه الفن، وواجبهم تجاه الانسان، تجاه المواقف، تجاه الانحياز الأخلاقي، الذي يلخص الانتماء القومي ومدى الوعي به، وقليلون هم الشعراء الذي استطاعوا أن يقبضوا على ذلك الخيط السحري والمستحيل الذي يمكن له أن يفك الشفرة بين واجب الفن تجاه نفسه وواجبه تجاه الناس، والإجابة على هذا السؤال تقتضي منا حصر الآلاف الذين واظبوا على حضور أمسيات محمود درويش، والآلاف الذين ذهبوا على دور النشر بغية الحصول على توقيعه فوق غلاف ديوان جديد، ومئات الدراهم والدنانير التي دفعها عشاق راحوا خلف أمسيات ذهبت حصيلتها إلى مرضى وفقراء ومقاومين، وأنهار من دموع المهزومين الذين ودعوا شاعرهم في كثافة تعيد علينا طرح سؤال وظيفة الشعر مرة أخرى. سيقول قائل إن ذلك حدث مع غير الشعراء، حدث لملفقين وكذبة، وهو ليس بالضرورة، معيارا لجودة الشعر، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن فعالية هذه الجموع صدقت شاعرها حتى النهاية، فإذا كان بإمكان الكذبة أن يخدعوا كل الناس بعض الوقت، فإنه من المستحيل عليهم أن يخدعوا كل الناس كل الوقت.

ودرويش لم يكن مخادعا، لقد كان وعيه بتحديث نصه لا يفتر، بل كان يتعامل مع كل نص كأنه النص الأول، وقيمته الحقيقية ـ في رأيي ـ تكمن في قدرته على الإبقاء على شعبية نصه، دون أن يكون ذلك على نفقة تجاوزه النوعي، لذلك فهو نص زمني بشعبيته، ونص لازمني بحدسه المستقبلي المتجدد دائما. وعلينا أن نتذكر جيدا أن درويش لم يكن يملك تلك الجرأة التي يمكنه من خلالها إصدار الأحكام النهائية على فساد ذوق العامة، فالرجل لم يكن يبحث عن وصاية يدعي خصومه أنهم يناضلون من أجل تحرير القبيلة الناطقة بالعربية من نيرها، ولا أظن شاعرا ـ أي شاعر ـ يمكنه أن يوفر ـ في عالمنا ـ صك الحرية حتى لنفسه، لماذا إذن نطالب درويش بما نعتق أنفسنا من أسره.

كنت ومازلت أشعر بالمهانة الشخصية، كلما وجه واحد من المثقفين شتائم مجانية الى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ورغم أنني لم أكن ناصريا في يوم من الأيام، وأحيانا لا أجد تفسيرا لشعوري هذا، إلا أنني صرت أصاب بنفس الشعور تجاه بعض المقالات التي تنال ـ بنفس المجانية ـ من محمود درويش رغم انني كذلك لم أكن درويشيا، وربما كان هذا الارتباط بين اسمي ناصر ودرويش هو الذي كشف لي جانبا من غموض هذا الشعور.
أقول هذا وأعلم أن فرقا وشيعا من شعراء أيامنا سوف يتندرون على هذه المشاعر، فهؤلاء من النوع الذي وصفه الشاعر محمد الماغوط بقوله: إذ نطقت باسم "المتنبي" في وجه أحدهم ثلاث مرات أغمي عليه، ولا أستبعد بالفعل أن يحدث ذلك إذا نطقت في وجه واحد من رفاقي هؤلاء بكلمة "قومية" لمرة واحدة وليس ثلاث مرات.

فهذا الشعور الذي ربما أصبح فعلا مثارا للتندر لا يدخل للقومية من شرفة السياسة ولا من باب الخطب العصماء، لكنه يطارحها سؤالا مركبا، حول الهوية المجروحة التي تحتاج إلى عقول وقلوب ودماء لتنجز معطيات وجودها، فالبحث هنا يتعلق باكتشاف فعالية خارج المركزية المنتجة للأفكار والمال والسلاح والمعرفة، مع الوضع في الاعتبار أن الهوية التي يسعى الفن إلى إنجازها، تختلف عن تلك الهوية التي يسعى السياسي إلى تأليف أو تلفيق أواصرها، والشاعر النادر القوي غير المتهافت وغير المتهتك الذي يؤمن بخصوصية جماعته الإنسانية هو وحده القادر على تقييم هذا الحلم الرفيع، الذي يقيم الاعتبار الأول لإنسانه، فالانتماء الذي يبدأ باللغة يفرض مكونات موضوعية كما يفرض نسقا من القيم الأخلاقية التي لا تفيد الفنان الحقيقي، بقدر ما تدفعه إلى تجديد تلك الأواصر والأنساق داخل الجماعة البشرية، ومن هنا تكتشف الجماعة شاعرها ومفكرها وقائدها وزعيمها بهذا المعنى مثل عبدالناصر الزعيم الشعبي الملهم، ومثل محمود درويش الشاعر الشعبي الملهم ايضا. ولن يستطيع واحد من هؤلاء الذين ينسبون إلى درويش وأقرانه خطأ التحدث باسم القبيلة، أن يقدم لنا برهانا واحدا على أن شعبية وشيوع هذا الشعر كان على نفقة قيمته النوعية، وسوف يحتاج هؤلاء الى أطنان من المتفجرات لكي يزيلوا إسم محمود درويش من حقبة الحداثة العربية، وأظن أنهم لن ينجحوا رغم ذلك.

درويش بين كافور وسيف الدولة
هذا الأمل القشيب الذي نما في ظلال المد القومي، كان يملك من النضارة والحضور ما يؤهل الشاعر للتباهي بالأمل القادم في الأفق، بثورة التحرير الكبرى، إنه حق إنساني لهؤلاء الذين يرزحون تحت وطأة احتلال غير مسبوق في شراسته وعنفه وإباديته، إنه احتلال هوية لا مجرد احتلال أرض، إنه احتلال تاريخ وتزييف وعي. لذلك ظل الأمل القشيب خيالا مشروعا، لكن الأمل نفسه الذي كان يحلم بدولة عضو وتمتد من محيط العالم العربي إلى خليجه، وجد من يتجرأ على تسخيفه والنيل منه بل والتندر عليه، إنه حلم يملك الكثير من الأخطاء وهذا حق، وكان الخطأ الأكبر أنه ظل حلما، ظل يوتوبيا، وظل جمهورية فاضلة، لم تلمس الأرض إلا عندما تكسرت أجنحتها. وقد كان خروج محمود درويش من مصر سببا كافيا لاختلاق الكثير حول نكوص الحلم، وحول هزيمة جديدة "للمتنبي" في حضرة كافور، ونسب بعضهم قصيدة "رحلة المتنبي الى مصر" التي كتبها دوريش إلى كونه شاعر الأمة الذي أهانته مصر، وتحول السادات إلى كافور، وهي حكاية يؤكد التاريخ أنها مختلقة، فالقصيدة التي تحمل هذا العنوان لم يكتبها درويش إلا في باريس، وبالتحديد نشر ما في مجلة "الوطن العربي" الأسبوعية التي كان يكتب فيها، وهذا يعني أن هذه القصيدة لم تكتب إلا بعد عام 1979 أو في العام نفسه، حيث غادر درويش بيروت على أثر اقتحام فريق من حرس الرئاسة الفلسطينية لمركز الأبحاث الفلسطيني، الذي كان به مقر درويش، وكان يترأس المركز آنذاك صبري جريس وهو الشخص الذي اختاره درويش ليحل محله في قيادة المركز بعد أن أعلن عدم رغبته في الاستمرار في العمل الإداري.
وفي الإجمال ليس هناك ما يؤكد أن ثمة إساءة مصرية تحدث عنها درويش أثناء حياته أو عقب الفترة التي قضاها في مصر، والتي اختلفت الروايات حولها، فهناك من يؤكد أن درويش جاء في شباط (فبراير) 1970 مثلما كتب الشاعر شعبان يوسف في "أخبار الأدب"، بينما يؤكد الشاعر عبدالرحمن الأبنودي ان درويش جاء إلى مصر في عام 1969، وهو على كل حال تاريخ لم يستمر طويلا حيث غادر درويش الى بيروت بعد حوالي العام من قدومه.

صحيح لم تخل الرحلة القصيرة للإقامة بالقاهرة من المنغصات، فغيرة الشعراء والشامتين لم يكن من الممكن تجنبها، حيث حل درويش كاتبا بالأهرام وخصص له الكاتب الكبير ورئيس تحرير الأهرام آنذاك محمد حسنين هيكل مكتباً بالدور السادس وهو الطابق الذي كان يطلق عليه "طابق العظماء". وربما لهذا السبب وغيره من الأسباب كانت الغمزات تترى من هنا وهناك عن الشعراء المعوزين رغم أنهم من أصحاب القامات مثل الشاعر أمل دنقل الذي تم تعيينه آنذاك مصححا بمجلة "الهلال" لكنه استمر في عمله يوما واحدا لأنه لم يكن يستطيع الاستيقاظ مبكرا، فعينه يوسف السباعي فيما بعد بوزارة الثقافة وكان يذهب اليه راتبه في المقهى. كان محمود درويش آنذاك في معية أحمد بهاء الدين في مجلة "المصور" ولطفي الخولي في مجلة "الطليعة" وهيكل في "الأهرام".

هذا بالطبع يغاير في صورته ما حدث للمتنبي في مصر، هذا العبقري الفذ الذي لم تسعه الأرض، فقد أتى الرجل إلى مصر فرارا مما كان يراه جحيما في بلاط سيف الدولة، حيث لم يسلم من المكائد التي يحيكها ضده أنصاف الشعراء وأرباب حاجات ووقائع، وقد مل المقام في هذه الأجواء، تشهد على ذلك قصيدته الرائعة "الميمية" الشهيرة التي يعاتب فيها سيف الدولة ويمدحه ويقول في مطلعها:

واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وهي القصيدة التي يختتمها مؤطرا تلك الشكوى بقوله:
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عندك، لا عرب ولا عجم
هذا عتابك إلا أنه مقة
قد ضمن الدر إلا أنه كلم.

وقد اعتقد المتنبي أنه سيجد في جوار كافور ما افتقده في حضرة سيف الدولة، فكان مقامه كآبة متصلة، ويتبدى ذلك في هجائياته التي أعقبت خروجه المحفوف بالمخاطر من مصر، بعد أن حاصره هذا الأبجر البطين مشقوق الشفة الذي يجسد فكرة العبودية أبشع تجسيد، بعد أن قفز على السلطة بعشرات المؤامرات في منزل سيده ومخدومه، "ابن طفج" الذي مات في دمشق مع ولده الصغير، الذي ظنه الناس حيا، فأخذوا البيعة له، وكان كافور يقوم على خدمته ويقوم بدلا منه بتصريف الشؤون، وتقبل الناس الأمر بعد عشرات المؤامرات التي قادها.

وقد كان ما لقيه المتنبي في مصر موضوعا لتاريخ حافل من أهل القصائد التي خلفها شاعرنا العبقري، وكانت قصيدته الشهيرة "عيد بأية حال عدت يا عيد" هي آخر قصائده في أرض الكنانة، وهي القصيدة التي تتضمن ابياته الدالة التي يقول فيها:

"صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تعني العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء لي فيه كلب وهو محمود".

ستختلف الأسباب والنتائج بطبيعة الحال، فالقضية التي خرج من أجلها درويش باحثا عن صوت أمته وعن طريقة لتخليد ألمها من خلال ألمه الشخصي، تبدو أكثر أخلاقية وأرفع شأنا وأعلى مكانا ومكانة، لذلك لم يشك درويش من خروجه خالي الوفاض، فلم يكن الرجل يبحث عن إمارة ليحكمها، بل إنه يعترف بقوة الشاعر الكبير والإنسان الكبير أن الامتيازات التي حصل عليها في مصر كانت دعما لمنظمة التحرير في شخص شاعرها.

في المقابل كان الوعي العام الذي تشكل على خلفية ثورة يوليو وحركات التحرر وهزيمة العام السابع والستين ونكبة فلسطين كلها أسباب تمنع وجود أمثال لكافور على رأس نظام الحكم في مصر. في هذا التوقيت الذي كانت تستعد فيه البلاد لخوض حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وإن أضاع الساسة بعد ذلك الدماء النبيلة لآلاف الضحايا، وفي كل الأحوال لا يمكن اختصار مصر في شخص كافورها، وأظن أن درويش لم يكن يبحث أبدا عن هذا المعنى.

درويش في القلوب القاهرية
كان من المفترض أن تشمل هذه الكتابة استقصاء للوجوه والأسماء والأماكن التي ساكنها وعاشرها محمود درويش في عامه القاهري الوحيد، لكن هيهات لنا ذلك، فالأسماء التي ارتكن اليها وأمن لها رحل معظمها ومن بقي على قيد الحياة منهم صار الحديث إليه صعبا للغاية، وغالبا ما يكون السبب هو الظروف الصحية، فالشاعر عبدالرحمن الأبنودي الذي كان دورويش يعتبره أقرب أصدقائه بالقاهرة يعيش حالة استشفائية في مدينة الإسماعيلية إثر وعكة صحية شديدة، والأستاذ محمد حسنين هيكل لا يزال في حالة نقاهة متصلة، فضلا عن أنه ليس موجودا بالقاهرة.

وقد رحل من أصدقاء درويش كل من أحمد بهاء الدين، رجاء النقاش، صلاح جاهين وعبدالرحمن الخميسي، لذلك لم يكن لنا من موئل سوى تسقط بعض أخباره من العنعنات التي تصلنا من أصدقاء نثق بهم، ومن بعض المقالات والشهادات المتواترة التي نشرت في بعض الدوريات القديمة والحديثة مثل المصور وأخبار الأدب ومجلة الهلال، على أننا توخينا بعض الحذر في التنقيب خلف هذه الشهادات لسببين رئيسيين:

أولا: ما يمكن أن يطالعه المرء من شهادات أو ما شابه ذلك لبعض النقاد والصحافيين الأغرار الذين لا يعنيهم من الأمر إلا تلفيق صداقة لم يسمع بها أحد مع الشاعر الراحل، يترتب عليها الكثير من الادعاءات والاختلافات، دون أدنى مراعاة لأبسط القواعد الاخلاقية، وهي في جملتها ادعاءات عديمة القيمة، وتسيء لأصحابها قبل إساءاتها لدرويش، لأنها لم تترك فرصة للتفرقة بين الجد والهزل، في حديث من المفترض أن جده جد وهزله ايضا جد.

ثانيا: لا يستطيع المتابع للآراء التي انطلقت لتقييم تجربة درويش إلا أن يتأكد من حالة الاستقطاب الحاد التي تنطوي عليها الثقافة العربية، فرغم أن درويش عند الأغلبية من الخاصة والعامة شاعر لا يشق له غبار كما نقول في المثل العربي، إلا أن جانبا من هذا الفريق يدفع في طريق يسلب كل فضيلة من الأغيار من الشعراء وإضافة كل الفضائل الى السلة الدرويشية، وأظن أن ذلك كان يسيء الى درويش حيا وسوف يسيوؤه ميتا.

وبنفس اليقين ينظر قلة الى درويش باعتباره أخضع الشعر لشرائط النجومية التي تغاير بطبيعتها حاجات الشعر والفن، وفي الحالين لسنا في حاجة إلى هذا الرأي أو ذاك، انطلاقا من أن درويش نفسه كان واحدا من دعاة الاعتدال والعدالة، فلم يكن يسره التطرف على هذا النحو لدى أي من الفريقين، على هذا الأساس نتطرق الى شهادات عدد من المجايلين القريبين.

في حب قاهرة عبدالناصر
سنبدأ هنا بشهادة للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي الذي يعترف في البداية "صادقته قبل أن أراه وصادقني قبل ان يراني" ويضيف، حين اختار محمود درويش الإقامة بالقاهرة كان لديه كل الحق، فقد كانت القاهرة في ذلك الزمن الذي يبدو بعيدا جدا الآن راقصة، حية، صاخبة تحتضننا بنفس التساوي مع عبدالوهاب البياتي وغيره ولا تفرقة، فقد كنا جميعا أبناء قاهرة عبدالناصر راية الأمة العربية وصوتها وسيفها، وأكثر الزعماء العرب ـ في ذلك الوقت ـ احتضانا للقضية الفلسطينية، ولم نكن نعرف الفوارق، فمن بيتي خرج "مازن أبو غزالة مسافرا ليتسلل إلى أرضه المحتلة ليستشهد على تراب يعشقه، تماما مثلما رحل زعيمنا شهيد قضية فلسطين في أيلول الأسود. ويحكي الابنودي عن نشأة صداقته بمحمود درويش حيث التقى درويش بعبدالملك خليل مراسل الأهرام في موسكو، وسأله: هل تعرف عبدالرحمن الأبنودي؟ فأجابه عبدالملك بأنه أخي وبيته بيتي، سأله محمود: هل يمكن إذا ذهبت الى مصر أن أنزل ببيت عبدالرحمن؟ قال عبدالملك: أتخيل فرحة الأبنودي بهذا القرار لكني لا أظن أن الدولة يسعدها ذلك، إذ سوف يحرمها هذا الإجراء من التباهي باستضافتك.

ويضيف الشاعر عبدالرحمن الأبنودي: ولأن عبدالملك خليل كان المرافق لدرويش في رحلته فقد رافقه الى فندق "شبرد" حيث حجز له جناحا، وأبلغني حضوره ورغبته في رؤيتي، وبادرت كذلك مجلة المصور ـ والكلام للأبنودي ـ بمرافقة شاعرنا للتعرف على شوارع القاهرة وكانت صاحبة المبادرة هي الكاتبة والصحافية "صافيناز كاظم" هكذا من الغورية للحسين للقلعة متشمما روائح القاهرة القديمة التي راح يصف عبقها وحركة البشر والرخام، ورحنا نتحدث عن الشعر وفلسطين وراحت كاميرا المصور تتابعنا في انزلاقنا من شارع الى شارع. ويقول الأبنودي انه توجه لدرويش بالسؤال: كيف عرفتني؟ قال له: منذ وقت طويل، عرفتك منك، وأعجبني أنك لم تنتكس مع النكسة" ويقول الأبنودي اعتقدت أنه يقصد أغنية "عدى النهار" لكن درويش أردف قائلا: من البرامج الشعرية في البرنامج العام بالإذاعة، لقد كنا مداومين على سماعها، إخوانك الشعراء وأنا، ولا أريد أن أبالغ بأن أقول وكل الفلسطينيين. فقال له الأبنودي: عجبا لقد لامني كثير من الشعراء على تلك القصائد المباشرة وقالوا إنها تسيء للشعر، فقال له درويش: أنت مثلي شاعر يتبع ضميره ووعيه، من قال لك ذلك هو شاعر بلا قضية، إن هؤلاء ليسوا بشعراء، أنظر ـ قال درويش ـ وأشار إلى كومة ضخمة من الجرائد والمجلات قائلا: كل هذه المطبوعات عامرة بالشتائم والاتهامات الموجهة إليَّ بسبب مغادرتي بلادي إلى القاهرة، لو أطاع الشاعر جمهوره لما عاش شاعرا لعام واحد، لا يقتل المبدع سوى جمهوره فاحذر جمهورك ودع ضميرك ووعيك الخاص يقودانك الى ما تراه، لا توجد قصيدة صادقة كاذبة أبدا، ويعلق الأبنودي: أذكر ضحكتي المجلجلة لغرابة المفارقة اللغوية عن القصيدة الكاذبة.
ويضيف الأبنودي: منذ ذلك التاريخ صار بيتي في القاهرة هو بيت محمود درويش، ويتساءل متنهدا، كم عاما مر منذ التقينا للمرة الأولى؟ من عام 1968 حتى الآن؟ هل فعلا مر على ذلك اللقاء أربعون عاما؟! ويردف: لم يكن محمود يحط بالقاهرة دون أن يقضي ليلة ببيتي مصطحبا كل أحبابه وضيوفه معتبرا ـ فعلا ـ أن هذا بيته، كان لديه علاقات واسعة يوهم اصحابها أنفسهم انهم أصدقاؤه الوحيدون وقد كان لدرويش هذه القدرة ولا أدري هل كان يقصد إلى ذلك قصدا أم أنها موهبة مثل شعره؟

"ويضيف الأبنودي: إلى بيتي جاء بزملائه الشعراء: سميح القاسم وتوفيق زياد، والشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، ومريد البرغوثي، ويردف متذكرا صوت صديقه في حزن بالغ: كان درويش يحب "ملوخية" "نهال كمال" ـ زوجة الأبنودي ـ وكانت تصنعها له بحماس مصحوبة بالحمام أو البط، وكان فرحا بالابنتين "آية، ونور" ويحب أن يراهما تكبران ويقيس طولهما ويتصور معهما في كل مرة، وصوره تزين جدران شقتي في القاهرة إلى جوار أستاذنا وصديقه: محمد حسنين هيكل، وعمنا العظيم نجيب محفوظ، والراحل الفذ يوسف إدريس. ويضيف الأبنودي أنه كان يقبل إقامة أمسيات في عمان لكي يرى درويش، وفي آخر زيارة له إلى القاهرة ـ يقول الأبنودي: غادر دون زيارتي كعادته ودون إبلاغي فحزنت، وفي اليوم التالي جاءني صوته: يا عبدالرحمن اضطررت فجأة للسفر إلى المغرب، كان من المفروض أن أغادر إلى باريس لكني سأعود للقاهرة خصيصا لأراك كالعادة، وجاء، وقبل ان يسافر الى هيوستن تحدثت إليه فقال: لا بد أن استبدل 25 سم من الأورطي، أنا أخطأت معك في شيء واحد وهو أني لم أرك جسدي "أنا متشرح"، لن أسمح لهم بإجراء عملية جديدة، إذا كان لا بد أن أموت فإني أفضل الموت على طريقة فقير فلسطيني أو فقير أبنودي".

العاشق يحلم بالعودة
الدكتور جابر عصفور لا يتحسب وهو يكتب عن درويش تحت عنوان "الشاعر المقاوم" فهو لا يرى فعل المقاومة عبر ذلك المنظور الضيق الذي يحيل إليه مفهوم المقاومة في الشعر من خطاب مباشر وما شاكل ذلك من أوصاف مجانية. يقول عصفور: تعرفت على درويش عندما قدمني إليه أمل دنقل، كان محمود وقتها نجما صاعدا في سماء الشعر، بوصفه شاعر المقاومة الفلسطينية التي تركزت في حضوره بالدرجة الأولى، لأن شعره كان الأنضج فنيا، ومن ثم الأكثر انتشارا، رغم وجود شعراء مقاومة آخرين. ويضيف الدكتور جابر عصفور: جاء درويش إلى مصر وسط احتفاء وترحيب من الناصرية، التي كانت لا تزال أعلامها مرفرفة على وادي النيل، واحتضنته القاهرة، ووضعوه في أعينهم وقلوبهم، وأوسعوا له مكانا في الصحافة المصرية، ليعمل فيها، دار الهلال في المجيء الأول، والأهرام في المجيء الثاني، ويردف عصفور: إن المقام في القاهرة لم يطب لمحمود، خصوصا بعد أن أخذت شمس الناصرية في الغروب، وتنقلب مصر السادات على مصر عبدالناصر، ويبدأ محمود رحلة جديدة من المنافي العربية وصلت ما بين القاهرة وبيروت وعمان وباريس، وأقام في بيروت التي خرج منها بعد الغزو الإسرائيلي الذي أخرج منظمة التحرير منها، فذهب بعدها إلى تونس قريبا من ياسر عرفات الذي قربه إليه وأنشأ له مجلة "الكرمل" التي كانت في زمن صدورها أفضل وأعمق مجلة ثقافية عربية.

ويردف الدكتور جابر عصفور: إن محمود درويش ظل عاشقا يغني لفلسطين حالما بالعودة، آملا أن يتيقظ العرب، خصوصا بعد أن كانوا قد انتبهوا إلى الخطر الصهيوني، وإلى هدف إسرائيل في الامتداد بكيانها الصهيوني من النيل الى الفرات، وكان الصوت الصاعد "عائدون، عائدون" يملأ أجواء الفضاء، تردد أصداءه الأرض العربية كلها، مع صعود المد القومي وبواكير الوحدة العربية، وخطب عبدالناصر الذي أصبح زعيم العرب، وحلم اللاجئين في العودة. ويتوقف عصفور مستدركا، لكن كارثة حزيران (يونيو) جاءت كالكابوس الذي استبدل اليأس بالأمل وبسط سحائب الهزيمة القائمة على كل الأرض العربية وبخاصة فلسطين الحزينة التي بدت كما لو كانت زدات غوصا في عتمة ليل طويل لا صباح له ولا شمس.

"ومن هنا يرى الدكتور جابر عصفور أن درويش الذي أعتم قلبه تحت تأثير ذلك وتعرض للموت أكثر من مرة وهو ما يبرر في رأيه تهوس شعر محمود درويش بالموت وكيف ظل يشعر أنه قريب منه وأنه في الطريق إليه، وأنه سيكتب السطر الأخير من شعره على الظلال، ويعمل عملا يليق بميت، ويضيف عصفور أن درويش لم يضيع إجازته القصيرة في الحياة، فيمضي بمحاربة الموت بالشعر، ويكتب لاعب الشطرنج وبعض القصائد، لكنه لم يكن يدري أن إجازته القصيرة في الحياة انتهت، وبالتحديد في الولايات المتحدة التي كان يراها مصدر شرور العالم".

واحد من الحرافيش
أما الكاتب يوسف القعيد فيتحدث عن آخر لقاءاته بمحمود درويش في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب، ثم يعرج على مقامه في القاهرة حيث كتب في المصور وانضم لكتاب الأهرام ـ وحسب القعيد ـ فإن نجيب محفوظ قال له إن درويش انضم فترة للحرافيش وتردد عليهم وقضى معهم العديد من السهرات، ويردف القعيد: ربما كان المثقف العربي الوحيد الذي حضر جلسات الحرافيش الأولى أو الحرافيش القدامى، عندما كانت تعقد في منزل الكاتب محمد عفيفي بشارع الهرم علاوة على أن محمود درويش خلال فترة عمله بالأهرام كان يجلس مع نجيب محفوظ في مكتب واحد. ويعلق يوسف القعيد على ردود الأفعال السلبية التي تبدت بعد حصول درويش على جائزة مهرجان الشعر العربي الأول، رغم اعتراف الكافة باستحقاق درويش للجائزة، ويقول القعيد إن درويش كان مندهشا من هذا السلوك، وكان يقول إن هذا تشويش موجه أساسا ضد مصر، وقدرها وكيانها لأن الجائزة تحمل اسم مصر وكان يرى أنها الأهم في حياته لأنها آتية من مصر، ـ وحسب القعيد ـ فهي الدولة الوحيدة والكيان الأوحد القادر على إخراج العرب من عثرتهم، وتضميد جراحهم والأخذ بأيديهم الى الزمن الآتي.

ويردف القعيد: كان درويش حريصا كلما جاء إلى القاهرة على الاتصال بالأستاذ هيكل، وهذه المرة كان هيكل في عزبته القريبة من القاهرة، ذهب إليه محمود في برقاش وقضى النهار الذي حصل في مسائه على الجائزة، ويضيف أن درويش عرف أيضا أحمد بهاء الدين وكذلك توفيق الحكيم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ الذي كان صديقا شخصيا له، ويضيف القعيد أن درويش كان يشعر بالندم لأن هناك قامتين لم يتعرف عليهما وهما طه حسين وأم كلثوم.

أما الروائي إبراهيم عبدالمجيد فيقول: إن هذا الإجماع على حب محمود درويش ليس لأنه شاعر الأرض المحتلة أو شاعر القضية الفلسطينية، لكن لأنه شاعر، وبصفة أدق "الشاعر"، فدرويش كان يمكنه أن يكتفي بالزخم وقوة الدفع اللذين تقدمهما له القضية ويكتب في المكتوب، حب الوطن، لكنه فعل العكس، كتب لنا شعرا أولا ثم بعد ذلك تنظر فيما يحمله الشعر، لذلك لم يكف أبدا عن تجديد القصيدة العربية، وجعلها دائما تحلق في أعلى الآفاق، شكلا ولغة، فضلا عما تحمله من معانٍ إنسانية. ويضيف إبراهيم عبدالمجيد: حزني عليه عميق، أعمق من الود الذي ربط بيننا والمحبة، وكما قلت له أكثر من مرة "يا حبيبي لا تلمني إن تأخرت عليك" وهو أول ما قرأته له بعد النكسة في قصيدة "كفر قاسم". ويردف: لقائي الأول بمحمود كان بعد الخروج من بيروت، حيث حضر إلى القاهرة لإقامة أمسية في حزب التجمع، بعد عام 1982، أعطيته رواية "الصياد واليمام" لينشرها في مجلة الكرمل، فنشرها كاملة في العدد الحادي عشر، بعدها لم ينقطع بيننا الحب.

ويقول عبدالمجيد: كان حريصا على أن يراني في زياراته للقاهرة، وكان بعضها سريا وكنت أكثر منه حرصا، كان يحب قراءاتي لشعره دون أفكار جاهزة وانتباهي لمعان دقيقة تخصص علاقته بالبشر، وكنت أعرف أنه أحب رواياتي، وفي آخر حديث بيننا، وكان قد طلبني ليحصل مني على تليفون إدوار الخراط ليهنئه بفوزه بجائزة الرواية، كان ذلك منذ شهور، سألني ما هي أخبار "بيت الياسمين" لا يقصد روايتي التي قرأها مخطوطة منذ أكثر من عشرين سنة وقرر طبعها في كتاب الكرمل، ولم أشأ أن يكون الحديث مؤلما وأقول له بيت الياسمين أخذته الأفاعي، ضحكت وقلت أنا الآن في الإسكندرية، ولا يزال الناس على العهد سهرانين.

أما الروائي خيري شلبي فيقول بلغته الأليفة التي تقع بين الصوفية والشعبية: الاسم محمود والأصل درويش من دراويش الشعر ومجاذيبه على صغر سنه بات قطبا من الأقطاب، له مريدون وأتباع يتعاهدون عهده يسيرون على دربه يتفيأون بظلّه الممدود، في صوفية الشعر العربي المعاهد هناك طريقة معروفة اسمها المحمودية الدرويشية.

ويضيف شلبي: في حركة الشعر العربي الحديث كان محمود درويش مذاقا جديدا تماما، فمن بواكير الصبا كانت بداياته تنبيئ عن شاعر شديد الفحولة، كان فيه الكثير من خصائص السنبلة، تأكدت هذه الخصائص في القصائد التي أصبحت ترد إلينا عبر منافذ متعددة، فمن خصائص السنبلة في شعر محمود درويش أن القصيدة عنده مضفورة كضفيرة السنبلة، وأحيانا كضفيرة الفتيات الصغيرات، الحب فيها ـ بفتح الحاء ـ منضود في تناسق إلهي مذهل، كأنها منبر الخطابة في مسجد مشغول بالأصداف وفنون النقش الإسلامي ـ القصيدة السنبلة عند محمود درويش مبنية هكذا: الكلمة فيها تطرح آلاف الكلمات، غير المرئي أضعاف المرئي، كما أن المرئي فيها ليس هو الأساس، إنما هو مجرد مفاتيح لمدائن سحرية لا حدود لاتساعها وثرائها وعمائرها وقبابها وميادينها، حبة واحدة من السنبلة تملأ الوادي سنابل سابقة، وكلمة واحدة من قصيدة محمود درويش على الورق تملأ الوجدان شعرا، والكلمة عند محمود درويش ليست مما يخط على الورق، بل هي حفر بالازميل على جدران القلوب، وضعت لتبقى إلى الأبد راسخة، إذا أمسكنا بعتلة ومطرقة وجعلنا ندق فوق الكلمة بكل ما فينا من قوة فلن نتمكن من تعتعتها من مكانها، فإن ثابرنا على الدقة فوق وأزحناها قليلا فسوف نجد من تحتها كلمة أخرى كانت تحتويها الكلمة الظاهرة، هي كلمات كجلد البشر لا يتقشر إلا إذا تكونت تحت القشرة طبقة جديدة بديلة طازجة.

ويردف خيري شلبي موضحا تلك الصورة الشعبية الممتدة للسنبلة والمطرقة والوعي باللغة، فيقول: محمود درويش كفؤاد حداد، كبابلونيرودا كلوركا كأراغون لا يكتب الشعر بل يتنفسه، عنده لا انفصال بين الشعر والشاعر، والشعر هو، وهو يوضع في صف واحد مع أعظم شعراء المقاومة في العالم، المقاومة هنا ليست ذلك المعنى الضيق المحصور في مقاومة المحتل الأجنبي وأذنابه، إنما هو شعر يحقن المتلقي بإكسير القوة والنبالة والإنسانية التي لا ينبغي أن تموت بأي حال من الأحوال.

زارع الأمل
أما الشاعر حلمي سالم فيبدأ مباشرة من السؤال المطروح ليقول: كانت علاقة محمود درويش بمصر علاقة استثنائية خاصة، فهي البلد الذي توجه اليه حينما قرر في أول السبعينيات أن يغادر فلسطين، بعد أن عانى ويلات البطش الصهيوني وفظاعة الاحتلال الاستيطاني المجرم، استقبله المثقفون المصريون بترحاب ومحبة، وضمته "الأهرام" إلى أسرة تحريرها فعمل في الملحق الأدبي لمجلة "الطليعة"، وقتها كتب قصيدة "عودة الأسير" وهي أول قصيدة نشرها في مصر. قبل ذلك بثلاثة أعوام كان رجاء النقاش قد فاجأ شباب الشعراء والمثقفين وهواة الأدب بنشر ديوان كامل هو "آخر الليل" لمحمود درويش في مجلة "الهلال" ليعرف هؤلاء جميعا أن هناك ظاهرة تتكون في جسد الثقافة العربية اسمها "شعر المقاومة" الفلسطينية، تصعد من رحم المعاناة، متواكبة مع حركة "أو ثورة" الشعر الحر في الخمسينيات والستينيات وكان درويش قد هزه قبل مجيئه إلى مصر، موت عبدالناصر، فكتب عام 1970 قصيدة "الرجل ذو الظل الأخضر".

ويتحدث حلمي سالم بعد ذلك عن وجوده في بيروت أعوام 80، 81، 1982 حيث انعقد مهرجان شعري كبير بعنوان "مهرجان الشقيف" الشعري، برعاية منظمة التحرير الفلسطينية وحضره ياسر عرفات، يقول حلمي ان المهرجان أخذ اسم الشقيف تحية لقلعة الشقيف في جنوب لبنان، التي كانت شهرت صورا بطولية من صمود المقاتلين والمواطنين اللبنانيين والفلسطينيين في صد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، في هذا المهرجان ـ يقول حلمي سالم ـ التقى محمود درويش وأمل دنقل، كانت هذه هي المرة الوحيدة التي شارك فيها أمل في مهرجان خارج مصر، وشارك بإلقاء الشعر، كذلك شارك شعراء لبنان الجنوبيون الوطنيون، محمد علي شمس الدين، عباس بيضون، حسن العبد الله، جودت فخر الدين، شوقي بزيع، إلياس لحود. ويردف سالم: في هذه الأمسية الحاشدة قرأ درويش قصيدته "قالت الأرض" وقرأ دنقل قصيدته "لا تصالح".

ويضيف حلمي سالم ان آخر تجليات حضور مصر في شعر درويش هو حضورها في عمله الملحمي "جدارية" وهي المطولة التي كتبها الشاعر بعد نجاته من عملية جراحية كبيرة في القلب، قابل فيها الموت ـ يقول حلمي ـ ثم اتفقنا على تأجيل الرحيل النهائي ثماني سنوات، حفلت هذه "الجدارية" بحوار هادئ تارة وعنيف تارة أخرى، في نهايته أعلن الشاعر أن الفنون "وعلى رأسها فنون مصر" هزمت وتهزم وستهزم الموت. وينتقل سالم بعد ذلك إلى تناول حقبة السبعينيات التي شهرت الانتفاضات الطلابية ويقول: كان زادنا الشعري "نحن شباب الشعراء وشباب الثوريين في الأعوام الأولى من دراستنا الجامعية" شعر أحمد فؤاد نجم وزين العابدين فؤاد ومحمد سيف، ثم شعر ناظم حكمت ولوركا وإيلوار وأراغون، وبعض قصائد شعراء المقاومة الفلسطينية مثل توفيق زياد ومعين بسيسو وغير ذلك، لكن قصيدة درويش عن بابلو نيوردا في أوائل 1974 كانت ـ في نظرنا ـ تحولا جوهريا في الكتابة الشعرية الثورية في تلك الأوقات، كنا نعقد جلسات نقرأ فيها قصائد درويش، ولم يمض أقل من عقدين حتى صار درويش واحدا من هذه الفرقة المباركة في مصاف شعراء الانسانية الكبار: لوركا، إيلوار، وأراغون، وسان جون بيرس، ونيرودا، وماياكوفسكي، وايفتشكينو، وناظم حكمت، ورافائيل ألبرتي.

وعن وجود محمود درويش في حصار بيروت يقول حلمي سالم: كان ذلك في صيف 1982 ولم يسارع درويش الى الخروج من بيروت، كما فعل البعض، واختار أن يبقى مع المحاصرين، وكان يستطيع الخروج لو أراد، وكانت تقدم له طوال فترة الحصار عروضا بتدبير أمر خروج آمن له، وكان نفس العرض يقدم لسعدي يوسف، لكنه رفض هذه العروض كما رفضها سعدي، ويضيف حلمي: اتخذ معين بسيسو حركة معاكسة، حيث اخترق الحصار دخولا إليه وساهم الشاعران الفلسطينيان درويش وبسيسو في تأسيس جريدة المعركة التي صدرت تحت الحصار، لتشد من أزر المقاتلين والمواطنين، وشارك فيها العديد من الكتاب والأدباء الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الموجودين تحت الحصار. ويختتم حلمي سالم حديثه بالقول إن محمود درويش لم يكف طيلة حياته عن زراعة الأمل لشعب يائس، بعد أن فقد الأمل في السياسيين وفي النظم العربية الراكعة، وكذلك في اصحاب صكوك الغفران الذين يتقاتلون على سدس وطن.

رجاء ودرويش وكتاب الهلال
قبل حوالي نصف قرن من الآن وبالتحديد في تموز (يوليو) 1969، أصدر الناقد الراحل رجاء النقاش كتابه المهم "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" ثم أعيد طبع الكتاب في عام 1971 بعد نفاد طبعته الأولى. كان الفارق الوحيد الذي يميز الطبعة الثانية أنها جاءت في قطع كبير على غير عادة كتاب الهلال، وكذلك تم تزويدها بوقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده محمود درويش في مبنى التليفزيون العربي بالقاهرة في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1971، ردا على الهجوم الشرس الذي لاقاه في خروجه من الارض المحتلة واختياره القاهرة مقرا لإقامته، وقد أراد درويش من ذلك المؤتمر أن يعلن أن خروجه قرار يتحمل مسؤوليته بشكل شخصي، وكما قال موضحا "سأبذل منتهى جهدي للحيلولة دون تحول الى موضوع المناقشة والأخذ والرد، وكان من الممكن وربما من الافضل حصر المسألة كلها في حدود ضيقة لولا أن الظروف التي خلقتني والقضية التي قدمتني للناس قد ربطت اسمي بقضية عامة". وقد كان الكتاب في مجمله توثيقا لنضالات الشعب الفلسطيني على الصعيد الروحي عبر اصوات طالعة من لحمة المقاومة ورفض الاحتلال، وكانت أهميته أنه كان الطلقة الأولى الكاشفة لما تخبئه تلك الطاقات العميقة لمواهب حقيقية وكبيرة كان درويش على رأسها.

كان الكتاب مهماً لدرويش باعتباره أول تدشين نقدي وجماهيري في الوقت نفسه، وكان مهماً أيضا، ربما بنفس القدر للراحل رجاء النقاش، لأنه كان يؤكد حصافته ورجاحة عقله النقدي، ونظراته الطليعية المتقدمة للأدب الحديث عموما، بعد أن قدم أحمد عبدالمعطي حجازي لأول مرة في ديوانه "مدينة بلا قلب" عام 1958، ثم قدم الروائي السوداني الطيب صالح، وتلا ذلك بتقديم محمود درويش، وهو الأمر الذي أكد حضوره كناقد متقدم في الحقل الذي نسميه الآن "السسيوثقافي". ورغم أن اللحظة كانت متقدمة على الصعيد السياسي إلا أن النقاش كان يقرأ شعراء المقاومة في ضوء كونهم شعراء فحسب ويقول على وجه التحديد: "إن هؤلاء الشعراء إنما يرتفعون الى مستوى كبير لا عن طريق القضية التي يعبرون عنها فقط، وانما عن طريق مواهبهم الشعرية الكبير في نفس الوقت".

كان النقاش يريد بذلك أن ينأى بشاعرية شعرائه عن تلك الاتهامات التي تسربت هنا وهناك من بعض المعادين للقومية العربية والتي تخلص الى أن الخطاب السياسي المباشر حول الشعر الى عرائض نضالية تخلو من الفن.

وكان ذكاء النقاش يتبدى في الأسباب الكاشفة في كتابه التي يقف وراءها هذا الاختيار، فحسبما يشير في كتابه الباكر فإن العقيدة الاشتراكية لدى محمود درويش خلقت فيه نزعة إنسانية عميقة فتحت أمامه آفاقا واسعة يطل منها على ثورة الإنسان المعاصر ضد الظلم والاستغلال، أما عقيدة درويش القومية فيراها النقاش وقد منحته قدرة على التمسك بقضيته من خلال الدفاع عن القيمة الإنسانية للعدل والحرية دون الوقوع في براثن الحقد والعنصرية لبقية الشعوب.

ثم يعود النقاش ليؤكد ان شعرية درويش رغم ذلك كانت وليدة التأمل الشخصي لكن ذلك لم يحولها الى تجربة مكتوبة للقراءة في الغرف المغلقة، لذلك ظلت دائما صالحة كواسطة الى الجماهير عبر روح المغامرة غير المفتعلة، وهذا الوعي يفسر لدى النقاش ثقافة محمود درويش العربية المنفتحة على ماضيها وحاضرها بين الآداب القديمة والآداب الحديثة.

وكان النقاش قد استبق كتابه بمقالة مطولة نشرها بمجلة المصور في 22 كانون الأول (ديسمبر) عام 1967 تحت عنوان "مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر، وكان درويش وقتها حبيس السجون الإسرائيلية".

كانت أبرز الاتهامات لشعر المقاومة تتمثل فيما كتبه كل من أدونيس وغالي شكري، حيث كان الاتهام بالغنائية والمحافظة والقيم الماضوية مثل الدين والقومية هي الابرز في هذا السياق، غير أن ما تحقق على يد محمود درويش كان مناهضا لكل هذه الأوصاف، لقد خذلها فعلا، بل يمكن التأكيد على أن أدونيس كتب الشعر نفسه الذي اتهم درويش بالرجعية من أجله. صحيح أن مياها كثيرة جرت في النهر كما نقول، إلا أن تقويما ضروريا تقدمه لنا تجربة الشاعر الكبير محمود درويش في هذا السياق، ولعل استمساك الرجل بقضية تجاوز هذا الوعي الضيق والمنكفئ على العديد من المعاني السالبة التي تعادي الفن بطبيعتها.

وربما هذا هو ما كان يمثل الكثير من مخاوف درويش التي عبر عنها تجاه الشعر الجديد، حيث كتب ذات مرة ملخصا تلك المخاوف: "إن ما يرهقنا في هذه الفوضى هو أن التجديد والحداثة يراد لهما أن يتحولا إلى مرادفين للعدمية، وللثورة المضادة أحيانا، حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء واللغة والتضحية، والعمل، ولا معنى للمعنى في الشعر، معنى الشعر هو اللا معنى، لأن المعاني ـ كما تقول الحداثة ـ مفاهيم قديمة بالية، كالفصاحة ذاتها التي تم استبدالها بالركاكة". هذا ربما يفسر لنا الكثير من تخوفات محمود درويش وتهجماته بين الحين والحين على الكتابة الجديدة. ولسنا في مجال تسويغ تلك التهجمات، بكل تأكيد، لكننا لا نستطيع أن نتجاهل ذلك العدوان السافر الذي ارتكبه شعر غير مسؤول، أن يدرس، أجيرا لدى ساسة وعملاء، معتقدا أنه يعود على أبوة الفن وأمومته، لكن كليهما ـ الأبوة والأمومة ـ كانا استعارة في غير موضع، لذلك شاهت بها التشبيهات، وخرجت على قبحها أطواق نجاة صنعتها جلود الأهل، وعظام المناضلين والمقاولين، وغناء الفلاحين والصيادين في الأنهار التي نقف أمامها وخلفها ـ لذلك سوف يعيش محمود درويش، وسوف يموت شعراء يعيشون بيننا، يعتقدون أنهم أحياء.