يكتب القاص السوري تلك الرؤيا التي تشارف الكابوس وتكشف عن العالم الذي يصطرع داخل من هو "سجين رأسه" وهواجسه ومؤرق بالعديد من الأسئلة التي تقض مضجعه عن وجوده ومصيره وكيف سيكون مستقبل أولاده الذين يتخيلهم وهل سيمتد بهم ظله أم سينقطع.

سجينُ رأسِه

إسلام أبو شكيّر

أنا الذي لا ظلّ لي على هذه الأرض..

لم يبق لي ظلّ

فكيف سيعرفُ أبنائي مواقيتَ موتِهم؟

 

من سيقلّدُهم أسماءَهم صبيحةَ كلّ يومٍ

قبيلَ خروجهم من قبورِهم

إلى قبورِ أعدائِهم؟

 

أبنائي الصغارُ الذين لم يبلغوا سنّ الكهولةِ بعد

من سيغطّي جثثَهم آخرَ الليل

عندما يشتدُّ البرد

ويجمّدُ الصديدَ الذي ينزُّ من جروحِهم؟

 

من سيهشّ الذبابَ عن لحومِهم المتفسّخة؟

*    *    *

أنا الذي لا ظلّ لي على هذه الأرض

لم يبق لي ظلّ

فهل سيحبّني أبنائي؟

وهل سيصدّقون كلمتي؟

 

أبنائي الذين فاجأهم رحيلي المبكّر

 

قال أكبرُهم:

ياااااااا لَلخيانة

من سيطعمُنا الآن؟

 

فغرز أصغرُهم إصبعَه في لحمي، وهمس:

دعونا نسبق الدودَ إليه..

*    *    *

أنا الذي لم يبقَ لي ما يكفي من الظلّ

أودّعُ أبنائي الذين بلّلت الدموعُ لحاهم

أصافحُهم واحداً واحداً

أوصيهم بذاكرتي خيراً

وبأسراب الفراشات التي ستشاركُهم احتفالَهم القادم

بذكرى رحيلي الألف

 

أوصيهم كذلك بأمّهم الأرملة

التي لم تعد تتكلّم

إلا لتوبّخَهم كلّما تأخّروا في رشّ الماءِ على قبرِها

...

هكذا

ثمّ.. أمتطي تابوتي المذهّب

وأغادر..

*    *    *

أنا الذي..

كان لي ظلّ

وتكسّر تحت أقدام أبنائي

وهم يركضون

نحو قمّة ذلك الجبل

بعد أن داهمهم الطوفان

 

كان لي ظلّ

وصورةٌ قديمةٌ قرّر أبنائي ألاّ يحملوها معهم

تركوها خلفهم

قال أكبرُهم:

دعوها هنا.. لتكونَ في استقبالِنا عندما نعود

دعوها.. لتحمي منزلَنا من اللصوص أثناءَ غيابنا

دعوها هنا..

ليكون لنا شيءٌ نتذكّرُه في منفانا البعيد

ونبكي ندماً عليه

*    *    *

أنا الذي

لا ظلّ لي سوى هذا الظلّ

يصطحبُه أبنائي معهم كلّما خرجوا

للقاء عدوّهم

 

وفي المساء

عندما يحين وقتُ موتهم

يقف أكبرُهم على قمّة التلّ

وهو يلوّحُ به

ويصرخ:

خذووووووووه..

  واتركونا ندخُلُ جثثَنا..

بسلامٍ آمنين

*    *    *

أنا الذي

أحبّني أبنائي

......

فاقتتلوا في سبيلي

 

أحبّوني

فتوافدوا نحوي

بتوابيتهم الفارهة

 

يبكي أكبرُهم بين يديّ:

ـ معذرةً.. فقد احتفظ إخوتُنا من زوجتِكَ الثانية برؤوسنا

وأرسلونا إليكَ هكذا

لترى معجزاتِهم

وتباركها

 

ـ معذرةً.. فليس لدينا وقتٌ لتناول العشاءِ على مائدتك

تركناهم هناك

ينتظروننا

كي نعودَ إليهم هذا المساء..

فنقتلهم..

أيضاً..

ونرسلهم إليك..

*    *    *

أنا الذي

هل كان لي ظلّ على هذه الأرض..؟

 

يخيّرني أبنائي بيني وبين ظلّي

 

ـ أعداؤُنا كثرٌ

والأرضُ ضيّقةٌ

 

أعداؤُنا

كيف نتركُهم هكذا.. في العراء؟!

*    *    *

أنا الذي

لم يكن على هذه الأرض ظلٌّ سوى ظلّي

 

في المساء

أكوّم فوقه أشلاءَ أبنائي

أتفقّدها قدماً قدماً.. ويداً يداً

لأعطي كلاً حقّه منها

 

في الصباح

قبل أن يخرجوا مرّةً أخرى إلى إخوتهم

أطلبُ إليهم أن يرتّبوا أسرّتهم أوّلاً

ثمّ..

أن يشطفوا ظلّي من

بقايا دمائهم

*    *    *

وأرسلْتُ فيهم شاعراً منهم

 

ليرثيهم كلّما ماتوا

 

ليجمعَ ما تساقطَ سهواً من أسمائهم

كي يسدّ بها ثقوبَ قصيدته

 

أرسلْتُه فيهم

ليكسرَ الأقفالَ عن جثثهم

ليعكسَ دورةَ الشمسِ فوق رؤوسِهم

ليسحبَ الظلَّ من تحتِ أقدامِهم

 

أرسلْتُه

ليشعلَ عيونَ النساء

اللواتي انتهيْن لتوهنّ

من إعدادِ النسخةِ الأخيرةِ من ملابس الحداد

ثمّ بدأ الضجرُ يتملّكهنّ

بعد أن لم يعدْ لديهنّ ما يشغلْنَ به أوقاتَ فراغهنّ

 

لابدّ من شاعرٍ إذاً

 

ولم أنْسَ

..................

فقد زوّدتُه بعباءةٍ من الضباب

يتخفّى تحتها

كي لا يخلطَ الأعداءُ بينه

وبين أعدائِهم

عندما تبدأُ المجزرة

*    *    *

أنا الذي لم أبخل على أبنائي بالوصايا

 

أمرتُهم أن تكون سكاكينُهم مشحوذةً جيّداً

وأحزمتُهم ناسفةً تماماً

 

أعداؤُكم مثلكم يا أبنائي

دمٌ ولحمٌ

 

وهذه المقابرُ ليستْ لكم وحدكم

 

أحبّكم ياااااااا أبنائي

 

أنا الذي لا ظلّ لي لتروني

لديّ هذا الصوتُ فقط

أدلّيه نحوكم

لتملؤوه بما تناثر من أجسادكم

ثم ترفعوه إليّ ثانيةً

لأحتفظَ به لكم في خزائني الموصدة

*    *    *

أنا الذي

لم يكن لي ظلّ قطّ

ولم يكن لي أبناء أحبّهم

أو يكرهونني

 

سجينُ رأسي أنا

سجينُ هذه الكلماتِ التي أفلتتْ منّي

ذاتَ ظهيرةٍ قائظة

وتساقطتْ كسبائكِ الذهبِ على جذوعِ النخل

 

سجينُ رأسي

الذي احتزّه أبنائي

وتقاسموا عظامَه

علّقوها على رقابِهم

تعاويذَ تقيهم لعناتِ نسائِهم

تطردُ عنهم أنفاسَهنّ الخبيثة

التي كثيراً ما كانت تداهمُهم

وهم عائدون إلى كهوفهم ليجفّفوا أشلاءَهم

قبل أن يحينَ موعدُ الدفن

 

سجينُ رأسي

وما تناثر من كلماتي على جذوع النخل

 

سجينُ ذاكرةٍ تسلّلوا إليها خلسةً

ثم أغلقوها على أيّامهم

كي لا يراها أعداؤهم القادمون مع المطر

 

وها هم

يوفدون إليّ أكبرَهم..

يمينُه بيسارِه

ودمٌ أزرقُ يهطلُ منها:

ـ

أبناؤُك لم يعد لديهم ما يكفي من الأعداء

أبناؤُك اليومَ عاطلون عن العمل

أبناؤُك اكتظّتْ بهم الحاناتُ والحدائق

هبْ لنا أعداءَنا

لنموتَ على أيديهم:

*    *    *

أنا الذي لا ظلّ لي على هذه الأرض

لم يبق لي ظلّ

فهل سيحبّني أبنائي؟

هل سيغادرونني

قليلاً

قليلاً فقط

ريثما أنام....؟!!