يناجي القاص المصري حبيبته التي تتشكل في النص رمزا للأرض التي يحيا عليها وبها وللوطن الذي يعشقه. وتعكس تلك المناجاة كيف تبدلت أحوال الحبيبة ونأت عن أحلام فارسها القديم المقيم على العهد وإن غلبه اليأس والحزن.

البحيرة المقدسة

حاتم عبد الهادي السيد

يوقد الوادى الجديد بالشموع، وأنا فى الوادى القديم أتحسس الظلام، ربما أتلمس بصيص أملٍ ينزعنى من أعلى، وَيَقُدّ قميص الوحشة لدىّ، ويجرى فى القلب الحب، فأصير إلى حضنها باكى الفؤاد، مقروحاً، تائقاً إلى ترابك المقدس، سأستحم فى بحيرتك المقدسة لأعيد للعقل خلاياه، وأتملاك، وأسبح أسبح لدى الماء الحرون..

 

بالأمس كنا سوياً فى صحراء العسجد، الإبل تتسابق من حولنا، وصوت مزامير روحى تطلق الأفراح.

لقد مددت يدك، فخرجت ألوان الطيف تسابق المدى، وأنا أمد يدى لنتلاقى بعد فراقٍٍ طال..

كان شعرك شلالاً، وكنت الذى يغرف من بئر الروح عسل الحروف الأثيرة.

أحبك......فتتقافزين أمامى كغزالة تركت سرب الغزلان لتمرح معى عبر الطهارة فى أرض الزيتون المضيء.

لقد جئتِ فأضاءت الروابى، وطلع البرعم الأخضر لتولد الأرض من جديد.                 

لقد جددتِ المواقيت، وأودعتُ معك خزينة الأسرار، وكان البحر هو المدينة التى يحج إلى شاطِئيها العشاق.

لقد أقسمتِ بأن البحر كان يوشوشك عنى، بينما كنت غارقاً فى ملكوت عينيك فيا حبة القلب لماذا تخافين وأنا بجانبك أضم شعرك لكتفى، وأنهل من نهر الزمرد الطافح بعصير العشقِ الشهي !!.

لستُ إلا فراشة نبتت على حوافِ زهرتك، فلا تقتلى الفراشة يا حبيبتي.

 

كان غناء الليل يوشوش البحر عنكِ ويسأل عن تلك الممتلئة عبيراً، وعن الفتى الذى عرفته المروج، وهو يسوح فى أقاليمها يبحث عن زهرة الوادى التى سكنت مَرْجَ الحسون وجزيرة الكراكى.

أنتِ قطعة حرير أمرر فوقها الأمواج، وكنتِ فوق الماء تجلسين ناظرة للمدى.

تمشطين شعرك الذهبى، فتغنى لكِ النوارس وتزقزق حولك العصافير.

رأيتك تقطعين فروة الروح لتغزلين ثوب الحب الأبيض، وكنت العروس التى تنتظر الفارس وهى مهيأة بثوب العرس الشفاف.

أنا الآن طفل بين أحضانك، أمرح عبر ممراتك فى براءة، وآهِ من براءة الأطفال.

سأموسق المدى، وأمحور المروج لتلتف حول مرجك العفيف.

أنت أطرى من الجُمَّارِ، وَأَدقُّ من أوراق سجائرى، وأجمل من كل الأشياء، فخذى قلبى واربطيه لدى جدولك، واسقيه من محبتك يرجع راضياً وسعيداً، أو لاترجعيه فهو بدونك قارورة جرح قرحتها السنون، فَصُبِّى من أقاحيك العطر واسكبيه سلساً منساباً، فهو كالقوقعة بداخلها ياقوتة العشاق.

حبك كطنين النحل، يَطِنُّ.. يَطِنُّ داخل الروح، فاسمعى، فالكون كله يتسمَّع همس الأشواق أذكر يوم شقشق النجم، وتعرى خد الماء حين جئــتِ لبلدة اللؤلؤ القابعة فى جبل الفيروز الممتد خلف جزيرة اللُّجَيْنِ الذائبة من تقطير شهد رضابك، كنت تمشين على مهل فوق الميساء، فأهفو كالمجذوب إلى عرش الماء حيث تعترشين الضوء فيَخْضَلُّ البريق من عينيك فتخرج الطيور من أعشاشها لتزقزق لصباح شريف.

فيا أيها الصباح الذى شَرُفَ بقدوم الأميرة أنتَ محظوظ بنرجسة الحب التى جاءت على نسماتك لتعطر الأيام.

 

سأجئ بماء الورد والمسك والبخور الذى تفجر من بين أقدامها لأعطر روح الدنيا بعبيرها المموسق. وسأجئ بخبز لأُغَمِّسُ من زُبْدِ الشفتين المخلوطتين بالتوت الأحمر، وأظل أمصمص الشهد من عسلك الشجرى المُخَلَّط بزهرة الحياة.

سيمور الماء، ويفور التنور، ويتفجر بركانى بالشوق للقياك، فيا السلطانة قد هاءت المروج، وبسطت العرش والتكايا لتنام الأميرة يهدهدها الموج ويطوف بأرجائها الأقحوان.

أذكر حين ذهبنا لدى النيل لنسابق الضوء المتكسِّر فوق خد البهاء، يومها قلتِ لى: وماذا بعد ياحبيب؟!.

لقد جرحت الرمان، وشققت الأقحوان، وعشت بجزيرة الروح طوال الأعوام فماذا تنتظر ولأي سوف تنتسب؟!.

قلت: سأنتسب إليك، وسأدرب عصافير الروح لتسلق جدران الحرير، فَمُدِّى شِبَاَكَكِ قد جئتُ طافحاً بالشوق، وعافقاً المدى، وسائحاً فى مروجك إلى الأبد.

ضحكت من كلامى ثم أردفت: لقد جئت متأخراً، فأنا الآن يتمدد فارس على أطراف قطيفتى، قد عقصت له طرف ضفيرتى فبات لا يبرح الأرجاء، فهل تصارع من أجلى، وليس معك سيف، وأنت الآن مكبل بالأغلال؟!

قلت:أستعين بحبك، وأَذَوَب قيودى، وأضمك إلى حديقتى، ولكن أريد أن تأمرى فإشارة البدء بالنسبة لى هى الحياة.

قالت:يبدو أنك لازلت ترفل فى غرورك القديم، لقد حبست روحى عنك وأعطيتها لأول فارس كان يمر بالمكان.

دارت الدنيا بى يومهــا، وكظمـــت انفجاراتـــى وفجـــــرت قنبلة الحرمان بجسدى وخرجت من قميصى الوردى وقلت: سنشاهد من يفوز فى النهاية.. فردت على الفور: لم يعد الأمر يجدى، اتركنى لأعيش، وسأذكرك ما حييت، لم تعد لى فارساً فزمام جوادك مُلَجَّمٌ، وأنت قد كبلت نفسك منذ سنوات، فعليك أن تتجرع مرار اختياراتك، وعليك أن تتركنى لألحق ركب الفرسان، فالمعركة قد حميت الوطيس وأنت قد أعيتك الدنيا فركنت إلى الراحة، واكتفيت بالبعاد.

قلت: يا حبيبة...

قالت: قلل من كلامك، فلن يجدى معى أى شيء، لقد كسبت الرهان مرتين وفزت بقلبى، فاترك جسدى ليمر الهواء عليه فقد ذبلت الأوراق الصفراء، ومر العمر وأنت تتريض على مهل ولا تُعَجِّلْ فى أمر، أما الآن فقد قُطفَ ثمرك، وهيض جناحك، وتكسرت أمواجك على شاطئ الحزن فماذا تريد.. اتركنى لأعيش وارحل سريعاً أيها الفارس القديم.

قلت: وحقى فيك.. حق الحب؟!

قالت: معك قلبى فلا تكن أنانياً، تريد كل شئ، قوقعتك قد تعرت، وسماؤك لم تعد تمطر إلا الشوك، فعش إن أردت واعلم بأنك ستعيش على حطب قلبى المحترق، ولكن إياك أن تذر الرماد، فإن فعلت مات الجسد وتناثرت الروح، وأنت الأمين على زهر فراتى، وبيدك كل مفاتيحى، فاقتلنى إن شئت ولكن لن أكون لك، لن أكون..

ماتت الكلمات فى الحلق الجاف، وأظلمت الدنيا، وسكنت الريح، وتوقف الهمس بين المد والجزر، لكن شيئاً لا يزل يصارع ويحرث الهدير فى صحراء الحب، إنه صوت الريح المهزومة داخل الجدران ولكن دون طرق، فلم تعد إلا رياح الجنوب تطرق الجدران، ولا من هواء يهادن القطب الجريح..

يا رياح الجنوب، صبى أعاصيرك فوق زهر النور فما عاد شيء يجدي، ولا حتى البكاء.