ظل الكاتب الجزائري الكبير وفيا للتأريخ الروائي للواقع الجزائري المعاصر وتأمله واستشراف مستقبله. وفي روايته هنا نجد عودة الولي أو مجاهدته للعودة إلى مقامه تحولت إلى رحلة لا حد للمكان فيها ولا للزمان، خاض من خلالها مراحل ملتبسة من التاريخ العربي الإسلامي بصراعاتها الدموية التي تشكل أرضية لواقع الجزائر المعاصر.

الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي (رواية)

الطاهر وطار

 

الإهداء

إلى عملاقي الفكر العربي المعاصر

المرحوم الدكتور حسين مروّة، والدكتور محمود أمين العالم أطال الله في عمره قد نتحايل على النهر، فنحصر ماءه، وإن في بركة، ونستحم فيه مرتين، ولكن لن نستطيع الاستضاءة بنور الشمعة الواحدة مرتين.

ط. وطار

كلمة لابد منها

مهما اعتقد الكاتب، أنه يؤلف لنفسه بالدرجة الأولى، وأن »غيره عليه أن يستمتع، إن وجد متعة، أو أن لا يدخل في حسبان العمل الإبداعي أصلا. غير أن هاجسا خافيا، يظل يلح عليه، بأن لغيره الحق، في مشاركته، حالته. هذا الهاجس يحتم علي أن ألتجئ إلى عمل، لا صلة له أصلا بالعمل الفني، ولا بالعملية الإبداعية. إنها المقدمة وما يشبهها. إنارة للقارئ، وللناقد والباحث. خاصة ذلك الذي يقرأ الأعمال الأدبية لهذا الكاتب أو ذاك، معزولة عن بعضها وعن مسار الكاتب وعن شخصيته التي اكتسبها على مر السنين. مرة باسم هذه المدرسة أو تلك ومرة باسم نظرية نقدية قد تكون وردت حديثا على الناقد نفسه، ولم يهضمها بعد. وبجرة قلم يلغي الناقد العمل أو الكاتب نفسه، وكأنما هو دركي يقف في منعرج طريق، مهمته الوحيدة تسجيل »مخالفة« مامن منطلق واحد هو »قانون الطرقات«. ودونما تخصص في نوع الإبداع الروائي، إذ أن الناقد المتابع للتجريد، سيظل طوال قراءته لرواية واقعية، متشنجا، إلى أن يعثر على ما يشفي غليله من الكاتب، وكذلك العكس. لا تسامح مع المخالفة ولا اعتبار لشهادات حسن »السلوك« التي يقدمها ناقد آخر، أو التي قدمها الكاتب ذاته من خلال أعمال أخرى كرست عبقريته وموهبته.

المسألة ربما تعود إلى مستوى حضاري، فالإنسان في عالمنا العربي والإسلامي ما يزال لم يتلخص من ذهنية الإقصاء والإلغاء، والدوس على كل قيم ومثل الآخر، بل، ووجود الآخر كلية. إننا بمثل هذه الذهنيات، لا نعلي بنيانا، شُرع فيه قبل تواجدنا، ولكن نلجأ إلى هدِّه وتقويضه، ثم نشرع في عملية بناء جديدة، في انتظار أن يأتي من يعيد عملية الهد والبناء، وكأنما ننظر إلى البناء على أنه خيمة ننصبها أو نطويها، دونما حاجة إلى أساس أو أسس. كم يحلو لمعيد في جامعة أو صحافي في جريدة أو مجلة، أن يصرخ في حق قيمة من قيم إبداع أمته، المعاصر، يُهتم بها في كل أرجاء الدنيا، وتعد حولها دراسات، وبحوث، يحلو لهذا »الإرهابي« أن يستل خنجره فيغتال هذه القيمة معلنا العالم، منتشيا أنه أجهز على هذا الكاتب بعد ترصد أو بالصدفة، وأنه حسنا فعل. كما لو أن الهدف كله من »عملية« النقد هذه هو إثبات وجود الناقد وليس ممارسة مهمة إبداعية أثارها العمل المنقود، وذلك كله في إطار مسار إبداع أمة برمتها. أي فرق بين الإلغاء بالذبح، على حافة النيل، لأديب عالمي، وبين إلغائه بالكلام السهل في صحيفة أو مجلة؟

ربما من هنا، تأتي ضرورة أن يضع المبدع كلاما غير إبداعي، لعمله يسميه كلمة المؤلف أو مقدمة أو ما يشبه ذلك. وأنا شخصيا لا أهدف إلى الدفاع عن نفسي أو عن هذا العمل أو ذاك من أعمالي، فأنا كاتب تشكل على مدى ما يقرب نصف قرن، وليس بإمكاني أن أكون غير ما أنا، وغير ما قبلت نفسي وقبلني الناس شرقا وغربا منه. فالكاتب. أي كاتب، مهما قيل فيه، هو ظاهرة تاريخية قبل أي شيء آخر. إنني أحس بضرورة الأخذ بيد من يتعاطى هذا العمل بالقراءة، مهما كانت دوافعه. إن هذه الرواية، رغم ما فيها من تجريد ومن سريالية، هي عمل واقعي، يتناول حركة النهضة الإسلامية بكل تجاويفها وبكل اتجاهاتها، وأساليبها أيضا. وفي الكتابة السياسية وأنا فخور بأنني كاتب سياسي شبه متخصص في حركة التحرر العربية عامة والجزائرية خاصة أمامنا مطبان أو أكثر، أحد هذه المطبات، الانحياز ضد أو مع هذا الرأي أو ذاك، ومن السهل حدوث ذلك، لأنه يريح الكاتب من عبء تحمل خصمه من أول العمل إلى آخره. مطب آخر يتمثل في سوء تحويل الواقع العادي أو بالأصح الواقع التاريخي، إلى واقع فني. إنه من السهل، أن نسرد حادثة أو حوادث، ولكن من الصعب جدا، وأحيانا من المستحيل، أن نجعل هذه الحادثة حالة درامية. مطب ثالث، يتمثل في إدراك الناقد بالدرجة الأولى أن لكل موضوع، مواده وأدواته فأنت لا تستطيع أن تكتب عن إيديولوجية ما، دون أن تستعمل لغة ومنطق ومفردات مناضليها، ورجالها ومنظريها كذلك، وهذا ما يثير سخط هواة النقد الأدبي، وما يشوه أحيانا كثيرة صورة إبداع ما. إنك إذا ما تواجدت في مسجد، مجبر ليس فقط على استعمال لغة دينية، بل على الوعظ والإرشاد كذلك، وإذا ما تواجدت في اجتماع فرع نقابي، فلا تستطيع أن تستعين بأبي نواس مثلا، حتى تتجنب ذكر ماركس ولينين وغيرهما مما يثير حفيظة »هواة« نقد مثقلين بالعقد.

مطب آخر في الأدب السياسي، هو قراءة الأثر مفصولا عن حقليه الجغرافي والتاريخي. إلى غير ذلك مما نعانيه من قصور في فهم ما نفعل. المهم. اتكأت في هذا العمل على حالة وقف أمامها خليفتان، لا نقاش في نزاهتهما موقفين متضادين. هي حالة قتل خالد بن الوليد، لمالك بن نويرة، ففي حين طالب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، برجم خالد، وهذا موقف مبدئي في منتهى الصرامة والقسوة، قال أبو بكر رضي الله عنه، لقد اجتهد خالد وخلاصته، أنه يشك في إصابته، فله أجر واحد. والتراجيدي في مسألة مالك الشاعر الظريف الذي وهبه الله جمالا خارقا، ليست في موته، إنما في النذر العنيف الذي حققه خالد، وهو جعل رأس مالك هذا أثفية، تضع عليها أرملته أم متمم القدر. إن الفنان فيَّ، يقرأ التاريخ ومضة، بل »حالة« بالتعبير الصوفي، ولربما لهذا السبب كانت الشخصية الرئيسية في الرواية، صوفية، تعيش حالات تتجسد في حالة واحدة. وهذا متكأ ثان، سمح لي باستعمال بناء لولبي، يعطي الديمومة للحالة، فلم أضع نهاية، إنما اقترحت نهايات، واكتفيت بخاتمة، هي هبوط اضطراري، ومحطة لإقلاع جديد. لعلني حاولت الإجابة قدر الإمكان عن أسئلة طرحتها الشمعة والدهاليز، ويطرحها أصدقائي وخصومي حول موقفي من الأحداث منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى اليوم. سيجد القارئ الذي ليس له ثقافة، تراثية عموما، نفسه مضطرا إلى مراجعة بعض المفردات والاصطلاحات، كما قد يجد صعوبة في العثور على »رأس الخيط«، وعذري، أنني حاولت تقديم ملحمة وليس قصة فقط.

ط.وطار

 

تحليق حر:

توقفت العضباء فوق التلة الرملية، عند الزيتونة الفريدة في هذا الفيف كله، قبالة المقام الزكي المنتصب ها هنالك على بعد ميل، بشكله المربع وطوابقه السبع.

آه. أخيرا.

تنفس الولي الطاهر من أعماقه، وقال بصوت منخفض، لا يدري ما إذا كان يخاطب نفسه، أم يخاطب الأتان العضباء:

-       بحول الله وحمده ها نحن من جديد، نرجع إلى أرضنا.

شدد على كلمة أرضنا، كأنما يريد أن يؤكد أنه لم يكن يدري بالضبط أين كانت غيبته هذه كل هذا الوقت.

ثم قرر أن ينزل فيصلي ركعتين تحية لله وتحية للأرض وتحية للزيتونة ثم أولا وأخيرا تحية للمقام الزكي.

كانت القبلة عادة عندما يكون في هذا الموقع وقبالة المقام الزكي على يمينه باستدارة ربع دائرة. استدار. لكن المقام ظل يقابله. استدار من جديد فوجد نفس المقام. ظل يستدير، حتى أكمل دائرة برمتها، وظل المقام يتعدد. رفع رأسه يطلب اتجاه الشمس، واتجاه القبلة بالتالي من خلال الظل. لكن الشمس كانت في منتصف السماء لا تنم عن أي توجه لها.

-       أينما تولوا فثمة وجه الله.

قرأ الفاتحة، وسورة الأعلى، وتوقف عند الآية »سيذِّكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصْلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحي«…. وفي الركعة الثانية وجد نفسه يتلو »ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا«…. وفرح لعودة ذاكرته إلى هذه الآية، بعد أن انمحى القرآن من صدره، وباءت محاولاته المتكررة، في تذكر سور أخرى غير الفاتحة وسورة الأعلى.

يا خافي الألطاف نجنا ممن نخاف.

ركز في دعائه بعد الركعتين، على أن لا يجعله الله من الأشقياء الذين يصلون النار الكبرى. وأن لا يعدم الذاكرة مرة أخرى، أو بالأصح أن يستعيد ذاكرته كلها، ولا الخشية. اللهم يا من خلقت وسويت وقدرت فهديت وأخرجت المرعى فجعلته غثاء حوى حفَّظنا ما أقرأتنا، ويسرنا لليسرى. ظل الولي الطاهر يرفع كفيه ويتضرع إلى الله بمختلف الأدعية ساعات طويلة، لا يتوقف إلا ليلقى نظرة جانبية، لعل الشمس تحركت فمد الله الظل.

لكنَّ شيئا من ذلك لم يحدث. الشمس في منتصف السماء، والظل ينزل مباشرة تحت العضباء غير ميال لا بهذه الجهة ولا بتلك. أما عند الزيتونة العالية، فيمثل شبه خارطة جغرافية لمناطق ليست غريبة عن مخيلته.

أخيرا وعندما يئس من حدوث تغير في حركة الشمس، أنهى دعاءه ونهض يستجلي الوضع على حقيقته، فلربما، الأمر كله لا يعدو أن يكون اضطرابا في الرؤية تسببت فيه حرارة الشمس الوهَّاجة، ولربما هو السراب الذي » يحسبه الظمآن ماء« تعكسه هذه الرمال المترامية الأطراف. احتمال آخر. فقد تكون الدنيا صلحت بعدي فظهر أولياء طُهَّرٌ آخرون عمَّروا هذا الفيْف الرهيب، ليعلو ذكر الله، آناء الليل وأطراف النهار، ولعل الدعوة انتشرت، فضاق المقام الزكي، واضطر الإخوان إلى التوسع.

خطرت له خاطرة لم يشأ أن يفصح عنها، لم يشأ أن يقول، ربما أنجبت الأخوات المائتان وواحدة، نسلا تضاعف في كل هذا الوقت الذي قضيته في الغياب.

لا يدري الولي الطاهر كم استغرقت هذه الغيبة، فقد تكون لحظة وقد تكون ساعة، كما قد تكون قرونا عديدة.

نقطة فنقطة، قطرة فقطرة، تعود الأشياء صافية إلى ذهنه. صور تتجلى بكل ما فيها من دقائق، ما إن تعود حتى تحتل موقعها في رأسه فلا تغادره.

عندما يسقط الولي الطاهر مغميا عليه، في حضرة طيبة، لا حد لا لمكانه ولا لزمانه، ومحاولة معرفة ذلك، إفساد للحالة.

إن الله يريدنا كما يريد.

انتصب موازيا للعضباء، التي ظلت متجمدة في موقعها، تنتظر الأوامر ناصبة أذنيها المشقوقين واللذين يبدو كل واحد منهما وكأنه أذنان لا صلة لهما بالأذنين الآخريين، في شكل مقص يتهيأ لقطع شيء ما.

لا أحد يمكن أن يعلل بعض أمور تتعلق بهذه العضباء، غير ما في علم الولي الطاهر تختزنه ذاكرته، ويطل منها قطرة فقطرة ونقطة فنقطة.

متى شقت أذناها؟ الله والولي الطاهر أعلم.

متى كانت في حوزة الولي الطاهر؟ لا أحد يعلم.

من أين أتت ومنذ متى؟ من أمور الغيب أيضا.

هل سميت العضباء لما بأذنيها من عضب، أم تيمنا بناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أطلق عليها هذا الاسم أولا وأخيرا؟

لا يمكن أبدا الفصل بين العضباء وبين صاحبها سيدي الولي الطاهر. قال الأولون الذين رأوهما، كما قال الأخيرون الذين لمحوهما أو بلغهم أمرهما.

والمؤكد لدى الأولين والأخيرين من الأتباع، أن العضباء  إحدى كرامات الولي الطاهر وإحدى معجزات وخوارق هذا الزمن.

تقدم حتى الزيتونة يستظل، فتبعته الأتان دون أن تغير من توجهها.

راح يستدير محاولا إعادة التأكد من القصور الثلاثة التي انتصبت صورا منسوخة عن مقامه، رافضا استعمال نعت المقام لها، فمن أدراه بأمرها، فقد تكون من عمل الشيطان.

راعه أن القصور تضاعفت على مد بصره، تتصاقب في دائرة متساوية الأبعاد، كما راعه أن الصومعة العالية، التي ترك بها مقامه الزكي، اختفت. اختفت من جميعها.

بدت الدائرة في الأول بقطرٍ مساحته نصف ميل، ثم أخذت تضيق كلما تأملها.

دائرة رهيبة تتشكل من قصور شامخة في فيف سحيق، لها لون واحد هو اللون الرمادي الباهت، تتضايق زاحفة نحوه ونحو العضباء.

إنها تضيق، دون أن تفقد قصُورها حجمَها أو المسافات التي تفصل بينها، ودون أن يختفي أي واحد منها.

هذا ما يبدو على الأقل حتى الآن لنظر الولي الطاهر كأنها صورة، الأبعاد فيها متوقفة، بعد أن حددتها الرؤية الأولى.

سرعةُ تضايُقِها تتزايد، ولعلها تصير قصرا واحدا عندما تصل إلى هنا، فلاَ يبقى سوى المقام الزكي.

من يدري.

وهذه الشمس الذاهلة، هل فقدت اتجاهها. ضاع عنها المشرقان والمغربان، فلا تدري أين تذهب.؟

اللهم يا ذا الجلال والإكرام، لا تنسنا ما أقرأتنا.

اللهم يا خافي الألطاف، نجنا مما نخاف.

النهار مثل مقامي الزكي يتضاعف، بتوقف الميقات، ولا شك أن الليل سينتظر ألف سنة مما يعدون.

يا خافي الألطاف، نجنا مما نخاف.

قطر الدائرة، تصير مساحته ربع ميل ليس إلا. وجميل أن يعد المرء هذه القصور، ليتأكد مما إذا ظلت هي هي، أو مما إذا كانت حقيقية، ومن مصيرها وهي تعاني ضيقان الدائرة.

واحد..اثنان..ثلاثةخمسة وعشرون..ثلاثة وثلاثونثمانية وتسعون.

المسافة بين القصر والآخر، سبعون ذراعا.

قطر الدائرة يصغر. واحد اثنان..ثلاثة..ثلاثة وثلاثونسبعون..ثمانية وتسعون.

الدائرة ضاقت. لا فائدة من العد. أنا والعضباء نتحول إلى قصر ذي طوابق سبعة..لا أستطيع، لا تأمل المداخل ولا النوافذ. أعلو فأعلو. إنني أعلو إلى السماء فلا تقابلني سوى السطوح تنطلق من القصر الذي أمامي وتمتد إلى ما لا نهاية.

العد اكتمل تسعة وتسعون قصرا تتحلق في الدائرة، أما ما خلفها فعلمه عند علام الغيوب.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

انبعث منه الصوت، فامتلأت السماء بنفس الدعاء.

تعاقب في الأول من كل قصر، ثماني وتسعين مرة، ثم اندفع صوتا واحدا أقوى من الرعد، يتردد في إيقاع واحد خفيف ومنتظم، لكنه راقص.

من كل قصر ينبعث صوت واحد ليس رجاليا وليس أنثويا، بل، إنه بكل تأكيد غير إنسي على الإطلاق. ولربما لا ينبعث أصلا من أي مكان، لكن هو موجود في الفضاء، في حجم الفضاء، وكل ما هنالك، أنه أطلِق سراح الأرواح فامتلأت به كما تمتلئ السماء.

تواصل الهجز، وقتا لا أحد بإمكانه تحديده، ما دامت الشمس ذاهلة والظلال غير ممتدة.

كل ما هنالك، هو مجرد إحساس لدى الولي الطاهر، بأن الصوت بلغ منتهاه، ومبتغاه، وبضرورة توقف حالة الذهول.

شرعت الدائرة في الاتساع، ووجد الولي الطاهر نفسه، كما وجد العضبَاء جنبه، بنفس الوضعية التي كانت عليها. أذناها تنتصبان مشكلتين أربعة آذان، وبصرها مركز على القصر الذي وقفت تجاهه، أول مرة. ولعله المقام الزكي.

عادت مساحة القطر إلى ما كانت عليه، ميلا أو يزيد، أو يقل، وفوجئ الولي الطاهر عندما أراد العد من جديد، إن لم يجد سوى ثلاثة قصور ومقامه الزكي المفترض. خلفه قصر، إلى يمينه قصر، إلى شماله قصر، قبالته، حيث تتوجه العضباء مقامه الزكي، غير أن الاتجاهات الأربعة فقدت قيمتها الجغرافية كما فقدت مدلولاتها.

الشمس في ذهول عميق.

إنه يوم ربك. ألف سنة مما يعدون، أعطى للأرض منه لحظة سميت بالزمان وقسمت إلى ليل ونهار، وأشهر وسنوات وقرون وساعات ودقائق وثوان. إن شاء أطال اللحظة وإن شاء قصرها.

ولكن هذا الفَيْف أين يقع، حتى تذهل شمسه، كل هذا الذهول؟

ينبغي أن لا أستسلم لهذه الحال، أكانت امتحانا ربانيا أم خدعة شيطانية لعرقلة العودة إلى المقام الزكي.

قرر الولي الطاهر، بينما تتواثب إلى ذهنه ومضات من صور باهتة، لا يدري أهي لـ»حالات« في الزمان أم لأخرى في المكان.

قفز إلى ظهر العضباء، يتمتم كأنما يرجوها الانطلاق:

»باسم الله مجراها ومرساها«.

خفضت العضباء أذنيها أو بالأصح آذانها، وراحت تخب بحماسة وبلطف، كأنما هي تشفق على حمولتها الثمينة، تواصل طريقها، نحو القصر الذي ظلت طوال الوقت تتوجه نحوه، واثقة من أنه المقام الزكي.

ظل بصر الولي الطاهر عالقا بالقصر، غير مبال بحرارة الشمس فوقه، وبحرارة الرمل من تحت أرجل العضباء، ولا بموجات الرمل التي تتحرك من كُثْبان لأخرى، تدفعها ريح لافحة، ليس لمصدرها هي الأخرى جهة.

الوجهة هي القصر المفترض أنه المقام الزكي. ورغم أن المسافة بين التلة وبينه لا تتعدى الميل الواحد، إلا أن السير طال. انقضى ما يزيد عن الثلاث ساعات، والمسافة هي هي. العضباء نشيطة فرحة، رغم أن أرجلها تغوص في الرمل من حين لآخر. ربما هي الوحيدة المتأكدة من أن القصر الذي أمامنا هو المقام الزكي الذي ترددتْ حوله آلاف المرات. أحيانا يُهيَّئ أن القصر هاهنا قبالتي، وأحيانا يبدو أنه على مسافة تتعدى الميل. مهما يكن. الوصول لابد منه، »والحي يروح«. لقد نجوت منها، وتخلصت من شرها، وخلصت العضباء معي بعد أن كادت تضلني نهائيا، فكيف لي الآن وقد مكنني ربي من سواء السبيل أن أخشى هذا المشوار القصير، مهما استغرق وقت قطعه.

ذاكرة الولي الطاهر تستعيد صورا وأخيلة، عن وقائع جرت، لكن لا يميز، أو حتى يتصور زمن وقوعها، الأمس واليوم والسنة الماضية، والقرن الماضي، كلها، آنٌ قد يصغر وقد يكبر، قد يطول وقد يقصر.

وميض. وميض. مناظر تتشكل، وتختفي.

ها هي بلارة بنت تميم بن المعز تعاوده، كما خاض المعركة الفاصلة معها، وليس كمجرد رغبة، ظلت تدفعه في الفَيْف سعيا وراء لا شيء.

الماضي، يغرق في الضباب. بل إنه يومض.

الطوابق هي هي، سبعة، بتمامها وكمالها. طابق الزوار الذي ينفتح عليه الباب الكبير في الأسفل، بجناحيه، جناح الرجال وجناح النساء، والمقصورة التي تتوسطهما. حيث يتخذ المقدم مكتبه وموقع الاستقبال، الطابق الذي يليه، خاص بتعليم القرآن الكريم، والشريعة، وبعض العلوم، يسع لأربعمائة طالب وطالبة. الذي يليه يتشكل من جناح واحد، هو المصلَّى، به محراب تغطيه الزرابي. الطابق الذي فوقه، مرقد للطلبة والمريدين. الذي فوقه، مرقد الطالبات والمريدات. الذي يليه، نصفه للمؤن ونصفه للشيوخ ينامون فيه ويعدون دروسهم.

الطابق السابع.

خلوتي وطريقي إلى حبيبي.

أسسها عباد الرحمان، هاربين بدين الله عندما انتشر وباء خطير، يصيب المؤمن في قلبه، فيضحي، ودونما إعلان عن ذلك، أو إحساس به، لا هو بالمسلم ولا هو بالكافر. قد يصلي اليوم، وقد لا يصلي غدا. بل قد يقطع صلاته، ويسرع إلى خمارة من الخمارات التي انتشرت في كل ركن، يديرها مسلمون، بعد أن اشتروها أو خلّصوها من اليهود والنصارى. لم يفرق الوباء بين الولد والبنت، بين المرأة والرجل. يتغير المظهر الخارجي أوَّلا، بتغير اللباس، الذكر ينتزع العمامة والجبة، ويقمِّط نفسه في أردية ضيقة، تجعله أشبه ما يكون بتيس أو بأي حيوان آخر يشبهه. المرأة، تحسر رأسها بعد أن تصبغ شعرها وتدليه منسابا على كتفيها أو على صدرها تطلي وجهها بكل مكوناته بمختلف المساحيق والألوان، حتى أن الأب يخطئ في ابنته، تعري صدرها، ولا تغطي منه في أحسن الأحوال، سوى نصف ثدييها، تبذل مختلف الوسائل لتبين تشكُّلات خصرها وعجُزِها وردْفيها وفخذيها، تأكل كما الرجل في الشارع. تدخن كما الرجل في الشارع وفي غير الشارع. أسوا من كل ذلك يتعانق الرجال والنساء في الخلاء، فلا أحد ينهاهم أو يعلمهم بأن القُبلة التي لا تنقض الوضوء هي التي لا تكون على الفم ولا يكون هناك وراءها مقْصدٌ أو وجودٌ للذة. ولم يبق للمؤمن ملاذ أو ملجأ، لا في بيته، ولا خارج بيته.

كالجربَ سرت عدوى الفسق والفجور، والاستخفاف بكل قيم الأولين. لكن الناس لم يعودوا يحكون جلودهم.

أولوا الأمر، بثُّوا أجهزة سموها تلفزات، يملأونها بذواتهم وببنات مسّلمات عاريات متبرِّجات، وبما يمدُّهم به النصارى أو يصنعونه هم من أفلام ملأى دعارة وفحشا.

لا أحد أعلن عن بقائه على إسلامه، ولا أحدٌ أعلن عن خروجه منه، وعن مِلَّته الجديدة.

إذا ما نُبِّه أحدهم إلى واجبه، أو نهي عن منكر، ردّ مستغربا: كلنا مسلمون.

لا أحدٌ أعلن عن تغيُّرٍ في المفاهيم والقيم والمسميات.

المنكر هو المنكر، والفحشاء هي الفحشاء، ما أمرنا به الله وما نهانا عنه، لم يتغير، ولكن ليس لنا موقف منه، فلا نحن معه ولا نحن ضده.

هذا هو عرض الوباء الفتَّاك الذي ألمَّ بنا.

عندما دبَّ اليأس بعد محاولات متواصلة، بلغتْ حد المواجهات المسلحة، والحروب الطاحنة، ما تزال تتواصل، ارتأيت، أن الهروب بدين الله، عنصر مهم في المواجهة. نقيم في هذا الفَيْف، نتضرع للمولى، عساه يفرج الكرب، فيضع حدا لهذا الاكتساح للوباء لأمم الإسلام، وفي نفس الوقت نهرَّب ما نقوى عليه من الشبان إناثا وذكورا، نلقنهم دينهم، ونزوجهم، ونعمِّر بهم الفَيْف، منشئين أمة محصنة.

قام المقام الزكي، بأموال تجمعت من كل حدْب وصوب، حتى من أمم غير أمم الإسلام. وهبَّ الفقراء والأغنياء من الأتقياء ومن غيرهم، ممن لم يصابوا بالوباء وممن أصيبوا.

جعلناه سبعا طباقا، تحتضنها مئذنة ترتفع عنها بنصف علوها، فكان كإرام ذات العماد أو أكثر.

وشق عنان السماء في ليل الفيْف الساكن تبريح:

يا خافي الألطاف نجِّنا مما نخاف.

التحق بالمقام الزكي خلقٌ كثيرٌ، تجلبهم البركات، والكرامات، وحسن العبادة والدعاء، وانضم لحلقات الدراسة، مائتا شاب ومئتا شابة وشابة واحدة منهن، لا أحد يعرف لها أصلا أو فصلا، لا قرية ولا عشيرة ولا أهلاً، تقول كل ما سُئلت أنها وفدت من بعيد، ذاكرةً من حين لحين اسم المهدية، باحثة عن ضالَّتها في المقام الزكي.

لم ينتبه أحد ليسألها عن ضالتها، واقتنعنا جميعا أنها هاربة من الوباء، ساعية إلى ربها راضية مرضية.

 بعد الليلة السابعة، رفع »القناديز« إليّ عريضة يطلبون فيها، طرْدَ مقيمةٍ بيننا، بدعوى أنها تشوش عقولهم فلا يستطيعون التركيز فيما يتلقَّون، بل إن بعضهم أكد، أنها تبلوهم بداء النسيان فينمحي كتاب الله من صدورهم.

العريضة لا تذكر واحدة بعينها، إنما تركز على أنها هناك، فوق. واحدة بعينها من بين المائتين وواحدة يستطيع الواحد منا التعرف عليها حال رؤيتها بل لقد رسمها أحدنا، فتعرفنا عليها جميعا ثم أحرقنا الرسم.

البنات محجوبات، لا ينزلن إلا للصلاة، ويصلين ويزاولن التعليم من وراء حُجُبٍ، كذلك، ثم إنهن مثلكم قانتات عابدات، فكيف تشتكون منهن أو من أية واحدة منهن.

ثم كيف تبلوكم وهي بعيدة عنكم؟

إنها تأتي الواحد منا، عند منتصف كل ليلة، توقظه، وتقول له، يا فلان ابن فلانة ابن فلان، اخطبني من الولي الطاهر.

تزوجني وإلا لحقتْك لعنة الجافل. مالك بن نويرة.

أرأيت في الحياة الدنيا، صورة أبهى من صورتي هذه؟

ثم تكشف عن وجهها، في الظلمة يا مولانا الطاهر فيُغمى عليه، حتى الصباح، حيث يستيقظ، وقد فقد ذاكرته، وخشيةَ الرحمان.

يسأل الواحدُ منا صاحبه، أزارتْك؟ فيومئ برأسه أن نعم. أتكشَّفت لك؟ أيْ نعم.

نقرأ عليه جهرا »سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى«، فيستعيد وعيه، بأن يتعوذ، ويلعن الشيطان الرجيم، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسارع إلى الوضوء الأكبر.

بعدها بأيام رفع الشيوخ، نفس العريضة، تكاد تكون بنفس المفردات.

قالوا مثلما قال الطلبة، رغم أننا لم نتكشَّف على مقيمة من المقيمات، ولم نر وجه واحدة منهن، فإننا نستطيع التعرف عليها حالما نراها.

لمَ تريدون أن تكون واحدة من المقيمات، مع أنها قد تكون إحدى جنيات الفَيْف، إحدى تلك اللواتي يهبن الشِّعر، في الوديان والفجاج، للشعراء؟

ثم إن الأبواب بين الطوابق، محصنة، ومفاتيحها في أيدي أمينة. من أين يمكن أن تنفُذ هذه التي تتهمونها؟

أثناء الدرس الذي ألقيه كل ليلة بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، سألني أحدهم، وكان للعجب العجاب، أحد الشيوخ:

-جرى ويجري الحديث دائما عن الشيطان بصيغة المذكر، على عكس ما يقال عن الجنّ والجنيَّات، فهل الشيطان الرجيم جنس واحد يا مولانا الطاهر؟

سكتُّ.

ساد السكوت المصلّى.

فجأة انطلق صوت نسوي من جناح الطالبات:

لا يمكن حصر جنس للشيطان، ولا صفة، ولا ذات. يكون كما يشاء رجلا أو امرأة، ثعبانا أو بقرة. شابا أو عجوزا، بل إنه يكون الواحد منا في يقظتنا وفي منامنا من حيث ندري ومن حيث لا ندري، والغواية مقاديرُ، لا يختلف قليلُها عن كثيرها.

إنه من نار فكيف يكون له جنس.

بعد أيام جاءتني مائتا عريضة، ألقيت في صندوق الرسائل واحدة فواحدة، دون أن تحمل جميعُها أي توقيعٍ.

تتضمن العرائضُ كلها، جملة واحدة:

»إنني أوتى كل ليلة، فـ »أدركني« أيها الولي الطاهر، أيها الحبيب

جمعتهن في المُصَلَّى بعد صلاة العصر. عددتهن. كن مائتين وواحدة.

ما شاء الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله ! كلكن هنا سالمات هانئات؟ من منكن وجَّهت لي عريضة؟

سكتن جميعهن.

-لولينا الطاهر كرامات، كثيرات. فلم السؤال حين يكون إحراجا. هلاّ وجهت لنا السؤال منفردات، فنقدم لك الحقيقة »العارية« يا مولانا الطاهر.

هو نفس الصوت، الذي علَّق أو أجاب  عن السؤال المتعلق بالشيطان.

كان صوتا يبلو. كان بلوة وأيما الله.

العلو فوق السحب

-أين ذهب باب المقام الزكي؟ أين ذهبت الأبواب والنوافذ؟

تساءل الولي الطاهر، عندما توقفت العضباء على بعد متر من القصر، ثم لكزها، كي تواصل سيرها، فيلتف بالجهات الثلاث الباقية، عساه يعثر على باب أو نافذة، فقد يكون الذين أخفوا الصومعة، قد غيروا مواقعها.

لا باب ولا نافذة، ولا ظل.

لا حول ولا قوة إلا بالله.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

يتكرر.يتكرر. يتكرر الدعاء من حناجر رجالية ونسائية، في إيقاع خفيف، ولكنه يبدو شكوى حزينة من أعماق أنفس جريحة.

نزل من على العضباء. ومال بربع دائرة، يمينا، قبالة قصر آخر، شبيه بهذا المفترض أنه المقام الزكي.

صلى الركعة الأولى بالفاتحة، وسورة الأعلى. قرأها مرتين، وتوقف، قليلا، عند الآية »سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى«. وأعاد في الركعة الثانية، بعد الفاتحة، سورة الأعلى، وتوقف هذه المرة كثيرا عند الآية، »سيذَّكَّر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحي  «.

ما أن »حي وزكى«، حتى داهمته حمّى مصحوبة برعشة فوجد نفسه، يثب قافزا، يردد الأصوات المنبعثة من الداخل:

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

طاف بالمقام الزكي وهو كذلك سبع مرات، ثم سقط عند أرجل العضباء يتخبط مصروعا، مرفوع السبابة يتلو الشهادة.

*   *  *

وجد نفسه عَرْضَ جبال لا يعرفها، تتخللها وديان، غزيرة المياه، قوية السَّيَلان، وسط قوم على رؤوسهم قَلنسوات من صوف مزركش بعضه أبيض وأسود، بعضه تتخلَّله ألوان تختلف بين الأزرق والأخضر، لهم لحى مخضبة بالحنَّاء، تبلغ لدى بعضهم الرَّكُب، يرتدون جلابيب رمادية تعلوها طبقة خفيفة من تراب، عليها معاطف إفرنجية مشدودة بأحزمة. في عيونهم الكحل، وفي شفاههم السواك، تعبق منهم رائحة مسك بالغ الحدة.

لم يفهم من لغتهم ومما هم يفعلون سوى إطلاق الرصاص على أناس في الطرف الآخر من الوادي، لهم نفس القلنسوات، ونفس اللَّحى ونفس الجلابيب والمعاطف، ولربما تفوح منهم نفس رائحة المسك. حِمَى الوطيس واشتد. وارتفعت الحناجر تكبَّر من هذه الضفة ومن تلك. كانت البنادق تسعَل والرصاص يغرَّد من ضفتي الوادي، وكانت المدافع تنبح من قمم الجبال. العرق يتصبب والغبار يتطاير والحُفر تنفتح، والدخَان يصبغ لون السماء الأزرق، والدماء تصبغ التراب والماء معا. بدأ الرمي يخف من الجانب المقابل. تقدم الفوج الأول من هذا الجانب، يقتحم الوادي، قوبل بوابل من رصاص، لكن التغطية حسُنت، فتمكن الفوج من احتلال تلة تخلّى عنها العدو، ولحقه الفوج الثاني.

كان الولي الطاهر ضمنه.

غاصت ركبتاه في الماء، استلذَّ ذلك، فقد كانت الحرارة شديدة، غير أنه، لما شعر بالأرض تبتعد عن قدميه، ارتمى يسبح مستعينا برشاشه. لم يكن يدري أنه يحسن السباحة إلى هذه الدرجة، حتى أنه سبق كثيرا من عناصر فوجه.

اتخذ الفوجان موقعيهما، محيَّيَّن بوابل من الطلقات المختلفة، وأعطي الأمر للفوج الثالث بالغوص في الوادي واللحاق. غير أن الأعداء صاحوا صيحة واحدة »الله أكبر« وكروا كالموج من كل جانب، تعززهم المدفعية الثقيلة والطائرات. وطلقات المدافع الرشاشة.

حملت الهواتف اللاسلكية الأوامر بالانسحاب، فعاد الجميع إلى النهر قاذفين أنفسهم كما صادف. تلهبهم النيران من كل جهة.

-ما الداعي إلى نصرة هؤلاء وحدهم؟

قال الولي الطاهر في نفسه، وفوجئ الأعداء المكرُّون، بشاب لا يتعدى السابعة والعشرين، قويا يافعا، ينتصب حاملا مدفعا رشاشا، ويصب جام حقده على الذين كان واحدا منهم.

ارتفعت الحناجر، تكبر وتهلل، وامتلأ النهر بالجثث حية وميتة، ودكن لون الماء، واسودت السماء.

»إن تنصروا الله ينصركم«.

ردد الجميع، بينما الخناجر تُستل، والاشتباك الجسدي، يقوى ويعنف، والأجساد تتساقط من كلا الطرفين.

وجد الولي الطاهر في نفسه قوة خارقة، فكان وحده يقوم مقام عشرة محاربين أشداء، ما جعله محط أنظار الجميع.

فجأة رُفعت الرايات البيضاء من هنا وهناك، تطلب وقف الاقتتال لتخليص الجثث من الماء ودفْن الشهداء.

ظنها الولي خدعة، ولم يهضم عقلُه، خوض الحرب بهذه الطريقة، فقرر أن لا يوقف القتال من جانبه.

تسلل وراء صخور ضخمة واحتمى بواحدة منها، وكان قد اجتاز النهر، واستغرق في الضرب، دون مراعاةٍ لخصم معين. تجاوب مع فعلته، مجموعة من المحاربين من كلا الطرفين، فراحوا ينضمون إليه، مجموعات وفرادى، مكبِّرين متحمسين لقتال ضار.

تبادل الخصمان الأولان رسائل لاسلكية، وقرروا أن هذا الطرف الثالث في هذه الحرب المقدسة، لن يكون سوى طرف عميل دخيل، اندس بين الصفوف لشقها.

تقرر أن يخوض الجميع الحرب ضد هؤلاء العملاء الدخلاء. غيرت المدفعية مراميها، وحولت الطائرات أهدافها، وصار الولي الطاهر والمجموعة التي ما تفتأ تنمو وتكبر حواليه وعلى جنبيه مركز القصف.

الله أكبر.

هتف الولي الطاهر وهو يصوب مدفعه الرشاش نحو طائرة، كانت تحوم فوقه.

ضغط بإصبعه بقوة على الزناد، حتى أحس به يكتوي بحرارة الحديد، فما أن كان من الطائرة المغيرة سوى أن ولت الدبر، مخلفة وراءها دخانا أسود قاتما.

اشتد حماس الجميع، بما في ذلك الذين كانت الطائرات تحميهم وتناصرهم، فارتفعت الأذرع بالبنادق والأصوات بأهازيج نصر مبين.

-عجبا عجبا.

قال الولي الطاهر بصوت مرتفع، ثم أعلن في سره:

لعله منظر سقوط الطائرة، ما يثير الإعجاب. الدخان يتبعها وهي ترتفع، لتشرع في الهبوط، مولية دفعة واحدة، كأنما تذكرت شيئا نسيته في الأرض، بينما طيارها، يسبح في السماء بمظلته، و»أوبلة« من الرصاص تطارده.

جاء سرب آخر من الطائرات، بدا من بعيد، وسرعان ما بلغ المنطقة. ظل يحوم عاليا، ثم ولَّى دون أن يطلق لا نارا ولا قذيفة.

كبّر الجميع، ولغطوا بلغة غير مفهومة، ثم تسابقوا يسلمون على رأس الولي الطاهر، ويسألونه من يكون، ومن أين جاء ومن أرسله.

لم يجد ما يجيبهم به، سوى قراءة سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى.

-مسلم. مسلم.

ارتفعت الأصوات، وتقرر وقف إطلاق النار من جميع الأطراف، وتشكيل قوة موحدة، بقيادة الولي الطاهر، تزحف على العاصمة لاستردادها.

استفاق الولي الطاهر. فتح عينيه. قابلته العضباء تلتهم شعيرا وحشيشا أخضر. الشمس في مكانها لما تزل. الأنين ينبعث من داخل المقام الزكي:

»يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف«.

شهّد واستغفر، وجمع جلبابه، ونهض ينفضه من الرمل، ومما قد يكون علق به، وتلا الفاتحة والمعوذتين وآية الكرسي وراح ينادي بأعلى صوته:

-يا من هنا. يا من هناك. أنتم يا معشر المريدين والمريدات، أنا شيخكم، الولي الطاهر صاحب المقام الزكي، أعلمكم بعودتي.

أنتم يا من هنا، إنسا أم جنا، كنتم. أنا شيخكم. أنا الولي الطاهر. صاحب المقام الزكي.

ظلت نداءاته تتكرر ساعات عديدة، ثم قرر الانصراف وقصد القصور الأخرى للتعرفِ على حالها، ثم من يدري فقد يكون هذا القصر خدعة من الشَّيطان، ولربما هو قصر وهمي، نبت في ظنه، فلا تعمى الأبصار إنما تعمى القلوب التي في الصدور.

عندما امتطى ظهر العضباء، وطلب منها الانطلاق، في اتجاه القصر الذي يقع يمينا بربع دائرة، بلغه صوت يتأكد لديه أنه يعرفه جيد المعرفة:

ليس الفتى كل الفتى عندنا إلا الذي ينهى عن الفحش

يأتي إلى الإسلام مـن بابه ويتبـع الـحق بـلا غش

صوتها. هي الصوت أذكره جيدا، بكل نبراته، واهتزازات حباله وأوتاره. صوتها ما في ذلك ريب.

هو، كما سمعته أول مرة حين قالت »لا يمكن حصر جنس للشيطان، ولا صفة، ولا ذاتٍ. يكون كما يشاء رجلا أو امرأة، ثعبانا أو بقرة. شابا أو عجوزا، بل إنه يكون الواحد منا في يقظتنا وفي منامنا.

إنه من نار فكيف يكون له جنس.«.

وثاني مرة حين قالت »لولينا الطاهر كرامات، كثيرات. فلِمَ السؤال حين يكون إحراجا. ولم السؤال حين يكون الجواب كامنا في القلب؟ لو وجهت لنا السؤال منفردات، لبلغت لب الحقيقة »العارية« يا مولانا. «.

هو كما تكرر فيما بعد.

-يا أخوات كيف يعقل، أن تكن أرسلتن كلكن رسالة، ثم لا نجد في العد سوى مائتين؟ أين ذهبت الرسالة مائتان وواحدة؟

-لعل اثنين اشتركتا في رسالة واحدة.

-فكرت في ذلك، لكن لم نجد دليلا عليه. ثم لماذا تتكلم نفس البنت.

-لكن لا أحد تكلم منا يا مولانا. لماذا نتكلم دون أن يطلب منا ذلك؟ !

حيرنْني. حيرني الصوت الذي أسمعه والذي يقلن إنه غير صادر منهن.

سكتُّ مدة، ثم أمرتهن بالانصراف، قلت أستخير ربي.

صعدت إلى خلوتي، حيث أبحرت من خلال سجدة يقول الشيوخ إنها استغرقت سبعة أيام. ويقولون إنهم لم يعثروا في كتب أولياء الله الصالحين الذين استبقونا، على مثل هذه السجدة.

قلت ومن أدراكم فيوم ربكم، كألف سنة مما نعد، وقد يكون نفحني بلحظة منه.

بعد صلاة العشاء، شرعت في تنفيذ ما عزمت عليه. قلت »الليلة نبيت نحن الرجال عند الزيتونة نذكر الله، وفي نهار الغد عندي سؤال أطرحه على الأخوات«.

تعشينا ثم انصرفنا في طابور طويل، أتقدمه، ويليني الشيوخ، ثم المريدون، ثم »القناديز« ويلينا في المؤخرة الشيخ المقدم يحمل كما أوصيته في صندوق مغلق، مفاتيح المقام الزكي.

تحلقنا عند التلة الرملية على الزيتونة وصلينا ركعتي التحية فرادى، ودعونا الله جماعة أن ينجي أمة دينه من الوباء الذي أصابها، وأن يحفظ المقام الزكي، من شر ما خلق. وأن يرزقنا من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب.

انطلقت نقرات »البندير«، ثم شنشنات الطار، ثم تغريدة الرباب.

بدأ كل شيء خافتا، يصَّاعد، من بساط الرمل الناعم، إلى العنان الفوقي، رويدا، رويدا، في حين راحت أرواحنا تنسل منا، وتتبع الإيقاعات، خفيفة شفافة هفهافة خفاقة.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

تبريحٌ جريحٌ انبعث من حنجرة المقدم، في شكل موال حزين.

يا خافي الألطاف.

رددنا جميعا متأوهين، في كنف صوت المقدم وأصوات الآلات التي توحَّدت في نغم واحد عذب موجع رحيم.

عند توقف التبريح، وجدنا أنفسنا هنالك. في الذرى، عند كل نجمة، وعند كل مجرة، وفي كل كوكب، فوق كل كثبان رمل، وفوق كل تلة من طين أو من حجر. فوق كل قمة جبل، في كل فجٌ وبَّرٍ، عرض البحار والمحيطات، نغوص في العمق ونعلو كل موجة.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف. يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

خفَّ الإيقاع. ولم يكن هناك لا نور ولا ظلمة. لا بياض ولا سواد. الأعين مغمضة، والأيدي كما الصدور تعلو وتنخفض، والأرجل الحافية، تضرب فوق الرمل الصامت الذي لا يسمح لغباره بالابتعاد عنه كثيرا.

الحلقة الكبيرة المستديرة، تتماوج أماما وخلفا، يمينا وشمالا، وأنا في الوسط، أهفو للهفو.

يهزني الهفو فأهفو.

لحبيبي، يأخذني حيث يشاء، يقريني فلا أنسى. وييسرني لليسرى.

كانوا قد دخلوا مرارا، ولما أخلينا معسكرنا، حاول المشركون حمل مُجاعة، فلا »يستطيعونه لما فيه من الحديد، ولأن خيولنا لا تزال تناوشهم«، فلما رجعنا، ووثبنا عليه لقتله، هاتفين:

»اقتلوا عدو الله، فإنه رأسهم، وإنهم إن دخلوا عليه أخرجوه  «.

-أجيريني يا أم مُتْمِم.

-أنا لك يا مُجّاعة. أيها الناس إني له وهذا جاري.

بيني وبينه حلف، لئن انتصر أصحابه نجاني منهم، وإن انتصر أصحابي فعلت.

-دعوا مُجّاعة.

كانت حنيفة …»حملت أول مرة، فكانت لها الحملة، وخالد رضي الله عنه مريضا على سريره، حتى خلصتْ إليه فجرد سيفه، وجعل يسوق حنيفة، حتى ردهم وقتل منهم قتلى كثيرة، ثم كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد رضي الله عنه، فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف..«.

هجم أحدهم يهم بقتل أم مُتْمم،  »ورفع السيف عليها، فاستجارت بمُجّاعة، فألقى عليها رداءه وقال:

»إني جار لها، فنعمت الحرة، وعيَّرهم وسبَّهم، وقال:

»تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها، عليكم بالرجال«.

ظل زيد بن الخطاب ينادي، وراية خالد بين يديه:

أما الرجال فما رجال ! وأما الرجال فما رجال! اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي وابرأ إليك مما جاء به مسيلمة، ومُحكم بن الطفيل.

كان يتقدم بالراية في نحر العدو وهو يلهج، ويضارب بسيفه ويضارب، حتى قُتِل رحمه الله.

اختطفتُ راية خالد، وهتفَ فيَّ المسلمون:

»يا سالم إنا نخاف أن نُؤتى من قبلِك«.

»بئس حامل القرآن أنا إذن إن أتيتم من قبلي«.

قلت.

نادت الأنصار ثابت بن قيس حامل رايتهم »ألزمها قيس فإن ملاك القوم الراية«….

تقدمت أنا وحفرت لرجلي حتى بلغت أنصاف ساقيومعي راية المهاجرين.

»حفر ثابت لنفسه مثل ذلك ثم لزمنا رايتنا، ولقد كان الناس يتفرقون في كل وجه«، وإنا لقائمان برايتنا حتى قتلت وقتل أبو حذيفة عند رجلي، ورأسي عند رجلي أبي حذيفة لقرب مصرع كل واحد منا من صاحبه.

وقعت صريعا، غيظ الراية يحز في قلبي.

*   *  *

عندما وقع الولي الطاهر مصروعا، وسط الحلقة، توقف الهيجان وكبَّر الناس، وكان نور النهار، قد سطع من المشرق مع شمس ذابلة.

رشوا الولي الطاهر بالعطر الذكي، فاستيقظ، ومد يده ليعينوه على النهوض، صلى بهم صلاة الصبح ثم تقدم الجميع، وقد انخرطوا في طابور طويل، فبدوا كأنما هم سرب نمل، يشق طريقه.

تفقد الشيخ المقدم الباب الخارجي، وقرر أنه كما تركه، وأن العلامة التي جعلها لتشي بما إذا كان قد ظل مغلقا، في مكانها لم تتزحزح.

تواصل تفقد أقفال الطوابق السبعة، فلم يبن أي اقتحام لأي طابق ولأي باب.

لكن البنات كن يبكين.

كن يشهقن من تحت أخمرتهن.

-لتتكلم إحداكن فتقصَّ علينا ما جرى.

سكتْن. وراح الولي الطاهر يتأملهن، مستغرقا في التفكير. كيف يتأتى أن يؤتين؟ كم ذكرا ينبغي لإتيان مثل هذا الحشد؟ ثم لماذا لا يدافعن عن أنفسهن؟ ينتظمن فيكمُنَّ للمعتدي أو المعتدين، ويلقين القبض عليهم؟ هل الفعل حقيقي أم مجرد وسواس من الشيطان؟ لربما يكون هناك عدة ذكور مندسين بينهن؟ مع ذلك فعدد مائتي بنت وبنت، ليس بقليل.

ينبغي إعادة الفحص من جديد.

-يا مولانا الولي الطاهر. الشيطان من نار، والوباء الذي هربنا منه، مسٌّ من الشيطان، لعل أحدنا بالمقام الزكي مصاب بهذا الوباء.

إذا ما مسَّ الوباء الروح، فلا علاج غير الاستحمام بالذِكَرْ.

*   *  *

قبل أن أبتَّ في المسألة، رفع إليَّ المقدم تقريرا مطولا، يشكو فيه من أعراض يخشى أن تكون بداية للوباء الذي هربنا منه.

يا جناب الولي الطاهر يا مولانا.

مالك بن نويرة سيد بني يربوع وكلَّ حنضلة، الذي قتله سيدنا خالد بن الوليد في حرب الردة، يثير هذه الأيام، اهتمام الطلبة والطالبات.

لقد تعاقبوا الواحد تلو الآخر على دار الكتب، يطلبون كتب التاريخ. الطبري واليعقوبي، البلاذري، بن بسام، الكلاعي البلنسي حتى كتاب الأغاني يا مولانا.

بعد أيام من هذه الهجمة التي لم نشأ إزعاجكم بها أول الأمر، بدأ الأمر يتطور شيئا فشيئا.

حلقات تنشأ هنا وهنالك من طلبة في قسم الذكور ومن طالبات في قسم الإناث، يتراوح عدد أفرادها من اثنين إلى عشر إلى ما فوق هذا العدد.

الذكور يهتمون بمالك الجفول، والإناث يهتممن بزوجته أم مُتْمم.

اتفق الذكور بعد بحث وتنقيب، على أن مالكا بن نويرة الجفول، كان »شاعرا شريفا وفارسا بارزا، ممتعا بالجمال«.

اتفقت الطالبات، على أن أم مُتْمم بالإضافة إلى جمالها الفتان الذي ربما لم تعرف جزيرة العرب مثله، هي صاحبة شخصية قوية، فقد تصدت لفرسان المسلمين وصدتهم عن قتل مُجّاعة، هي التي قُتل زوجها، شكًّا في إسلامه. لم تخش أن تُتَّهم بأنها تضمر الشَّرك، وأنها إحدى المرتدات، فوق كل ذلك اكتسبت ثقة خالد بن الوليد، بسرعة خارقة، إلى درجة ائتمانها على أسير خطير كمُجّاعة.

ثم يا مولانا الولي الطاهر.

بعض الذكور اهتم بمالك الشاعر، وهل حفظ الرواة شعره، أم تجاهلوه، وهل كان شعره، شعرا يستحق أن يعد ضمن الديوان العربي أم لا.

بعضهم اهتم بإسلامه، وهل كان إسلاما صادقا، إلى درجة أن يكون محل ثقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيبعثه من جملة المصدقين في العرب، عكرمة وحامية بن سبيع الأسدي والضحاك بن سفيان، وعدي بن حاتم، وغيرهم، وهم صحابة عليهم رضوان الله.

هل يمكن الشك في إسلام مالك، إلى درجة قتله؟

لو أن مالكا لم يقتل، هل كانت الحرب تتواصل ويسقط من الضحايا ما سقط؟

ثم إن مُجّاعة نفسه، والذي تردد خالد كثيرا في قتله، هل كان يحارب كمرتد، من أول إلى آخر الأمر؟

حسب زعمه والواضح أن هذا ما انتهى إليه خالد فإنه خرج  يبحث عن شخص معين.

بعضهم اهتم بخالد بن الوليد رضوان الله عليه. وراح يتساءل عما لو نُفِّذ مطلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقيم الحد عليه، من يكون الظالم ومن يكون المظلوم؟

ثم كيف هو مريض بالفسطاط، ثم يشن هجمة على حذيفة فيدحرها؟

كيف وثق رضوان الله عليه، بسرعة في أم مُتْمِم، وأنزلها تلكم المنزلة.

قالوا، مهما كانت بطولة خالد، فليس فيها فتوَّة، لقد كان عسكريا، يتصرف كما يتصرف كل عسكري، لا يهمه من أمر الحرب سوى كسبها، وسيحكم الله بينه وبين مالك بن نويرة.

غير أن مالكا، وينبغي التسليم في صدق إسلامه، تصديقا لعمر بن الخطاب، يجب إضافته إلى مصاف من شرب كأس الفتوة ولبس سراويلها.

لقد قرروا يا ولي الله الطاهر، أن يرفعوا إليك عريضة يستأذونك فيها بإقامة صلاة الغائب على مالك بن نويرة.

تقول البنات يا مولانا الولي الطاهر، لماذا لم تحزن أم مُتْمم على زين الرجال وأشرفهم، الشاعر الذي لاشك أنه استلهم معظم شعره من جمالها؟ لقد انسجمت أم مُتْمِم بسرعة حسب سياق الأحداث التاريخية، مع سابيها، قاتِلَ زوجِها وميتِّم ابنها مُتْمِم. فماذا في أمر هذه المرأة؟

هل قضت فترة العدة كما يقول الشرع أم لا؟

إن تصرف أم مُتْمِم تجاه مُجَّاعة تصرف انتهازي، لم تُجره على أنه احتمى بها، أو لأنها واثقة من إسلامه ومن براءته، على أنه ضيف خالد الذي يقتسمه طعامه رغم أنه أسيره »بين القتل والترك«، أو على أنه »سيد أهل اليمامة   «وشريف قومها شأنه شأن مالك بن نويرة.

قايضته حياتها بحياته، وظلت وفية، لأنها لا تدري لمن تكون الغلبة.

كيف أبدت أم مُتْمم كل هذا الاستسلام وهذه اللامبالاة، تجاه ما جرى لها أو على الأقل ما جرى حولها؟

ما كان رد فعلها، وهي ترى رأس مالك، أثفية لقدر وإن شعره، ليدخن »وما خلصت النار إلى شَوَاة رأسه«؟ أكانت أم مُتْمِم هي التي وضعت القدر، فوق رأس مالك؟

البنات يردن رد الاعتبار لمُجاّعة بن مرارة باعتباره فتوة لأنه صبر على أمرين: إسلامه وهو في الأصفاد بين القتل والترك، وعدم انتقامه لمالك بن نويرة، بحرمان خالد من أم مُتْمِم، حين ألقى رداءه عليها يجيرها من قومه الذين اقتحموا الفسطاط، ولأنه في الأخير قايض أمن قومه بتزويج خالد بابنته.

يردن إقامة حضرة يباركن فيها نبل مُجّاعة.

*   *  *

توقفت العضباء عند جدار القصر على بعد مترين، فاستعاد الولي الطاهر يقظته، من سَرَحَان أخذه عند بداية الانطلاق من القصر الآخر. المقام الزكي.

بحث عن باب أو منفذ يضفي إلى الداخل، فلم يعثر على شيء من ذلك. لكز العضباء، فراحت تلف حول القصر.

لا باب ولا نافذة. ولا منفذ، ربما حتى من فوق، من السطح.

ما الذي حدث؟ أهي خشية من الوباء أم هو دفن للأحياء؟ أم هو قصر خدعة بينما الحياة تجري في مناطق أخرى؟

ماذا أصاب هذا الفَيْف؟

بالتأكيد، هذا ليس مقامي الزكي، لأن الأصوات التي تنبعث منه،، تختلف عن أصوات مقامي، حيث يلهج المؤمنون بالدعاء إلى رب الكون، خافي الألطاف لينجيهم مما نخاف.

إنهم يغنون. يزفون عروسا. الطبول والدفوف، تزأر. المزامير و»الزرنات«، تصدح الزغاريد، تلهب رانّة.

العرس في الطابق الأرضي. لا. فوق في الطابق الذي يليه. لا. فوق، في الطابق الذي بعده. فوق. فوق. في كل طابق يقوم نفس العرس، وتجري نفس »الزفة«، ولعل العروس هي هي.

تلفاز ! ! قد يكون تلفازا. بل ربما هي مكبرات صوت، بثت في كل طابق، آه. من أعطاني سبيلا، إلى اقتحام هذه البناية المسحورة.

أنتم يا من هنا. أنا صاحب هذا المقام الزكي. أنا الولي الطاهر. لقد كانت كرامتي، هذا البناء الشامخ، أمام عجز القوم عن شق الرمل بالعربات، فتعذر إيصال مواد البناء، فكانت صرخة مدوية مني، استغرقت سبعين يوما، كان على إثرها البنيان قائما؟

أو تريدون صرخة أخرى تهده على رؤوسكم؟

أنتم يا من هنا. إنسا أم جنا، كنتم، آمركم باسم الذي يعلم الجهر وما يخفى، أن تفتحوا الأبواب، وأن تكشفوا عن هوياتكم.

أرغي الولي الطاهر وأزبد. جحظت عيناه، وازرورق لونه، ارتفعت العمامة من على رأسه، مقدار ذراع، انتصب شعره الكث كشوك قنفذ، تقلصت عضلاته، وتخشبت أصابع يديه، وهتف:

يا من خلقت وسويت، وقدرت فهديت، اعطني من علم ما تعلم، مما تخفي هذه الجدران.

ثم هوى:

القاهرة. القاهرة المعزية. اختفت منها العمارات والحارات، والمساجد والقصور والفيلات، حتى الأزهر انطمست معالمه، حتى المقطم استوى، حتى الأهرامات توارت وبُثت الزرابي على امتداد البصر.

القاهرة وما حوت، تحولت إلى فسطاط، كبير، ازدان بالورود والبالونات متعددة الألوان، واصطف الناس رجالا ونساء دونما ترتيب، أو تمييز، على الجانبين، بعضهم أغراب، أعاجم، من مختلف الأجناس، بعضهم يرتدي الزي العربي المميز بعُقاله الأسود، بعض الرجال الأغراب، لا يسترهم سوى تبانات قصيرة، بينما هم يحتضنون نساء وغلمانا، لا يغطي نصفهم العلوي شيء، أما النصف السفلي فمكتَفٍ بتبانات حريرية شفافة.

أقيمَ سرادق على الطرف المقابل، اعتله فرقة موسيقية يرتدي أفرادها بدلات إفرنجية سوداء وقمصانًا بيضاء، ويضعون في أعناقهم، قطع قماش سوداء اللون، معقودة في شكل فراشات، هي أقرب ما تكون إلى صلبان.

في الطرف المقابل، لسرادق الفرقة، نصبت منصة، اعتلاها العريس والعروس وبضعة أفراد من الجنسين.

توقف الفتيان والفتيات عن توزيع القهوة ومختلف المشروبات و»التحيات«، عندما خرج المغني وكان قصيرا لدنا وسيما ربعة يرتدي البياض من الحرير والبراق.

طاف بالسرادق، يوزع ابتسامة عذبة، ثم واجه الجموع، ومنصة العروسين وانتظر خفوت الموسيقى التي كانت عالية في لحن الموالي، وهتف:

أنا حُـنين ومـنـزلي النـجف    وما نديمي إلا الفتـى القصف

أقـرع بالــكأس ثغـر باطية    متـرعة نـارية وأغـتـرف

مـن قهوة بـاكر التجار بـها    بيـت يهـود قـرارها الخزف

والعيش غض ومنزلي خصيب     لم تغذنـي شقــوة ولا عنف

لدى تماوج الخلق تهليلا وتكبيرا، مع المقطع الأخير للموال، ربتت يد غليظة على كتفي ثم همس صاحبها:

آن أوان تنفيذ مهمتك أيها الولي الطاهر.

أية مهمة؟

ما إن لاحت لي ملامحه حتى استعدت ذاكرتي. نعم. هيا بنا.

مددت يدي إلى الكيس الذي يحوي اللغم، وضغطت على زر الساعة الموقوتة. وانطلقت مع صاحبي.

انضم إلينا، شخصان آخران، وكانا يرقباننا من بعيد. إنما عرفنا أنهم منا، وأنهم لنا.

رحنا نتمشى على النيل، بخطوات تتسع وتضيق، بينما أبصارنا تسترق النظر إلى الطريق.

تقرر أن يموت.

تقرر أن يموت ذبحا.

تقرر أن يموت في رابعة النهار.

في موته حفر خندق بين الأمة وبين الوباء الذي اتخذ في هذه الأصقاع شكلا آخر، يختلف كلية، عنه في البلاد الإسلامية الأخرى.

هنالك يصيب القلوب فتعمى، فيذهل ويبله العباد، فلا ينفعهم وخز ولا جوع ولا شبع، لا صلاة ولا صيام ولا وعظ أو إرشاد.

وهنا، يتعاطونه، كما يتعاطون أي مخدر أو دواء، فيصيب مهم الأمخاخ، يوقفها عن التعرف على نفسها.

يعبدون الله، ولا يخافونه، يصلون خاشعين، ولكن لا يخافون على أخراهم، مؤثرين الحياة الدنيا. بينهم وبين الشيطان حلف، يتركهم يصلون، مقابل أن يأتوا كل ما يأمرهم به.

أوامر الشيطان تأتيهم من بين ما تأتيهم، من خلال حروف وعبارات وجمل وكتب وكِيلِه هذا وأمثالِه الكثيرين.

لقد قرأ الفلسفة، وسكنه من سكن السهروردي، فعاد في كتبه الأولى يبحث عن جذور الوثنية، في تجاويف الوديان والإهرامات، ثم سوى بين الإخوان المسلمين والملاحدة والشيوعيين، وراح يستنطقهم في أعمال كثيرة، ثم »سجن« الله في حارته وجعل الأنبياء فُتوة العهود المتخلفة.

فهمه النصارى واليهود، فكافأوه ليكون رمزا وقدوة، ونصْبا لمخنا الفاسد.

ها هو قادم.

يمشي الهوينى، كان يتماسك، كبنيان مهدود. ترى فيم هو يفكر، وفيم يسرح خياله الفاجر الآن؟؟؟

في لحظة رأيتني فيه. رأيت مصر والعرب والمسلمين فيه فينا.

رأيتني ممزقا بين أنا وبين آخر غيري.

نصفي ممتلئ بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي الشريف وبابن عربي والمتنبي والجاحظ، والشنفرى، وامرئ القيس وزهير بن أبي سلمى ومحمد بن عبد الوهاب ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، ونصفي الآخر ممتلئ بماركس وأنجلز ولينين وسارتر، وغوركي وهيمنغواي، وهيغل ودانتي.

ونصف الروح لي ونصفها الآخر يسكنها غيري.

أما جسمي ومظهري الخارجي، فلم يبق منه سوى شبح يطل في المسلسلات والأفلام، وبعض سكان الفلوات.

حاولت استعادة أنا، نصف أنا الضائع، فما أفلحت. حاولت التخلص من الآخر، فأخفقت.

لِأمُت حينئذ. لأمُوتنَّ ذبحا.

»..افعل ما تؤمر به ستجدني إن شاء الله من الصابرين«.

ارتفعت يد مضطربة.

انطلق الخنجر من يدي يد صاحبي، يد السهرودي الحديث.

سمعته يقول إن الله قادر على خلق نبي آخر بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم-.

وسال الدم. اغتمت الدنيا. تكدر ماء النيل. فدى الله مصر والعرب والمسلمين بذبح عظيم.

وكان العرس يتواصل على أشده..الساحة الكبرى المبثوثة بالزرابي، غاصة بالراقصين والراقصات من كل الأعمار والأجناس، في وضعيات بعضها داعر مشين، ولكن لا أحد يلتفت لذلك أو يبالي به.

أنا حُنين ومنزلي النجف..الله الله. لك ولنا الله يا نجف.

وما نديمي إلا الفتى القصف..يا روح يا عين ياقصف.

اقرع بالكأس ثغر باطيةاقرع ومن قال لك لا تفعل. اقرع يا رجل..بصحتك.

مترعة وأغترفونعترف معك.. الله أكبر.

من قهوة باكر التجار بها     بيت يهود قرارها الخزف

باركها الله اللهم باركها وبارك التجار والبيت.

والعيش غض ومنزلي خصيب    لم تغذني شقوة ولا عنف يا سلام سلم.

لم يكد المغني ينهي الجملة، حتى اهتزت القاهرة بالدوي، فعلا الدخان، وعلت الصيحات، وأبواق سيارات قادمة من كل مستشفى، واضطرب الفسطاط، بهيجان الخلائق.

كان سرادق أصحاب الآلات، والمغنين، كما منصة العروسين، قد تطاير شظايا، من خشب، ومن حديد، ومن لحوم آدميةيد هنا، أصابع هناك، رأس هنا، قدم هناكأنف هنا، عين هناكالأحجام تختلف، والألوان تختلف، والدم يصبغ كل شيء.

وبينما هي تتوجع. القاهرة المعزية. كانت مهمتي تتواصل.

الحافلة، تقترب، راكبوها منتشون بما شاهدوا من إطلالات ماض، أنجزه أجداد هؤلاء الذين صارت رقابهم اليوم تحت أقدامنا.

نقرر أن يجوعوا فيجوعون.

نقرر أن يموتوا فيموتون.

نطلب أسرار ماضيهم وحاضرهم فيكشفونها لنا ممتنين.

نأتيهم، فيعرون بناتهم ويرقصونها فوق الحلبات ليطربونا.

عندما، نطهر أمخاخهم مما أتاهم من عند العرب بمكة، تتم عبوديتهم.

وصلت الحافلة. ها هو الفندق.

أطلقتُ الرصاص. أطلقت. أطلقت. أطلقت. وثبُت إلى الأرض. قذفت بقارورة المولوطوف، ارتفع الدوي. أصّاعد الدخان والصيحات. رنت زغاريد في البعد، ناحت أبواق سيارات الإسعاف.

صرخت من هنالك الانسحاب، الانسحاب.

لم يبق أمام المعبد الفرعوني الذي يأتي يوم ونقتلعه، بشر واقف. من أراده الرصاص ومن طرحه جريحا، ومن انبطح ينتظر مصيره.

كنا حوالي عشرين. درسنا الخطة جيدا، تدربنا عليها عدة مرات، وطرحنا كل الاحتمالات.

احتمال أن يأتي رد فعل الطاغوت، سريعا، فنحاصر على غير ما كنا نتوقع. احتمال أن لا يذهل المرافقون المسلحون، أو أن لا يصابوا في الدفعة الأولى، احتمال أن تتدخل المروحيات.

كنت أقول لرجالي، ضعوا أنفسكم مكان الطاغوت، وفكروا كيف تواجهون المسألة.

أصرح أنني لاحقت المعتدين حتى ثغورهم وأنني قضيت عليهم أجمعين. قال أحدهم، فبادرته، لكن وقبل ذلك؟

سأصاب بالذهول، لأنني لم أتخذ أية استعدادات.

تصوروا أن خطتنا انكشفت، أو أن هناك اشتباها ما في حركاتنا الأخيرة، وأنهم أعدوا العدة.

نعطيهم درسا في الشهادة.

كانوا ينسحبون، خفافا، وكنت ألوح بيدي أن يسرعوا، نحو الحافلات التي أعددناها.

كانوا قد احتلوا مواقعهم، فانطلقت أجري بدوري.

لاحقتني رصاصتان. من مسدس تافه، فأردياني. أصابتني واحدة في القلب. وواحدة في الجبهة.

*   *  *

عندما انتهى الولي الطاهر من صيحته وفتح عينيه، وجد القصر، كما هو، منغلقا عن قاطنيه، بينما حُنين يواصل مواله.

أدركت العضباء مقصد الولي الطاهر، فاستدارت إلى اليمين، ربع دائرة، وانطلقت، تطوي الفَيْف، غير مبالية بالرمل، رخْوِه ويابسه.

رفع الولي الطاهر، رأسه يتأمل السماء، فكانت الشمس كما هي منذ توقف عند الزيتونة اليتيمة، فوق التلة الرملية، تتموقع وسطها، ورغم حدة حرارتها فإنها تبدو ذاهلة، بل وبلهاء.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

ارتأى الولي الطاهر لأول مرة أن يتأمل الفَيْف، فراح يجيل بصره، منطلقا من أذني العضباء.

كل ما هو مستو. الكُثبان مع الكثبان، والوهاد مع الوِهاد، والمنبسطات مع المنبسِطات. شِبْه ومَد يشكل حالة الطقس، ولولا تزاحف الرمال، تُشكل أسراب جراد قادم من بعيد، لكان المنظر عبارة، عن رسم منسوخ، أو صورة مكررة.

العصافير لا وجود لها. لا أثر لها، كما أن الطيور والصقور والجوارح، منعدمة تماما، هي التي كانت، تنساب في الفضاءات سابحة باحثة عن قوتها.

يا إلاهي مع أن الكون كونك، فإنني لا أدري أينني منه. أعلى الأرض أم في كوكب غيرها، أفي الحياة الدنيا، أم في الآخرة الباقية.

اللهم حمدك. ما دمت في ملكك.

اللهم يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف، كما نجيت فتى الفتيان إبراهيم الخليل من النار التي هي خليفتك في أرضك.

لقد وهبتني لنصرة دينك، ووهبتني كراماتك، فلا تنسني ما أقرأتنيه، ولا تجعل الوباء يصل لا إلى قلبي ولا إلى مخي.

يا إلاهي لقد اختفت صوامع بيوت أذنت أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُك. فالحكمة حكمتك، ونحن عبادك نفعل ما تأمرنا به.

توقفت العضباء. نزل، صلى ركعتين، بنفس السورة بعد الفاتحة. سبح باسم ربك الأعلى. رفع يديه إلى السماء، لبث لحظات طويلة يدعو في سره. عند انتهائه تقدمت العضباء حتى بلغت موقع صلاته. انحنت وراحت تشرب ماء زلالا.

نزع الولي الطاهر بعض ثيابه، ثم غطس في بركة الماء. كان جسده مثخنا بالجروح، بعضها قديم، وبعضها الآخر حديث، ما يزال ينزف دما، مرر مع ذلك الماء على كامل جسده غير مبال بها، وظل يفعل كذلك حتى أحس بها تندمل.

حمد الله وشكره، …»رب إني لما أنزلت علي من خير فقير«، ووثب إلى ظهر العضباء، فانطلقت فرحة نشيطة، نحو القصر الثالث.

***

كان الولي الطاهر على قناعة بأن القصر الأول، هو المقام الزكي، إنما، كما تساءل، هذه القصور الفاجرة ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ثم ما الذي جعل صوامعها، تختفي دون أن تخلف أثرا؟ والأبواب والنوافذ، أين ذهبت، وكيف يدخل ويخرج هؤلاء المقيمون بها؟

لعلهم اطلعوا على مشروعنا فجاءوا يستبقوننا.

قلنا، نحصن الدَّرْعيّة، ثم نبدأ بعُييْنة، تنطلق أول الأمر عشيرتنا عَنَزة، ثم ينضم إلينا الأنصار والمريدون، وباقي العشائر والقبائل، فنأتي أولا على الأحساء، ثم نتجه إلى الغرب، حتى الكويت، ثم نتقدم نحو الشمال، حتى كربلاء وقبر الحسيننجمع شمل قبائل نجد، ونشن الهجوم على مكة، والنجف ودمشق، ونواصل نحو الشمال حتى حلب. وكل بلاد العرب والإسلام، نحررها من عبادة الأوثان وتقديس القبور، وتعاطي المحرمات، طبقا لآراء الإمام أحمد بن حنبل، وتفاسير بن تيمية عليهما الرحمة.

ما دام شيخ عَنَزة قد وافق، فلنُعِد الخلافة من هنا. من الدَّرْعيّة وعُييْنة والأحساء.

ننهض هؤلاء المستكينين الجهلة الأذلاء، ونبدأ من حيث بدأ العرب الأوائل.

نعيد الجهاد في سبيل الله، إلى ما كان عليه، ونستأنف الفتوحات. نستعيد القسطنطينية، والمغرب والأندلس، ونصل هذه المرة، موسكو وباريس وكوبنهاغن، والهند والسند وكل العالم.

يدخل الناس أفواجا في دين ربهم أو يدفعون الجزية.

السبهللة

توقفت العضباء أمام القصر الثالث، وهو يقع بالضبط، في نهاية قطر الدائرة، انطلاقا من المقام الزكي، ويبعد ميلين أو يكاد عنه تقريبا، اعتبارا لقطع المسافة في خط مستقيم.

كانت الأبواب منعدمة، كذلك كانت النوافذ. طافت العضباء من تلقاء نفسها ثم عادت وتوقفت تنتظر ما سيفعله الولي الطاهر.

كان اللغط في الداخل بلغة أعجمية، وكان ممزوجا بضجيج آلات يبدو أنها ضخمة الحجم.

هناك دوي محركات قوي، وأصوات عجلات كبيرة، كأنما ثمة من يحفر خندقا أو يشق طريقا، أو يدفع رملا بكاسحات.

رفع رأسه إلى السماء، يسائل الشمس، ما إذا زال عنها الذهول، فوجدها، كما كانت تتوسط السماء وتنتظر من يدفعها شرقا أو غربا.

وثب.

انطلقت العضباء، تقضم شعيرا وحشيشا جافا، قدم لها.

رفع رأسه إلى فوق وهتف: يا من هنا. أنتم يا من استوليتم على مقامي الزكي. أنا هنا.

أعلمكم جميعا، أنني هنا.

نعم أنا هنا صاحب المقام الزكي، وسيد هذه الفيافي، وحامي الأمة من الوباء.

أقول لكم إني هنا. افتحوا الأبواب، وإلا هددت القصر على رؤوسكم.

لم يغضب الولي الطاهر في حياته سوى مرات قلائل.

آخرها كانت، صباح العودة من الحضرة عند الزيتونة. يوم وجد المائتي بنت وبنت يبكين. وقرر إعادة الفحص، وقد جاءه صوت يعرفه جيدا، يقول له:

-يا مولانا الولي الطاهر. الشيطان من نار، والوباء الذي هربنا منه، مسّ من الشيطان، لعل أحدنا بالمقام الزكي مصاب بهذا الوباء.

إذا ما مس الوباء الروح، فلا علاج غير الاستحمام بالذِّكْر.

قلتِ أحدَنا ولم تقولي إحدانا؟

ولكن الشيطان يا مولاي الولي الطاهر، لا جنس له.

سأل المقدم هل يسمع ما يسمع، فانحنى معتذرا:

العفو يا مولانا الولي الطاهر.

لا كرامة إلا لأولياء الله الطاهرين.

دخل الولي الطاهر إلى مكتبه، ثم أمر المقدم أن يدخل عليه البنات واحدة فواحدة، بعد أن ينتظمن في صف.

دخلت الأولى. أمرها بنزع النقاب عن وجهها، ترددت قليلا، ثم مدت يدا في بياض الشمس، وكشفت عن روعة اهتز لها كيان الولي الطاهر.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

بيضاء مستديرة الوجه، عيناها كبيرتان كالحتا السواد، فمها صغير مستدير مكتنز الشفتين، أنفها الأفطس يضفي على ملامحها مسحة هرة أو لبؤة.

-ماذا حدث لك البارحة؟

-أولا تعلم يا مولاي؟

-وكيف لي أن أعلم، وأنا كنت في الحضرة، ثم إن الأبواب موصدة دونكن.

رفعت حاجبيها النونين مستغربة، ثم قالت في لامبالاة:

-ما يحدث كل ليلة عند منتصف الليل يا مولاي الولي الطاهر.

-وما يحدث كل ليلة عند منتصف الليل يا أمة الله؟.

خفضت رأسها. ظلت صامتة. فبادرها:

-لا حياء في الدين. لقد كلفني الله برعايتكن، فيجب أن أعلم بكل صغيرة أو كبيرة في حياتكن بالمقام الزكي.

-ولكن يا مولانا؟

-لكن ماذا؟ ثم ما اسمك أنت؟

-أم مُتْمِم؟

-أم مُتْمِم ! ! تقولين؟

-لقد قررنا أن نتسمى كلنا بهذا الاسم.

-قررتن؟ ! هكذا

-لتكون المناحة التي نقيمها على روح مالك بن نويرة في مستوى الحزن الذي كان يجب أن يصيب قلب زوجته.

همَّ أن يقول لها إنكن تتدخلن في شؤون التاريخ، إلا أنه عدل. قال في سره، ما أفعله، وفعلته، ويفعله أولياء الله لا يعدو أن يكون كذلك، فما حدث، هو مصير ما سيحدث، حياتنا مقام، والأحداث فيها أبواب، تفضي بنا إليها، دون غيرها.

-طيب. لم تحدثيني عما جعلكن تبكين كلكن؟

-أمن الضروري يا مولانا، أن أخبرك بما تعلم؟

-لا يعلم الجهر وما يخفى سوى الأعلى الذي خلق وسوى.

كان يتحاشى النظر إليها، وكانت تتأمله متلهفة. أسمر اللون، مستطيل الوجه، مقوس الأنف، مكتنز الشفتين، كث الحاجبين، ماضي العينين أكحلهما، لحيته يتراوح لونها بين حمرة وسواد، عريض المنكبين، ينسدل على كتفيه شعر رأسه الأسود الغزير، طويل مستقيم القوام.

-والذي قدر فهدى.

أضاف. ثم قال في إلحاح، وقد لعن الشيطان الرجيم:

-لنفرغ من المسألة. ماذا يحدث لكن عند منتصف كل ليلة؟

-أنت يا مولانا.

-أنا؟ ما بي أنا.؟

-تقتحم على الواحدة منا فراشها، فتظل تأتيها، إلى أن تصرخ بأعلى ما تملك. »يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف«.

-وكيف علمتن أن من يفعل ذلك هو أنا؟

-نراك في الظلمة يا مولانا جسدا نورانيا، كما أنت الآن، بكل ما فيك، سوى أنك عار.

-سبحان الله العلي العظيم. هل تصدقن أنتن، أنني أتجزأ في الوقت الواحد إلى كل هؤلاء الرجال؟

-لا يمكن أن نشك في كرامة صاحب الكرامات.

-هكذا إذن. انصرفي وادخلي التي بعدك.

اقتربت منه، انحنت على كتفه، ظلت تقبله، وتستنشق رائحة شعره لحظات، ثم تأوهت وانصرفت طربة.

دخلت الثانية. جلست. اقتربت منه. حيته بتقبيل كتفه، ثم جلست.

-اكشفي عن وجهك يا أمة الله.

فتح فاه مشدوها. هي نفسها. عادت. هي كما كانت قبل لحظات. بيضاء مستديرة الوجه، عيناها كبيرتان شديدتا السواد،  هدباهما ينفرشان أسود على خديها، فمها صغير مستدير مكتنز، أنفها يضفي على ملامحها مسحة هرة أو لبؤة.

كتم دهشته، وقال في سره، لم أنتبه جيدا لنبرات صوت الأولى، وسأفعل مع هذه.

-تكلمي يا بنية.

-في ماذا يا مولانا الطاهر.

-فيما أنتن فيه.

-نحن في سعادة وهناء.

-هكذا إذن؟

هذا الصوت ليس غريبا علي، وهو صوت صاحبتها الأولى، وصت التي تتدخل فلا يسمعها سواي.

-ما اسمك؟

-أم مُتمِم.

-أنت أيضا؟

-كلنا يا مولانا الولي الطاهر.

-وهل من سبقتك أختك؟

-لقد آخيت بيننا يا مولانا.

وتذكر البُلغة التي كان حمدان قرمط يطعمها لأصحابه على أنها طعام الجنة، وهو يتلو عليهم، »واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم« ….

لم ينطق بذلك، لكن سمعها. نعم تتمتم وهي تخفض رأسها، تظهر الخجل:

-بُلغتك، أعذب من بلُغة حمدان قرمط.

-أنت أيضا، صرخت البارحة؟

-انطلقت منا جميعا صرخة واحدة يا مولانا في ذات اللحظة، دوّت لها جدران المقام.

-ولكن صرختك أنت كانت ضعيفة.

-هدني الأرق يا مولاي.

-انصرفي واطلبي لي التي تليك في الصف.

عندما انحنت على كتفه تتمسح عليه، انحنت وتناولت يده الكبيرة وراحت تلثمها.

لم يكن الولي الطاهر يرى أن أي حرج في ذلك، فمن الأمور العادية، أن يلثم مريد أي شيء في جسد أو ثوب وليه، أو يأكل فضلة من طعام تركها، أو أن يمتص عظما أو ظفر برتقال أو أي شيء من ذلكم القبيل، خلفه، أو حتى أن يقبِّل موطأ قدميه.

إذا لم يكن في الأمر شيطان، فتصورهن أنني آتيهن كل منتصف ليل، أمر جد طبيعي.

يتوحد الكائن في الكائن، كما يتوحد في خالق الكائن.

غير أنه سمعها، بدا له أنه سمعها، تقول وهي تبتعد عنه منصرفة:

-حييت يا مالك بن نويرة. يا فتى الفتيان.

دخلت الثالثة. حيث تلثم الشعر المنسدل على الكتفين، ثم استوت على الكرسي، قبالة الولي الطاهر.

-ارفعي اللثام، فلا تعمى الأبصار، إنما تعمى القلوب التي في الصدور.

-حاضر يا مولاي الطاهر.

نفس الصورة. نفس الملامح. نفس الرخمة التي في الصوت. نفس الجلسة. نفس الحركات. نفس الشعر الفاحم المنساب على الصدر البارز.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

-كيف حال أم مُتمم؟

-تتوق لمالك.

-لكنها لئيمة.

ربما كل ذنبها أنها قبلت سبي الإسلام، كما تقبل المسبيات عبودية الجاهلية.

-إنك حسنة الحديث.

ابتسمت. اهتز قلب الولي الطاهر. خفض بصره، لعن الشيطان الرجيم. تمتم:

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

-هذا ليس حديثي وحدي، إنما هو ما أجمعنا عليه الرأي.

 أم مُتْمِم كانت مصابة بعمى القلب، بعد أن أذهلها موت مالك، ووقوعها في أسر خالد، ولعلها كانت ترى في خالد مالكا.

-إنك حسنة الحديث. أما خطر ببالكن أن أم مُتْمِم، كانت على صلة سابقة بخالد بن الوليد؟

-كلا. وهذا ما أجمعنا عليه الرأي.

-اطلبي لي المقدم، وأنت تنصرفين.

قال له، دع البنات مصطفات، واطلب لي القناديز. من حضر منهم، بعضهم على كل حال.

جلس الطالب الأول قبالة الولي الطاهر، فبادره بالسؤال:

-ذكرني بما أسمتك به أمك.

-مالك بن نويرة.

-هكذا. مالك بن نويرة الجفول، دفعة واحدة.

-نعم يا مولاي.

-أولا تدري أنه مات مرتدا، على يد خالد بن الوليد؟

-نحن على رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة مالك بن نويرة.

-تقول نحن. أو كبرت إلى هذا الحد؟

لم يفهم الطالب أن الولي الطاهر يستنكر هذا التعظيم الذي استعمله في حضرته، لذا لم يشرح من يكون نحن هذا، إنه في الحقيقة المئتا طالب، وبعض الشيوخ ممن تناولوا المسألة مع القناديز.

-انصرف.

قال الولي الطاهر مستاءًا، ثم طلب الموالي. دخل. سلم مقبِّلا يد الولي الطاهر، وظل واقفا.

-اجلس، من أنت؟ ذكرنا باسمك.

-مالك بن نويرة.

-ما شاء الله.

لاحظ الولي الطاهر، أن الشاب كأنما لا يخرج الكلام من حلقه، إنما يفعل ذلك من موضع آخر، خارج عنه.

في الأمر سر. قد يكون وباء من نوع آخر، سلطه علينا أهل الكفر والشرك، وقد يكون سحرًا، أتاه ساحر، أو ساحرا في حالة تخف بيننا، ولربما، مسًا من جن الفيْفِ.

كل الإناث أم مُتْمِم. كل الذكور، مالك بن نويرة. أنا كذلك في نظر البنات، مالك بن نويرة.

بل قد أكونه، لعلها »حالة« من »الحالات«.

ولعله مالك بن نويرة الشاعر. سلم في امرأته ودينه وابنه أو أبنائه، وسلم في ثأره، وعاد إلى هذا الفَيْف، يسحر الفتيان والفتيات، فيجعلهم غاوين، يهيمون معه.

ستتضح المسألة في نهاية هذا التحقيق الذي أجريه، وسيتجلى ما إذا كان الخناس الوسواس، أو عفريت ماكر، المتسببين، وما إذا كان الفَيْف، غضب عنا لسبب أو لآخر، فأطلق مكنوناته، وحرضها على العبادربما لا تعدو المسألة كلها أن تكون حالة صوفية، بلغناها، بالصلاة والذكر والحضرات.

حينها سأعطي العهد والميثاق لكل من هم هاهنا، وأطلقهم في الأرض ولاة يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة، ويحاربون الوباء.

-لقد أرسلتم عريضة تشتكون فيها، من عدوان إحدى الأخوات المقيمات معنا، هل لك أن تقص عليّ، كيف يجري الأمر.

-انتهت المسألة بعد تدخلكم يا مولانا.

-كيف كان ذلك؟ عده علينا.

-بعد الحالة الأخيرة عند الزيتونة، اتخذ كل مالك بن نويرة منا، أم مُتْمِمه، والليلة الزفاف.

-الليلة الزفاف؟ أين؟

-في اليمامة. هذه إرادتك يا مولانا. ألم تقل إن أمة الإسلام في حاجة إلى مزيد من المسلمين، وأنه يُباهَى بنا يوم القيامة؟

-بلى.

كان دم الولي الطاهر قد بدأ يفور، وكان الغضب، يلتهب في داخله، نارا موقدة.

-انصرف واطلب لي المقدم.

-احضر لي الشيوخ، أو رئيسهم أو من تصادف منهم.

سلم رئيس الشيوخ المعلمين، مقبلا عمامة الولي الطاهر، وانتظر الإذن ليجلس.

-كيف أصبح مولانا، بعد رحلة البارحة؟

-بخير، من تراني اليوم. أ مالكا بن نويرة، أم خالدا بن الوليد، أم مُجّاعة بن مرارة.

-أرى القطب. نور الأنوار، سيدنا ومولانا الولي الطاهر.

-وما الذي أعمى بصائر الآخرين؟

-الوجد يا مولانا. حسنا فعلت يا مولانا عندما أمرت بأن يتزوج الشباب.

-أنا أمرت؟

سكت الشيخ، وأحنى رأسه يستعيد الصورة، كان الرعد يقصف، وكانت البروق تتقاطع تشق الظلمة، وكان الغيث يسح، وأصوات الآلات، تتسامى، نحو النجوم، بينما الحناجر تهتف:

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

والحلقة ترتفع عن الأرض وتنزل. كان الولي الطاهر ملفوفا بهالة من نور، في حالة الحالات.

عاري الرأس، عاري الجسم، شعره فائض، كأنه موجة سوداء وسط الهالة النورانية، التي تستره.

ارتفع على الأرض عدة أمتار. ظل هناك لحظات، ثم نزل هاتفا:

-زوجوهم. الطيبات للطيبين. لينكح كل ذكر منهم أنثاه. الطيبات للطيبين.

يا مالك بن نويرة. إنما أم مُتْمِم حرمك. إنما أم مُتْمِم حرمك.

-والزفاف الليلة. وليس في هذا المقام يا مولانا ما عدانا سوى مالك بن نويرة، وأم مُتْمِم. إنها إرادتك كما أشرقت.

-قلت ما عدانا؟ منا هذه؟

-مولانا الولي الطاهر، وسيدي المقدم، والعبد الضعيف.

-وباقي الشيوخ؟

-وضعيتهم، بين بين. تارة، يقول الواحد منهم إنه مالك بن نويرة، وإنه سينكح البنت الزائدة عن المائتين، وتارة يقول إنه مجاعة بن مرارة، وإن البنت الزائدة ابنته، وأنه سيزوجها لا محالة لخالد بن الوليد. وإذا ما سئل عمن يكون خالد بن الوليد، قال إنه مولانا الولي الطاهر الذي سينكح أيضا أم مُتْمِم.

هذه هي الحالة كما تتمثل في الفَيْف يا مولانا، وكما كانت دائما تتجلى لأولياء الله.

-وهل تعرفتم على البنت الزائدة كما تقولون؟

-ومن لا يعرفها من المقيمين بالمقام الزكي. لقد زارتنا كلنا، كما سبق وأن أطلعنا جناب مقامكم، وطلبت منا أن نطلب يدها منكم. غير أن ما يعقب زيارتها للواحد منا هو شيء كالوباء الذي هربنا منه، لعله السبهللة.

-السبهللة؟ !

-لم أجد اسما لـ»الحالة« سوى السبهللة.

-وما هي السبهللة هذه؟

-تسمية من عندي لحالة صوفية كاذبة، تجعل الدجال يذهل عن نفسه وعن ربه، فلا هو بالنائم ولا هو باليقظ.

-حالة أم مُتْمِم، عندما كانت رأس مالك، تلتهب أثفية لقدر وضعته بيدها لتعشي خالدا.

لاحظ الشيخ إزروراقا يكسو لون الولي الطاهر، فأدرك أنه في حالة إنسية صاحية، قد تترج إلى حالة غضب صوفي، لا تعلم عقبا. لقد هد التعب مولانا البارحة، وكان المفروض أن يصعد إلى خلوته، يستريح بالذكر والصلاة.

يعسر على المرء أن يعيش الحالة في الحالة وفي الصحو.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

قال، واستأذن الولي الطاهر، يسأله:

-هل لمولانا ما يأمر به؟

-ليدخل علي المقدم.

-أمر سيدي.

-من أنت؟

-كما أرادت إشراقة مولاي. العبد الضعيف خادم القطب الرباني، سيدي الولي الطاهر.

-أدخل علي سجاحا.

-نعم مولاي؟ !

-قف جانبا، واطلب بصوت آمر قاطع. أن تتقدم منك أم مُتْمِم، فمن تتأخر ولا تستجيب للأمر، إيتني بها.

-وإن استجبن كلهن يا مولانا؟

-حتى وإن استجابت فستتأخر في مشيها. تكون آخر من يستجيب. ستفاجأ.

واجه المقدم الصف الطويل، وبعد أن تأمل المصطفات قليلا، مستغربا كيف يكونن، كأنهن واحدة. نفس القامة، نفس الأعين البراقة نفس الجلباب الذي يغطيهن، نفس الأحذية التي في أقدامهن. لأول مرة يراهن مجتمعات في هذه الوضعية، ولو أنه يعرف واحدة منهن. لقد سبهللته، كم من مرة.

-اسمعن يا أخوات. الولي الطاهر، مولانا، يطلب أم مُتْمِم، فمن كانت منكن هي تتقدم.

أسرعن، المائتان، يخطون في الرمل، وإثبات، سطرا واحدا انتقل من هنا إلى هناك.

-أنت، يا من تخلفت عن الجمع. تعالي. مولانا يريدك بالذات.

أولجها الباب، واغلق عنها. كما أمر الولي الطاهر.

لم تنتظر أن يؤذن لها لا بالسفور ولا بالجلوس، كانت هي هي. لكن تمضغ علكة، في وقاحة بينة.

-الأخريات نائمات؟

-وأين تريدهن أن يكن؟ كيف توصلت إلى الجوهر بعد أن غمرتُك بالعرض؟

-سبحان الذي يعلم الجهر وما يخفى. لقد سعيتِ من أول يوم إلى لقائي، فها أنك هنا، فماذا تريدين؟

-أريد، أن أعيش معك حالة وأن تمنحني ولدا يكون، »كل الناس«.

-أي ناس؟

-الذين حملني التلفاز إليك من عندهم. كل الناس. صينيون، أمريكان، هنود، ألمان، فرنسيس، مسلمون، مسيحيون، يهود، هندوك، عبدة شمس وأوثان.

-ولماذا اخترتني أنا بالذات؟

-للصفة التي تتمتع بها، فأنت، قطب حقيقي، من خلال مخك وخلاياه، تستطيع استقطاب كل تلفزات العالم، وكل الأقمار الفضائية التي تسبح في السماء. ولربما نتصل بكواكب وعوالم أخرى، أنت مثلي يا مولاي الولي الطاهر. والذين أرسلوني إليك يريدون ملء هذا الفَيْف، بنسل خاص، واعلم أنهم ظلوا يرصدونك عدة قرون، من بعد ما ألقوا القبض علي.

-وهل يكفي ولد واحد؟

-نعيد حكاية أمنا حواء وأبينا آدم. ثم إننا نستطيع أن نصب العرض في الجوهر، فيكون مائتين وواحدا، ومائتين وواحدة.

سيدي ومولاي. تعلم، أنه لا يوجد في هذا الفَيْف غير الجوهر، أنا وأنت، وماعدا ذلك من قناديز وأخوات، ومقدم وشيوخ، عرض من صنعي عندما أريد، ومن صنعك عندما تريد.

حبيبي. مولاي الحبيب.

هذا الفَيْف، ليس سوى حالة، عشتها، فأنزلتني من السماء، ولا مهرب لك من أن تعمره. هذا الفَيْف. نعمره بالجوهر وبالعرض.

كانت مستغرقة تعلك كالنعجة ما في فمها، وتلقي بين الحين والآخر قطعة من ثيابها، كأنما هي في إحدى غرف منزلها، بينما الولي الطاهر، يتأملها، ويقرأ ما يجول في خاطرها مما تريد أن تقوله.

ألقت عليه نظرة، فبان لها شابا يافعا، على رأسه »شماغ« أبيض وعقال أسود، لحيته تنحدر من اليمين كراء، ومن اليسار كراء أيضا لكنها مقلوبة. الراءان يلتقيان عند نقطة كبيرة في حجم الذقن. أنفه مقعوف، وحاجباه كعينيه يشعان بالسواد. عليه بذلة إفرنجية، داكنة اللون، وفي قدميه حذاء يشع بالسواد بدوره.

تأملها الولي الطاهر مليا، وقرر في داخله، أن نقطة ضعف هذه المرأة أنها كباقي النساء لا تستطيع أن تتخلص من عادة الإفصاح عما في نفسها، فتصغي لغيرها. وترى الجوهر كما هو لا كما يحلو لها أن تصنعه. وأنه لن يتمكن من هزمها عندما تنشب المعركة الفاصلة إلا بهذا السلاح.

كانت شبه عارية، طرحت جلبابها، ثم قميصا حريريا ورديا، ثم سروال جينز بعضه مبيض وبعضه يحتفظ بزرقته الدكناء، وقذفت بحذائها ذي الكعب العالي، بعيدا عنها غير مبالية بموقعه.

ازداد لون وجه الولي الطاهر زرقة، فكان يبدو من تحت العمامة البيضاء المستديرة، كبقية خشبة محترقة.

قرر أن يبدأ المعركة.

هذا المقام الزكي لن يتطهر إلا إذا تخلص من هذه الجنية. نعم جنية، وإلا كيف تزعم الولاية، ثم تزعم النزول من السماء، ثم تطلب القضاء على المسلمين وأهل الكتاب وباقي الأمم، بإنجاب نسل جديد، فيه كل الناس، وليس أي ناس. ما الذي ضرها أن يبقى الناس على ما هم عليه، ناسا.

رفع بصره تجاهها، فسمعها تفكر، موجهة الخطاب إليه:

إنما يا مولانا، أنت بدورك، تتوق إلى نسل جديد، محصن ضد الوباء، ينشأ على إسلام صاف، ويتحول إلى جيش تغزو به العالم، فاتحا للبلاد مجبرا العباد على الدخول في الإسلام.

من هنا أو هنالك، تلتقي رغبتنا يا مولاي، أيها القطب الرباني.

ولكن الدين عند الله الإسلام.

ومن أدراك أن النسل »كل الناس« الذي ننجبه، لا يهتدي إلى الحقيقة، فيتبع الإسلام؟

هكذا يغوي الشيطان بن آدم. لكن مع ذلك، فلتجب على هذا السؤال: ماذا يكون مصير من أرسلوكِ عندما تمتلئ الدنيا بكل الناس؟

إنهم صاروا كل الناس بعدُ يا مولاي، ففي اللحظة الواحدة، وقبل أن تعيد طرفك إليك، تكون من خلال الأقمار التي تجوب الفضاء، حيثما شئت. تبيع وتشتري، وتعالج، وتقرأ وتتخرج.

يأتينهم السلطان شيئا فشيئا، وكل يوم ينفذون من أعماق السماء مبتعدين قليلا.

اغمض عينيك يا مولاي، وسأحملك معي من خلال التلفاز، إلى مختلف بقاع العالم.

افعل يا مولاي.

لعلها مكيدة من المكائد التي تسلحت بها، لتغويني.

لم يشأ أن يفعل ما رجته أن يفعله، لكن راح ينظر من خلالها إلى الناس والكائنات في مختلف أصقاع الأرض، بل هاهي النجوم في المتناول، هاهي الزهراء، وهاهو عطارد، وهاهي العقرب. القمر تحت قدمي، والمشتري والمريخ، في متناول بصري.

من هنا، من بين أمواج فضائية، أراهم يطلون على رحم امرأة ويقررون أن ما بباطنه، ذكرا، وأنه يعاني علة في القلب، ويجب إجراء عملية عليه قبل أن يستفحل المرض. هاهم يبيعون آبار بترول، ويشترون مناجم ذهب وحديد، وأورانيوم. البلدان. البلدان قاطبة في المزاد.

الإنسان، بعض الإنسان، بعض الناس، وليس كل الناس كما تقول سجاح، يكتسب صفة الجن والكائنات النورانية، ولا شك أنه محرج ببعضه الآخر، في المناطق التي لم تكتسب المهارات بعد.

وهاهو يسعى لنسل جديد.

-أولا يا مولانا الطاهر، أنا لست سجاحا، ولا أم مُتْمِم، ولا أية امرأة أخرى غيري. وثانيا يا مولانا الطاهر، النسل الذي أنجبه وإياك، هو نسل يخص هذه المنطقة فقط. هذا الفَيْف، وهذه الفيافي التي لم يتجرأ أحد منها، فيصعد أو على الأقل يحاول صعود قمم هملايا، أو الألب، كما لم يتجرأ واحد منها، ليسبر، كهفا مائيا، ليعرف ما هنالك، أو أن يفتح آلة، فيرى كيف صنعت فينشأ مثيلة لها، لا يهم بقايا الإنسان هنا يا مولاي الطاهر، سوى أن يخاف.

يخاف من الماضي.

يخاف من الحاضر.

يخاف من المستقبل.

يخاف على كل شيء ما عدا على نفسه.

هيا يا مولاي. هيا.

هيت لك.

أستغفر الله العلي العظيم. أستغفر الله. يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

هيت لك.

توقفي يا سجاح.

انتصب الولي الطاهر، بينما هي تتقدم منه شبه عارية، بضة، رشيقة، لطيفة، ينبعث منها السحر، موجات من نور.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

ومما تخاف يا مولاي.

مما أخاف؟ سأل الولي الطاهر أيضا نفسه. فاكهة وهبها المولى، أمد يدي إليها أقطفها، وهذا كل ما في الأمر. فلم الخوف؟

ربما فكر آدم هكذا. بدأته الغواية، من هذا الجانب فيه، جانب تأجيل حسرته وأسفه والاعتذار إلى وقت آخر.

تجول في خاطر الولي الطاهر الأفكار والآراء سريعة سريعة، بينما المرأة تزداد بهاء، ورونقا، وإغراء، واشتهاء

مولاي. مقامك الزكي هذا، بطوابقه السبعة، خال إلا مني ومنك. أنت في الخلوة تصلي، وأنا في الفضاءات أحلم بك، وها أنني عثرت عليك، فكيف تريد أن نفلت من بعضنا.

تريد بي شرا يا مولاي، أقرأ ذلك في كل حركاتك وسكناتك، وفي لون وجهك الذي ما فتئ يزرورق. قلت لك، إنني لست النبية الكاذبة سجاح، كما أنك لست مسيلمة.

لو أنني متأكد مما تقولين أيها الجنية، لتزوجتك على بركة الله.

مولاي. قالت متأوهة.

هل لك اسم يا أمة الله؟

بلارة. بلارة ابنة الملك تميم بن المعز، زوجة الناصر بن عَلَنَّاس بن حماد الذي سرت إليه في عسكر من المهدية حتى قلعة بني حماد تصحبني من الحلي والجهاز ما لا يحد، أمهرني الناصر بأربعين ألف دينار. أخذ منها أبي دينارا واحدا وأعاد إليه البقية.

ابتنى لي قصرا منيفا سماه باسمي، هذا ما أن يقوم قصر في أي برَّ كان إلا وكنت سيدته الأولى والأخيرة.

أنزل من السماء فاتخذ موقعي.

كنت يا مولاي الولي الطاهر، كابنة مُجّاعة، قبلت عن طيب خاطر الزواج من الناصر »تربة العز«، لا لكونه سلطانا قوي النفوذ أذل كل متمرد، إنما لأقي قومي، شر الحرب وويلاتها.

أغثني أيها المغيث، قبل أن يعيدوني.

كاد الولي الطاهر يلين، فقد بدأ ينزع ثيابه. رمى العمامة المستديرة جانبا، وتخلص من الجبة، وانفرجت عيناه وشفتاه، منذهلا مشدوها.

ارتمت في أحضانه، تراءت له أم مُتْمِم، تضع القدر على رأس زوجها، تراءت له سجاحا، تختلي بمسيلمة، فتمنحه نبوَّتها، ثم تحاربه. تذكر المائتي بنت المسحورات اللائي، تنفي بلارة هذه وجودهن ووجود غيرهن، تذكر زفاف الليلة الذي أمر به.

غضة لدنة دافئة دفاقة كانت بلارة بين يديه.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

قال وأمسكها بقوة من كتفيها، يدفعها إلى الخلف، محدقا في وجهها الذي اعتلته الحمرة، فازداد بهاء وروعة.

الآن أعرف ما إذا كنت إنسية أم لا.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى البحث عني فلا تعثر علي حتى وإن كنت تحت قدمك.

الآن أعرف ما إذا كنت إنسية أم لا.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ينمحي مخزون رأسك ولا تستعيده إلا بعد قرون، فيعود إليك قطرة فقطرة ونقطة فنقطة. تجوب الفيْف هذا مئات السنين، فلا تعثر على طريقك، ويوم تعثر عنه، تبدأ من البداية.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى خوض غمار الحروب، فتشارك في حروب جرت، وفي حروب تجري، وفي حروب ستجري، إلى جانب قوم تعرفهم، وقوم لا تعرفهم ولا تفقه لسانهم، ولا تدري لماذا يحاربون.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى حز الرؤوس وخنق الأطفال والعجائز والعجزة، وحرق الأحياء.

تموت ألف ميتة وميتة، ويسقي دمك، كل صقع رفع فيه الآذان، وفي كل عودة لك تعاودك بلوى البحث عني من جديد دون أن تدري عم تبحث.

رأت الشر في عينيه. تخلصت منه وراحت تركض في الغرفة التي كانت تتسع كلما جرت.

صارت ساحة فسيحة لا يحدها البصر، مفروشة بزربية خضراء، ونسدل على نوافذها الكبيرة أسترة باهتة الصفرة، وينسدل من سقفها الأزرق أنوار أرجوانية تتشابك دوائر دوائر.

تمكن منها أخيرا، هتفت مرعبة:

-اقتلني خنقا يا مولاي وإياك وسفك دمي.

-وهل لك دم يا ابنة النار؟

بلغ الغضب ذراه، فتراجع كل تردد. صعق.

امتدت يداه معا فسلتا قرطين من أذنيها، وسال الدم على عنقها الطويل الرفيع.

تأوهت متألمة. ظلت لحظات تتأوه ثم راحت كلما أشهقت متأوهة تختفي في ضباب رمادي، إلى أن غابت نهائيا.

في البداية كان الإقلاع

استيقظ الولي الطاهر بعد وقت لا أحد يعلم مداه، ليجد نفسه تحت جدار القصر.

التفت يمينا، شمالا، فلم يقابله سوى الفَيْف، والأتان التي كانت أمامه، تتلهى بحشيش أخضر.

مسح يديه بالرمل من الدم الذي كان عالقا بهما والذي لا يدري مصدره ولا يهتم بمعرفته. ثم امتطى الأتان متمتما »يا خيل الله اركبي«، ولم ينتبه لا إلى لونها ولا إلى الدم الذي كان يسيل من أذنيها.

-أواصل سبيلي، فقد يكون المقام الزكي قريبا من هنا.

قال، وكأنما يمتثل لأوامر مسطرة يحفظها عن ظهر قلب أو اعتاد تنفيذها.

أعود إلى المقام الزكي، هذا كل ما كان في باله، ولو أنه يشعر برغبة عارمة، في أن يعثر على شيء آخر يهمه كثيرا.

ما هو؟ إنه لا يدريه، ولكن يحس بأنه مشوق، وأنه في حاجة ماسة إليه، ليتمم شيئا ما فيه ينقصه. أشبه ما يكون بظمآن ارتوى لتوه ماء زلالا، لكن العطش ما يزال يشتد به.

لعلها الروح تخفق، توقا، لشيء منها، وقع، في هذا الفَيْف.

كانت الأتان تخب، دونما مقصد، وهو يحثها، بـ»نبش« متواصل، في عجالة من أمره.

*   *  *

توقفت العضباء قبالة القصر الرابع، الواقع يسار المقام الزكي بربع دائرة، رفعت أذنيها، فتشكل المقصان المتوثبان للقطع.

لم يكن هناك متسع من الوقت، ليؤدي الولي الطاهر التحية للمقام بصلاة ركعتين، فقد هزته الصرخات من الداخل، مقرونة بدوي انفجارات قنابل مختلفة الأنواع والأصوات.

كانت الصرخات منبعثة من نساء ومن أطفال ومن رجال م مختلف الأعمار كما يبدو.

أخذته رعشة، واعترته حمى، وداهمته غمى، فكبَّر وشمر على ذراعيه، وارتمى يخوض أوار مجزرة، ملتهبة.

*   *  *

مدينة الجزائر، تبدو من بعيد، نورا يتوهج نحو الأعلى، ولا أحد يعلم عما تنام عليه من نواقض الوضوء، ومن تدابير عاصفة.

من فوق تبدو ملهى كبيرا من ملاهي تايوان، لكنه خاو، خاو إلا من سرادق لفرقة موسيقية تأبى الظهور، ومن راقصين وراقصات غلبهم النوم.

لكنها، في العمق وفي أسفل الملهى الكبير، هي كهف مدلهم، لا آخر لطوله، ولا نهاية لعرضه، تملأه الدواب من كل نوع ومن كل حجم.

بعضها ديناصورات.

بعضها تماسيح.

بعضها ثعالب.

بعضها ضفادع وقمل.

بعضها يقضم آيدي بعضه.

بعضها، يقضم أرجل بعضه.

بعضها، ينهش صدور أو بطون أو أرحام بعضه.

يتحركون في الظلمة الحالكة، بسرعة الخفافيش، ويأتون كل ما يريدون دونما صعوبة تذكر.

يزحفون حتى يصلوا ما يبدو لهم أنه منتهى النفق، ثم ينقلبون.

بعضهم يذهب يمينا.

بعضهم يذهب شمالا.

بعضهم يرتد إلى الخلف.

بعضهم يظل يراوح في مكانه، يلتف على نفسه وعلى من حوله.

بينما هناك، جنب أولاد علال، في »الرايس« خارج النفق، ولكن في ظلمة لا تشقها سوى، رصاصات محمرة، تخيط الفضاء، أو لهيب منبعث في منزل من المنازل، أو نار عقبت انفجار قارورة ملآى بالبنزين والمسامير، والحصى.

وجدت نفسي، مضطرا لإصدار الأوامر، فرحت أفعل دونما تردد.

لم أكن أعرف القوم، لكن يكفي أنهم كانوا يشنون حربا.

ضعوا حول كل شجرة برتقالٍ عدة ألغام.

مَوَّهوا، فقد يسلكون سبيلا، غير متوقع، دعوا جزءا هاما من الطريق غير ملغم، ثم ازرعوها، خاصة على الأطراف، حيث سيتوزعون مفرنقعين حين يصيبهم غضب الله.

المدخل الرئيسي لغَّموه، واكمنوا حوله. كل من يقدم، اصلوه نارا. المنافذ الأخرى للحي، سدوها بكل الوسائل، لا داخل ولا خارج.

ولا حي في الحي.

توزعوا على كل بيت، ولا تبقوا لا على من »جرت عليه الموسى«، ولا من لم تجر عليه، من حاضت ومن لم تحض، عدا من يعنُّ لكم سبيهن وما  غنمتم من شيء فله خمسه.

ضربت الباب الحديدي الذي كان شديد الانغلاق. لم ينفتح. كان أهل الدار يتصايحون في الداخل. انفتحت نافذة. أبصرته من فتحتها، كان يطل وفي يده قارورة، أدركت في الحين ما هي، صوبت نحوه »الكلاش«. أنَّ وأطلق القنينية.

كنت قد أسرعت إلى الوراء، فلم يؤثر انفجارها سوى في الباب، الذي اهتز مبتعدا عن الحائط.

كبرت ثلاثا، واقتحمت. كانوا قد تجمعوا في غرفة واحدة، على ما يبدو، لكن للحيطة، أمرت من معي من المحاربين، بخلع أبواب الغرف الأخرى. في الطوابق الثلاث.

كانت المناحة قائمة على أشدها في الداخل، ربما بسبب الميت، وربما خوفا مما ينتظر.

أعرف المنزل ومن فيه، فقد كان مأوى لنا عدة سنوات صاحبه شاب يتاجر بين الداخل والخارج، في رحلات الصيف والشتاء والربيع والخريف وكل شهر وكل أسبوع نحو إيطاليا وتركيا وبريطانيا وبعض بلدان جنوب آسيا. تجارته، ورأسماله وبيعه وشراؤه يقومان على أموالنا، وقد كان لنا طيلة سنوات نعم السند والمعين، فأمدنا بكل ما نحتاج إليه، واستجلب لنا من مالطة كميات هائلة من السلاح والذخيرة، ووسائل الاتصال. أضاف إلى الطابق الأرضي الذي خلفه أبوه طابقين، وصاهر صاحب مصنع كان سندا لنا هو الآخر، وقتا طويلا.

منذ أشهر بدأت الشكوك تحوم، حول كل امرئ، حول كل حي، حول كل قرية ومدينة، حول بعضنا.

بدأت المواقع تهتز، بسبب ودونما سبب.

توجب إعادة رسم خريطة الحركة والناس، والأحياء وحتى الزمن.

ينبغي المراهنة على الرعب. أما أن يأتوا وإما أن لا يأتوا فيأتي غيرهم. إما أن تنفتح، وإما أن تنغلق.

-إذا لم تفتحوا الباب ألهبنا فيكم النار. لقد صببنا البنزين.

انفتح الباب. كانت جثة الرجل مسجاة في الوسط مضرجة بالدم. على اليمين، تلتصق عجوز مولية وجهها إلى الجدار. ما أن بانت، حتى انصب فيها سيل من الوصال. هناك في الزاوية، تحت مائدة عليها غطاء أصفر، يتخفى طفل في السابعة من عمره.

-اخرج، تعال.

ارتفعت صرخته:

-أمي. أمي.أبي.

هوى الفأس على المائدة وعلى من تحتها. انفجر الدم في كل مكان، في الزاوية الأخرى تنكفئ على نفسها امرأة في الثلاثين، في حضنها رضيع، تبذل قصارى جهدها، أن لا يلفت الانتباه إليه، لكنه، خانها. هوى الساطور يقسم الرأس المغطى بمنديل برتقالي اللون، وقع الطفل في الأرض. امتدت قدم تدوسه.

فار الدم. صارت الجدران تتراقص. صار السقف يهرب ويولي. اختلطت صرخات الجميع، المرعَبون، والمهاجمون.

انطفأ كل شيء. توقفت الحياة في هذا المنزل. خرجنا محمومين. كان الحي كله منزلا واحدا، وكنا نصول ونجول فيه.

المنزل الموالي، يتخذ هيئة المهجور. الأنوار منطفئة، والنوافذ مفتوحة، وليس هناك سوى أثاث ثانوي جدا.

فتشنا كل الغرف. نقبنا في كل الزوايا. لا أثر للحياة هاهنا، لكنّ أنوفنا كانت تشتم رائحة بشر غير بعيد منا. بشر ماكر داهية يواجهنا بخبث ولؤم.

كنا نعرف أن صاحب هذا البيت، ممن »أنعم« الله عليهم بغير حساب. عضو منظمة من يزعمون أنهم مجاهدون، ابنه عضو منظمة أبناء »المجاهدين« ربيبه، عضو منظمة أولاد من ينعتونهم بالـ»شهداء«.

التقرير الذي لحقنا، لا يتحدث عن غياب متكرر لأصحاب هذا المنزل، فأين ذهبوا؟

كان أصحاب المنزل، قد استعدوا لمثل هذه الوضعيات، فأقاموا مخبًا تحته، ينفذون إليه من الحديقة كل ليلة حالما يهبط الظلام، يتنفسون من أنابيب، مبثوثة بحيث لا تلفت نظر أحد.

-نستطيع أن نتخفى هنا عشرة أيام على الأقل، قال صاحب المنزل لأفراد أسرته الذين كانوا يلحون عليه في الرحيل والانتقال إلى العاصمة ككثير من أثرياء الحي. المخبأ مزود بالهاتف، وستأتينا النجدة، حال طلبها، وسنطلبها، حال ظهور أية بوادر شر، لا قدر الله.

لكن ليلتها، انقطعت الحرارة من كل هاتف. قطعت الأعمدة الخشبية في كل محيط الحي، كما نسفت محولات الكهرباء.

-نعلم أنك هنا، يا محمد ين قدور السطايفي. أعدُّ إلى عشر، فإن لم تمتثلوا، »قضى الله أمرا كان مفعولا«.

واحد. اثنان. ثلاثة. سبعة. تسعة.

لن أكمل العشرة. نار. نار.

لم يكمل أمره، حتى انبعث دوي الألغام المزروعة جيدا في كل موضع، بحيث يمكنها هدَّ المنزل. كان الدوي قويا، إذ كان لانفجار، عشرة قضبان مربوطة بسلك يوصل إلى مفجر يُتحكّم فيه عن بعد.

هوى المنزل بطوابقه الثلاثة، وهوت معظم جدران المنازل القريبة منه أو المحاذية له. ارتفع البنيان إلى فوق، ثم راح يهوي.

بعضه عاد إلى الحديقة أو إلى الشارع الضيق، بعضه، انتشر يمينا، بعضه شمالا.

الاستغاثات تتعالى في كل شبر، من حي الرايس، والانفجارات تتوالى. والدخان يصاعد مع الغبار، وأنفاس الجميع تضيق.

-اخرجوا الجميع، نساء ورجالا إلى الشارع. الذكور ينبطحون على بطونهم، أما السبايا، فعلى ظهورهن.

نفذ الأمر بسرعة.

كان الصف، يمتد على مرمى البصر. كلما أوقد أحدنا نور مصباحه، ظهرت هياكل منبطحة ممتدة.

فريق يشرع في العمل من هذا الجانب من الشارع، وفريق من الجانب الآخر، في كل عشرين مترا، يقوم فريق.

لا حي في الحي، سوى من يتقرر سبيها.

-لا إلاهَ إلا الله. أشهد أن لا إلاَه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-أنا مسلم أصلي وأصوم وأحفظ فرجي وعرضي.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-يا إخوتي. يا إخوتي.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-يا أبي. يا إلاهي. يا أمي. يا خويا قدور.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-يا العسكر. يا الحكومة.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-أنا معكم، معكم منذ البداية، ولم أخن. لم أش بكم. لم أش بأحد. اعفوني وسترون.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-لا أنبت الله لكم زرعا، ولا درّ لكم ضرع، يا أولاد الخونة، يا لقطاء عسكر فرنسا. أنا امرأة ولكن لا أخافكم ولا أخاف سواطيركم، أو بنادقكم، أو فؤوسكم. اقتلوا. اقتلوا النساء والأطفال والعجزة والمرضى.

تلحقكم جهنم، وتستقبلكم جهنم.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-رضعة واحدة واحدة فقط لوليدي. اسمعوا إنه يصرخ عطشان. رضعة واحدة يا مؤمنين، وافعلوا بي بعدها ما تشاؤون. رض

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-إذا كنتم حكومة أنا مع الحكومة. إذا كنتم »جيا« أنا مع »جيا«، إذا كنتم فرنسا أنا مع فرنسا، إذا كنتم مسلمين، أنا مع المسلمين. إذا كنتم نصارى أنا مع النصارى. جربوني وسترون.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

-يا أولياء الله. يا سيدي التيجاني. يا سيدي عبد الرحمان. يا سيدي الغماري. الغيث. الغيث. مسلَّمون ومكتَّفون يا أسيادنا يا أولياء الله الصالحين.

يهوي الساطور. يتدفق الدم. يتطاير الرأس.

نهض شاب لم يبلغ العشرين. وقف في الظلمة، رفع رأسه وراح ينادي بأعلى صوته:

-يا أولاد الرايس، يا أولاد ولاد علاَّل، يا أولاد الجزائر، يا أولاد العرب والمسلمين. هبوا لقتل الخوف.

بمبببم.

طارده أحدنا بمنجل يريد حذم رأسه، لكنه حاول الهرب، فانطلقت، الكلاش.

-يا أولا.بم ببببمم.

هوى. ترنح قبل أن يهوي. هوى.

*   *  *

أخذتني رعشة، واعترتني حمى، وداهمتني غمَّى، فكَّبرت وشمرت على ذراعي، وارتميت خلف بقايا جدران، واقعة، انبطحت على بطني، وواجهت الميدان.

ما يزيد عن أربعمائة جثة مسجاة هنا وهنالك. كومة من الرؤوس مكدسة، وسط الشارع الضيق، مجموعة من الفتيات، مقيدات، يقتدن نحو حافلة ترسل نورا خافتا، إلى جانب الحافلة، بضع شاحنات، يجري شحنها بأكياس وصناديق، وتلفزات، ومراوح كهربية، ودجاجات، وأبقار.

يلتف أربعة أو خمسة حول البقرة أو الثور. يهجمون عليه، يطيحون به، يكبرون ثم يلقون به ككيس فوق الشاحنة.

ارتأى عجل أن يفر. اعترضه أحدهم. حاول إيقافه، لكنه فلت منه.

بمبببم.

هوى العجل.

أحسست لحظتها، أنني خرجت من واد غزير الماء قوي السيلان، من وسط كرّ وفر، بين قوم يتشابهون في ألبستهم وفي لحاهم وفي رائحة العطر التي تعبق منهم.

كان علي، أن أتدخل.

ضغطت على زناد المدفع الرشاش الذي كان بين أحضاني، فراح يهمهم متوثبا في حمية وصرامة.

-خيانة. غدر. الانسحاب زحفا.

ظل المدفع الرشاش يهمهم، وظللت أغير مواقعي.

ولت الحافلة والشاحنات الأدبار. سارت خلفا، عشرات الأمتار، ثم بعد حركات تقدم وتأخر، انطلقت في البهمة، ونزل الصمت والسكون، عدا بعض أنات تبلغني من هنا أو هناك، أو بعض همهمات، من مدفعي.

قررت أن لا أنسحب حتى تنجلي المعركة. فالذين انسحبوا، لم يفكروا في انتشال جثث موتاهم، وأكيد أنهم سيعودون.

لكن النهار كان قد بدأ يحل. وهاهو الدخان، يتشكل قبابا سوداء، تصَّاعد ملتوية إلى فوق، تنبعث منها روائح لا أحد يستطيع تمييزها.

بعضها لتبن.

بعضها لتوابل.

بعضها لصوف.

بعضها للحم يشوى.

بعضها لشحم وشعر يحترقان.

سويت وضعي في موقع محصن، ورحت أنتظر بقية المعركة، في تأهب تام.

انبعث أزيز محركات عتاد عسكري بيِّن، بعضه شاحنات. بعضه دبابات، بعضه مجنزرات.

كانت كاسحات الألغام على ما يبدو في المقدمة، فقد كان دوي الألغام ينبعث بين لحظة وأخرى، وكلما دوَّى تواصل اقتراب الضجيج.

من يكون هؤلاء؟

تساءلت، ولكنْ صممت على أن لا أتخلى عن ساحة الوغى.

تلوى الدخان تحت عصف رياشات الطائرات المروحية، وراح يشكل عاصفة سوداء صامتة.

اقتربت إحداها من موقعي. واجهتها. تتبعتها بالمدفع. الرشاش، وبإحدى عيني، بينما الثانية مغمضة. التقى المؤشر في رأس المدفع، وخزان البنزين. ضغطت على الزناد. همهمت السوداء. التهبت النار في الطائرة، ارتفعت منفزعة، دوَّى انفجارها. تشظت في السماء الصباحية الرمادية. ولت باقي الطائرات الأدبار.

لكنها ستعود يقينا.

ستعود بعد أن تتدبر أمرها، فيما يتوجب عليها وما يتوجب على غيرها فعله.

توقف الزحف. همدت حركة الآليات العسكرية. بالتأكيد، أنها كانت تتبادل المشاورات، والاتصالات العليا والسفلى، وسيتقرر عاجلا الأمر.

حامت خمس مروحيات على علو شاهق، فوق المنطقة. كانت أبعد من مدى مدفعي الرشاش، لهذا لم أعرها كبير اهتمام. فجأة شق صاروخ من بُعد ميل عني أو يزيد، الفضاء وراح يطارد إحداها التي شعرت بالخطر، فراحت تواجهه. ارتفعت. نزلت. علت انخفضت. تيمنت. تيسرت. انقلبت على ظهرها تبعد حرارة المحرك على ما يبدو.

طالها. طالها. دس أنفه في صدرها. اندس في ثناياها فلم يكن لها بدٌّ من الاستسلام.

قفز طيارها، واثنان معه، قبل الالتحام، ودوي الانفجار وانبعاث الدخان الأزرق.

لست وحدي في المعركة. بالتأكيد. بالتأكيد. لكن من معي؟ مع من أحارب، ثم من أحارب أنا؟ ولي الله الطاهر الذي خرجت، عائدا إلى مقامي الزكي، تدفعني رغبة غامضة إلى الحث في العودة واللحاق بشيء ما لا أدريه.

تحرك أزيز الآليات العسكرية من جديد. استويت في موقعي، وتمنيت لو تتاح لي فرصة أداء ركعتين. لفت انتباهي عندما سطعت الشمس، فوق برك الدماء المخضوضرة، والجثث الملقاة كأنها أكياس قمامة بعثرها قطيع من الكلاب الضالة. والرؤوس المكومة أو المتناثرة، بعض عيونها، مشرعة، تحدق في الشمس دونما مبالاة. لفت انتباهي، كلب وقطة وحمامة بنية.

كان الكلب قزميا كث الشعر الأسود، ممتلئا. انبثق من تحت بقايا باب واقع، كما صادف، وراح يبحث عن شيء ما.

لف حول الرؤوس، واحدا واحدا، ثم راح يتشمم الجثث.

أرسل عواء موجعا، عندما تعرف على واحدة منها على ما يبدو، ثم اقترب منها وتمدد جنبها. بعد لحظة تقدم مطأطأ الرأس من رأس، أنَّ ثم راح يجر من الشعر، حتى أوصله إلى الجثة معلنا أن هاتين القطعتين تساويان قبل ساعات قلائل صاحبه.

كانت الجثة لطفلة في العاشرة بالتقريب، عليها منامة بيضاء يبقعها دم فاقع الحمرة.

خرجت القطة من بين الركام، تسير بحذر بالغ، وتشمم ما حولها. قطعت الشارع من أوله إلى آخره، بنفس الخطوات المترددة، ثم عادت مسرعة، إلى جثة معينة، ارتمت فوقها. استلقت وراحت تغتسل بلسانها كما يفعل كل قط، عندما تدفئه شمس الصباح.

الحمامة طافت حول كيس قمح مبعثر. اعتلت الكيس، وأطلقت تغريدة حزينة، كأنما هي تنادي أخواتها. بعد مدة، طاف سرب حمام فوقها وفوق الكيس والقمح. ظننته سينزل، لكنه ولّى من حيث أتى غير مبال. في تلكم الأثناء انهمر على الشارع سيل من قذائف مدافع ثقيلة.

لم تكد الحمامة البنية، أن تخفق بجناحيها محاولة الهرب، حتى اندكّتْ بقذيفة وبنارها ودخانها، فانطمست هي وما تحتها وما حولها.

لم أجد وسيلة لإعلان هدنة لدفن أو على الأقل انتشال جثث الأموات. مقطوعا الرأس وغير المقطوعة الرأس. تلك التي يرتدي أصحابها قلنسوات صوف مزركش، ومعاطف فوق جلابيب رمادية، شبه متسخة، ولا تبدو عيون أصحابها من بعيد، ما إذا كانت مكتحلة أم لا، كما لا تظهر الأفواه والشفاه. غير أن الذقون كانت أحيانا تتعدى الركب. تمنيت، لو أنني أقترب من إحداها، فأسحب اللحية لأرى ما إذا كانت طبيعية أو مركبة، فهي تبدو في نصاعة الشمس، لامعة كأنها من سبيب خيل.

لا أدري من أين خرج ذباب أزرق صغير نشيط، لا يرفع رأسه إلى فوق، ولا يبتعد عن الجثة، غير آبه بشيء آخر غيرها.

كل جثة وذبابها، على ما يبدو، فلا واحدة تتخلى عن موقعها، أو تعتدي على جثة أخرى.

تعلو. تنخفض. تتقدم. تتأخر. في رأسها مهمة تصمم على أدائها على أحسن وجه.

من أين يأتي هذا الذباب الذي لا يرى إلا عند الموت.

استدرجه الموت، فراح يتساءل عن كنهه في »حالة« البارحة، بمثل هذه السهولة يتحول الكائن الحي، إنسانا أو حيوانا، إلى خشبة، لا نبالي بقطعها، لا لشيء إلا أننا قررنا ذلك؟ !

ثم كيف يواجه المستهدف بالقتل، السكين أو الساطور، أو الفأس؟ هل تكون عيناه لحظتها مفتوحة.

بالنسبة للقاتل، على ما أعرف، ما أن يستقر عزمه على إتيان الفعلة، حتى يشعر بأنه يرتفع عن الأرض بضعة أمتار، وأن منجاته الوحيدة من الوقوع والسقوط، من هذا العلو، هو أن يواصل الفعل.

يقتل، فلا يقع. يخشى الوقوع، أكثر فيقتل. يقتل. يخشى يقتل. حتى ينفد القتل.

يستيقظ القاتل، فيجد نفسه، على الأرض وقد نجا من شيء كان يخشاه.

في كل الحالات، يؤجَّل التفكير في ذلك والحسرة أو الندم إلى وقت آخر، وفي الوقت الآخر هذا تبدو المسألة شيئا باهتا، الأحسن الاستمرار في تجاهله.

أما المقتول، فيعتريه إحساس آخر معاكس تماما لإحساس القاتل.

يهيأ له أن منجاته الوحيدة من القتل، هي الدخول في الأرض. يهيأ له إنه في عمق بضعة أمتار، وأن الخوف كل الخوف أن يغادر هذا العمق. صاعدا إلى فوق.

كلما تعرض لعملية الذبح أو الرمي بالرصاص، أحد حوله ازداد شعورا بأنه يغوص في الأرض وأنه والموت شيء واحد.

بينما كان القصف المدفعي يتواصل والطائرات المروحية تقترب كل مرة أكثر فأكثر، بدأت شبه حركة تدب في الشارع.

خرج ولد في الخامسة عشر معفر بالطين والزيوت الميكانية، يرفع رأسه إلى السماء ويتساءل وهو يضرب يدا بيد:

-أين ذهبت الشمس؟ أين ذهبت الشمس؟ الشمس. قلت لكم أين ذهبت؟

ظهر بعض شبان من هنالك مذعورين، يؤشرون بأيديهم إلى موقع الجثث. خلفهم بدا آخرون يرتدون ألبسة زرقاء ويضعون على رؤوسهم قبعات موحدة، ويحملون على أكتافهم بنادق متشابهة.

كانت هيئة ومشية الجميع، تؤكد أن المعركة، وضعت أوزارها، وأنني في هذه اللحظات المحارب الوحيد فيها. الطرف هذا والطرف ذاكم.

قررت أن أعلن إيقاف القتال من جهتي كذلك. وضعت منديلا أبيض في فوهة مدفعي، وبرزت أهتف:

-استروا جثث موتاكم أيها الناس.

-أحدهم؟ !

-لا ليس منهم؟ !

-من يكون إذن؟

-ثيابه ملوثة بالدم، ذباح ما في ذلك ريب.

-لنقتله.

-نمسك به حيا فقد ينفعنا في تعقبهم.

بينما كان الحديث في شأني يتواصل، وأنا أقف من وراء مكمني الحصين، اقتربت مروحية، حتى صم حسها أذني.

انطلق منها قضيب ناري طويل، سرعان ما بلغني.

هزني. هز كل ما حولي.

*   *  *

غادرت العضباء من تلقاء نفسها، القصر الثالث، مولية نحو الزيتونة. وسرعان ما وجد الولي الطاهر نفسه فوق التلة الرملية، يتظلل، مواجها المقام الزكي، ومن خلفه الفيف الواسع العريض الذي يعتليه أفق أزرق لا نهاية لامتداده. وبينما كان يتساءل عما بقي أن يفعله، تراءت له تملأ الأفق الكبير، بيضاء مستديرة الوجه، عيناها كبيرتان حالكتا السواد، فمها صغير مستدير مكتنز الشفتين، أنفها الأفطس يضفي على ملامحها مسحة هرة أو لبؤة.

تبتسم. ابتسمت بلارة.

آه بلارة.

ملأت ذاكرته كما ملأت الأفق، بيضاء مستديرة الوجه، عيناها كبيرتان حالكتا السواد، فمها صغير مستدير مكتنز الشفتين، أنفها الأفطس يضفي على ملامحها مسحة هرة أو لبؤة، تمضغ علكة وترمي بثيابها كما صادف قطعة فقطعة، تلهب الصدر فتنة وغواية.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

بلارة الفتنة الأمازيغية، لم تكن ساحرة، لا ولم تكن، جنية من جنيات الفيف الخالي، ولا شيطانا رجيما.

بلارة.

آه. إنني ألهث بحثا عنك في الفيف منذ رميتني من داخل المقام الزكي، إلى تيه بني إسرائيل هذا.

كيف يا بلارة العزيزة، تستطيع نفس أن تنفصم وتظل بعيدة عن ذاتها، وكيف تستطيع ذات أن تتجرد من نفسها.

لم أفهمك، عندما كنت تتوقين إلى الحلول، والاتحاد، والتوحد، آملة في نسل جديد يجسد »كل الناس«.

مولاي الولي الطاهر، يا روح الفيف الأعظم، الغربة تكوي قلبي، الوحشة، تمزق  صدري.

آه يا مولاي.

عطش.عطش. حنين. حنين.

الماء قدّامي، فلا ألحقه، إني جمرة، ألتهب كلما ازداد هبوب الريح.

يقتلني عشق الريح.

كانت تناجيه من خلف الأفق الأزرق البعيد، وكان بدوره يناجيها من فوق التلة الرملية من تحت شجرة الزيتون.

يراها. يرى الدم يسيل من أذنيها المشقوقتين، وهو يستل القرطين اللامعين منهما.

أكثر من ذلك، يسمعها. يرن صوتها في فضاء الفيف العريض ويتراجع صدى من كل ذرة رمل. الآن أعرف ما إذا كنت إنسية أم لا.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى البحث عني فلا تعثر علي حتى وإن كنت تحت قدمك.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ينمحي مخزون رأسك ولا تستعيده إلا بعد قرون، فيعود إليك قطرة فقطرة ونقطة فنقطة. تجوب الفيف هذا مئات السنين، فلا تعثر عن طريقك، ويوم تعثر عنه، تبدأ من البداية.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى خوض غمار الحروب، فتشارك في حروب جرت، وفي حروب تجري، وفي حروب ستجري، إلى جانب قوم تعرفهم، وقوم لا تعرفهم ولا تفقه لسانهم، ولا تدري سببا لحربهم.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى حز الرؤوس وخنق الأطفال والعجائز والعجزة، وحرق الأحياء.

تموت ألف ميتة وميتة، ويسقي دمك، كل صقع رفع فيه الآذان، وفي كل عودة لك تعاودك بلوى البحث عني من جديد دون أن تدري عم تبحث.

الآن أدري عما أبحث. ابحث عن بلاّرة بنت تميم بن المعز. أبحث عن نفسي.

أدمع. لأول مرة يصاعد الدفء من صدره، إلى وجهه ورأسه، بينما قلبه يهتز خافقا.

سقطت دمعة الولي الطاهر فوق الرمل، تحت شجرة الزيتون، ففاضت ماء زلالا، شق في الرمل طريقه ساقية، تتلألأ مالئة الفيف.

اختفت بلارة. ربما لم تختف، لكن عينيه المليئتين بالدمع، لم تتمكنا من رؤيتها.

أبصرها ولا أراها.

نزل من فوق العضباء. رأى دموعها تختلط بدمعته فوق الرمل، وتنساب في الساقية بدورها، ماء زلالا.

سارع وقبَّلها. لثمها من كل موضع، وهو يهتف:

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

اللهم عفوك وغفرانك. اللهم عفوك.

ما كنت أعلم يا حبيبتي، آه كم عذبتك وكم تعذبت، لقد كانت الـ»حالة«، »حالتين«، فسبحانك ربي.

ربت بحنان على ظهر العضباء، ثم تناول لجامها وقادها نحو القصر. انصاعت العضباء، كأنما كانت تنتظر أو كأنما تعبر عن امتنانها، أو تسعى للحاق به.

لم يدر الولي الطاهر، كيف وجد نفسه أمام المقام الزكي، بهذه السرعة الخارقة. لم تنقض لحظات قلائل، حتى كان قدام الجدار الذي كان باب المدخل، يقوم فيه.

ترك العضباء، تلهتهم قسيلا، ثم طاف حول القصر، عساه يعثر عن منفذ. عاد من حيث انطلق، ففوجئ بالعضباء تختفي. لف مرة أخرى يبحث عنها هذه المرة، لكن لا أثر لها. العضباء المسكينة، كما خطر له.

بلاّرة ! العضباء !

فجاءه الصدى كأنما شيطان يهزأ به.

بلاّرة العضباء! رارا با..با..

اختفت العضباء، القسيل الذي كان أمامها تحول إلى أدوات حفر، فأس. منقار. مطرقة كبيرة، مسحاة.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

كانت الأصوات تنبعث من الداخل خليطا لذكور ولإناث.

وكان الظل قد بدأ يمتد عند الزاوية الشرقية للمقام الزكي.

-أقتحم. أنجدهم. أنجد بلارة. أعود إلى مقامي الزكي.

قال وانحنى يحمل الفأس.

*   *  *

هاهنا كان الباب. أحفر هنا. أفتح ثغرة ألج منها، أحرر الأسرى. والأسيرات، وأعطي الإذن بإقامة زفاف لمائتي عريس وعريس. أكون وبلارة العروسين رقم مائتين وواحد. يتحد الجوهر بالجوهر، ونشرع كلنا الجوهر والعرض في إنجاب نسل جديد، نسل »كل الناس«، كما تقول بلارة، نسل أولياء الله الطاهرين، ينتشر في الأرض فيملأها. يغير الله أقواما بقوم، يُذهب السلالة المصابة بالوباء، ويأتي بنا. سلالة لا تعرف لا الغضب، ولا الجشع، ولا الكراهية، ولا الحقد، تنفر من سفك الدماء وتنفر من رائحة البارود، نسل »كل الناس«، البسيطة كلها خيمته، لا يعرف حدودا، ولا يقيم سجونا ومشانق ومقاصل، ولا يصنع بنادق، أو مدافع أو صواريخ وطائرات. همه في هذه الحياة، أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.

نسل كل الناس. الله يحل في خليفة الله.

متطهرًا من الأوبئة. يؤدي الأمانة، كما أومر بتأديتها. يصلح في الأرض ولا يفسد.

لعل هذا ما أرادت بلارة أن تقوله وهي تستجدي غلاما، يكون بداية سلالة »كل الناس«.

»إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد«، صدق الله العظيم.

هوى الولي الطاهر بالفأس يضرب الجدرا، فأحدث خدشة كبيرةسهل..سهل. سأتمكن من الولوج قبل المغيب. وألقى بنظرة على الظل في الزاوية الشرقية للمقام. تذكر القصور الثلاثة الأخرى فتساءل عن مصيرها، وعما سيفعله بها بعد أن يحرر المقام الزكي.

أدار رأسه ربع دائرة فلم يقابله سوى الفيف، يمتد بحرا أصفر تحت قبة زرقاء، بحث عن باقي القصور فلم يعثر لها عن أثر.

لعلني كنت في »حالة ما«. قال وهوى بالفأس مرة أخرى.

بلغه أنين كائن يتوجع. مد يده، يزيح بعض الحجارة، لاحظ أن الحجارة والإسمنت الذي يشدها، طريٍّ، نديُّ، وأن الأصابع التي استعملها اعتلتها حمرة، كأنها حمرة دم.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

رددها مع الأصوات المنبعثة من الداخل، تهتف بالدعاء منذ أن حل.

عالج التراب بسبابته، فسقطت فوق الرمل، حصاة، ثم نصف إصبع به خاتم، تردد قليلا، ثم رفع الإصبع الذي ما يزال مكسوا بلحمه، وراح يتأمل الحروف المنقوشة على الخاتم.

قابلته يد تمسك هاتفا نقالا، ممتدة، لشخص على رأسه قلنسوة من جلد حيوان، ينهمك في حديث بالغ الجدية على ما يبدو.

على شرط أن ينسحب جيشكم.

نعم ينسحب، إنما بشرط آخر مهم بالنسبة لنا.

واصل الحديث، ودعه يتكلم أكثر منك. موجاتنا توشك على ضبط موقعه.

إنني لا أسمعك جيدا.

هذا الهاتف النقال، ينبغي دائما أن تلزم اتجاها واحدا وأنت تتحدث به.

الشكر لأصدقائنا وأصدقائكم الذين قدموا لفخامتكم هذه الهدية.

إنهم مثلنا يبغضون الحرب.

نحن أيضا. ولولا بغضنا للحرب، لما شرعنا في المفاوضات معكم، مع أن جيشنا يسيطر على الميادين كلها.

اعتراه انفعال، عندما شعر بأن محدثه في الطرف الآخر ما يزال يتعجرف، رغم أن وحداته تتقهقر مولية الأدبار، تاركة جثث موتاها، وحطام عتادها، بل، وحتى عتادها السليم، خلفها.

دعه يتحدث أكثر. حسنا فعلت باستفزازه، إنه يدخل حزمة أمواج القمر الراصد.

شكرا يا أصدقاءنا.

ماذا تقول.

جيشنا رغم أنه انتصر.

لا.جيشكم انهزم، وهذه العجرفة الاستعمارية، هي التي تتسبب في الكوارث. متى انتصر جيشكم علينا. اسألوا التاريخ. حتى عندما ننهزم، نلحق بكم بصمودنا وعنادنا، وتشبثنا بديننا الحنيف، الخوف والرعب.

خط العرض شين زائد ياء. خط الطول شين زائد ألف ونون.. عند النقطة الوسطى لشين خط الطول، ينبغي أن يسقط الصاروخ.

شكرا لكم أصدقاءنا.

فيمن تشكر أيها الدب الأحمق.

أطلقوا. حالا حالا. واحد من الأمام وآخر من الخلف عرفتم المرمى.

نار. نار.

أدرك الخدعة، قذف بالهاتف بعيدا، سارع يحاول مغادرة البناية، لكن

اقترب الصفير. التقى الصاروخان، عند النقطة الثالثة لشين الثانية. هوت البناية، بكل من فيها، وارتفع الدخان مع الغبار، مع النار.

أصلي على صاحبه صلاة الغائب.

وضع الإصبع وراح يكبر، ويتلو الفاتحة وسورة الأعلى.

كانت صلاة مستعجلة، فوراءه كما قال مهمة تحرير المقام الزكي. لكن قبل ذلك ينبغي دفن هذا الأصبع.

انتحى بعيدا واستعان بالمسحاة في حفر قبر صغير، وضع فيه الأصبع، ثم غطاه، طالبا لصاحبه الحياة مع الشهداء الأبرار !

عاد إلى الجدار. كان هشا، تكفي ضربات خفيفة، لسل حجارته والإسمنت الذي يشدها، بل إنه لرخو. رخو كأنما هو مبني من مادة غير الإسمنت والحجارة. لذا استغنى عن الفأس، مقررا العمل بالمنقار والمطرقة مستعينا بأصابعه. يمكن فتح متر مربع في ظرف يسير، على ما يبدو. يدخل من يدخل، ويخرج من يخرج، وتعود الأمور إلى طبيعتها.

مد يده، أزاح حجرة مستديرة صوانية، وإذا بجمجمة تظهر من خلفها، سمع أنينا، تميز بين أصوات الدعاء المنبعث من الداخل، يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف، كان واضحا، الأنين. أنين توجع ومعاناة.

راح يعرّي عليها شيئا فشيئا، محاولا قدر الإمكان الرفق بها، فبدأ الحفر على بعد شبرين أو أكثر، مستعينا بالمنقار، بينما الأنين يتميز أكثر فأكثر.

استخلصها أخيرا. وضعها جانبا، وانهمك يتأملها، محاولا التعرف على جنس وعمر صاحب هذه الجمجمة. لرجل لاشك، ضخامتها تدل على ذلك.

أدفنها مهما كان الأمر.

طرحها أمامه. وحمل الفأس والمسحاة.

بلغه أنين أشد قوة من السابق. ألقى نظرة، عليها، فإذا بها تكتسي لحما، وشعرا كثيفا تشتعل فيه النار، ويرسل دخانا أسود.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

توقف عن الحفر، واقترب من الرأس الذي كان قبل لحظات جمجمة، فعل فيها القدم.

-صلي عليّ فإن قتادة لم يفعل ذلك.

-من أنت؟

-مالك بن نويرة.

-المرتدُّ لا يُصلّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين.

-طبق عليّ رأي عمر بن الخطاب.

-ما رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيك، ما أعرفه هو رأيه في خالد.

-استخرج الورقة التي بين أسناني.

فتح الولي الطاهر الورقة وراح يقرأ: » قال أبو قتادة فجئته فقلت: أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال: نعم. قلت: والله ما يحل لك قتلهم، ولقد اتقونا بالإسلام، فما عليهم من سبيل ولا أتابعك على قتلهم، فأمر بهم خالد فقتلوا. قال أبو قتادة: فتسرعت حتى قدمت على أبي بكر فأخبرته الخبر، وعظَّمت عليه الشأن، فاشتد في ذلك عمر، وقال: ارجم خالدا، فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو بكر، والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرًا فأخطأه«.

ما أن كبَّر الولي الطاهر حتى خمد الدخان ثم اختفى مع الشعر واللحم الذي كسا الوجه الجميل. عادت الجمجمة إلى الحالة التي كانت عليها، لربما ماتت موتة نهائية.

فرغ من دفنها بسرعة، وعاد إلى الجدار، يواصل الحفر.

أزاح كوما من الإسمنت والحجارة، فقابلته كومة من السبابات، تتحرك كالدود.

استخرجها. راح يتأملها، قابلا »الحالة« كما هي دون نقاش. قابله مع الفجر، جمهور من المصلين بمسجد الخليل، يركعون ويسجدون خاشعين لرب العزة، متضرعين له، بأن يفرج كربتهم، فينصر دينه ويخلص بلاد الإسلام من البلاء الذي لحق بها.

اللهم ابعث فينا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وشُرحبْيل بن حسنة وخالد بن الوليد.

اللهم لقد بلغ الذل فينا مداه.

اللهم لقد لحقت الإهانة بعبادك المسلمين حدا لا ترضاه أمة.

فجأة انطلق مدفع رشاش يحصد. يحصد الراكعين الساجدين الداعين ربهم.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

لقد امتلأ مسجد خليل الله بدم عبّاد الله، باسم الله.

قال الولي الطاهر، وحفر قبرا، دفن فيه السبابات. غطاها جيدا بالرمل، وعاد إلى الثقب في الجدار اللدن.

كان قد تقدم في الحفر، ما يزيد عن ثلاثة أشبار عمقا، وخمسة أشبار طولا وعرضا. العملية مشجعة، تبعث على الحماس في مواصلة الحفر، لولا هذه الحالة المتمثلة في التوقف، لدى شظايا أجساد، انغرست في هذا الفيف وهذا المقام.

»سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى«. صدق الله العظيم، وأضاف: يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

حمل الفأس. تأمل الجانب العلوي للثقب، وقرر أن يضيف إلى ارتفاعه على الأقل شبرا آخر.

رفع الفأس حتى كاد يلامس ظهره، أخَّر صدره، وعجزه، قدَّم رجله اليسرى، وأخَّر رجله اليمنى. هوى بحقد وضغينة على الجدار الطري. هوت كومة كبيرة من التراب والإسمنت، والحجارة، وتبعها صندوق من خشب.

حاول رفع الغطاء عن الصندوق، غير أنه لم يطاوعه. كان مغلقا، بقفل صغير، عالجه بالمنقار، وقلبه يخفق، فالله أعلم بما ستفاجئني به الحالة أيضا.

أخيرا هاهو ينفتح مفرجا عن مكنوناته. أوراق. صحف. صور. رسائل مخطوطة.

كانت الصحيفة الأولى، تحمل في صدرها صورة بالألوان لشاب، طويل الوجه، حاد النظر، مع أن عينيه السوداوين، سارحتان في فضاء يشبه هذا الفيف. لحيته الطويلة، تمتد فيها خيوط بيضاء لشيب مبكر. يجلس القرفصاء، محتميا ببندقية، تبدو كما ولو أنها آخر ما يمكن الاعتماد عليه في هذه الحياة الدنيا.

محمد بن عبد الوهاب، يجدد مشروعه المجهض. قال الولي الطاهر، ومرر عينيه على الحروف اللاتينية الغليظة المكتوبة فوق الصورة، دون جدوى.

لكن فهم. فهم ما هو مكتوب، فهم بالقوة، أن صاحب هذا الوجه، الذي يتصنع البلاهة، فتى من فتيان هذا الزمن. وراح دون أن يدري يتلو أبياتا قالها مسكين الدرامي:

وفتيانِ صدقٍ لست مطلعَ بعضهم،              على سرِّ بعـضٍ غير أنّي جمّاعها

لكل امرئٍ شِعْبُ من القلب فارغ،               وموضـعُ نجوى لا يُرام اطِّلاعها

يظلون شتى في البلاد وســرهم                   إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها

وضع الصحيفة جانبا، وحمل أخرى باللغة العربية. حمد الله على ذلك وانهمك يقرأ العناوين الغليظة:

طائرات أمريكية تقصف معملا للأدوية بالسودان.

المعمل يقال إنه للأسلحة الكيماوية، تشترك فيه العراق.

الولايات المتحدة الأمريكية، واثقة من أن المعمل من إنشاء بلادنا.

البعض يقول إن الطائرات انطلقت من البحر، والبعض يقول إنه ليس هناك طائرات إطلاقا، إنما كل ما هنالك، صواريخ انطلقت من حاملات طائرات تجوب المياه العربية.

وضع الصحيفة، العربية فوق الأولى، ومد يده للصندوق.

استخرج ورقة كبيرة ملفوفة، فتحها وواجهته صورة لشخص ملتح، عليه عمامة آسيوية، سوداء، وتحت الصورة كتب بالخط الأخضر: الإمام الخميني يعلن أن أمريكا هي الشيطان الأكبر.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

قال واقترب من الصندوق الذي استهواه بمحتوياته، التي تضعه في حالة لا هي ولا هي. لا هي بالحاضر ولا هي بالماضي ولا هي بالمستقبل، لا هي حلول ولا هي توحد.

حالة ما قبل ولوج المقام الزكي، قال الولي الطاهر، وهو يستخرج ظرفا فيه ملصقة مطوية عدة طيات، وبعض رسائل مدبجة بخط جد جميل.

فتح الملصقة. فيها صورة لشاب تغطي وجهه المربع لحية سوداء، وتلمع عيناه السوداوان، تهمان الإفصاح عن شيء يثقل صدر صاحبه.

صاحب هذه الصورة: المجرم الخطير المدعو عيسى لحيلح، يكافأ من يأتي به حيا أو ميتا، بمليون دينار.

تأمل الصورة جيدا، ثم وضعها. وفتح بطاقة تهنئة صغيرة، يزدان ظهرها بورود حمراء، تسقط فوقها من ظرف رسالة، قلوب حمراء أيضا عليها نقط بيضاء واستغرق يقرأ:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رغم أنك لم تتوقع أن تصلك رسالة مني في مثل هذه الظروف، فها أنا أستغل فرصة عيد الفطر المبارك، لأكتب إليك هذه السطور راجيا من الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يمن علينا جميعا بالأمن والأمان في هذا الزمان البائس.

أيّ نعم سيديمن الجبل أكتب إليك، بعد ما قرّروا قتلي وقرّرت أن أعيش، وصادق الله على قراري، فنجاني من القوم الظالمينلو تدري كم تصير الحياة شهية ومقدسة تحت جحيم القصف وزخات الرصاص؟

أنا مستعد - يا سيدي- أن أقتسم مع "عدوي" لقمة الخبز وجرعة الماء ونسمة الهواء، وأن أعمُرُ معه فضاءًا مشتركا من الحرية، أحب فيه الناس كما أحب وأكتب فيه الشعر والأدب كما أحب، وأموت فيه-إن استطعت- كما أحب؟. إن كنت تعرف واحدا مستعدّا لهذا، فدُلني عليه لأجعله صديقا.

سيدي الكريم: لقد حاولوا قتلي عدة مرّات، ونجوت أربع مرات من الموت بلطف الله كان لابد أن أموت ولكن الله سلم، فله الشكر والحمد من قبل ومن بعدلست ادري لماذا صارت حياتي ثقيلة عليهم، ووجودي محرجا لهم، ولست أدري لماذا صار ظلي يضايقهم.

ربما قد تتساءل عن "حياتي الأدبية". فهي ما زالت كما كانت تماما. كتبت كثيرا من الشعر السياسي والغزلي والثوري، وكتبت بعض القصص القصيرة، ووضعت مسودة كتاب أود أن أسميه "كراسة في الثورة"، ومسودة كتاب آخر يتمحور حول نقد ما يسمى بـ"الإسلام السياسي".

ولي أمل كبير أن ألتقي بالجميع في أمسية شعرية قريبة.

فقد جنّنني الشوق إلى منصات الأدبوالشعرصدقني.

سلامي إلى كل الجديرين بالسلام من عندي واستثنِ المنافقين فإني أكرههم.

ودمت في رعاية الله وحفظه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جبال بني عافر

2 شوال 1418

30-1-1998

عبد الله عيسى لحيلح.

ثم فتح ورقة صغيرة مستطيلة، مكتوبة على الوجهين، بخط رغم صغره فإنه جميل، ومنمق البياضات والتسطير.

«ها أنا أرسل إليك بهاته القصيدة المسموعة، وأملي كبير أن تجد فيها ما تتذوقه، وتطرب له، وتعجب به، وترضى عنه فتتوَّجه برضاك. وإذا شئت أن تسمعه رواد  «»ومن شئت بعدهم، فلا مانع بعدي، بل ربما تلك هي رغبتي، لأنه يعجبني كثيرا أن أترك أثرا طيبا في نفس مكدودة، وروح قلقة وخاطر مضطرب. إذ أن وظيفة الشعر كفنٍّ- هي صناعة الإنسان. إذ أن كثيرا ممن نرى، هم خامة إنسان، أو إنسان خام… ! ما عليه إلا أن يستسلم لأصابع الشرائع والثفافات لتصنع منه خلقا آخروما أكثر ما تشوه بعض الشرائع والأهواء الإنسان، فتخرجه مسخا ممسوخا.

أيها الرجل الفاضل:

لا تنتظر مطلقا- من هواة السياسة وغواتها، عندنا، ومن شايعهم من »المثقفين الإداريين«، أن يُخرجوا جماهير الناس من حالة البداوة و»الأعرابية« إلى قيم المجتمع المدني الحقيقية، لأن هؤلاء وأولئك ما تبوأوا إلا بفضل أخلاق البداوة، من عشائرية، وروابط قبلية وجهوية، وولاءات طائفية، وعصبيات أسرية، وحميّات جاهلية مقيتة.

إذن فما على المثقفين الأحرار، إلا أن يناضلوا على اختلاف مواقعهممن أجل التأسيس لمجتمع راشد، يقوده الحق إلى العدل، في فضاء من الحرية، مستقر في ثوابته، نام في مداه، ولا خوف على جماهير الناس حينها، لأن جدلية السنن المودعة في أعماق الحياة، ستدفع بهذه الجماهير نحو الكمالات المثلى، حيث يريد الله سبحانه.

إنني ما عدت أفرق بين هاوي سياسة، وهو يطلق آلاف الوعود القزحية، وبين ساحر ماهر يخرج عشرات الأرانب من تحت القبعات.

سيدي الكريم.

يشهد الله أني كنت أحب التسامح وأمارسه من قبل، وكنت أدافع عما أراه حقا بحماس فياض وصدق عميق وتجرد كامل، وصرت الآن بعد ست سنوات من الحرب- أعمق التسامح!  لماذا؟ لأنه لا يقدر فضيلة التسامح إلا من كان ضحية الحقد، ولا يعرف قدسية الحياة، إلا من أفلت بين أظافر الموت، ولا يعرف قيمة »الآخر« إلا من يقضي الليل البارد خلف شجرة بلوط، يتربص بهذا »الأخر« ليقتله، وهو يعلم علم اليقين، أن هذا »الآخر« يتربص به هو كذلك، على مشارف قرية أو مدينة، ليرد له الجميل ! !. كم يبدو الأمر عبثيا!

ورغم هذا، يبقى أشرف الناس هم أولئك الذين تعيش الغربان على أشلائهم، ويستثمر المنافقون دماءهم في المزايدات الحقيرة… ! وعندما يسقط الأبطال مسربلين بالروعة والفجيعة، يبدو لبسطاء الناس، أن الجبناء كانوا على حق»وتلك خديعة الطبع اللئيم«،،

سيدي:

كان بودي أن أملأ باقي السطور، بمرارات أخرى، لكن عند هذا الحد تذكرت القتلى، فعليهم رحمة الله ورضوانه، أما أنتم فالسلام عليكم

عبد الله عيسى لحيلح/الجبل 27/6/99

ترآى للولي الطاهر أنه هو عبد الله عيسى لحيلح، في قمم جبال بني عاقر وجبال البابور الوعرة، أجبر على هجر مدرج الدراسة بجامعة قسنطينة، ترك طلبته وطالباته والقلم والقرطاس وجاء يعظ ويرشد ويقتل.

يمتلئ شعرا. يمتلئ وجدا، يمتلئ حبا، يمتلئ كراهية.

في الليل، يتسلل من بين النائمين في الكهف، ويخرج إلى فضاء الرحمان، يسائل النجوم، ويستعيد أسماء ووجوه شعراء وشاعرات، وكتاب وأدباء. هؤلاء أحبهم ولا يدري لماذا أحبهم، وهؤلاء كرههم، ولا يدري لماذا كان ذلك.

جزافا أحب. جزافا كره.

والآن، وفي هذا الخضم، وهذا الليل، هذا النفق السياسي، هل يعود ما كان إلى ما كان.

يصفقون. يصفقون. القاعة ملآى، والأكف تلتهب، وهو يحلق محمولا بعيون المعجبين والمعجبات، وبحرارة الأكف، يحلق مغمض العينين، يتلو شعره وفي قلبه حسرات وحسرات.

إلام سينتهي العرس الهجين في هذا المجتمع الهجين؟

مع ذلك، فليحلق. ليحلق، سابحا بعيدا بعيدا.

يرفع يده في حركة لا إرادية، كأنما يسأل نجمة منفردة، ها هنالك: إلام سينتهي العرس الهجين في هذا المجتمع الهجين؟

الحرب حرب، أكانت عادلة أم جائرة، فهي كالحياة، حالما نوجد فيها نفقد كثيرا من الاختيارات في كيفية ممارستها، وما دام المرء في الحرب، فلا عمل آخر له سوى أن يحارب.

لكن في الشعر، فضاءات أخرى، أروع من الحرب ومن السلم، من الحياة ومن الموت. فضاءات تستغرق لحظات قلائل، لكنها، أغنى من كل شيء آخر.

ربما لأنها، ترفع الإنسان إلى مستوى آخر غير المستوى الطيني الذي خلق منه.

تعيده إلى الملكوت.

نهض متثاقلا، وفي باله، أن يكتب غدا مراسلات، لكتاب شرفاء، يحييهم ويدع لديهم أمانة، يحتفظون بها، فمن يدري، كم بقي من العمر. هل يأتي يوم يعود فيه إلى حياة عادية، يدافع فيها عن نفسه.

يقول للثقاة:

»اشهدوا أنني ما اخترت الحرب«. »اشهدوا أنني أبغض الحرب«، »اشهدوا أنني ما أنفك شاعرا أهفو إلى الملكوت«.

اشهدوا أنني ما غادرت خيمتكم.

يقول للُّؤماء أولئك الذين يتعشون على مائدة معاوية، ولا يصلون لا وراء علي ولا وراء غيره:

»لم يخل التاريخ ممن لا قضية لهم سوى الأكل والنوم«:

لحى اللهُ صعلوكا إذا جنَّ ليله           مُصافِي المشَاش آلِفًا كل مجزر

يعين نساء الحي مـا يستعنّه            فيضحي طليحا كالبعير المحسَّر

استفاق الولي الطاهر، من ذهوله، وأعاد الملصقة، والرسالتين إلى الظرف الذي كانت فيه وإلى الصندوق، قابلته صحيفة عليها بخط عريض »اتفاقات الهدنة تدخل حيز التطبيق«، اكتفى بالتعليق »قد يجد الشاعر نفسه في هذه الحياة«، ثم فتح صحيفة أخرى سرعان ما ألقى بها، إذ لم يفقه الشيء الكثير ما يعنيه عنوانها الكبير بالخط الأحمر المبتهج: صندوق النقد الدولي، يوافق على جدولة ديون الجزائر.

أواصل الحفر، ولدي بعد الولوج ما يكفيني من الوقت، لتصفح محتويات هذا الصندوق.

سأتصفح محتوياته الكثيرة مع بلارة.

قال، وعاد متحمسا إلى المعاول، والثقب الذي خطا فيه قدرا لابأس به.

لا يدري الولي الطاهر كيف فلتت منه ضربة قوية، هوى لها جزء من الجدار، فانفتحت ثغرة مع الثقب الذي كان بصدد حفره، تكفي لعبوره مستريحا.

حمد الله وأثنى عليه، وشمَّر وارتمى تجاه النور في آخر النفق.

لم يتساءل ولي الله الطاهر، عن سبب كل هذا العمق، مع أنه حفر في موضع الباب، والمفروض أن لا يتعدى سمك الجدار ثلاثة أو أربعة أشبار عن أكثر تقدير.

في الحقيقة. لمح وما لمح.

لقد ومضت ها هنالك عينان سوداوان، هما لبلارة دونما شك، بل إن هاتفا تناهى إلى سمعه، يقول له: تعال له: تعال يا ولي الله الطاهر، لإنقاذي.

سرعان ما داهمه الجدار، من تحت ومن فوق، وعلى جنبيه. ضاق. ضاق. حتى أحس بأنه أشبه ما يكون بمقمط، لم يكن ما يحاصره، صلبا، بل بالعكس من ذلك كان لدنا طريا، كأنما هو إسفنج، إلا أنه يخنقه.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف. ردد مع مئات الأصوات التي كانت تنبعث من كل جهة.

تريث هنيهة يستعيد نفسه، ويستجلي الوضعية، ثم أرسل بصره إلى الأمام بعد أن تمكن من رفع رأسه قليلا. النور ما يزال ينبعث من هنالك. هذا في حد ذاته جيد، إمكانية يمكن استغلالها. خطر له، وقرر أن يشرع في الهجوم، على هذا الإسفنج الذي يقمطه. اتكأ على مرفقيه، ورفع صدره قليلا، كما مد جنبه الأيمن، ثم جنبه الأيسر، فأحدث كما هو واضح جدا- فراغا تحته وفوقه، وعند جنبيه.

استعاد الولي الطاهر نفسية المحارب في ساحة معركة، سلاحه الأول والأخير، هو سيطرته على نفسه، ثم التعرف على الميدان وما يجب فعله.

الرجوع إلى الوراء، ربما أحسن، فالمسافة ليست بعيدة، لكن وضعية الحصار هذه لا تسمح بالاستدارة. والتقهقر، هكذا على غير بصيرة، ربما يوقع في محظور آخر.

ثم إن هدفي أن ألج القصر. أخلَّص الجميع، وأستعيد المقام الزكي.

تعال يا ولي الطاهر، لإنقاذي.

رفع رأسه مرة أخرى، تجاه منفذ النفق. لمح وما لمح. لكنه مقتنع بأن عينيه منفتحتان، وبأن ذهنه صاف، وصاح كذلك. لم تأخذه الوضعية، رغم فجائيتها، فتجعله مضطربا، بل هو الذي أخذها على أنها إحدى الحالات، وأن طريق العرفان والوصول إلى الحبيب، ليس لا بالسهل ولا بالهين.

تركز جيدا على مرفقيه، ورفع نفسه قليلا واندفع زاحفا. قطع مسافة شبر. تراجع الإسفنج عند كتفيه، وانفرج قليلا، عند رأسه، فملأ سعة الفراغ.

ربما يستعمل الطريقة الثعبانية أفضل. يتلوى، فيتحرك كامل جسمه، متقدما في الوقت الواحد.

ليجرب. لوَّى ركبتيه قليلا، قوَّس ظهره، استند على رجليه، دفع كتفيه، مع كامل جسمه، فكانت العملية في منتهى النجاح. قطع مسافة مضاعفة بالنسبة للمرة الأولى. غير أنه شعر بنوع من التعب، فقدماه عندما يرتكز عليهما تخونانه منزلقتين في المادة اللزجة.

لكن لا يهم. يهون. يهون كل تعب في سبيل المهمة النبيلة.

عشر أمتار يمكن أن يقطعها في عشرين أو ثلاثين اندفاعة في أسوأ الحالات.

تعال يا ولي الله الطاهر، لإنقاذي.

اندفع ثعبانا يتلوى، مرة، مرات، عشرات المرات، غير أن الوقت يمضي، وهو لا ينتهي من المشوار.

خاض بدرا. خاض أحدا. اتخذ موقفا في السقيفة، مع الأنصار، ثم غيره إلى جانب المهاجرين. ناصر الأمويين ثم تراجع إلى الهاشميين، وفي صفين، »روى سيفه بالدم«، حتى وصل إلى الماء وارتوى، وقبل ذلك في واقعة الجمل، ساهم في عقر مطية أم المؤمنين.

عارض موت مالك بن نويرة مع قتادة، ولكن سبق السيف العذل، وكان حاضرا عند موت مسيلمة الكذاب، وفي فتح دمشق، وحصار بيت المقدس، وقطع مع طارق بن زياد المضيق، وتوغل مع عبد الرحمان الداخل، حتى نهاية المعركة. وقاد العسكر الذي رافق بلارة ابنة الملك تميم بن المعز، إلى بيت الناصر بن عَلَنَّاس بن حماد، واستشهد مرات، مرة في عُييْنة مدافعا عن محمد بن عبد الوهاب، ومرة مع الأمير عبد القادر دفاعا عن »الزمالة«، ومرتين في كابول، مرة مع مجيب الرحمان، ومرة مع مسعود أو مع الطالبان أو مع غيرهم لا يذكر جيدا، كما استشهد في الشيشان وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفو، وقبلها في الخليل. وقبلها قبلها، صلب على أنه أبو زيد صاحب الحمار.

قتل كثيرا.

مات كثيرا.

حتى إن مالكا بن نويرة ليس شخصا آخر غيره. وحتى أن كل من سقطوا في »الرايس« ليسوا سوى هو.

عندما يموت المرء فكأنما مات الناس كلهم.

اعتراه التعب. شعر بضرورة الاستسلام لضغط المادة الاسفنجية، فتمتصه، حتى يصير جزءا منها. تمتص معاناته أولا ثم تمتص وعيه، ثم تمتص لحمه وعظامه، وروحه.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

انبعثت الأصوات قوية. ملأت روحه.

نسي الولي الطاهر، معاناة التلوي والاندفاع نحو الأمام بكل جسمه، وهي تهزه.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

اعترته حالة جدب كبرى، فلا يدري كيف كان ينتفض.

تتشنج عضلاته كلها، ثم ترتخي، ثم تعود فتتشنج. كلما فعلت ذلك أحس بتقلص الضغط الإسفنجي اللدِن، وبأنه يثب إلى الأمام مسافة كبيرة.

هاهي نهاية النفق.

هاهو منفذ النور.

هاهي بلارة. بيضاء مستديرة الوجه، عيناها كبيرتان حالكتا السواد، فمها صغير مستدير مكتنز الشفتين، أنفها الأفطس يضفي على ملامحها مسحة هرة أو لبؤة.

أغمض الولي الطاهر عينيه، واندفع بقوة، يقفز من فوهة الجدار، فأحس أول ما أحس بحرارة الرمل، من تحته والشمس من فوقه، ثم استنشق نفسا طويلا، من هواء جاف.

فتح عينيه، الجدار ليس فيه أي ثقب، أو منفذ أو مدخل.

العضباء تعلف شعيرا وقسيلا أخضر قربه. الشمس في منتصف السماء، والظلال معدومة.

*   *  *

محاولة هبوط أولى

توقفت العضباء فوق التلة الرملية، عند الزيتونة الفريدة في هذا الفيف كله، قبالة المقام الزكي المنتصب ها هنالك على بعد ميل، بشكله المربع وطوابقه السبعة.

آه. أخيرا.

تنفس الولي الطاهر من أعماقه، وقال بصوت منخفض، لا يدري ما إذا كان يخاطب نفسه، أم يخاطب الأتان العضباء:

-بحول الله وحمده ها نحن من جديد، نرجع إلى أرضنا.

شدد على كلمة أرضنا، كأنما يريد أن يؤكد أنه لم يكن يدري بالضبط أين كانت غيبته هذه كل هذا الوقت.

ثم قرر أن ينزل فيصلي ركعتين تحية لله وتحية للأرض وتحية للزيتونة ثم أولا وأخيرا تحية للمقام الزكي.

*   *  *

محاولة هبوط ثانية

تقدم حتى الزيتونة يستظل، فتبعته الأتان دون أن تغير من توجهها.

راح يستدير محاولا إعادة التأكد من القصور الثلاثة التي انتصبت صورا منسوخة عن مقامه، رافضا استعمال نعت المقام لها، فمن أدراه بأمرها، وقد تكون من عمل الشيطان.

راعه أن القصور تضاعفت على مدى بصره، تتصاقب في دائرة متساوية الأبعاد، كما راعه أن الصومعة العالية، التي ترك بها مقامه الزكي، اختفت. اختفت من جميعها.

بدت الدائرة في الأول بقطرٍ مساحته نصف ميل، ثم أخذت تضيق كلما تأملها.

دائرة رهيبة تتشكل من قصور شامخة في فيف سحيق، لها لون واحد هو اللون الرمادي الباهت، تتضايق زاحفة نحوه ونحو العضباء.

إنها تضيق، دون أن تفقد قصورُها حجمَها أو المسافات التي تفصل بينها ودون أن يختفي أي واحد منها.

هذا ما يبدو على الأقل حتى الآن لنظر الولي الطاهر.

كأنها صورة، الأبعادُ فيها متوقفة، بعد أن حددتها الرؤية الأولى.

سرعةُ تضايُقها تتزايد، ولعلها تصير قصرا واحدا عندما تصل إلى هنا، فلا يبقى سوى المقام الزكي.

من يدري.

وهذه الشمس الذاهلة، هل فقدت اتجاها. ضاع عنها المشرقان والمغربان، فلا تدري أين تذهب؟

اللهم يا ذا الجلال والإكرام، لا تنسنا ما أقرأتنا.

اللهم يا خافي الألطاف، نجنا مما نخاف.

النهار مثل مقامي الزكي يتضاعف، بتوقف الميقات، ولا شك أن الليل سينتظر ألف سنة مما يعدون.

يا خافي الألطاف، نجنا مما نخاف.

قطر الدائرة، تصير مساحته ربع ميل ليس إلا. وجميل أن يعد المرء هذه القصور، ليتأكد مما إذا ظلت هي هي، أو مما إذا كانت حقيقية، ومن مصيرها وهي تعاني ضيقان الدائرة.

واحد..اثنان..ثلاثةخمسة وعشرونثلاثة وثلاثونثمانية وتسعون.

المسافة بين القصر والآخر، سبعون ذراعا.

قطر الدائرة يصغر. واحد اثنان..ثلاثةثلاثة وثلاثونسبعونثمانية وتسعون.

الدائرة ضاقت. لا فائدة من العد. أنا والعضباء نتحول إلى قصر ذي طوابق سبعةلا أستطيع، لا تأمل المداخل ولا النوافذ. أعلو فأعلو. إنني أعلو إلى السماء فلا تقابلني سوى السطوح تنطلق من القصر الذي أمامي وتمتد إلى ما لا نهاية.

العد اكتمل تسعة وتسعون قصرا تتحلق في الدائرة، أما ما خلفها فعلمه عند علام الغيوب.

يا خافي الألطاف. نجنا مما نخاف.

انبعث منه الصوت، فامتلأت السماء بنفس الدعاء.

تعاقب في الأول من كل قصر، ثماني وتسعين مرة، ثم اندفع صوتا واحدا أقوى من الرعد، يتردد في إيقاع واحد خفيف ومنتظم، لكنه راقص.

من كل قصر ينبعث صوت واحد ليس رجاليا وليس أنثويا، بل، بكل تأكيد غير إنسي على الإطلاق. ولربما لا ينبعث أصلا من أي مكان، لكن هو موجود في الفضاء، في حجم الفضاء، وكل ما هنالك، أنه أطلق سراح الأرواح فامتلأت به كما تمتلئ السماء.

تواصل الهزج، وقتا لا أحد بإمكانه تحديده، ما دامت الشمس ذاهلة والظلال غير ممتدة.

كل ما هنالك، هو مجرد إحساس لدى الولي الطاهر، بأن الصوت بلغ منتهاه، ومبتغاه، وبضرورة توقف حالة الذهول.

*   *  *

محاولة هبوط أخرى

ارتمت في أحضانه، تراءت له أم مُتْمِم، تضع القدر على رأس زوجها، تراءت له سجاحا، تختلي بمسيلمة، فتمنحه نبوتها، ثم تحاربه. تذكر المائتي بنت المسحورات اللائي، تنفي بلارة هذه وجودهن ووجود غيرهن، تذكر زفاف الليلة الذي أمر به.

غضة لدنة دافئة دفاقة كانت بلارة بين يديه.

يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف.

قال وأمسكها بقوة من كتفيها، يدفعها إلى الخلف، محدقا في وجهها الذي اعتلته الحمرة، فازداد بهاء وروعة.

الآن أعرف ما إذا كنت إنسية أم لا.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى البحث عني فلا تعثر علي حتى وإن كنت تحت قدمك.

الآن أعرف ما إذا كنت إنسية أم لا.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ينمحي مخزون رأسك ولا تستعيده إلا بعد قرون، فيعود إليك قطرة فقطرة ونقطة فنقطة. تجوب الفَيْف هذا مئات السنين، فلا تعثر على طريقك، ويوم تعثر عليه، تبدأ من البداية.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى خوض غمار الحروب، فتشارك في حروب جرت، وفي حروب تجري، وفي حروب ستجري إلى جانب قوم تعرفهم، وقوم لا تعرفهم ولا تفقه لسانهم، ولا تدري لماذا يحاربون.

أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى حز الرؤوس وخنق الأطفال والعجائز والعجزة، وحرق الأحياء.

تموت ألف ميتة وميتة، ويسقي دمك، كل صقع رفع فيه الآذان وفي كل عودة لك تعاودك بلوى البحث عني من جديد دون أن تدري عم تبحث.

رأت الشر في عينيه. تخلصت منه وراحت تركض في الغرفة التي كانت تتسع كلما جرت.

صارت ساحة فسيحة لا يحدها البصر، مفروشة بزربية خضراء، وتنسدل على نوافذها الكبيرة أسترة باهتة الصفرة، وينسدل من سقفها الأزرق أنوار أرجوانية تتشابك

دوائر دوائر.

تمكن منها أخيرا، هتفت مرعبة:

-اقتلني خنقا يا مولاي وإياك وسفك دمي.

-وهل لك دم يا ابنة النار؟

بلغ الغضب ذراه، فتراجع كل تردد. صعق.

امتدت يداه معا فسلتا قرطين من أذنيها، وسال الدم على عنقها الطويل الرفيع.

تأوهت متألمة. ظلت لحظات تتأوه ثم راحت كلما أشهقت متأوهة تختفي في ضباب رمادي، إلى أن غابت نهائيا.

*   *  *

هبوط اضطراري

لسبب ما كانت الشمس سوداء.

كان الظل فيها.

حالة كسوف لا محالة، قرر الولي الطاهر، أن يؤدي صلاة الكسوف، فلم يجد في ذاكرته سوى الفاتحة وسورة الأعلى، فاستعان بهما في كل الركعات، وفي كل مرة يتوقف عند الآيات: »..سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحي«.

 

الجزائر: شنوة الشاطئ أوت 1999.