يقدم الباحث الفلسطيني هنا قراءة نقدية لأحدث أعمال الكاتبة الفلسطينية المرموقة تبارح فيها منطق تعاملها المألوف مع الواقع الساخن ومواكبتها لنضالات شعبها، وتعود إلى جذور المأساة، وكيفية تخلقها بصورة تنطوي على دراسة روائية لعيوب الشخصية العربية من ناحية، وتطرح التاريخ الأليم كاستعارة لواقع أشد إيلاما.

«أصل وفصل» لسحر خليفة

نبيه القاسم

منذ صدرت روايتها الأولى (لم نعد جواري لكم) عام 1974 بدأت الكاتبة سحر خليفة تُثبّت مكانتها على الساحة الأدبية. ومع صدور روايتها الثانية (الصبار) عام 1976 ومن ثم روايتها الثالثة (عبّاد الشمس) عام 1980 حيث اتخذت فيهما موقفا ملتزما ونضاليّا وواضحا تجاه قضايا وطنها المحتل، وأبناء شعبها الفلسطيني حيثما كانوا، أصبحت الكاتبة التي يرتبط اسمها باسم فلسطين وشعب فلسطين، وتُشكّل رواياتها المواكبة لتحركات ونضالات الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، مرجعا أساسيا لدراسة المجتمع الفلسطيني بكل شرائحه.

قالت سحر خليفة في مداخلتها التي ألقتها في مؤتمر الإبداع الروائي الذي عقد في القاهرة يوم 16 شباط 2008:"إنّ المعرفة بالواقع هي الصورة الحقيقيّة للواقع، أي للإنسان، إذ لا واقع في عدسة تنأى عن الواقع وتنحرف عنه. ونحن عشنا على الهامش كشعب مأزوم. وسرّ الأزمة، بل محورها، أنّا لا نعرفُ واقعَنا بل نحلمُ فيه أو نحلم عنه وربّما نشطح، وهذا الأصح لما نفعل أو فُعلَ بنا. عشنا شعارات وعلونا فوق السحب عبر الأوهام ثم هوينا. قيل لنا إنّا قوّة، أقوى قوّة ضاربة في الشرق الأوسط قبل حزيران 1967، فماذا نتج عن ذاك الشّعار؟ قيل لنا إنّ المشكلة في الغازي وليس فينا، فغضضنا النظر عمّا فينا وغضضنا النظر عن تفاصيل ذاك الغازي وبتنا لا نعرف مَن هو، ولا مَن نحنُ، ولا نعرف كيف نجيب السؤال حول أسباب هزيمتنا. يعني لا نعرف ما الواقع. يعني لا نعرف كيف نجيب، ولا حتى نعرف ما نسأل". وتابعت سحر خليفة أمام المجتمعين من مثقفي ومبدعي العالم العربي بألم الإنسان الفاقد كلّ شيء في حياته، والمنبوذ من كلّ العالم ومن الله: "لدينا سؤال، لديّ سؤال. أنا المحتلة لديّ سؤال. أنا المهزومة لديّ سؤال. أنا المأزومة لديّ سؤال. وسؤالي هو: لماذا هُزمتُ؟ أين القوّة ونقاط الضعف؟ مَن أنا، مَن هم، مَن يعرفني؟ والسؤال الأهم: هل أعرفني؟" وتؤكد سحر خليفة للمستمعين: "هذا ما أسعى لتحقيقه. لأني قبل أن أكون فنّانة، أنا إنسانة، بنت البيئة، والاحتلال، والهزيمة. وفنّي هذا لخدمة ذاتي، دفاعا عنها، ذاتي الكبرى في مجتمعي، لأني محروقة من الداخل ومن الخارج، ولا يُمكنني أن أغضّ النظر عن هذا الوجع وآلامه".

وبعد مرور أربعة عقود على الاحتلال، ومُعايشة كلّ نضالات وتحرّكات الشعب، ظلّ السؤال الصعب يلاحقها، كما يُلاحق كل فلسطيني، وحتى كلّ عربيّ.

"لماذا هُزمتُ، مَن أنا، مَن هم، مَن يعرفني؟ والسؤال الأهم : هل أعرفني؟!"

هكذا بدأت سحر خليفة تستعيد الماضي من خلال مُعاينة الحاضر. لربّما تجد الجواب على السؤال الذي يُؤرّقها ويُعذّبُها. وكانت روايتها (أصل وفصل). وكأني بسحر قد ملّت متابعة الواقع المتكرّر، ورصد المعاناة التي لا نهاية لها، وعبثيّة الحلم الذي يُراود الفلسطيني فيتبعه ويهرب منه. سحر خليفة في عملها هذا لا تبغي كتابة تاريخ للمأساة الفلسطينية وإن اجتهدت في تَقصّي حقائق، ورصد أشخاص لهم دورهم في بلورة المصير الذي وصل إليه الفلسطيني. فكتابة التاريخ تستدعي نبش الوثائق والمستندات وسماع الروايات واستخلاص النتائج. لكننا على إدراك تام أنّ التاريخ موضع اختلاف وله الحقائق المتعددة، وكل باحث يصل إلى الحقيقة التي قرّرها قبل بداية بحثه، ولا تاريخ حقيقي ومحايد، لكلّ تاريخُه وحقائقُه ومستنداتُه، وما عداه زيف وتزوير.

ولأنّ السؤال الذي يطارد سحر خليفة: هل أعرفني!؟ أصبح الكابوس الذي يُطاردها ويلحّ عليها، لأنها اكتشفت فجأة أنها لا تعرف ذاتها، وغريبة عن نفسها، وهي ليست هي، أدركت بعد صداماتها ومواجهاتها ومعاركها التي خاضتها في رواياتها السابقة ابتداء من (الصبار) عام 1976 حتى (ربيع حار) عام 2004 أنْ لا جواب على سؤالها إلاّ  بالعودة إلى البعيد، بكامل هدوئها ونعومتها ومسؤوليتها بمنظور جديد وشجاع في التعامل مع الماضي لتستحضره كما عاشه الناس العاديون بعيدا عن خطابات الزعماء والقادة وخداع المتقلّبين، ومتجرّدة من كل موقف مُسبَق ورافض ومُقَرّر سلفا. ولم يغب عن وعي سحر موقف الكثيرين الرافض لكثير من الآراء والمواقف التي طرحتها في رواياتها السابقة، ولكنّها من منطلق إيمانها بأنّ الرواية عمل أدبي فكري نقدي بامتياز، ومناسبة لتكتب ما تُريد قوله في جميع المجالات، فقد تجاهلت كلّ الاعتراضات والهجومات والتّهميشات، واستمرت في نقدها الحادّ الغاضب لكلّ الانحرافات التي وجدتها في المجتمع الفلسطيني أو السلطة الفلسطينية مؤكّدة على واجب تحرير المجتمع برجاله ونسائه، وحتى يكون ذلك يجب أن تتوفّر سلطة ديمقراطيّة ثورية تُتابع ما كان مضيئا في التجربة الكفاحيّة العربية والعالمية.

سحر خليفة كانت على وعي تام من موقف النقّاد منها، وأنها في رواياتها السابقة واكبت حياة الناس في الأراضي المحتلة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، وأصرّت على إسماع صوتها الحادّ في حقّ المرأة بالتحرّر من قيد الرجل الذي عليه أن يتحرّر من قيود الجهل والعادات والتقاليد والأنانية الذكوريّة، واستمرّت في نقد السلطة التي أرادتها سلطة ديمقراطية ثوريّة متنوّرة حضاريّة. ولهذا عندما سئمت من واقع الحاضر، ويئست من إصلاح الخراب القائم، وملّت حديث بطولات الماضي، واكتشفت زيف ما ترويه الحكايات والقصص عن ماض غلّفوه بالبريق الكاذب أمام ما تشهده من حقائق دامغة صادمة للواقع الحزين لشعبها الفلسطيني، ووطنها فلسطين المتآكل يوميا تحت آلات المحتل الإسرائيلي، ارتدّت سحر خليفة لتبحث عن أجوبة للأسئلة الملحة التي تُطاردها: لماذا هُزمْتُ؟ أين القوّة ونقاط الضعف؟ مَن أنا، مَن هم، مَن يعرفني؟ وهل أعرف أنا نفسي؟

وكان المنعطف في تحوّل أسلوب ولغة وفكر سحر خليفة، وفي تحدّيها للنقّاد بكلمات باسكال المقتبسة في تصديرها لروايتها الجديدة (أصل وفصل). دار الآداب، بيروت 2009. : "لا تقولوا لي لم أقل شيئا جديدا. أسلوب ترتيب العناصر هو الجديد". والعناصر التي تتكوّن منها الرواية، والترتيب الذي تُريد هو أنْ تعود للأسباب والمُسبّبات وأصل وفصل ما حدث حتى تكون على دراية كاملة بواقعها وما آلت إليه حالة شعبها ووطنها. هذا كان المدخل لرواية (أصل وفصل) التي تشكّل مرحلة جديدة في مسيرة سحر خليفة الإبداعية. ولاختيار اسم الرواية تداعيات وأبعاد عديدة قد تأخذ بنا إلى مسارات واتجاهات مختلفة لسنا في حاجة إلى الخوض فيها الآن.

اختارت سحر مسرحا لأحداث روايتها ثلاثة أمكنة شكّلت عصَب فلسطين الأساسية، لتُغني عن الكل، فيها تشكّلت المأساة التي لا يزال شعبنا الفلسطيني يعيشها. وهي نابلس وحيفا والقدس. وكانت مدينة نابلس تُشكل قلب الوطن وحصنه المنيع ونقاوة أهله ومصداقيتهم، المدينة المحافظة المنغلقة على نفسها، المدينة التي تتحكّم بأهلها العادات والتقاليد. بينما كانت حيفا البوابة الواسعة التي دخل منها المهاجرون اليهود إلى البلاد، وإليها هُرّبَت الأسلحةُ للمُقاتلين اليهود، وشهدت العلاقات المتشابكة المختلفة بين الشعبين اليهودي والعربي الفلسطيني. وكانت القدس المدينة التي شهدت المواجهات السياسية، والمؤامرات، وكشفت العيوب، وعرّت الكثير من الزعامات التي تخاذلت وتآمرت وباعت الوطن. تبدأ أحداث الرواية وتنتهي في أواخر سنوات العشرينات وسنوات الثلاثينات من القرن العشرين  في مدينة نابلس حيث عاشت الأسرة التي اختارتها سحر خليفة لتنوب عن كل الشعب الفلسطيني. أسرة تتكوّن من الأم زكيّة وابنتها الوحيدة وداد وثلاثة أبناء: وحيد البكر وأمين وسمير. هذه الأسرة تواجه مأساة موت الأب، فتتكفّل الأم وابنها البكر وحيد بإعالة الأسرة بعد تنكّر كبير العائلة ورفضه إعادة الأمانة المالية التي كانت زكية قد ائتمنته عليها بعد موت زوجها.

تبقى الأسرة على حالتها الروتينية في الحياة اليومية حتى يأتي رشيد شقيق زكية الثري الذي كان قد هاجر إلى السعودية وتزوج هناك وأنجب، وعمل وكسب المال الكثير بعد موت زوجته السعودية، فتنازل عن حصته في ملك العائلة لزكية. عاد ليلم شمل العائلة ويزوّج ابنته رشا لوحيد ووداد لابنه رشاد، وينتقل الجميع ليعيشوا في حيفا المدينة التي اختارها رشيد للإقامة فاشترى بيارة حمضيات، وبنى بيتا جميلا في الكرمل، واشترى سرب مراكب بخارية تنقل الحمضيات إلى أوروبا وتعود محمّلة بالبضائع وما لذّ وطاب من مأكولات (ص35-36). فعمل وحيد مع خاله بينما أمين تابع دراسته في القدس وعمل في الصحافة.

عودة شقيق زكية الثري غيّرت مجرى حياة الأسرة، فقد عرّف زكية وأفراد أسرتها على أسرة يهودية صديقة له كان لها الأثر الكبير على تغيير أفكار وتصرفات الجميع. وكشفت هذه العلاقة على البون الشاسع ما بين الأسرتين في الثقافة والفكر والحياة والعمل، كذلك عملُ وحيد مع خاله في حيفا كشف له أسرارا رهيبة حول عمليات تهريب اليهود للأسلحة والمهاجرين، وكيف أن خاله ككثيرين من العرب يتواطئون في عمالتهم ويساعدون اليهود، فقد كانت مراكب خاله العائدة من أوروبا تحمل معها الأسلحة المهربة لليهود، وفي كثير من المرات تنقل المهاجرين اليهود إلى فلسطين، مما دفع بوحيد أن يتمرّد على واقعه ويهجر بيته وزوجته ويُقرّر الانضمام لرجال المقاومة ضدّ الانتداب البريطاني بقيادة الشيخ عز الدين القسّام. أمّا أمين فتابع دراسته وانخرط في الصحافة والعمل السياسي وانتقد تصرّفات أخيه وحيد وانضمامه للمقاومة لأنه وجد أنّ العمل العسكري العشوائي غير المُعَدّ له عمل طائش ومدمّر وقد قال رأيه هذا للشيخ القسّام في لقائه به(ص226).

وكانت وداد هي الشخصية المتميّزة التي سرعان ما بدأت الظروف الجديدة تؤثر عليها وتخرجها من حياتها الروتينية. فقد رفضت صفقة زواجها من رشاد ابن خالها، وكرهته من الأيام الأولى للزواج، ثم تركت البيت في حيفا وهربت إلى القدس لتكون برفقة ليزا الإنكليزية الناشطة الاجتماعية والسياسية، المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني، التي أخذتها معها إلى كل نشاط اجتماعي أو سياسي وخلقت منها إنسانة واعية مثقفة فعّالة مُغايرة. وتابعت وداد في صقل شخصيتها والتحرّر من قيود الأسرة والعادات والتقاليد بعد عودتها لبيت العائلة وانفصالها عن رشاد والعودة لتعيش مع أمها في نابلس. لقد أخذت تفكّر في مستقبلها وفي كيفية توفير مصدر المعيشة لها وللمولود الجديد الذي يتكوّن في داخلها. وبعد فشل مشروعها مع صديقتها لفتح صالون قرّرت الالتحاق بدورة تمريض.

وبالمقابل كانت الأسرة اليهودية المكونة من الأب اسحق شالوم عراقي الأصل، زوجته من أصل روسي بولندي عاش معها في العراق عدّة سنوات وهناك وُلدَت كلّ البنات وعشن في بغداد حتى بلغن. ثم أقنعته زوجته بترك العراق والمجيء إلى فلسطين أرض السّمن والعسل أرض الميعاد، حيث تنقل في الإقامة بعدة أمكنة حتى استقر في حيفا وعمل في التجارة عبر البحار والاستيراد. وكانت معرفته برشيد وعمله معه في التجارة البحرية. تشارك في الأحداث، إلى جانب أفراد هاتين الأسرتين، العديد من الشخصيات العربية واليهودية، ومنها مَن لعبت أدوارا هامة في صنع الأحداث وتغيير الواقع مثل دافيد بن غوريون وحاييم وايزمن والحاكم الإنكليزي للبلاد.

المَدخل المُفجع

شكلت الأشهر القليلة التي سبقت نكبة عام  1948 الركيزة الأساسية التي انطلقت منها الكاتبة لتعود إلى الماضي لتكتشف الأسباب والمُسبّبات التي أدّت إلى هزيمة العرب أمام القوات اليهودية رغم أنهم كانوا مطمئنين وقانعين بانتصارهم على اليهود والإنكليز، فالعرب "كانوا مثل النمل، وجيوشهم زاحفة لإنقاذ فلسطين من سيناء ومن العراق ومن الأردن." (ص11) لكن القمر كان ينكشف على وجه ستّي زكية ويقول لها أشياء مُغايرة ومُفزعة "ناس مثل النمل، وعَلَم كبير يَسقط من فوق ويَغرَق بالدم. الدم للركب، راحت، ضاعت البلاد. والناس يا حرام مثل النمل، والدم للركب، آه يا ويلي." وترمي زكية المرآة التي ترى فيها ما يُريها القمر، وتستمع إلى نشرة الأخبار مع أفراد عائلتها التي تقول: "الطريق إلى حيفا سُدّت بمدافع ودبابات. اليهود أخذوا يافا، أخذوا حيفا، أخذوا صفد، أخذوا الرملة، سقطت القدس"(ص10) وتقول: "الجيوش العربية تتراجع." ويُكابر الكبار ويرفضون تصديق ما يسمعون ويُؤكدون أنّ العرب أكثر وأقوى وأهم (ص11) حتى تكشّفت الحقائق، وهؤلاء الذين اعتقدوا أنهم كبار باتوا أصغر(ص10).

وتتساءل الراوية (الكاتبة): "ما سرّ القمر ومرآته وهل من تفسير؟ وهل هذا ما يذكره بعض النشطاء في ذاك العلم أو ذاك الفن عن قوى خفيّة نُنكرها لأنّنا بالأصل لا نعرفها؟ أنا لا أعرف. وقد كنت أقول وأنا أصغر، وأنا ما زلت أتفلسف، تلك خرافات نُبدعها أو نصنعها حتى نفهم، وتكون النتيجة لا نفهم. والآن أقرّ بعد كلّ السنين، وبعد تجارب تخترق العظم: أنا لا أفهم. لكن ستّي الأميّة، وما كانت تقرأ أو تكتب، وكانت أميّة على السكّين، كانت تفهم." (ص11-12).

بداية المشكلة

ترى سحر خليفة أن المأساة التي أحاقت بالشعب الفلسطيني وأضاعت وطنه تعود إلى هذا البون الشاسع ما بين الشعبين اليهودي والعربي الفلسطيني في مختلف نواحي الحياة: المعيشية، الاجتماعية، الفكرية، الثقافية، الاقتصادية، العلمية، الوطنية، السياسية. وفي موقف كليهما من قضايا الديمقراطية والحرية والمرأة والمسؤولية الذاتية والجماعيّة والتعاطي الواعي مع االماضي والحاضر والمستقبل. وتقف الكاتبة على بداية مأساة الإنسان العربي في تربيته البيتية حيث يتحكّم الرجل، وتفتقد المرأة لأيّ من حقوقها الأساسيّة. فكبير العائلة الرجل المَهيب المحترم الذي يلبس الجبّة الواسعة والعمامة الضخمة يوزّع نصائحه وإرشاداته للجميع: "الصوم يشفي من القرحة ومن الغازات. وكذا الزّواج المُتعدّد يشفي من الفسق والغواية وحبّ النسوان. كما أنّ اللحية الممتدة تحدّ من الفتنة والإغراء."(ص17) وكبير العائلة هذا كان يمتلك في ذمّته طابور نساء والعشرات من الأبناء، وهو نفسه تنكّر للأمانة التي ائتمنته عليها زكية بعد موت زوجها، ورفض إعادة المال لها، فعاشت فقيرة تستجدي الآخرين لتُعيل أسرتها. واختلف الوضع المادي والاجتماعي للأسرة برجوع الخال رشيد شقيق زكية مع ثروته الكبيرة، فقد همّه تأمين مستقبل أبنائه فعمل بكل ذكائه على زواج ابنته رشا وابنه رشاد إلى وحيد ووداد ابني زكية، ولكنه كان بعيدا عن أيّ هموم وطنية وفكرية وسياسية، ولم يجد مانعا في التعاون مع اسحق شالوم اليهودي على تهريب الأسلحة والمهاجرين اليهود على مراكبه المتنقلة بين موانئ أوروبا وفلسطين. ولم يهتم بتربية أولاده وتعليمهم، فاكتفت بناته بتقليد المظاهر الخارجية باللباس والكلام والتصرّف، وابنه بالسهر والرقص وملاحقة النساء حتى تدمّرت حياته الخاصة وهجرته زوجته.

ونرى بالمقابل أسرة اسحق شالوم اليهودي رغم أن الزوج عراقي الأصل والزوجة من أصل روسي بولندي فقد اهتمت الزوجة أن تجيء إلى فلسطين حتى تبني،  حتى تعمل، حتى تُنفّذ ما عجز اليهود عن تحقيقه عبر الأجيال. جاءت لتعيش حلم الدولة، دولة يهوديّة اشتراكيّة، دولة تقوم على أسس الكيبوتس بالهجرة إلى فلسطين باعتبارها الوطن القومي لليهود وهبة الرب.(ص80) وفي البلد عاشت الأسرة في أماكن متعددة ولكنها اهتمت بتعليم الجميع وإكسابهم المعرفة والفكر والوعي والمسؤولية الذاتية والجماعيّة. وفي الوقت الذي تبدو فيه تفاهة رشاد ابن رشيد وميوعته نجد إستر ابنة اسحق تُعَلّمُه درسا بضربة الكاراتيه التي تُسدّدها له وترميه بعيدا على الأرض(ص98)، وبالانتقادات الحادّة التي تقولها حول تحكّم رشيد بابنه رشاد وإجباره على زواج يرفضه. حتى أنّ رشاد كان يهرب إلى البار ويجلس إلى طرفه ويشرب لينسى نفسه وينسى ما حلّ بحياته. هو تعيس ويريد التمرّد على وضعه. زواجه القسري كان القطرة التي طفّحت الكيل وجعلته يحسّ أنّه مستغلّ ومُستَعبد. لقد أخذ أبوه رجولته وذكاءه.

تعرّفه على بنات اسحق شالوم جعله في البداية يُقارن بين هؤلاء البنات وأخواته، ثم بين هؤلاء البنات وبينه هو. فحين ناولته إستر ضربة كاراتيه جعلته يدور على نفسه مثل اللولب ويسقط على الأرض مثل الميّت، بدأ يتساءل بحسرة وحسد كيف أسقطته على الأرض بنت يهوديّة وهي لا أكثر من بنت، وهو رجل، وهو تربية السعوديّة! فكيف تتفوّق يهوديّة على تربية السعوديّة؟! كيف تتفوّق عليه بنت وهو الذي اعتاد أن يكون الأمير والنوّارة بين جوقة بنات؟. وعرف رشاد أنّ بنات شالوم يركبن الخيل، وهو لا يركب. بنات شالوم يسبحن في البحر، وهو لا يسبح. بنات شالوم يلعبن تنس وكاراتيه وسكواش، وهو لا يلعب إلاّ الورق، ودوما يخسر. بنات شالوم تدرّبنَ على السلاح في كيبوتس عخشاف وهو لم يلمس بحياته أيّة قطعة سلاح إلاّ سكين المطبخ. وحتى سكين المطبخ لا يعرف كيف يمسكها أو يستعملها لأنّ المطبخ وفَرم السكّين شغل النسوان (ص161-162). وبينما رشيد الثريّ يرعى صداقته مع اسحق وأفراد أسرته ويتعاون معه في العمل نجد اسحق يستغل صداقته مع رشيد ويقوم باستخدام مَراكب رشيد لتهريب الأسلحة لليهود، ونَقل المهاجرين اليهود إلى البلاد مُؤديّا دوره كيهوديّ، لا يهم إشكنازيّا كان أو من السفارديم، هدفه الأول والأخير بناء الدولة اليهوديّة على قاعدة اقتصاديّة حرّة وأسس غربية(ص80)، ولكنه كاد يُجنّ ويفقد عقله حين وصلت إليه حكاية ابنته مع رشاد قحطان فلاحقها وحذّرها وهدّدها حتى اضطرت للهرب من بيت والدها والانضمام إلى أمّها في الكيبوتس (ص170).

وكما فوجئ رشاد بن رشيد بهذا الفارق الكبير ما بين حالة العربي وحالة اليهودي على مختلف الأصعدة، هكذا صُدم وحيد بما رآه ولمسه من تطوّر وتقدّم علمي عند اليهود خلال زيارته لزوجة اسحق في الكيبوتس حيث أخذه أحد رجال الكيبوتس وهو أستاذ في التخنيون، في رحلة تعارفيّة أوقفته على البَون الشاسع في التطوّر العلمي والزراعي والاجتماعي والفكري بين الشعبين (ص197-206). وزكية التي استنكرت علاقة أخيها رشيد مع اليهود(ص74) تؤكّد على تفوّق اليهود العلمي بقولها لابنها وحيد: اسمع مني خذ رشا لليهود يمكن تحبل. عندهم دكاترة زيّ الألمان ويمكن أشطر. فيه واحد اسمه. نسيت اسمه، قالوا شاطر. اليهود شاطرين. (ص228)

حكّامنا يا ويلنا

لم يكن كبير العائلة إلاّ نموذجا صغيرا لمعظم المسئولين والقادة العرب، فهم يهتمون أن ينتسبوا إلى الرسول والحسن والحسين والصحابة. وبهذا صاروا الأعيان والقادة، وتوارثوا الألقاب والوظائف وحتى الأوقاف أبّا عن جدّ. وبسخرية حادّة تقول: "وأيضا توارثوا حروب الغبراء والتنافس على كسب ودّ مَن حكمونا بدءا من الأتراك وبريطانيا حتى أمريكا وأبناء سام لدرجة أن بن غوريون، شيخ اليهود، قال يوما إنّ باستطاعته شراء أكبر عربي مهما تكبّر. وكذلك قال هذا الكلام حاييم وايزمن. وهذا ما أكّده بعض الشعراء والموثوقين في ذاك الزمن، زمن التشهير، وما أكّدته الوثائق وصكوك البيع".(ص25). وتؤكّد هذا الموقف على لسان الشيخ عز الدين القسّام في حواره مع أمين "زعماء القدس يظنون أنّ الدور لن يصلهم لأنّهم لا يُفكرون إلاّ بالكسب ومصالحهم. قُل لي مَن باع وادي الحوارث وأراضي العفولة وقصص وطبعون وشطا والزبيدات وجبل كنعان؟ قل لي مَن باع مرج ابن عامر؟ قل لي مَن تاجر مع اليهود وشاركهم؟"(ص227-228). وبإشارة في الهامش تُحيلنا إلى ما يؤكّد ما تقول، إلى يوميّات أكرم زعيتر ومحمد عزت دروزة وخليل السكاكيني وفيصل الحوراني، وتستشهد بأبيات شعر لإبراهيم طوقان (ص228).

 وتُذَكّر باستغلال القادة والزعماء طيبة الناس العاديين، وكيف كان الزعماء يسيرون في المظاهرات ويُسمعون الخطابات الرنّانة والكلمات القويّة وإذا ما طالبهم واحد من الناس بالعمل الفعلي وليس فقط بالكلام سرعان ما يتّهمونه بالعَمالة والخيانة والشيوعية والكفر ويؤلبّون الآخرين عليه. (ص335-242). وبموقف رئيس بلدية القدس العربي الذي كان يقرف من النساء المبردعات بالغطوة والمنديل ويخجل بالمرأة العربية، لهذا أهمل زوجته أم الأولاد، وصاحب يهودية فرنسيّة تزوجها بعد سنتين أو ثلاث وأجلسها بجواره في الرولز رويس وأسكنها في بيت جميل في القطمون. وكان يحبّ، قبل المنصب في البلدية، أنْ يقضي أوقات فراغه - وهي كثيرة - في بار هاكوب أو خريستو حيث التقى واصف والحاكم وأتباعه وأيضا بالحلوة الفرنسية. (ص343) ولم يكتف الزعماء والقادة والحكام بما يقومون به وإنما تنافسوا وتناحروا. زعماء القدس، زعماء نابلس، زعماء القرى، ثم الأحزاب، وكذا العائلات والقبائل.(ص417)  صحيح أنّه كان أيضا العديد من القادة الوطنيين الذين تصدّوا للحكم الإنكليزي والاستيطان اليهودي، ودعوا الناس إلى التمرّد وقاوموا معهم المحتل فعوقبوا، منهم مَن نُفي أو هرب أو اعتُقل ومنهم مَن قُتل. ولكن الصورة الأكبر كانت الأكثر إثارة وإخافة لأنها التي أدّت في النهاية إلى ضياع البلاد وتشتّت الشعب.

علاقة العرب واليهود بالإنكليز

وتتوقف سحر خليفة عند انخداع العرب بوعود دول الحلفاء لهم أثناء الحرب العالمية الأولى حيث أعلنوها صريحة، أنّهم ينحازون إلى قوات الحلفاء ضد الحكم التركي الذي رزح على الوطن العربي مئات السنين وتركهم بعد أن امتصّ دماءهم واقتنص خيراتهم وشنق رجالهم وساقهم للحروب مثل الأغنام(ص31)، وقد أملوا أنّهم سيلقون الصديق المُعترف بفضلهم. فخرج الآلاف من الثوّار العرب تحت راية الشريف الحسين ليُشاركوا في حرب ضروس، واستطاعت قواتهم أن تهزّ الحكم التركي وتحتل دمشق وتُعلنها حكومة عربية، ومثلها فعلت في مواقع أخرى من الوطن العربي. لكن سرعان ما انكشف الخداع وتقاسَم الحلفاء بلاد العرب وأعلنوا انتدابهم عليها ونصبّوا الحكام الأغراب على الشعب العربي في مختلف أقطاره. وكانت الصدمة الكبرى للشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه الضحيّة بإعلان وعد بلفور المُعترِف بحقّ الشعب اليهودي في دولة قوميّة له على أرض فلسطين.

وأخذ الحاكم الإنكليزي من الأيام الأولى يُمارس سياسته مع أهل البلاد العرب، كان يعرف كيف يُسايرهم ويقمعهم، على عكس معاملته لليهود، رغم أن موقفه الشخصي من اليهود لم يكن إيجابيا، ويرى أنهم "شعب لا يهدأ حتى ينال ما يُشبعه ويُرضي غروره، شعب خبيث، شعب قادر وتتجلّى فيه الأسطورة. في أيّ مكان، في أيّ زمان، في أيّ حزب ومجلس، في أيّ بنك، أيّ مشروع، أيّ بزنس، هم مثل الجنّ، طاقة غريبة، طاقة مخيفة، خطر لا يُمكن إنكاره". (ص129).  وفي مكان آخر يقول عنهم وقد استفزّه بن غوريون بطلبه منه فصل السائق العربي:"أمّا هؤلاء (اليهود) أعوذ بالله، أرزاق الأرض لا تُشبعهم ولا مياه السماء ترويهم، كلّ التمييز والامتيازات وما يحصلون عليه من ضرائب وتسهيلات والكهرباء والفوسفات والمعادن، وكل التوظيف والعمالة ويحسدون العرب على سائق!" (ص141). إلاّ أنّه أخذ يُنفّذ سياسة بلده التي انحازت لليهود، فسهّلت عليهم كلّ الأمور وفتحت بوابات البلاد وموانئها أمام أفواج المهاجرين من كل العالم، وسهّلت عمليات تهريب الأسلحة، وهيّأت لهم كلّ الإمكانيّات لابتياع الأرض وإقامة المستوطنات.

وكل هذا، كما تُريد الكاتبة أن تُوضّح، ليس حبّا في اليهود وإنّما رغبة في تخليص الشعوب الأوروبيّة منهم. فعندما سأل الحاكمُ الجنرالَ أللنبي حول تأثير حاييم وايزمن وقدرته على الوصول إلى كلّ ما يبغيه قال أللنبي: "هو (وايزمن) مثل الروس لأنّه منهم. مَن هو كارل ماركس؟ مَن هو تروتسكي؟ مَن صنع الحُمر؟ مَن خلق البلشفيك وعلّمهم؟ مَن خلق الثورة الروسيّة؟ مَن خطّطها؟ مَن روّجها؟ مَن نسف النظام؟ مَن جاء لنا بنظام الحُمر؟ هم اليهود يا سير آرثر. هو هذا الشعب بلا منازع. ضعيفا كان، محتَقَرا كان، مكروها ممجوجا منبوذا، إلاّ أنّه كلّي القوّة والقدرة. هل نستطيع إنكاره؟ فإذا حشرناه في مكان ما بعيدا عنّا نخلُص منهم، ونخلص من ثورة محتملة هنا في لندن، هناك في باريس، هنا في برلين نخلص منهم، هم أصل البلاء، نخلص منهم."(ص133). ويتذكر كلام الجنرال أللنبي قبل وفاته بقليل:  "كل الجنرالات قالوا إنّ فلسطين لن تنفعنا وستُفقدنا ولاء واحترام العرب، ستأخذ أموال خزينتنا، لكن  صموئيل وإيمان بلفور بقدوم المسيح، رجوع المسيح حسب التوراة، والأسطورة، شيء غريب، فجأة انقلب الجوّ. إلحاح اليهود شيء مذهل. طاقة رهيبة، قوّة مخيفة، تأثير فظيع، مَن خلق الحُمر؟ حلّوا عنّا. خذوا فلسطين وحلّوا عنّا. وأنت هنا بانتظار المسيح، كما في التوراة، والأسطورة، وفتاوى بلفور والهستدروت. هذي أوامر."(ص146). وطبعا هذا الخلاص جاء على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه. وقد نجح زعماء اليهود في استغلال الموقف الأوروبي وزادوا مطالبهم يوما بعد يوم، ولم يأتوا للحاكم لاستجدائه وإنّما لمطالبته بتنفيذ ما يُريدون، ويكثرون من لومه وعتابه واتّهامه على عَدَم معاقبة العرب بقسوة أكثر. وتصل بهم الجرأة أحيانا كثيرة إلى شكوى الحاكم إلى مرؤوسيه في لندن واتّهامه بمحاباة العرب وملاحقة اليهود ويطالبون بتغييره بآخر أفضل.(130،131،132 وغيرها كثير).

واكتفى زعماء العرب في المقابل باللوم والمُعاتبة والاستجداء والاكتفاء بالوعود، والتكالب والتسابق على عتبات الحاكم لتأمين المصالح الشخصية الزهيدة، ولم ينسوا أن يكونوا هراوات الحاكم على رؤوس أبناء شعبهم. في النهار يُسمعون الخطابات النارية المُعادية للإنكليز واليهود، وفي الليل يتسابقون ليسهروا حتى ساعات مُتأخرة مع الحاكم والفتيات الجميلات. فاختلفوا وتنافسوا وتنازعوا وقسّموا الناس إلى أحزاب وقبائل وعائلات ومناطق. "كان الإنكليز يضحكون عليهم ويسايرونهم ببعض الألقاب والهدايا ويرسلون رسائل رسميّة يملأونها بالديباجات فيقولون لهذا يا جلالة الملك حامي المشرقين والمغربين وعُلى السموات، ولآخر يا صاحب المُلك والسّعادة والكرم والمجد والرّخاء العظيم، ولثالث يقولون يا فخامة الرئيس ذا الشأن الكبير والوجه المنير والعقل الخطير رمز الأمّة، كانوا يقولون كلّ هذا وذاك في رسائلهم، أمّا في الصحف، هناك في لندن، فصوَر ورسوم وعناوين بالبُنط العريض للحى ولفّات وطرابيش لجوقة بلهاء أو قتلة، إرهابيون، وفضائح من ملكت أيمانه طابور نساء، عشرين امرأة، خمسين امرأة، مئة ومائتين، ثمّ الأولاد، خمسمائة ولد، ولد وبنت، لدرجة أنّه لا يعرف خلقتهم ولا يميّز هذا من ذاك، ولا هذي من تلك. وكان السفراء في لندن يخفون الصحف عن أصحاب الجلالة والفخامة حتى لا يُقال فشلوا وخابوا وبالتالي تطير مناصبهم. وإذا حدث وتسرّب خبر من الأخبار يقولون لأصحاب السموّ والجلالة إنّ المقصود بلحية التيس في ذاك الرسم هو الجار المُلاصق لدولتكم، والشيخ فلان البعيد القريب، لا جناب العرش وحضرتكم، وإنّ الملك جورج حفظه الله يحفظ العهد ويحفظكم"(ص432).

وازداد الوضع سوءا مع ازدياد تذمّر الناس من الوضع المُزري المُتردّي والإذلال المُتواصل ورؤية انتشار الاستيطان اليهودي في البلاد وتواطؤ الإنكليز مع اليهود، وتسهيل دخول المهاجرين وتوطينهم وتهريب الأسلحة حتى حدث الانشطار الكبير ما بين الناس والزعماء والقادة، فابتعد الناس عن الزعماء، وأهل القرية عن أهل المدينة، وتعدّدت الولاءات والمصالح والانقسامات والصدامات واستحالة توحيد الصّف. وانفجر الشارع وأعلن العصيان في أكثر من منطقة، وأعلنت الثورة ضد الغرباء، "وازدادت الصدامات والمُواجهات بين الناس والجنود المحتلين، وزاد القمع والشنق والقنابل والطيارات، لكن الزعماء والأعيان لم يتوقفوا عن زيارة الحاكم والتودّد إليه، كانوا يزورونه ويعزمونه على مناسف وخراف محشوّة وفتّة كرشات. كانوا يزورونه ويزورهم تحت جنح الظلام، بلا رقيب، ولا صحافة. كانوا يزورونه كلّ على حدة، ويفاوضونه. كلّ على حدة، ويساومونه ويحتفلون معه بعَقْد الصفقات، كلّ على حدة، ثمّ يسرّبون الأخبار للصحافة أنّ التفاوض والاجتماعات من أجل السلام وكسب مواقع لدى الإنكليز لدحر اليهود."(431-432). وكانت الكاتبة على وعي بكشفها للوضع البائس الخطير الذي ساد في البلاد، لكنها لم تنس أن تُشير إلى مجموعة من القادة الشرفاء الذي وقفوا إلى جانب الناس ضدّ المحتل الذي واجهوه في الشارع واشتبكوا مع جنوده، وكثيرون منهم اعتقلوا أو نُفُوا، أو أصيبوا أو شُنقوا.

بؤس المقاومة الفلسطينيّة

أرادت الكاتبة سحر خليفة من خلال عَرضها لوضع الناس العاديين والقادة والزعماء في السنوات 1917-1939 أن تُلقي الضوء على الأسباب والمسبّبات التي أودت بضياع البلاد وتشتّت الشعب. ففي الوقت الذي كان اليهود موحدين على مختلف فئاتهم وقياداتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، ويعملون يدا واحدة في الضغط على المحتل الانكليزي، ويسعون لشراء الأراضي العربية، وتوسيع الاستيطان اليهودي في البلاد، والعمل الدؤوب على تحقيق الغاية وإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، كان العربي العاديّ ينشغل الليل والنهار لتوفير لقمة العيش لأهل بيته، وكان القادة والزعماء منهمكين في تثبيت زعاماتهم وإشباع غرورهم وذلك على حساب مصالح الوطن، وبتعاون قسم كبير منهم مع الحاكم المحتل ومع الزعماء اليهود على توفير السّبُل لهجرة اليهود للبلاد وتهريب الأسلحة، ولم يتورّع هؤلاء القادة والزعماء عن إهمال حاجيّات ومشاكل ومطالب أبناء شعبهم أو عن الاختلاف فيما بينهم ومحاربة الواحد للآخر والاستعانة بالإنكليز أو اليهود لنَيل ما يُريدون. وبينما كان على العربي أن يُحارب على جبهتين: الأولى ضدّ المحتل الإنكليزي للبلاد والعمل لطرده وتحرير الوطن. والثانية ضد الهجرة اليهودية والاستيطان وتهريب الأسلحة للمقاتلين اليهود. كان اليهودي يجد نفسه حليفا للمحتل الإنكليزي، ويعمل معه على اضطهاد العرب وتفريغ البلاد منهم وإخماد كل حركة مقاومة وتمرّد تظهر.

ولم تجد حركات التمرّد والثورة عندما انفجرت في العديد من المناطق مَن يمدّ لها يد المساعدة ويدعمها بالمال والقوى البشريّة. وانحصرت هذه الحركات في المناطق الجبلية الداخلية والشمالية بعيدا عن المدن. ولهذا كانت محكومة بالفشل من اليوم الأول لانفجارها. وفي اللقاء ما بين أمين الذي أصرّ على أخيه وحيد أن يلتقي بقائد الثورة الشيخ عز الدين القسّام يختصر كل المشهد العربي البائس في مواجهة الخطر الكبير الذي يترصّد بالوطن والشعب قال أمين يلومُ الشيخ القسّام بعد أن أخبره الشيخ ما كان قد خاطب به العمال والفلاحين في مدرسة الجامع: "أنت تُحرّض البسطاء وتدفعهم إلى الانتحار. ماذا لديهم؟ سلاح عتيق لا يصلح لصيد العصافير، ووضع دولي متحيّز، وجوّ عربي ممزّق لا يعبأ بهم؟ يا سيّدنا الشيخ أنت تُجازف، مَن يرعاكم؟ حتى في القدس لا أحد يهتمّ أو يحسّ بكم؟ ماذا تفعلون وأنتم قلّة؟ لماذا التضحية بلا طائل؟ لماذا الموت بلا مقابل؟"(ص226).

 وحاول الشيخ القسّام أن يشرح لأمين موقفه: "في القدس زعماء نيام سنصحّيهم، وأصحاب نفوذ ومصالح سنُواجههم، فماذا فعلوا في المؤتمرات؟ ولجان التحقيق المُنتدبة وخداع الإنكليز ونواياهم في إقامة وطن بديل ليهود الغرب على أنقاض أمّتنا وعروبتنا، ماذا فعلوا مقابل ذلك؟ يُفاوضون؟ يُفاوضون مَنْ؟ كيف نُقاوم؟ بالمظاهرات؟ بالمؤتمرات؟ بالعرائض؟ أنا لا أرى إلاّ السلاح طريقا ينفعنا. اسمع يا بنيّ، بلدنا تضيع من أيدينا. باعوا فلسطين وباعونا. وها هم ينتزعون أراضينا قطعة قطعة. اتّفاق مكتوب بين اليهود وبين السلطة. الانتداب يسنّ القوانين ويُشرّعها، وتكون النتيجة إفقار الناس ونزوح القرويين عن أراضيهم. ألوف الفلاحين لجأوا لحيفا لإيجاد عمل فضاعوا فيها. بدأوا بتهجير القرى والفلاحين، وغدا يصلون إلى حيفا ويافا وعكا وكلّ فلسطين"(ص227). وتابع الشيخ القسّام في كلامه لأمين: "زعماء القدس يظنّون أنّ الدور لن يصلهم لأنّهم لا يُفكّرون إلاّ بالكسب ومصالحهم. قل لي مَن باع وادي الحوارث وأراضي العفولة وقصص وطبعون وشطا والزبيدات وجبل كنعان؟ قل لي مَن باع مرج ابن عامر؟ قل لي مَن تاجر مع اليهود وشاركهم؟ يسمّون الأحزاب قوميّة فأين الإسلام؟ زمن الإسلام كنّا وحدة، من الأناضول حتى السودان حتى اليمن حتى المغرب. بزمن الإنكليز عُدنا قبائل. فلو استرجعنا منارتنا وتمسّكنا بعرى الإسلام لعُدنا أمّة وتفوّقنا. هو الإسلام ناصرنا ومخلّصنا. فلنتمسّك بعرى الإسلام. "(ص287).

ولم يكن العمل السياسي بأفضل، فكما ذكرتُ سابقا كان الزعماء والقادة يتسابقون لمراضاة الحاكم الإنكليزي على حساب قضية الوطن ومصالح الشعب، وكان البعض يتمادى في علاقاته فيساعد اليهود على شراء الأراضي وتوسيع الاستيطان وتهريب الأسلحة واستقبال المهاجرين. وتصف لنا الكاتبة أحداث المظاهرة النسائية، موثقة بالصورة، التي قامت بها نساء القدس وقابلن الحاكم الإنكليزي وطالبنه بحقوق الشعب، وكيف حاول بعض الزعماء تخريب المظاهرة بتحويل النقاش خلال مسيرتها إلى سفور النساء ولباسهن غير المحتشم "غطّوا يا نسوان، غطوا، غطّوا"(ص153) وبعض الشباب بدأوا بالتحرّش والغناء المهين "أمّ البونيّة رقّاصة، بَدْها بُمْبَة ورصاصة"(ص153). وتعدّي بعض رجال الدين على بعض النساء. "أخذ الشيخ يحوقل ويترحّم على هذا الزمن وعُهر النسوان، لأنّ المرأة في هذا الزمن  زمن البونيّة ، صارت وقحة وقليلة دين". (ص155). أثرت هذه الحالة العامة على مُجمل الناس فاعتزل الكثيرون العمل السياسي وانكفأوا على مشاغلهم المَعيشيّة الذاتية، واختار البعض طريق الإيمان والتديّن لأنّ الله هو النصير والملجأ الآمن، ورأى البعض، خاصة في القرى، الانضمام لصفوف المقاتلين رغم شحّ العتاد العسكري والماديّ.

ولم يكن غريبا أن تنتهي كل الحركات القتالية والتمرّدات وحتى ثورة عام 1936، بما انتهت إليه من الفشل والهزيمة. فقد أعلنت دون استعداد وإعداد ودراسة وتوفير كل الاحتياجات اللازمة وتفجّرت بمبادرات فرديّة حماسيّة، وبدون قيادات عسكرية تعرف أصول القتال والمواجهة. ورغم صدق إيمان وعزيمة وثورية الشيخ عز الدين القسّام إلاّ أنّ قراره بإعلان الثورة وبدء الهجوم على القوات الإنكليزية المحتلة للوطن لم يكن موفقا ولم تنجدهم "الحراب المسنّنة التي أوصى بها الشيخ تيمنا بما كان يحمله الصحابة في الزمن القديم"(ص387) ولا صياحه بالبدء من حيث انتهى الظاهر بيبرس.(ص389) وانتهى باستشهاده ورفاق له كثيرون(ص406). وانتهى الإضراب الكبير كما انتهت الثورة بانقسام الشارع ما بين المؤيد للإضراب والمعارض. "وزعماء العرب كزعماء القدس، بدلا من أن يعملوا على دعم الثورة جاؤوا يتوسّطون لفك الإضراب ففَرطوا الموقف، وقد كان مفروطا أصلا"(ص419).

أيّة رواية هي (أصل وفصل)؟

تختلف هذه الرواية عن سابقاتها في أنّ الكاتبة قرّرت، وبإصرار متعمّد وسابق، أن تتوّقف عن مُتابعة ما يجري على الأرض الفلسطينية المحتلة وما يُعانيه الإنسان العاديّ في حياته اليومية، وأن تعود إلى أصل قصّة الصراع الفلسطيني اليهودي وتفصيل الأسباب والمُسبّبات التي وضعت الشعبين في هذه المُواجهة المستمرّة. لكنّها لم تبغ كتابة رواية تاريخيّة وإن استعادت التاريخ واستوحته واعتمدت عليه في كثير من المشاهد، واستحضرت بعضا من الشخصيّات التاريخيّة التي لعبت دورا مهما في صنع الأحداث. ما قدّمته لنا سحر خليفة هو رواية تبغي منها تقديم شهادة مُثبته بالوثائق والصور ومذكرات وقصائد عاش أصحابها تلك السنوات لتعي ونَعي كلّنا حقيقة ما كان، ولماذا حدث لنا ما حدث، وأيّة مسئوليّات تقع على أجيالنا الحاضرة لمُواجهة الواقع  الذي ينتظرنا. لهذا كانت واعية وقاصدة لكل كلمة قالتها في تصديرها لروايتها بكلمات باسكال: "لا تقولوا لم أقل شيئا جديدا. أسلوب ترتيب العناصر هو الجديد." والحقيقة أنّ سحر قالت الكثير، وكشفت الدّواعي والمُسبّبات والأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، من ضياع كامل الوطن الفلسطيني وتشتّت الشعب والانهيار العربي الشّامل.

(أصل وفصل) رواية متكاملة البناء

لم تخرج رواية "أصل وفصل" عن الوحدات الأساسيّة التي ركّز عليها باختين ويقوم عليها  البناء الروائي وهي: المكان والزمان والشخصيّة. حيث يرى"أنّ علاقة الزمان بالمكان تظهر بشكل مُباشر عَبر بناء مفهوم البطل الروائي، لأنّ الشخصيّة الروائيّة بالأساس ذات بُعدَين أحدهما مَكانيّ، أي جسد الشخصيّة، والآخر زمانيّ وهو مكوّن من روح الشخصيّة الروائيّة، أي شمولها منذ نشأتها وحتى موتها." (رشيد، أمينة. علاقة الزمان بالمكان في العمل الأدبي "زمكانيّة باختين" أدب ونقد، عدد 18 ديسمبر  1985، ص48-49). وحدّدت الكاتبة البعدين: الزماني والمكاني، فزمن الرواية يمتد ما بين بداية الانتداب الإنكليزي على فلسطين حتى نهاية عام 1938 ومكان أحداث الرواية تركّزت في مدن نابلس وحيفا والقدس. وقد شهدت هذه الأماكن كل الأحداث والتغيّرات التي عاشها الشعب وكانت مسرحا لها. أمّا الشخصيات فقد قامت كلّ منها بالدور الذي أنيط بها. وبرز، بشكل خاص عند الشخصيات اليهوديّة، الانضباط والتعاون والتوَحّد في العمل لتحقيق هدف واحد هو إقامة الكيان اليهودي المستقل، بينما كانت الشخصيات العربية على العكس تماما، فقد اختلفت وتباعدت وتناحرت فيما بينها وحتى قام بعضها بالتعاون مع الإنكليز أو اليهود ضدّ أبناء شعبه ووطنه. ومع أهميّة كل شخصية ذُكرت وشغلت دورا إلاّ أنّ الشخصيات المهمة والرئيسية التي لعبت الأدوار الرئيسية وتركت أثرها على مجرى الأحداث هي: الإخوة وحيد، أمين ووداد، والناشطة الاجتماعية السياسية ليزا.

فوحيد بعد موت والده ونَهْب كبير العائلة للمال الذي تركه والده عمل مع  أمّه لإعالة إخوته، كان الأقرب إليها ويشاركها في كشف القمر واستشراف الآتي ومن ثم يوافقها على الزواج من ابنة عمه وزواج وداد من رشاد، لكن وحيد هذا سرعان ما خرج من صمته ولامبالاته وهو يرى ضياع الوطن وخيانة الكثيرين وحتى عمّه رشيد، وخاطب أمّه: "يُمّه البلد تضيع، أرضنا، بلدنا، دورنا، رزقنا، يمّه اليهود أخذوا الدنيا، سماسرة الأرض لازم يموتوا"(ص289). فترك عمله وبيته وقرّر الانضمام لثورة الشيخ عزّ الدين القسام ليكون الأقرب إليه وأمين سرّه ووريثه في العمل النضالي. كذلك أمين، رغم أنّه من البداية كان الصوت المنتقد والرّافض للكثير من القرارات والمواقف التي تتخذها أمّه، وكان يستسلم بعد تنفيذها، فقد رفض أمين إغراءات خاله واختار طريق العلم فسافر إلى مدينة القدس وهناك تعلّم وعمل في المجال الصحافي وتناول بقلمه مختلف المواضيع والقضايا وتعرّف على الكثير من الشخصيات، وساعد أخته وداد في المواقف الصعبة التي مرّت بها، ووقف إلى جانب أخيه وحيد، وحاول جاهدا إنقاذه من المآزق التي أوقع نفسه فيها. وتبنى الأفكار التحررية الديمقراطية وعمل على ترويجها ونشرها.

وكانت وداد هي الأبرز بين باقي الشخصيات فقد خرجت من بوتقتها الصغيرة وبدأت تتحرّر من عاداتها وتقاليدها وتُعلن موقفها وتتمرّد على قرارات غيرها. فرغم خضوعها للزواج من ابن خالها إلاّ  أنّها قرّرت ترك البيت والسفر إلى القدس لتستقبلها ليزا وتعتني بها وتُشركها في الأعمال الاجتماعيّة والسياسية وحتى النضاليّة التي تقوم بها. وتابعت وداد تمرّدها ورفضها رغبات أمها والمجتمع، وقرّرت العمل المستقل ودخلت  دورة تمريض. وقد كانت سحر واعية لإبراز مراحل ودواعي التغييرات التي أدّت إلى تغيّر الشخصيّات وانتقالها من حالة إلى أخرى ومن موقف إلى غيره حتى كان التحوّل الحادّ الكبير، كترك وحيد عمله وبيته وأهله وانضمامه للشيخ عز الدين القسام، وتدرّج أمين في ثقافته وقراءاته وعلاقاته ومشاهداته حتى اختار الموقف الملتزم الواعي الذي أهّله ليقف ويُجادل ويطرح الرأي ويناقش، كما رأينا في لقائه مع الشيخ القسّام. وكانت وداد والمراحل التي عبرتها وعايشتها وواجهتها مثيرة للغاية ودافعة بها كي تنطلق لتتابع طريق الانتقاد والرفض والابتعاد وخوض غمار النضال والتحرر الاقتصادي والأسَري والاجتماعي لتُصبح سيّدة نفسها.

أمّا ليز فهي شابّة عربية مسيحية أرثوذكسية، أمها يونانية، غير أن والدها عربي وهي عربية. وبعد موت والدها الذي علّمها أحسن تعليم هاجرت مع أمّها إلى أمريكا عند أخوالها، ولم تجد الراحة هناك فعادت بعد شهرين وأقامت في القدس. شهدت ما حدث للبلاد والشعب فتعاطفت مع الشعب الفلسطيني وقضيّته، وعملت على تنظيم الكثير من الفعاليّات الاجتماعية والسياسية حتى أنّها كانت مركز اهتمام الكثيرين وخاصة الحاكم الإنكليزي وأمين اللذين وقعا في حبّها وتنافسا على الفوز بها. شخصيّات عديدة كان لها دورها في الأحداث التي شكّلت الرواية لكنها كانت شخصيّات ثانوية غير مركزيّة وغير مُقرّرة في صُنع الأحداث وتوجيهها.

مبنى الرواية

اتّبعت سحر خليفة المبنى الكلاسيكي لروايتها حيث تتابعت الأحداث وتطوّرت وتشعّبت ونقلت الشخصيّات من حالة لأخرى مُتدرّجة نحو المواقف المتأزّمة التي استدعت اتّخاذ القرار وحَسْم الأمور. راوية القصة هي ابنة وداد التي وجدت عند جدّتها زكيّة الصدر الحاني، بينما والدتها وداد اهتمت بنفسها وتعلّمت التمريض وعملت في المهنة، تروي الابنة قائلة: " ولدتني وداد، لكن أمّي الفعلية كانت ستّي. أمي كانت شبه طفلة، وكانت تحسّ أنّي امتداد لماضيها وقيود الزواج فنبذتني. لم يكن النَبذ كليّا لأنّ الأمومة تُرغمها أن ترضعني وبعد الرّضاعة تُلقي بي في حجر الأم وتهرع لتعود للمستشفى ودرس التمريض. كان المستشفى هو الملجأ من واقعها وجوّ العيلة."(ص361). وتشكو ابنة وداد تصرّفات أمها وداد وضياعها هي بسبب الإهمال  " كبرت وداد، وكبرتُ أنا ، وكبرت ستّي. كبرت وداد بعيدا عنّا، وأنا كبرت بعيدا عنها. نشأت على الفوضى بين جيلين، جيل يتغنّى بالتّغيير، وجيل يتشبث بالماضي وفَتْح القمر وعلاء الدين، لهذا أصبحتُ مثل خالي أمين، بين البينين يعني الوسط، بلا أرضيّة"(ص364).

توزّعت الرواية إلى فصلين رئيسيين:  الأول سمّته "أصل" وفيه روَت تاريخ عائلة قحطان التي تنتمي إليها، وأفرادها كانوا شخصيات الرواية الرئيسية. والثاني "فصل" ووزّعته إلى العديد من الفروع الرئيسية، وكلّ فرع إلى مشاهد . فيها فصّلت كلامها وشرحها واستعادتها وتصويرها للوضع الذي  ساد فلسطين هذه السنوات التي تلت الانتداب البريطاني على فلسطين حتى نهاية الإضراب الكبير الذي شلّ البلاد بعد تفجّر ثورة عام 1936 واستشهاد الشيخ عزّ الدين القسّام. والتزمت سحر خليفة التي لا يمكن فصلها عن الراوية، كما في كل رواياتها، بكلمات باسكال التي اقتبستها في بداية روايتها "لا تقولوا لي لم أقل شيئا جديدا. أسلوب ترتيب العناصر هو الجديد". فهي بالفعل حافظت على مواقفها الرافضة المنتقدة الداعية للتغيير وتحرير المرأة من نير الرجل وتحرير المجتمع من ثقل العادات والتقاليد، التي عرفناها من رواياتها السابقة والحوارات والمقابلات التي نُشرت لها. كذلك التزمت بالثنائيّة التي حدّدتها في رواياتها السابقة : المرأة مقابل الرجل، وتَحرير المرأة والمجتمع مقابل تحرير الوطن وارتباط الواحد بالتالي. هكذا في (أصل وفصل) تلتزم بطرحها الثنائي: العربي الضعيف الفوضوي غير المُلتزم مقابل اليهودي الواعي الملتزم المُنضبط. قد ينتقد البعض طروحات سحر خليفة هذه ويتّهمونها كما فعلوا ، ولكنها كما نعرفها تقول كلمتها التي تؤمن بها وتمشي، وليصرخ ويقول الآخرون ما يحلو لهم. والتزمت أيضا بلغتها العاديّة البسيطة الواضحة ولم تحاول التوفيق ما بين اللغة والشخصيّة التي تنطق بها.

الجديد في "أصل وفصل" هو في ترتيب العناصر، هكذا تقول. ولو أنعمنا النظر ثانية في العناصر المكوّنة للرواية لوجدناها نفسها التي كوّنت الروايات السابقة، لكنّ الترتيب لها هو الجديد، والترتيب الذي اتّبعته الكاتبة هدَف إلى إعادة تركيب الصورة البانوراميّة الكاملة لقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من بدايتها مع كلّ التفصيلات بجزئيّاتها. مستشهدة بالمصادر الموثوقة لرجال عاصروا الأحداث وعاشوها. ربّما أرادت سحر خليفة من هذا الترتيب إثبات صحّة مواقفها الناقدة المُثيرة المُغضبة للكثيرين، وأن تقول: أنظروا رغم تغيّر الأزمنة والأماكن والشخصيات ما بين سنوات النصف الأول من القرن العشرين والسنوات العشرين الأخيرة، إلاّ أنّ المُتعمّق في المشاهد وتفصيلاتها يُفاجَأ وكأنّ الصّور نفسها، وإنْ تغيّرت وجوه الشخصيات وأسماء الأماكن والأرقام على تقويم السنوات.

كلمات لا بدّ منها

كان بإمكان سحر أنْ تُنهي روايتها بمَقتل الشيخ عزّ الدين القسّام وانفجار الغضب الشعبي وتفجّر الثورة. ولكنها كما يبدو أرادت أنْ تؤكّد أنّ هذه الأحداث الكبيرة لم تُؤثر على تصرّفات الشخصيات التي باعت نفسها للغريب. كما كان الأفضل لو أنّها لم تقسُ في وصفها على رجال الشيخ عزّ الدين القسّام وفي انتقادها لفكر وعمل القسّام لأنه لا يزال يُمثّل رمز المقاومة ومُفَجّر الغضب ومُعلن الثورة ضد المُحتل الغريب. وكان بإمكاني أن اختصر العديد من الصفحات لو تجاهلتُ الكثير من الاقتباسات، ولكنني قصدتُ، كما ذكرتُ سابقا، أن أوصلَ ما تُريد سحر خليفة قوله للقارئ، الذي مثلها يتساءل عن المُسبّبات والأسباب التي أوصلته وشعبه إلى ما هم عليه الآن ليجدَ الجواب ويعرف جذور المأساة وتكون له الدّرس للحاضر والمستقبل. وأعترف بأن رواية سحر هذه تُمثل مُنعطفا جديدا في مسيرتها الإبداعيّة، وتؤكّد على أنّ عطاءَها لا ينضب، وأنّها راويةُ فلسطين ومؤرخة أحداثها، وصوتُها الرافض للاستسلام والخضوع والمؤكّدُ على أهميّة قول كلمة الحق مهما كانت جارحة وقاسية ومُغضبة ومُثيرة. 

 

باحث وأكاديمي فلسطيني

 

* سحر خليفة. أصل وفصل. دار الآداب. بيروت، الطبعة الأولى 2009