يوجّه باب علامات بوصلة الزمن إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تونس، ليقتبس مقطعاً مشرقاً من فصل "مطلب شرح الحرية بالمعنى المتعارف"، من كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" للمصلح السياسي خير الدين التونسي التونسي (1810-1890).

أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك

خير الدين التونسي

إعداد وتقديم أثير محمد علي

 

يوجه باب علامات في هذا العدد بوصلة زمن الثقافة العربية، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تونس، ليقتبس مقطعاً مشرقاً من فصل "مطلب شرح الحرية بالمعنى المتعارف" من كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" للمصلح الاجتماعي والسياسي خير الدين التونسي (1810-1890).

صدر كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" سنة 1867م، في بنية نصية تشير إلى ان مؤلفه التونسي كان يخط كتابه وعينه على منهجية ابن خلدون عامة، وعلى علاقة خرائب الأزمنة والعمران بالظلم والظالمين من أولي الأمر خاصة. من هنا ضمّن التونسي كتابه مقدمة وتاريخ، تناول في المقدمة حال البلاد الاسلامية وشرطها التاريخي حينها، وقدم رؤيته للكيفية التي تمهد لتجاوز التخلف وظرف الانحطاط بالإصلاح. أما في قسم التاريخ الثاني، فتطرق لواقع البلاد الأوربية وأجهزتها السياسية والعسكرية وهيكليتها الإدارية والتنظيمية، ليخلص إلى الاستفادة الانتقائية منها بما يناسب ضرورات الوضع الاصلاحي للبلاد الاسلامية الخاضعة للسلطان العثماني.

فيما يبدو أن خير الدين التونس ولد لأسرة شركسية الأصل، قبل أن يخطف ويباع في أسواق العاصمة العثمانية، ومن ثم قادته الظروف ليعيش في قصر باي تونس أحمد باشا (1836-1854)، الذي اهتم بتربيته وتعليمه كما هو متعارف عليه في جامع الزيتونة، إضافة لتحصيله الفنون العسكرية والسياسية حسب أصول المرحلة. سافر التونسي إلى فرنسا بمهمة مالية من قبل الباي وبقي فيها ثلاث سنوات، كان لها الأثر الحاسم في تطوير معارفه، وبلورة ميوله الاصلاحية في الاستفادة من التاريخ والتجربة الأوربية.

استلم خير الدين التونسي خلال حياته المهنية مناصباً حساسة وهامة في المجالات العسكرية والسياسية، سواء في سدة الحكم العثماني في الأستانة أم في تونس، وكرس جهده لرفع شأن الإصلاح والنهوض بتونس من الفوضى وجمود العقول الموالية لنظام الحكم المطلق، فشجع الحياة الدستورية، ونظام الشورى، ووضع القوانين المراعية للعدل، وإطلاق الحريات، وتنظيم الأسس الرقابية، والمساواة في الحقوق للأهالي، ورفض التبعية الأوربية...الخ. لكل هذا خاض التونسي صراعه المرير مع أنصار القديم ورجعية تلك الأيام، خاصة من أصحاب العمائم، وفي أواخر أيامه استقال من رئاسة مجلس الشورى واعتزل وتفرغ لكتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، والذي يستطيع القارئ أن يطالع بضعة سطور منه على التوالي في محاولة من "الكلمة" توجيه تحية لتونس الياسمين، ولكل شهاب فيها مرق في مطاوي السماء واحترق ليضيء فحمة الليل.

 

من فصل "مطلب شرح الحرية بالمعنى المتعارف"

... فنقول أن لفظ الحرية يطلق في عرفهم بإزاء معنيين، إحداهما يسمى الحرية الشخصية، وهو إطلاق تصرف الإنسان في ذاته، وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله، ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه، ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وبالجملة فالقوانين تقيد الرعاة، كما تقيد الرعية. والحرية بهذا المعنى موجودة في جميع الدول الأوروباوية، إلا في الدولة الباباوية والدولة المسكوبية، لأنهما مستبدتان، وهما وإن كانتا ذواتي أحكام مقررة، إلا أنها غير كافية لحفظ حقوق الأمة، لأن نفوذها موقوف على إرادة الملك.

المعنى الثاني، الحرية السياسية وهي تطلب الرعايا التداخل في السياسات الملكية، والمباحثة فيما هو الأصلح للمملكة، على نحو ما أشير إليه بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من رأى منكم اعوجاجاً فليقومه، يعني انحرافاً في سياسته للأمة وسيرته معها، ولما كان إعطاء الحرية بهذا المعنى لسائر الأهالي مظنة لتشتيت الآراء وحصول الهرج، عدل عنه إلى كون الأهالي ينتخبون طائفة من أهل المعرفة والمروءة، تسمى عند الأورباويين بمجلس النواب العامة، وعندنا بأهل الحل والعقد، وأن يكونوا منتخبين من الأهالي، وذلك أن تغيير المنكر في شريعتنا من فروض الكفاية، وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الطلب به عن الباقين. وإذا تعينت للقيام به جماعة صار فرض عين عليهم بالخصوص. ومجلس النواب المشار إليهم موجود في سائر الممالك الأوروباوية، ما عدا المملكتين المشار المتقدم ذكرهما. وله أن يتكلم يحضر الوزراء وغيرهم من رجال الدولة بما يظهر له في سيرة الدولة من استحسان وضده وغير ذلك من المصالح العمومية. كما يأتي وبقي وراء ذلك للعامة شيء آخر يسمى حرية المطبعة وهو أن لا يمنع أحد منهم أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب والجرنالات التي تطلع عليها العامة، أو يعرض ذلك على الدولة والمجالس، ولو تضمن الاعتراض على سيرتها وفي هذا المقدار افترقت الممالك الأورباوية، فمنهم من ناله مع الأول فتمت له الحرية المطلقة، ومنهم من ناله بشروط معتبرة عند الملوك التي لم ترخص لرعاياها ما تيسر لغيرها إعطاؤه من الحقوق، وذلك أن أحوال الممالك متفاوتة بتفاوت مقاصد رعاياها، فمنهم من لا ينازع الملوك إلا لقصد الحصول على ما يسوغ لهم معارضة الدولة إن حادت عن سواء السبيل واستجلابها لما فيه صلاح المملكة، وحينئذ تيسر الملوك إعطاء تمام الحرية لتوارد مقصد الراعي والرعية على المصلحة، ومنهم من يظن به أن الباعث له على المناضلة فرط التعصب والحمية حيث تفترق الرعايا أحزاباً كل حزب يروم السياسة التي يراها أصلح للمملكة في نظرة كان يرى البعض أن تكون الدولة جمهورية والبعض يختار أن يكون الملك في عائلة غير التي يختارها الآخر فينشأ عن ذلك ظن الدولة أن معارضة الأحزاب لها، وإن كانت بحسب الظاهر لإلجائها إلى طرق المصلحة، لكن الغرض منها وراء ذلك وبذلك الظن الناشئ عما ذكر، استباح الملوك لامتناع من إعطاء تمام الحرية الموصل لما أشير إليه.

هذا وإن من واجبات الممالك التي تنال الحرية ولو خصوص الشخصية أن يقابلوا تلك النعمة بإظهار آثارها وجني ثمارها بتعاطي المعارف وأنواع الصناعات الراجعة إلى الأصول الأربعة: الفلاحة والتجارة والأعمال البدنية والفكرية، وبهذه الأصول قوام السعادة الدنيوية المربية للهمة الإنسانية وكمال الحرية المؤسسة على العدل وحسن نظام الجماعة حتى يكون المحترف مثلاً آمناً من اغتصاب شيء من نتائج حرفته أو تعطيله في بعض أحوال خدمته، فما ينفع الناس كون أرضهم خصبة كريمة المنابت إذا كان الباذر فيها لا يتحقق حصاد ما زرع ومن الذي يُقدِم حينئذ على ازدراعها، ولضعف أمل الناس في كثير من آراض آسيا وافريقية تجد أخصب مزارعها بوراً معطلة، ولا شك أن العدوان على الأموال يقطع الآمال، وبقدر انقطاع الآمال تنقطع الأعمال إلى أن يعم الاختلال المفضي إلى الاضمحلال.

ومن أهم ما اجتناه الأورباويون من درجة الحرية تسهيل المواصلة بالطرق الحديدية، وتعاضد الجمعيات المتجرية والاقبال على تعلم الحرف والصنائع، فبالطرق تستجلب نتائج البلدان القاصية قبل فوات إبان الانتفاع بها، بعد أن كان جلبها متعذراً لطرأ الفساد عليها في الطريق، أو لزيادة كرايها على اضعاف قيمتها وبالجمعيات تتسع دوائر رؤوس الأموال فتأتي الأرباح على قدرها وتتداول على المال الأيدي المحسنة لتنميته، وبتعلم الحرف تكتسب الأموال الذريعة عن غير رأس مال وقد رأينا بالمشاهدة أن البلدان التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران هي التي تأسست بها عروق الحرية والكونستيتوسيون المرادف للتنظيمات السياسية، فاجتنى أهلها ثمارها بصرف الهمم إلى مصالح دنياهم المشار إلى بعضها، ومن ثمرات الحرية تمام القدرة على الإدارة المتجرية، فإن الناس إذا فقدوا الأمان على أموالهم يضطرون إلى إخفائها فيتعذر عليهم تحريكها وبالجملة فالحرية إذا فقدت من المملكة تنعدم منها الراحة والغنى ويستولي على أهلها الفتر ويضعف إدراكهم وهمتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة.