تقدم هذه الرواية التسجيلية شهادة على الكيفية التي تحولت بها حياة الروائي العراقي، هو وجيله إلى جحيم على يد الطاغية. فبينما يتابع محاكمة الطاغية يستغرق في تذكر تفاصيل هروبه من الحرب والتحاقه بالثوار وتعرضه للقصف بالأسلحة الكيماوية ومعايشته لجحيم المنافي المتعددة. شهادة كتبت حتى لا ننسى فداحة الثمن.

في باطن الجحيم (رواية)

سلام إبراهيم

القسم الأول
مع محقق الدولة الدنمركي
ـ عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم ـ
ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
          وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
                                       وأنا في فضاء
منذ بدء محاكمة الدكتاتور ـ صدام حسين ـ في قضية (الأنفال) دأبت على متابعة التفاصيل كلها. أستيقظ مبكرا، رائق المزاج. أعد الفطور وأنا أترنم بأغنية يوسف عمر:

آه يا أسمر اللون حياتي الأسمراني
              حبيبي وعيونه سود والله الكحله رباني

يذهب من في البيت إلى العمل والمدرسة، فأبقى وحدي مع الصمت والعصافير الضاجة على أشجار الحديقة. هذا الطقس يومي ثابت، منذ وصولي إلى الدانمارك عام 1992 بعد رحلة شاقة في معسكرات اللجوء الإيرانية والتركية والضياع في دمشق وموسكو. إذ لم أكتشف مدى العطب الذي أصاب رئتيَّ إلا حينما وصلت إلى هنا، رغم تكرار ملازمتي الفراش وأنا على وشك الاختناق كل شتاء في السنين التي أعقبت قصف يوم 5 ـ 6 ـ 1987 بموقع وادي زيوة ـ خلف العمادية .. أو في معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، أو في دمشق حيث أسقط كل شتاء متأرجحا أحلم بالهواء، أو في فترة تصعلكي في موسكو وضياعي في السكر وسقوط حلم ـ مدينة ماركس ـ حيث نقلتني سيارة إسعاف روسية مرتين إلى مستشفيات موسكو، لكن بعد الفحص والأشعات يقول لي الطبيب:
ـ ليس لديك شيء، مجرد نزلة برد!.

فأهب من السرير ناسيا وهني لأغرق في ذروة تلك الأيام، لكن حينما وصلت الدنمارك راجعت طبيبي الخاص (تتمتع كل عائلة تعيش في الدانمارك بضمان صحي يكفل الفحص والعلاج المجاني ـ وضع كنا نحلم به ـ نحن المؤمنين بالمدن الفاضلة لأبناء العراق). أقترب مني منصتاً لِنَفَسيَّ الصاخب، فسحب شيئاً من درج منضدته. قربهُ من يدي. كان أنبوباً أسطوانياً قصيراً مخروماً من الوسط، وعلى الخرم  مثلث دقيق. أرجعهُ حتى النقطة القريبة من الفم. طلب مني النفخَ نفخةً واحدةً قدر ما أستطيع. عببتُ نفساً عميقاً ونفختُ بكل ما لدي من قوة. أمسك طبيبي الفارع القامة المقياس من طرفه، وحدق نحوي بذهول قبل أن يُرجِع المثلث الصغير إلى الحافة ويطلب مني معاودة النفخ. فعلت ذلك. تناول المقياس من بين يدي وحملق به طويلا، ثم رفع رأسه وقال بالدنمركية كلاما ترجمه المترجم فوراً:
ـ الطبيب يقول .. ماذا هل أنت ميت؟!.

أرسلني فورا إلى مستشفى " Rosklide " المدينة التي أسكن فيها وما زلت. وهنالك أُجريَّ ليّ فحصاً شاملاً. لا أريد الخوض في تفاصيل قد لا تعني للقارئ شيئا. لكن ما يهمني ويهمه هو اللقاء الأخير مع بروفيسور دنمركي طاعن في السن مختص بأمراض الرئة طلب لقائي بصحبة مترجم فلسطيني سمين ينوء بحمل جسده، وشخصيا طلبتُ من صديق نضال قديم كان معي في تجربة الجبل لفترة قصيرة ـ قحطان المالكي ـ حضور ذلك اللقاء فحضر وكان شاهداً. أخبرني المترجم أنني مصاب بعجز بوظائف الرئة بنسبة 60% بسبب القصف بالغازات السامة في كردستان. صمت المترجم والطبيب وكأنهما ينتظران ما أقوله. سألت:
ـ ما العلاج؟!.
ترجم المترجم قولي، رمقني البروفيسور بعينين حانيتين وقال:
ـ لا يوجد علاج بل أدوية تساعد على التنفس!
صمت برهة بدت لي طويلة وأضاف:
ـ التدخين صفر!.

شرط وقتها كان من أصعب الشروط عليّ. إذ كنت من عبيد التدخين!.

وأردف قائلا:
ـ أنت غير صالح لسوق العمل الدنمركي!.
صمتُ منتظراً وهو يضيف:
ـ من حسن حظك أنك وصلت الدانمارك فالقوانين هنا تكفل لك العيش، بالإضافة إلى أن البيئة نظيفة لدينا، لو كنت في بلد من بلدانكم لكان عمرك قصيراً.

كنت أستمع مذهولا لما كان ينطق به المترجم الفلسطيني، غير عارف بما سيؤدي إليه هذا الكلام واللقاء.
سألته بغتة:
ـ وما الحل؟!.
قال:
ـ سأطلب لك التقاعد!.

وفعلا منذ منتصف عام 1993 أحالوني على التقاعد، ليس لدي من عمل سوى التأمل والكتابة، ممارسة الرياضة وتناول الأدوية اليومية التي تساعدني على البقاء حياً بين أنفاس الأحبة. وفرَّ لي هذا النظام الاجتماعي فرصة تأمل الدنيا والتجربة. تذهب زوجتي وطفليَّ إلى العمل والمدرسة، فأبقى حتى غياب الشمس وحيدا مع ورد الحديقة والموسيقى والصمت والورقة. كتبت ما كتبت من قصص وروايات ودراسات نقدية ومقالات.. أصدرت منها كتباً أربعة.

*      *      *

مع بدء محاكمة صدام في قضية الأنفال عصّتْ عليّ القراءة والكتابة، أستيقظ منذ بكرة الصباح. أضع قوري الشاي على الشمعة ليخدر بهدوء منتظراً اللحظة البهيجة لما يظهر صدام وعلي كمياوي، وبقية الزمرة التي كانت تجلس على قمةِ هرمٍ كان من المستحيل عليّ تخيل علوه وأنا أنوء في قعره مضغوطا بذلك الكم الهائل من البشر القساة في الجيش حينما كنت جندياً في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية، أو حينما حللتُ نزيلاً في أقبيتهم لمرات عديدة، معصوب العينين، مكبل بالحديد، مضروب، مهان، أحلم بشم هواء الدنيا والسير في شارع أي شارع. مهرجان خاص جدا بالنسبة ليَّ. أبتهجُ وحيدا مسترخيا على أريكة وثيرة في صالة أنيقة، إلى يميني نافذة عريضة تطل على حديقة البيت بأشجارها وعشبها وعصافيرها، وإلى يساري نافذة أصغر تطل على حقل يمتد حتى الأفق في بلد تستطيع فيه النوم في الشارع دون أن يسألك أحدٌ.. بلد أمضيت فيه حتى لحظة الكتابة أكثر من أربعة عشر عاماً دون أن يسألني شرطي عن هويتي، رغم تسكعي وفوضى حالي.. أجلس مستمعاً.. مستمتعاً بوجه الدكتاتور الملتحي المنصت لسرد الضحايا الأكراد ممن كانوا معي في تلك الأمكنة.. غارقاً في مسرة خالصة تأخذني إلى نشوة ما بعدها نشوة.. تفوقُ ذروة المضاجعة. فهذه ذروةٌ مركبةٌ، فكلما ظهر وجه صدام في لقطة مقربة منصتاً لسرد الضحايا.. أرى نفسي في قمة الهرم وهو في أسفله، أما حينما يظهر وجه فلاح كردي وهو يسرد ببساطة ووضوح عن حدث القصف والقتل والتشرد فانه يذهب بيّ إلى أسعد لحظات حياتي حينما هربت من جبهة الحرب في 20 ـ 8 ـ 1982 متخلصا من هاجس الموت الحائم في لحظتي على مدار الساعة، في الصحو والنوم، في البيت والمقهى، في الخندق ومدى الجبهة المفتوح شرق البصرة. هاجس مكين لا يأتي فقط من القصف والقذائف فقط بل من وجه ضابط الاستخبارات وحضيرة أمن الوحدة العسكرية التي يا ما ضيعت جنود شبان بوشاية.. نزعت خاطر الموت غيلة أو رغما عني في حومة حرب غير مقتنع بها، أو في عتمة زنزانة، حال وصولي إلى أول قرية يسيطر عليها البيشمركة، حللتُ ضيفا في بيت أحد هؤلاء الفلاحين الواقفين برباطة جأش أمام الطاغية. صرت واحدا منهم، لا بل أكثر لحظة معرفتهم كوني ـ عربي  من الجنوب.

في بيت هذا الفلاح الكردي الواقف بشموخ متحدثا بلغته القومية، شاركته الخبز والملح والماء. كان يقدم كل ما لديه مفضلاً الثوار على العائلة التي تقتاد على ما يتبقى.
ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
وأنا في فضاء

وهذا الإنسان البسيط يقول بعفوية ما هو أبلغ من قول المحامي والقاضي والحضور. لم يتلكأ أو يبحث عن تسلسلٍ ما، يروي وكأنه يشاهد ما يرويه تلك اللحظة لا قبل قرابة عشرين عاما.. وكيف له النسيان؟!.. وهو يفقد البيت، القرية، الأب، الابن، الزوجة، الأطفال، ويضيع في المنافي أو يعطب جسده فيتغير مسار حياته كلها كما حدث معي..

ـ كيف له النسيان؟!.

يروي رابط الجأش.. لم ينفعل.. لا.. ولم يبدو حاقدا.. يشهر بتلك الأهوال والفقدان بروية وكأنه نبي الله ـ أيوب ـ، فمن يفقد عائلته كلها ولا يجد حتى رفاتهم في مقبرة جماعية لديه من حبيب العراقيين ونبيهم "أيوب" الحبيب شيئاً.

*      *      *

بغتةً، ظهرت رفيقتي القديمة ـ كاترين ميخائيل ـ (دكتورة سعاد) في مواجهة الطاغية لتدلي بشهادتها، فأخذتني إلى تلك التجربة وهي تذكرني باسمي الحركي وقتها ـ أبو الطبيب ـ كيف أصبت بشدة وأنا أهب مع رفيقين لإطفاء الحريق الذي شبَّ في المقبرة الممتدة على تلٍ أعلى الوادي.. أخذتني إلى ذلك الغروب الرائق من يوم 5 ـ 6 ـ 1987. كان كل شيء هادئ في ذلك الوادي العميق الواقع على مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ، فالوقت جاوز وقت قصف الطائرات الذي عاد روتينياً، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون قصف، وكان لدينا كل ما يحمينا منه، مدافع مقاومة الطائرات تربض على القمم المحيطة بالوادي، ملاجئ، كهوف، يضاف لصعوبة تضاريس المكان، فالحوض عميق وضيق يحاذي الحدود التركية. الغروب كان رائقا، وكنا نلعب كرة القدم في الساحة الصغيرة التي رتبناها على فسحة حقل زراعي أمام غرف وقاعات القاعدة المحاذية لحواف سفوح وسط الحوض. كنت ألعب عندما نادتني حبيبتي ورفيقتي ـ ناهدة جابر جاسم ـ التي كان أسمها ـ بهار ـ كي أذهب إلى الحمام. قالت أنها سخّنَتْ قدر الماء وجهزت كل شيء وذكرتني بقرب وجبة العشاء. تركت الساحة مقتربا منها، حامداً في سري خالق الكون على وجود هذه المرأة الحانية الساخنة جواري في وسطٍ موحشٍ، صعبٍ، يعج بالمخاطر. صرتُ جوارها، وغرت في عينيها الواسعتين الضاحكتين قبل أن تستدير أمامي وتخطو نحو الحمام. كنت أتأملُ قامتها الرامحة النشطة شاعراً بغبطةٍ سريةٍ تجعلني أسير خلفها شبه سكران.

كنتُ سعيداً في تلك اللحظات، سعادةً خارقةً خاصةً تشبهُ سعادتي هذه اللحظةِ وأنا أجلسُ وحيداً أستمتع بوجه الطاغية الملتحي ذليلاً في القفص.

دفعتُ الباب الخشبي، فاحتوتنا عتمة الحمام وبخاره. حضنتها وقطفت من شفتيها قبلةً. تمنعت بغنج ودفعتني قائلة:

ـ مجنون والله مجنون!.

تعرّيتُ فيما كانت تفتح الباب قائلة:

ـ سأجلب لك ملابساً نظيفةً!.

أطبقت الباب، فسقطت في عتمة مباغتة، راحت تخفُ قليلا بالضوء الخافت المتسرب من نافذةٍ مستديرة صغيرة مسدودة بالنايلون لا تضيء سوى مسافة كف عن حافتها. كنا نعرف هذه الغرفة جيدا دون حاجةٍ للضوء، إذ نستخدمها منذ أكثر من سنتين ونعرف بأصابعنا مكان القدر، والطاسة، والتختة الخشبية الصغيرة، والصابون. عددتُ ست خطوات من الباب وهبطت متلمسا التختة الخشبية. قعدتُ عليها. غرفتُ الماءَ من القدرِ ودلقتهُ على جسدي الناضح.. وقتها كنت في أعماقي سعيدا أشد السعادة، لا أفكر في الغد.. بل أعيش اللحظة.. أدلق الماء وأتخيل صحن العشاء وخلوة المساء مع حبيبتي في غرفتنا المنزوية أسفل سفحٍ، خلف طبابة الموقع. أفركُ جلدي بالصابون راحلاً عن ضجيج الرفاق في الساحة إلى مساحة متعة شعورٍ بالحرية وجواري حبيبة عمري تحنو عليَّ دون خوفٍ من هاجس خطف من شارع أو بيت أو مقهى وضياع إلى الأبد في أقبية وزنازين كما حدث مع أعزّ أحبابي.. كنت غارقا في تلك المتعة الخالصة عندما أقتحم ضجيج طائرات تنقض قريبةً، وكأنها ستمس سطح الحمام الواطئ. ضجيجٌ مثل جدارٍ اخترق جسدي، وجعلني أقفزُ مذعوراً من التخت الخشبي حتى ضرب رأسي السقف، لأندفع غريزيا ما أن لمستْ قدميَّ الأرضَ فاتحاً الباب وراكضاً بجسدي العاري المصوبون بالرغوة صوب أقرب ملجأ شقي، لأقفز إلى جوفه. هبطت على لحمٍ حارٍ ينبض كان ممتلئا فلم يخفِ سوى نصفي الأسفل. جلستُ فوق الأجساد مفزوعاً مجبراً على التحديق نحو الوادي المواجه للملجأ، والفاصل بين غرف الضيافة وقاعات القاطع، أتتبع بعيني خيط رفيع  من الدخان يتصاعد من القاعِ عالياً حتى جاوز قمة الجبل، لينتشر هالةً سوداءَ بلونِ الفحم راحت تهبط رويدا.. رويدا. حدث ذلك بلحظةٍ خاطفةٍ هي اللحظة التي أكتشفت عدم قدرتي على أخفاء جسدي العاري الظاهر نصفه من الملجأ. كنت أحملق بخيوط أخرى من الدخان الرشيق بدأت تنتشر خلفي وإلى يميني وإلى شمالي، وضجيج الطائرات صاخباً دانياً، وكأن جسد الطائرة سيلتصق بجسد الوادي حيث نختبئ، لكن عندما يخف صوت الطائرة المنقضة، ونبقى أحياء نعرف أن الصاروخ سقط في مكان بعيد.. لاحقا عرفنا أن الطائرات نشرت قذائفها بشكل دائري غطى صحن الوادي بالكامل. أكرر:
 ـ ما أرويه حدث للحظات خاطفات!.

 فما أن غاب ضجيج الطائرات حتى هرع الجميع من الملاجئ والغرف والكهوف لرؤية ما حدث. عدت فوراً إلى الحمام. غسلت جسدي من الصابون. نشفتهُ، وارتديتُ ملابسي. خرجت شبه مجنون.. أبحث عن حبيبتي ـ بهار (ناهدة جابر جاسم) ـ أكذب على القارئ إذا قلت أنني كنت أفكر بشيء آخر سواها. كنت أتأرجح من حافة العقل باحثا بعيني الملهوفتين عنها وسط الهرج والمرج الذي أعقب القصف بلحظات، فبين مغادرتها الحمام وانقضاض آلهة الحديد الشريرة من سماء الله ليس غير دقيقة.. مثل مخبولٍ أقفُ في الفسحةِ أمام مطبخ وقاعة فصيل الإدارة أدور عيني في الأركان، في الوادي، في الساحة خلفي، في القاعة، المطبخ، فوهات الملاجئ. لم يقع ناظري عليها. تشنج جسدي وأختض كمصابٍ بالصرع. كنت موشكاً على السقوط في دوامة اليأس والوحشة حينما سمعتها تنادي بصوتها الفريد:

ـ أبو الطيب.. حبيبي.. خو ما بيك شي!.

التفتُ نحوها. كانت تركض مقبلةً من تحت شجرة الجوز الشاهقة، على حافة الساحة. هرعت إليها مستعيداً حيويتي. ارتمينا بأحضان بعضٍ ورحنا نتلمس جسدينا بأصابعنا قطعة.. قطعة بلهفةٍ وجنون ولما تأكدنا من سلامتنا.. ابتعدنا منفصلين منتبهين لما حدث. أول ما وقع بصري عليه وأنا أنفصل عن جسد حبيبتي مشهدا لم ولن أنساه أبدا فهاهو متجسد بتفاصيله المرئية والصوتية أمامي، وكأنه لم يمر قرابة عشرين عاما عليه.. لهاث الشهيد أبو رزكار ـ الذي تحدثت عنه الشاهدة ـ كاترين ميخائيل ـ طويلاً في جلسة محاكمة الدكتاتور، ولهاث رفيق أخر من أشوري العراق الشجعان ـ أبو ليلى ـ وهما يحملان راكضين جسد الرفيق ـ أبو فؤاد ـ المحترق، إذ أن القذيفة التي رأيت عمودها الدخاني سقطتْ على مبعدة أمتار من جلسته على صخرةٍ في مسيل الوادي. تسمرتُ مذهولاً في مكاني متابعاً لهاث الراكضين، وقدم ـ أبو فؤاد ـ اليسرى المتدلية تتأرجحُ موشكةً على السقوطِ، كأنها مفصولةً عن الساقِ، ووجهه الذي أسّوَدَ تماما، وذراعيه الملتفين حول عنقيّ أبي ليلى ورزكار. مروا خطفا من أمامي، ليستديروا صوب بناية الطبابة القريبة من حافة السفح. حملقتُ بذهول في وجه ـ أبي فؤاد ـ المحمول على ذراعيّ رفيقيه، في قسماته التي بدت ضائعةً، فأيقنتُ بموته. عضضتُ شفتي لوعةً. عيناه بدتا فارغتين وكأنه لا يرى شيئاً. كانتا تحملقان في البعيد، في عالم غير عالمنا، وفعلا ظهر أنه أصيب بالعمى على الفور لقربه الشديد من عمود القصف الذي أشرت إليه. لحظة خاطفة أخذتني إلى قصة هذا الإنسان المحمول مدلى القدم أعمى، فنشجت بغتة وأنا أستعيد لحظات التحاقي الأولى بثوار الجبل وبصحبتي حبيبة عمري ـ بهار ـ. فهو من كُلِفَ بإيصالنا من الفوج الأول في ـ گلي مراني ـ بسلسة كارا إلى الفوج الثالث في ـ كلي حصبة ـ بسلسلة متين. كان مرحاً عنيف العاطفة، شجاعاً، خفف قلقي حينما دخلنا قرية تقع على الشارع العام تحت هضبة فيها مواقع للجيش العراقي.. هدأ روعي وهمس:
ـ رفيق لا تخف! أنا معك!.

جملته الواثقة جلبتْ لنفسي السكينة، أنا القادم من هول الجنوب العراقي وشدّة السلطة وكلابها. سوف لن أراه منذ ذلك اليوم إلى أن جاءنا بعد سنة ونصف بالكاد يستطيع الوقوف، منهكاً، يسعل بين لحظة وأخرى، يتنفس بعسرٍ، سألته قلقاً عما أصابه، لكنه كان بالكاد يستطيع الكلام. عرفتُ بعد رحيله في طريقه إلى ـ إيران ـ للعلاج أن رفيقا خان سراً وأصبح عميلاً للسلطة قدّمَ له طعاماً مسموماً لما حلَّ ببيته. الأمر الذي لم يذكره الشهود في محاكمة الطاغية: هو أن سلطة صدام كانت تبث السموم لمواقع الثوارعن طريق عملائها طوال الوقت، بتسريب مواد غذائية مسمومة، مثل حليب النيدو، وصفائح السمن النباتي وغيرها، أو تبعث بعملاء أو رفاق يقعوا في قبضتهم كي يسمموا حباب الماء، المواد الغذائية المخزونة، وقد قضى الكثير من الثوار بهذه الطريقة.

كان الشهيد المسكين عائدا من رحلةِ علاجٍ، قضاها في مستشفيات إيران، للقاء عائلته بعد أكثر من سنة، وعائلته هُجِرَتْ من قريتها في دشت الموصل، فسكنت  في قرية جوار قاعدة  ـ كلي مراني ـ أقيمت حديثا  لعوائل الرفاق اليزيدين الأنصار التي هجرتها السلطة من قراهم، لكن ذاك اللقاء صار مستحيلا، فقد غادرنا الشهيد إلى ملكوت الرب في ساعة متأخرة من تلك الليلة. هذا ما أخُبرت به لاحقا. لكنني لا أستطيع نسيان مشهداً سوف يتجلى أمامي كلما وقع بصري على لوحة لمريم وهي تحضن المسيح في لحظة وجدٍ في الكنائس أو الألبومات، أمام غرفة الطبابة جلس  الشهيد ـ أبو رزكار ـ متربعاً على الأرضٍ واضعاً رأس ـ أبو فؤاد ـ في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمس بشيء ما، كأمٍ تحنو على وليدها.. وقسمات ـ أبو فؤاد ـ بدأت تسّود شيئاً فشيئاً وكأنها حرقت بفرن.

ـ في الأنفال بعد سنة من حادث القصف أي في الشهر الثامن من عام 1988 ستعتقل عائلة أبو فؤاد كلها وتضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد ـ.  كل شيء كان مرتبكاً. الجميع يركض في شتى الاتجاهات. سمعت هرجاً ومرجاً يأتي من عمق الوادي الجانبي حيث غرف فصيل ـ المكتب السياسي ـ. كان أحدهم ينادي من هناك طالباً المساعدة. هببتُ نحو المنادي فوجدتُ ـ عباس رش ـ النحيل، يتلوى على الأرض ماسكاً بساقه اليمنى الدامية. مزقنا الشروال على عجل بحربةٍ، فظهرتْ بطةَ قدمه ممزقةً بشظيةٍ. حملناه على عجل نحو الطبابة. وضعناه على مسافة قريبة من ـ أبي فؤاد ـ كانت  زوجتي ـ بهار ـ ورفيقة من حزب تودة الإيراني أسمها ـ كانياوا ـ يقومنَّ بقص شعر ـ أبي فؤاد ـ المحترق.

 

الشهيد ـ أبو فؤاد ـ

 بينما هرع رفيق له معرفة بسيطة بالتطبيب ـ أبو كاوة ـ والطبيبة ـ أم هندرين ـ التي بدت شديدة الارتباك، فهي من ناحية لم تواجه مثل هذا الموقف من قبل، ومن ناحية أخرى ليس لديها اللوازم الطبية الكافية لمواجهة الوضع. كنا نمسك بساق ـ عباس ـ الممزقة بينما شرع ـ أبو كاوة ـ بخياطتها بعد أن أخذ الإذن من ـ أم هندرين ـ. كنت أتابع الإبرة المعقوفة النهاية وهي تنغرزُ في الساق السمراء بدون تخدير، فأشخص نحو وجه ـ عباس ـ الذي يتصلب محاولاً إخفاء ألمه بشجاعة، راداً على نظراتي المتعاطفة، مردداً:
ـ ولا يهمك يا رفيق.. ولا يهمك!.

أكمل خياطة الجرح الممتد من تحت الركبة إلى ما فوق الكاحل. لف الساق بلفافة طويلة ظلت تنز دماً رغم متانتها. كنتُ غير مقتنعٍ بالطريقة التي عالجا بها جرح ـ عباس ـ، فقبل التحاقي كنت في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية وخضت معارك ـ مجنون ـ شمال شرق البصرة، ورأيت عشرات الحالات المشابهة لجنود أصيبوا بشظايا. كنت أساهم في الإسعافات الأولية للمصابين. كان الطبيب المسعف ينظّف الجرح ويعقمه ويملأه شاشاً معقماً كي يوقف النزف قبل أن يخيط الجرح، لكن لم يكن بوسعي التدخل في ذلك المناخ المتوتر أصلاً. أسفتُ في داخلي لـ ـ عباس رش ـ الشجاع الذي لم يبدِ أبداً أي علامة ألم أو شكوى وكأنه قُدَّ من حجرٍ لا من لحمٍ ودمٍ.

ثمة رفيق كانَ ضيفاً من قاطعِ أربيلَ لا أتذكر اسمه، يبدو أنه عاش أولى تجارب قصف طائرات الدكتاتور بالأسلحة الكيمائية لموقع وادي ـ بليسان ـ  في أرياف أربيل، والذي جاء ذكره من قبل الفلاحين الأكراد في الجلستين الأولى والثانية من محاكمة الدكتاتور، ظل يصرخ:
ـ رفاق هذا قصف كيماوي، قصف كيماوي!.
لم ينصت له إلا قلةٍ من الرفاق، فكان يؤكد:
ـ ألا تشمون رائحة التفاح المتعفن والثوم!.
رأيته مثل مجنون يركض خلف الرفاق الراكضين يمنةً ويسرة مرددا نفس الجملتين دون جدوى. أنا من الذين لم يأخذوا كلامه مأخذا جديا، بينما زوجتي ـ بهارـ قالت لي:
ـ أبو الطيب اكو ريحة مو طبيعية!.

سخرت من كلامها وهرعت لجلب ـ عباس ـ كما أسلفت، فقامت بِبّل منديلٍ ووضعتهُ حولَ فمها وأنفها. استمر ذلك الرفيق الذي لا أتذكره ولا أعرفه يصرخ وسط دخان الغبار والغروب ورعب الموقف الذي سيتجلى لاحقاً بشكلٍ فادح. لم يكف عن تريد جمليته، دائراً حولنا حيث كنا نضع قدم ـ عباس ـ على البطانية المنقوعة بدمه. كنت أفكر بمساعدةِ جريحٍ محتمل آخر.. في تلك اللحظة بالضبط سمعت جلبة أقدام تهبط على الممر النازل من ربوةِ فصيل الإسناد. التفتُ فطالعني وجه شديد الوسامة، ناعم التقاطيع، أبيض يميل إلى الاحمرار قليلاً، متوسط القامة، نشيط الحركة وحوله أربعة أو خمسة يحملون حقائب سوداء ويسعون في دائرة هو مركزها. ألقى التحية دون أن يحدق صوبنا. كان يشخص نحو ـ عباس ـ وسأله بعربية ناصعة عما أصابه، فأخبره مؤشراً نحو ساقه التي لم ينقطع نزفها رغمَ لفة الشاش المتينةِ. تبادل مع طبيبة الموقع الكردية ـ أم هندرين ـ كلاماً مختصراً بالكردية قدرت أنهُ سألها عما فعلتهُ.
ـ هل ثمة بشر هم أصلا ملائكة هبطوا من السماء ليخففوا من وجع الدنيا قليلا؟!
هذه التجربة جعلتني على يقين من الإجابة بنعم!.
هاأنذا بعد قرابة عشرين عاماً أرى المشهد ذاك وكأنه البارحة.. اللحظة التي هبط بها ذلك الطبيب الكردي الشاب الذي عرفت أسمه لاحقا ـ نوزاد ـ. أستعيد صرامةَ الوجهِ، براءةَ الملامحِ، حركة الجسد الواثقة، فالذي أسرده عليكم الآن جرى بدقائق معدودة.

ـ هذا الطيب ـ نوزاد ـ كان من الاتحاد الوطني الكردستاني ـ أوك ـ هو ملاك سرعان ما عاد إلى مملكته بعد سنتين من الأحداث!.

كان ـ نوزاد ـ في زيارة لقواعدهم المفتوحة حديثاً في منطقة ـ بهدينان ـ حينما حدث القصف ذلك اليوم. التفتَ نحو ـ عباس رش ـ  يعني (عباس الأسود)، وقال شيئاً لمساعديه، فتحلقوا حوله. أزالوا لفة الشاش. غرزوا أبراً حول الجرح وأعلى الساق. رأيت بعدها ـ عباس ـ يسترخي طوال وقت تنظيف الجرح وترتيبه دون الحاجة للتجلد وكتم الألم، كما كان يجري للجنود في جبهة الحرب.

قلت مع نفسي:

ـ عباس البصراوي الأسمر الخالق لم ينسك.. هبط ملاكك الحارس!.
وفعلا ـ عباس رش ـ  لم يزل حيا. كان معي بعد أكثر من سنة حينما وصلت حملة الأنفال إلى مناطق ـ بهدينان ـ وزحف الجيش العراقي على مواقع الثوار والقرى المحررة. كان معي في ـ أوردكاه خوي زرعان ـ في  شمال أورمية الواقعة في أقصى الشمال الإيراني. ولا أدري الآن أين رستْ بهِ عواصف البحث عن ملجأ آمن، لكن هو يتذكر وأنا أن ملاكاً هبط من سماء الله أسمه ـ نوزاد ـ مدَّ بعمره ملقياً بكيانه من خلال باب الحياة التي غادرها هو بغتةً.

أقول ملاك.. وأقول عن كل من يمكث في الدنيا أقصر مدة مثلما همس أبي لأمي الباكية أمام جسد وليدها أبن الثلاثة أيام عام 1966:

ـ لا تبكي.. كافي، صار أبننا ملاكاً جوار الخالق!.

أقول ملاكاً، و ـ نوزاد ـ سيمر بالصدفة أيضا بمقر الثوار في ـ كلي حصبة ـ ويعالج أبن مدينتي ومحلتي ـ جابر هجيل ـ (أبو نصار) الذين أصيب في معركةٍ قربَ  قصبةِ ـ بامرني ـ برصاصةٍ متشظيةٍ. حارَ في وضعه طبيب الموقع ـ أبو تضامن ـ الذي كان مختصاً بأمراض النساء، وليس له خبرة بجروح الحرب، فكاد ـ جابر ـ أن يموت والقنقرينا تصعد بساقه. لم يفعل طبيب الموقع ـ أبو تضامن ـ إلا لف ساقه المصابة باللفافات، فأسعفه ـ نوزاد ـ بأجراء عملية بترٍ ساقه لمرتين الأولى من تحت الركبة على أمل بقاء مفصل الركبة، لكن القنقرينا صعدت فمرََّ بعد أسبوع ليقطع الساق من أعلى الركبة، فينقذ حياة ـ جابر (أبو نصار) ـ الذي كانت زوجته ـ أم نصار ـ  حامل وقتها، ورزقت بطفلتهما ـ لهيب ـ قبل الهجوم الأخير لقوات النظام بأيام وكانت معنا في ذلك الطريق الطويل الذي أفضى بنا إلى تركيا والمنفى.

ـ جابر ـ  وـ عباس ـ أحياء الآن أما الملاك الكردي الطبيب ـ نوزاد ـ فقد سمعتُ ونحن في معسكرات اللجوء الإيرانية أنه قُتِلَ في حادث سير بعد ذلك بسنة داخل أراضي كردستان إيران حسب الرواية التي وصلتنا.. عاد الملاك إلى جناحيه سابحاً في يم ما قبل الخلق جوار العرش إلى الأبد.

استطردتُ كثيرا. أعود إلى تلك اللحظات القصار والمساء بدأ يرش عتمته قليلاً.. قليلا. كنا لم نزل في اللجة مضطربين بين اليقين وعدمه، كون القصف كمياوياً أم عادياً كما هو حال القصف في الأيام السابقة. كنت وقتها أتمتع بقوة جسدٍ رياضيٍ متينٍ، مضاف لرغبةٍ متأصلةٍ في مساعدة الآخرين لحظات المحنة، لذا تطوعتُ لإطفاء الحرائق التي شبت في المقبرة الكائنة على ربوة فوق فصيل الضيافة مع رفيقين هما: ـ أبو أيار ـ، والآخر كان ضيفاً من قاطع أربيل قصير القامة ينعتونه بالدكتور ـ زكي ـ. صعدنا مخلفين تحتنا الموقع الذي بدا من أعلى تل المقبرة مغطى بالدخان ورشيش المساء الخافت. بدأنا بإطفاء الحرائق التي لم تكن حرائق بالمعنى المألوف. إذ كان ينبعث من مكان اللهب الخافت دخان كثيف يثقل أنفاسنا. كنا شديدي الاندفاع نتنادى في حمل التراب بواسطة معاول يدوية لإلقائه على تلك المواقع الملتهبة. بقينا أكثر من ساعة. أتذكر إلى الآن كيف نادى علي ـ الدكتور زكي ـ كي أشاهد صاروخا أستقر في حفرة قبر قديم فلم ينفجر. مددت كفي عميقاً في الهوة وتلمسته بفضول لم أفهم سببه حتى هذه اللحظة، بل أعجب من ذلك الفضول المصحوب بالإستهانة بكل ما يحيط بيَّ فقد كان من الجائز أن ينفجر ويبدد جسدي وما حولي. كان ساخناً صلباً قاسياً.

ـ هل كنت مجنونا؟!.

ـ هذا ما بِتُ لا أشك به أبدا!

قبيل الانحدار صوب القاعدة. كنت أفكر بتلقائية حياة الثوار اليومية. لم أدرك وقتها أن ذلك المساء سيشكل مفصلاً حاسماً في حياتي كلها، وحياة الثوار أيضا. لذا حملتُ على كتفي ساقَ شجرة بلوط قطعها القصف، فغداً 6 ـ 6 ـ 1987 دوري في طبخ وجبات الفصيل. كانت ثقيلةً. وضعتها جوار غرفتنا المنزوية عند السفح، وبحثتُ عن حبيبتي ـ بهار ـ فوجدتها تساعد الطبيبةَ في معالجة رفاقٍ جرحوا جروحاً خفيفةً. عدنا إلى غرفتنا الضيقةِ والظلمة هبطت بكثافةٍ على صحن الوادي وأشياء الثوار الرثةِ.

كنت متعباً. استلقيتُ على فراشنا الذي يشغل اكثر من نصف مساحة الغرفة. تركتني قائلةً:

ـ سأذهب لمساعدة الجرحى!.

بقيت وحيداً. إلى تلك اللحظة لم أشعر سوى بضيقٍ في التنفس وما يشبه الاحتقان في وجهي، وهذا يحدث لي غالباً قبيل النوم لكثرة التدخين والإنهاك من متطلبات يوم الثوار في الجبل. تناولتُ كتاباً. حاولتُ القراءة. بعد عدة سطور شعرتُ بحرقةٍ شديدةٍ في عينيَّ، فرحتُ أفركهما، فيزداد سعير الحرق، قلت معي نفسي:

ـ لأنام قليلاً!.

وضعتُ الكتابَ على المنضدةِ الخشبيةِ الصغيرةِ الواطئة بارتفاع مترٍ، وأغمضتُ عينيَّ. سكنت الحرقة قليلا، لكنها بعد دقائق هجمت عليَّ بشدة. فعدتُ لا أستطيع مباعدة أجفانيَّ إلا بصعوبةٍ. أنهضتُ جسدي. تربعّتُ على الفراشِ. تناولتُ مرآةً صغيرةً، وفتحتُ عينيَّ بعناء وجدتهما  كقطعتين ساخنتين من الدمِ. تفحصتُ وجهي. كان محتقناً، منتفخاً. أغمضتهما مرخياً رأسي إلى الجدار المغطى بالنايلون. شعرتُ بهما تتصلبان لحظة بعد لحظة، لتتحولا إلى قطعتي حجرٍ. غَمْدتُ رأسي بالوسادةِ، وبقيت هكذا مدة، لكن الألم بدأ يزداد وينتشر في أرجاء جسدي قطعة.. قطعة. لم يعد بمقدوري الاستمرار مستلقياً على بطني. ارتكزتُ على كوعيَّ، وجلستُ طاوياً ركبتيَّ تحت ثقلِ جسدي.. تَلَويّتُ. نهضتُ واقفاً. حاولتُ أن أخطو نحو باب الغرفة، لكن شدّة الألم عطلت قدميََّ. هويتُ ثانيةً إلى الفراشِ. لا أدري كم بقيتُ هكذا. أُصارع بصمتٍ الحريق الذي شَبَّ في كل قطعةٍ من جسدي.. بدأتُ بالأنين الخافت.. أقومُ.. أخطو خطوتين.. أقعد.. أستلقي. أقوم من جديد.. أحاول فتحَ عينيَّ، فتهبُ عليَّ أبوابَ جهنم. كنت أقول مع نفسي:

ـ متى تعودين يا بهار؟!.. متى؟!.

صارتْ زوجتي مثل حلم في بحرِ الألم الذي ضعتُ فيه. تصورتُ وقتها أن مجيئها وحدهُ سيسكن آلامي. وبينما كنتُ أدور في تلك اللجة دفعتْ الباب، وصرخت:
ـ أش بيك حبيبي؟!.

وراحت تتلمس جسدي، فكنت أصرخ من ملمس أصابعها. راحت تتوسل وتناديني باسمي الحقيقي:
ـ أفتح عينيك حبيبي سلام!.. أرجوك أفتح عينيك!.
كنتُ أردد من بين أنيني:
ـ ما أقدر.. ما أقدر نار بعيوني!.
ـ حاول حبيبي.. حاول.. أرجوك.. أرجوك!.
كانت توشك على البكاءِ. وكنتُ أتلوى من أجلها، ومن جسدي. وبكل ما تبقى بيّ باعدتُ أجفانيَّ كمن يرفع صخرةً هائلةِ الحجمِ. على ضوء الفانوس الشحيح، في اللحظة الخاطفة تلك رأيتُ مدى الرعب الذي طعّنَ قسمات زوجتي الجميلة. حرزتها في عينيّ اللتين سرعان ما أنطبقتا من سعيرِ الهواء. سمعتها تقول:
ـ اهدأ دقيقة وراجعه!.

سمعتها تفتح الباب. وتغلقه خلفها.. فسقطتُ في بحر ألمي الذي أستعرَ من جديد ما أن اختفت،.. لا أدري كم من الوقت طوّلَ غيابها؟!.. لا أدري فالزمن صار غير هذا الزمن.. الثانية فيه تساوي دهراً. بقيتُ وحدي أجود بنفسي وسط النار ولا من منقذ أو أمل.. بقيت مثل ضالٍ تُركَ في جهنمٍ إلى أن فُتِحَ الباب. كانت بصحبة الدكتورة ـ أم هندرين ـ التي أزاحت قميص سروالي وتفحصتني بصمت لتقول:
ـ خذيه إلى فصيل الإسناد!.
وخرجتْ.

قالت حبيبتي:
ـ أصبر حبيبي.. أصبر.. سأجمع وثائقنا ونصعد!.
ألبستني الحذاءَ، وقادتني من يدي. كنت لا أستطيع مباعدة أجفاني. عند العتبة قالت:
ـ أرفعْ قدمك حبيبي!.

رفعتها عابراً العتبة. صرت خارج الغرفة، فهجمت رائحة الحرائق والدخان الخانق. أزداد ضيق تنفسي، فجعلتُ أشهق بعمق باحثاً عن الهواء دون جدوى. سرنا على ممر ضيقٍ أعرفهُ جيداً يصعد بمحاذاة صف من الأشجار يفضي إلى ربوة حيث غرفة السجن، وقاعة فصيل الإسناد، وغرفة الرفيق ـ أبو علي وزوجته ـ. المسافة لا تتعدى الخمسين متراً، لكنها كانت طويلةً جداً. كنت أتضور فيها بألمي واختناقي. أنقلُ خطوي بجهدٍ متوجعاً ويداها الحانيتان تمسكان بيدي، وتسحباني بأناة وببطء شديد. وقتها كنت أحس أنني سائرٌ نحو المجهول.. فلا مشفى ولا طبيب وليل دامس طويل وأنا أتلظى في بحرِ جهنم. أحسست الأرض تستوي تحت قدميّ، معنى ذلك أننا بلغنا الفسحة الواسعة التي هي عبارة عن حقل محاط بالأشجار من ثلاث جهات تحول إلى ساحة للعب كرة الطائرة. لم أسمع شيئاً. كان الصمت مقيماً لا يعكره سوى وقع أقدامنا وحفيف أرديتنا ولهاث حبيبتي. قطعنا عدة أقدام، ثم أوقفتني قائلة:

ـ أجلس هنا!.

بعناء باعدتُ أجفاني. فطالعني المشهد. حول لهب نار مضطرمة تحلق الثوار في دائرة كبيرة. أول وجهٍ وقعَ بصري المضطرب عليه كان وجه ـ توما توماس ـ

 

الفقيد ـ توما توماس ـ

بقسماته الشائخة الحمراء، وشعره الأشيب الطويل المنسدل حتى منتصف الكتف (من الشخصيات اليسارية العراقية المعروفة التي ساهمت في النضال المسلح ضد سلطة البعث منذ الستينات وحتى حملة الأنفال، مات في المنفى في السنين الأخيرة). كان ساكناً يجلس لافاً ساعديه حول ركبتيه، ويحملق في الشعلة بصمت، وعلى جانبيه أصطف الثوار جلوساً وكأنهم في طقس بدائي. كنت أغمض عيني وأفتحها بين ثانية وأخرى والحرقة تزداد شدة. سمعتها تقول وهي تترك يدي:
ـ سيموت يا الله.. سيموت!.
رغم ألمي سألتها:
ـ من.. من؟!.
فقالت:
ـ أبو ماهر!.

وأبو ماهر هو ـ ثابت حبيب العاني ـ (من شخصيات اليسار المعروفة وكان صاحب أمتياز صحيفة طريق الشعب العلنية خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي مات في المنفى في السنين الأخيرة) فتذكرت أنه كان يقيم في غرفة جوار قاعة الضيافة. أي في مكان لا يبعد عن تلك القذيفة التي أعمت ـ أبو فؤاد ـ سوى عشرين متراً. وهو شيخ كبير أختلفَ مع قيادة حزبه ورفض مغادرة كردستان إلى الخارج، فعزلَ عن العمل وبقى في مقرنا. كان مريضاً في القلب. فتحتُ عينيَّ ناسياً جحيم الحرقة، وحدقتُ نحوها وهي تخطو مقتربةً من ـ أبي ماهر ـ الذي كان مستلقياً على بعد ثلاثة أمتار. وعلى ضوء النيران لمحتُ ملامحه المحتقنة وهو يحاول التنفس دون جدوى، فبدأ بالشخير وكأنه يعالج سكراته الأخيرة دافعاً بذراعيه إلى الجانبين ورافساً برجليه المتصلبتين. آخر ما أتذكره من ذلك المشهد هو أن ـ ناهده ـ هرعت مع رفيق آخر لتجلس جوار رأسه وترفع جذعه الأعلى وتسند رأسه المتشنج بكتفها، فبدأ بالتقيؤ والسعال بينما هرعَ رفيق آخر لمناداة الطبيبة. شعرتُ بالموت دانياً منه ومني ومن الجمع الجالس حول النار، الثوار الحالمين الذي عاشرتهم سنين طوال. خنقتني العبرة وذرفتُ الدموع ناسياً جحيم جسدي. بكيتُ بصمتٍ والسعال بات يأتي من أطراف ووسط الدائرة يصحبه أصوات هواع.. وكأنهم يحاولون التقيؤ دون جدوى. نيران في الوسط، ووجوه ساكنة في ألمها تحدق بصمتٍ، وأخرى تسعل، وأخرى تتقيأ، واللحظات تمتد وكأنها الأبدية. صرختُ مع نفسي:
ـ كيف الخلاص من كل هذا؟!.

عندها بدأ الجحيم من جديد يستعر في كل قطعةٍ من جسدي حد لا أتذكر من مشهد دائرة النار شيئاً. إذ وجدت نفسي أحبو متمرغا مثل طفلٍ على حصيرِ غرفةٍ مكتظة بالرفاقِ الصارخين، الناحبين، فانتحبتُ أنا أيضا بصوتٍ مسموع ورحتُ أصرخ مستنجداً مثل الجميع:
ـ أخ سأموت!.
ـ أني أحترق!.
ـ يا يمة!... يا بويه!.
ـ  بويه تعالي بويه!
ـ ولكم أريد شويه هوه!
ـ عيوني يمه عميت

الهذيان مصحوب بصراخٍ ألم، وسعال وقيئ. كنتُ أفتح عيني بين الحين والحين، فيقع ناظري على أجسادٍ مطروحةٍ، جالسةٍ، نصف واقفة، مضببة تحت ضوء فانوسٍ عليلٍ معلق على الحائطِ جوارَ الباب. لم أستطيع التعرف على أقرب رفيق يتلوى جواري.. وكأنني دخلت دائرة جديدة من الألم والعذاب، إذ أن الشعور بدنو الآجل صار شديد الوضوح، كنتُ أجود بنفسي، متمنياً لو أن أحدهم يجهز عليّ ويخلصني من ذلك الجحيم. شعورٌ راودني قبل هذا الموقف حينما كنت معتقلاً في الشهر السادس من عام 1980 في الأمن العامة ببغداد، إذ خطفوني وصديقين أحدهم كان متخفيا عن أنظار السلطة يدعى " ميثم جواد " من أهالي كربلاء، خريج إدارة واقتصاد جامعة المستنصرية أعدم لاحقاً. حينما كانوا يأخذونني إلى حفلة المساء، ويبدأ التعذيب يتصاعد من الفلقة إلى الصعق الكهربائي، كنت أتحمل ذلك وأصرخ، لكن حينما كانوا يغطّون برأسي في حوض الماء ويطيلون المدة رويدا.. رويدا أشعر بأن روحي تكاد تخرج من حلقي في جحيم الماء الذي يشبه جحيم الحرق في تلك الغرفة المكتظة بالصارخين، وكأنهم ينتظرون أمام بوابة الجحيم، لكن دون أن ينالوا تأشيرة الدخول حيث القرار. كنتُ معصوب العينين في غرفةٍ شاحبة الضوء ممسوكاً بأيادٍ غليظة قاسية. أصرخ طالباً الموت في متاهةِ أقبية الأمن العامة،، ورحت أصرخ طالبا الموت أيضا، فيضيع صوتي في ضجيج صراخِ وهذيان الرفاق. في تلك اللحظة أحسستها تمسك بذراعيَّ بقوة كي أكف عن التلوي والصراخ والبكاء، هامسةً بصوتها العذب باسمي الحقيقي:
ـ سلام حبيبي.. كن قويا.. أرجوك!.
ـ سلام لا تضعف حبيبي!.

وقعتُ في حيرة .. فهاهي حبيبتي تدعوني لأكن قدَّ الألم وهو لا يطاق. أتذكر تلك اللحظة وكأنها جرت بالأمس. كيف عضضت على أسناني بكل ما بيّ؟!. فتصلبت قسماتي حابساً صراخي، وكاتماً جحيم النار في نفسي، منصتاً لصوتها العذب المتوسل كي لا أقول شيئا وأتحمل وأصبر. لما تجاوزت المحنة فكرتُ طويلاً بموقفها الشجاع، وصلابة روحها المقدامة التي خلصتني من التعليقات الساخرة التي أعقبت ذلك، وعلمتني شيئا جوهريا عن الوجود البشري.. فالموت لابد منه، لكن ثمة فرق كبير من أن يموت الإنسان وهو يصرخ بضعف وأخر يموت بصمتٍ وجلد. حمدتُ الدنيا التي منحتني نعمة جوارها، فهي ساعدتني كثيراً وقتما كنتُ متخفياً في المدن. كانت تلتقي بيّ سراً وتشّد من أزري، ولما كاد أن يلقى القبض علينا في شباط 1985 رتبت عملية التحاقنا بالثوار في الجبل بكل هدوء وتركت كل شيء خلفها حتى أبننا الوحيد وقتها ـ كفاح لم أعد أتذكر كيف أنقضتْ تلك الليلة؟!.

كانت تتركني بين الحين والحين.. تغيب وتعود، فيما كنتُ أحبس صراخيَّ وألمي منصتاً لهذيان وصراخ الكتلة البشرية المحشودة المتلاصقة في الغرفة. كانت تتلمس جسدي المشتعل كاشفةً عن ظهري وصدري وساقيَّ، وتقول كلاما تصبرني فيه وتشّد من عزمي. كان الألم يبلغ بيّ حده الأقصى، بحيث أعود لا أحس بشيء، فأسقطُ في شبه إغماءة، لأصحو على صوتها الناعم العذب وأصابعها الحانية تجوب لامسةً جروحي. في الأيام التالية، وبعد مرور الأزمة روت لي كيف كانتْ تنزل إلى الطبابةِ لتساعد الطبيبة ـ أم هندرين ـ وهي تحاول أن تفعل شيئا لأبي فؤاد، قالت:
ـ كان محترقاً، أعمى، يتقيأ كل لحظة. فيما وضعت الطبيبة صحن كبير وعميق في حضنه كي لا ينثر القيء على ملابسه. اختفتْ أهدابه. فرغت عيناه. تشنجت قسماته. كانَ يحاول أن ينهض بجسده.. دون جدوى، فيرفع يديه المسودتين إلى أعلى وكأنه يحاول الإمساك بشيء. خنقتني الرائحة المنبعثة من كتلته، فبللت منديلي ووضعته على أنفي وفمي. مسحنا جروحه بالشاش المعقم، لم ينطق بحرف واحد. لم تصدر عنهُ سوى أنة واحدة طويلة، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة ورأسه تدلى من كتفي متهدلاً على صدره بلا حراك!. عندها صرخنا أنا والطبيبة ورحنا في عويل طويل، فهرع نحونا الرفاق القريبين، ليحملونه ويضعوه على فراش منزوٍ في طرفِ الغرفةِ!.

استيقظتُ على صوتها يناديني:
ـ ها حبيبي سلام أش لونك؟!.
وجدتُ الصمتَ مقيماً ومن بعيد يأتي صوت زقزقة عصافير. فتحتُ عينيَّ رغم النار التي شبت فيهما وأجلتُ الطرفَ. على ضوء الفجر، رأيت الأجساد التي كانت تتضور طوال الليل صارخةً هاذيةً، تغفو أيضا أو تسقط في غيبوبة الألم كما حدث معي.. ذكرتني بأشلاء الجنود في جبهة الحرب العراقية الإيرانية التي تخلفها معركة ليلٍ ضاريةٍ. أغمضت عينيَّ منصتاً لزقزقةِ العصافيرَ. حاولتُ أن أسحب نفساً عميقاً. لم أستطع فالهواء يشعل بلعومي، فأسعل سعالاً جافاً طويلاً. لم يستطع صوتها إخفاء ألمها، وهي تهمس بنبرةٍ منكسرة،:
ـ حبيبي سنصعد إلى موقع ـ الدوشكا ـ

تخيلتُ الموقع القريب من القمة، والمجاور لنبعِ الماءَ والذي يبعد ساعةً في صعودٍ وعرٍ بالنسبة للسليم فكيف بحالي؟!.  حاولتْ مساعدتي في النهوضِ. تمكنتُ متمسكاً بذراعيها، لكنني لم أستطع السير سوى خطوات قليلة، إذ شعرتُ بحريقٍ يشب في خصيتي، وبين ساقيَّ، وتحت إبطيَّ مع كل حركة. همست:
ـ تحملَّ حياتي.. فالبغل بانتظارنا في الساحة!.

رميتُ خطويّ مستنداً إلى كتفها الرحيم. كان النهار صحواً والشمس متلألئة مما زادَ من حرقةِ عينيّ كلما حاولتُ فتحهما. أتذكر الآن مدى العناء الذي تَجَشَمتْهُ وهي تحاول بمساعدة رفيق إصعادي فوق البغل. جلستُ على السرج. أشتعل ما بين فخذي، فولجتُ في صلبْ الجحيم. لم يكن أمامي سوى الصمت وكتم الألم في حضرتها، وفكرت بعد التجربة عميقاً في سر صمودي إزاء ذاك العذاب، فلم أجد سوى حضرتها محرضي الوحيد كي أبدو قويا.

طوبى لك يا ملكيتي وسر حياتي!.
طوبى لـ ـ ناهدة جابر جاسم ـ جارتي وحبيبتي التي أحبتني بجنون!.
طوبى للمحبة حينما تكون محرضة لتماسك الإنسان في المحن!.
لك صلاة.. كتلك التي صليتها فوق سطح دار أهلي في أول لقاء، وما زلت أركع لك بعد أكثر من ثلاثين عاما هنا في المنفى كل مساء!.

 

بهار ـ ناهدة جابر جاسم ـ زيوة ـ بهدينان

أحتفال بيوم المرأة العالمي 8 أذار 1986
أي رحلة كانت تلك الساعة من موقع الإسناد إلى موقع الدوشكا!.
ماذا أكتب أو أقول؟!.
هل أقول أنها رحلة سيزيف وهو يحمل صخرته إلى القمة لتتدحرج حال بلوغها، فينزل ليحملها ثانية ويصعد؟!. تمنيت نفسي سيزيف القادر على الحمل والصعود والنزول إلى ما لا نهاية!.
حسدت مأساته؟!.
تلك الرحلة العسيرة جعلتني أبتعد في الكتابة عن كل ما يمس الأساطير حيث تبدو بالمقارنة مع التجربة الحسية بلا ألم بلا مشاعر بلا حس!.
فدأبت لاحقاً على تصوير البشر حولي الحاملين عذابهم حقاً، وليس بالكلمات وفلسفة القول والحكاية التي تبدو لما تسرد وكأنها أسطورة أو شيء مسلٍ.. فصرتُ أكتب فينزعج مني الجميع! الرحلةُ تلك كانت مفصلاً في وجودي، فقد كنت أتأرجح على حافة العالم السفلي والظلام حيث الصمت. قلت مع نفسي، والبغل أثناء صعوده العسير يجعلني أحس وكأنني موشك على السقوط مع كل خطوة يخطوها لاهثاً من عناء الارتفاع وثقل جسدي:
ـ لو كُتِبَ لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي وهذا ما فعلته في نصوصي!.
الرحلة من قاع الوادي وحتى نقطة النبع القريبة من القمة بدت وكأنها دهرا!.

كان أحدهم يسندني في جلوسي على السرج من اليمين، وناهدة من اليسار وثالث يقود البغل. كانت تسأل بين الحين والحين عن حالي، فأطمئنها مضطراً كوني بخير. وفي لحظة من ذلك الزمن المطلق سمعتها تصيح:
ـ رفاق لقد عميت!.
عندها شب ألمي وعراك شبَّ بين من كان يسندني إلى اليمين وكان عربيا والذي يسندني على اليسار وكان كرديا وصديقنا جدا ـ أشتي عمادية ـ من السرية الخامسة.. فأصرَّ الرفيق ـ أشتي ـ على البقاء لمساعدتها رغم غضب الرفيق العربي الذي كان يريد إبعاده.. هذا المشهد وصفته بتفصيل في روايتي ـ (الإرسي) ـ التي منعها الرقيب السوري عام 2002.. وخدعني الناشر ـ خالد المعالي ـ  صاحب ـ دار الجمل ـ بألمانيا إذ وعدني بأنه سوف ينشرها في عام ،2004 لكنه لم يفعل، وصدرت هذا العام 2008 عن دار ـ الدار ـ المصرية في القاهرة.

لا أدري كيف بعد ذلك بلغتُ موقع الدوشكا، لكنني أتذكر بوضوح وجه الرفيق ـ أبو الياس ـ طبيب الأسنان الذي رفض في كردستان ممارسة مهنته، كونها تشبه ما يقوم به رجل الأمن وهو يعذب المعتقل، لا سيما وأن المخدر لم يكن متوفراً فأصبح مقاتلاً عادياً، ما كان يميزه أنه عاشق مدله بالمغنية ـ فيروز ـ حتى انه أقام عدة محاضرات عنها شارحاً أغانيها ومحلقاً في عالمها الحالم. وجدته يستقبل المصاب الواصل صارخاً بحرقة وهو يشير إلى مجرى النبع الضيق الهابط نحو الوادي:
ـ رفيق أنبطح.. أفتح عينيك وغط رأسك في الماء!

فعلتُ ذلك مرات لا تعد. كان ذلك يخفف قليلاً من ألم عيني المحترقتين. صف من الثوار ينبطح على طول مجرى النبع، ويغط رأسه في الماء البارد الجاري، وكأن ذاك الماء هو الخلاص!. مشهدٌ لم أنسه أبداً. ما زال يتجسد في لحظات وجدي ووحدتي هنا في الدانمارك وتلك الذوات المسكينة الحالمة تتضور بألمها وتغط في ساقيةٍ ضحلةٍ برأسها تتأمل العودة إلى وضعها البشري قبيل القصف. كان الصمت حكماً فيما عدا صوت ـ أبو الياس ـ المتحمس في صراخه كي نقاوم ونفتح أعيننا في الماء الجاري.
ـ أفتح عينك.. غط رأسك.. غط رفيق غط وأفتح عينك!.
صراخ يأمر بقوة يجلب لنفوسنا الثقة بأنها سوف تتعافى مباشرة بعد ذلك الغط والماء الجاري يمر ملامساً حدقات عيونها المحترقة مفتوحة عنوة.

كنت أظن بأنني سأتعافى بعد التبرك بالماء، لكن هيهات. كان الوقت قبيل منتصف النهار. أتذكر أن الشمس كانت ساطعةً بحيث حينما كنت أرفع رأسي من الساقية الضاجة وعيناي لم تزل مفتوحتين يجتاحهما الضوء الحارق الذي لا يتيح لي سوى النظر للحظة لذلك المشهد المؤثر. أكثر من ثلاثين مقاتلاً ينبطحون على بطونهم.. الرؤوس غاطة في الساقية الضحلة الجارية، يرفع أحدهم الرأس ويغطه على الفور حالما يواجه الضوء الساطع مستنجداً بالماء.
لا ماء الله كان خلاصا
ولا شمسه.. ولا الهواء

كانت آلهة حديد ـ صدام حسين ـ قد أدخلتنا في الجحيم!.
وكنا كذلك نتضور ولا من يخلصنا من أجسادنا لنستريح!.
لا أدري كيف مضت سحابة ذلك النهار. لكنني أتذكر أنني كلما أخرجتُ رأسي من الماء أراها متجسدةً في اللحظة الأولى التي أُباعِد فيها أجفاني وهي تصرخ:
ـ رفاق عميت.. عميت!.

وقبل أن أسأل نفسي أين تكون الآن؟.. يهجم عليّ الضوء والشمس فأغط بوجهي في الماء هربا من جحيم عيني!.

لا أدري.. ولا أتذكر متى أنسحبَ الضوء من الدنيا، فما أن كففنا عن الماء حتى عمينا تماما. ثمة مسحٌ في ذاكراتي، إذ أنني استيقظتُ في المساء لأجد نفسي في قاعة من الحجر والطين محشودة بصفين متقابلين من الثوار المصابين الصارخين، المتوجعين، الهاذين على ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. حالما فتحتُ عيني ووعيت بكينونة جسدي شبَّ الألم من جديد، فندمتُ قائلا مع نفسي:
ـ لِمَ لمْ تأخذني يا إلهي؟!.
كنتُ وفياً لوصيتها في الليلة السابقة، فجعلتُ أكتم ألمي منصتاً لهذيان الثوار وهم يهبطون في هوةِ اليأس والألم:
ـ يمه تعالي أبنك عِمه!.
ـ يمه راح أموت وما أشوفك!.
ـ بويه وينك تعال بويه تعال!.
ـ يابوية عيوني!.
ـ يا ياب احترقت ولك ياب طفيني!.
ـ اللعنة على من ورطني بالكفاح المسلح!.
ـ ولكم الهوه يا الله الهوه!

أفتح عيني بعناء فيطل المشهد للحظات. الأجساد تتلوى على أفرشتها، تتقلب، تستقيم بنصفها العلوي، تلقي نفسها بيأس إلى الفراش هاذية. ليلة كانت اشّد عليَّ من ليلة الأمس. كنت وحدي دون حبيبتي ضائعا في قيامة الألم والصراخ فجحيم ـ صدام ـ نزل علينا من السماء في غروب رائق!.

قضيتُ ليلة يأتي النوم فيها بعد إعياء الألم، والصحو يلقي بك إلى ساحل الهذيان، والتقلب، وحرقة العينين، وضوء الفانوس، وصراخ رفاقٍ مبهم. رفاق كانوا مثلي متعلقين بالحياة، أصبحوا مادة للتندر من قبل الثوار الذين لم يصابوا،  كونهم ضعفوا وقت المحنة، لكن لم يكن لديهم من يشد من عزيمتهم كما فعلت حبيبتي في ليلة الجحيم الأولى..

طوبى لصراخ كل من كان معي في تلك الغرف!.

طوبى لشدة تعلق الإنسان بنسمة الهواء والدنيا

طوبى لكل من أستنجد في لحظة اليأس والهذيان بعزيز بعيد

طوبى لضعف الإنسان!.

طوبى لكل من عاشر لحظتي في تلك الغرفتين.. غرفة أبو علي في الإسناد.. وغرفة فصيل الدوشكا جوار النبع العالي!..

طوبى للألم.. للعذاب..

طوبى لنا نحن البشر!.

ليلة الدوشكا تلك بدت لي ما أن ملكت نفسي وكأنها ليلة من حكايات الرعب.. ليلة سوداء من كتاب عراقي لم يدون بعد. تلك الليلة أخذتني إلى ما يشبه الرحلة نحو القيامة صورت كل ما جرى لي فيها في القسم الثالث من روايتي ـالإرسي ـ والتي وصلتني رسالة قبل عام تقريبا من الشاعر المترجم ـ سهيل نجم ـ  كونها ترقد لدى الرقيب العراقي في بغداد منذ ما يناهز العام، لم تجز طبعا لكن كما ذكرت صدرت هذا العام في مصر. ذلك العالم الخرافي حاولت مسكه في ذلك النص. كنتُ فعلاً في رحلة هي بين الموت والحياة. كنت في البرزخ الضيق فشاهدت نفسي في خلاصة معانيها وهي تواجه الخالق الجليل.

لا أستطيع الآن وبعد ذلك الكم من السنين تذكر كيف مضت تلك الليلة.. ما تبقى في ذاكرتي ظلام وضوء باهت وصراخ وهذيان ينتاب لحظات يقظتي من عالم آخر رحلت فيه. عالم تحولت فيه حبيبتي إلى مجرد خاطر عابر مرَّ في العمر وغاب، فهاجت في عالم غيبوبتي كل الهواجس المتعلقة بالفقد والغياب.. 

ـ وهل يستطع المرء وصف ليلة الجحيم مرتين؟!.

كنت في الجحيم ذاته ضائعاً، معنى الضياع أني لم أحس بجسدي. كنت أطفو في الألم إلى حدٍ أنني طفحت فوق مجرى الزمن. كنتُ أتحامل بصمتٍ كاتماً وجعي، لم أنس أبداً وصية حبيبتي قبل أن تصاب بالعمى:

ـ حبيبي كن قوياً!.

هذه الجملة ستفتح لي آفاق أخرى في باقي العمر!.

كيف انقضت الليلة تلك لا أدري، لكنها ليلة من ليالي الجحيم الأبدية. أستيقظت في الصباح فوجدت نفسي أرقد تحت كّلة سوداء مخرمة، وبجواري يرقد رفيق لم أتعرف عليه للوهلة الأولى، فقد كنتُ خارجاً من عالم آخر غريب أخذني إلى الجذر من طفولتي وحياتي فرأيت أحبة قتلوا في المعتقلات والحروب أو ضاعوا إلى الأبد في الدنيا. أخذتُ نفساً عميقاً، فجرحَّ الهواء أحشائي. فتحت عيني بعناء ـ بالمناسبة لابد من ذكر أن العمى في القصف الكمياوي يؤدي إلى صعوبة مواجهة الضوء فيفضل المصاب المكوث تحت جفنيه تخلصا من ألم الرؤية ـ

الكلة السوداء المخرمة نُصِبَتْ أمام تلك القاعة. كنتُ شبه عارٍ وإلى جواري يرقد على فراشٍ رثٍ الرفيق ـ أبو رزكار ـ شبه عارٍ أيضا.

الشهيد ـ أبو رزگار قبل وبعد الأصابة

             

 

أسعدني جواره وكأنني ملكت الدنيا، فهو رفيق حميم يشبهني، وكنا قبل عام قد أصدرنا مجموعة قصصية أنصارية مشتركة كانت لكل واحد منا قصة فيها. عدا ذلك كان أول من وشجَّ علاقة خاصة بيّ في أول لقاء حينما عرف اهتمامي بالأدب، فدأب على جمع الصفحات الثقافية لجريدة الثورة والجمهورية وصحف النظام الأخرى كل يوم، إذ كان يعمل في التنظيم المدني، ويجلبها لي كلما مرَّ بالمقر. لكن ما أتعسني هو عدم رده على أسئلتي وكأنه غائب في عالم بعيد. حاولت الحوار معه في الليالي التي قضينها معا تحت خيمة شفافة واحدة عاريين موشكين على الغياب.. كررتُ محاولتي.. دون جدوى، فلم يقل شيئاً، أي شيء. كنت أهتف مع نفسي:
ـ يا إلهي.. لو يقول كلمة واحدة.. لو أسمع صوته!. كان يبدو مثل مخدر بعينين نصف مغلقتين يبرك في صمتِ عالمٍ أخر مختلف، وكأنه يشرع في الشهادة وقول المستحيل. صرختُ بهِ رغمَ الجحيم الذي في جسدي:
ـ  أبو رزكارـ أني ـ أبو الطيب ـ قل لي كلمة واحدة!.

كان كلامي دون جدوى.. أحسسته يجود بنفسه موشكاً على الهبوط أو الصعود إلى عالم الرؤيا والخلاص. حلمتُ بكلمة واحدة منه .. كلمة واحدة كانت تفضي بنفسي وقتها إلى مسافة حميمة جمعتنا في لهفة اللقاء المتباعد وهمه بجمع ما يقع بين يديه من قول السلطة الثقافي وقتها في صحفهم اليومية.. حلمتُ رغم وضعي القريب إلى وضعه، إذ كنت أيضا على وشك الولوج إلى العالم الآخر من خلال قماش الستارة الأسود المخرم المحيط بنا. لم أستطع حصر الأيام التي قضيتها جواره تحت الكلة السوداء. كان يلزم الصمت عارياً، وجسده مليء بالفقاعات، وكنتُ كلما فتحتُ عيني أجدهُ يسعى في شهيقٍ عميقٍ بحثاً عن الهواءِ.
ـ أريد أخذه يَمْي!.

استيقظتُ من كوابيس الألم على صوتها وهي تتحاور مع أحدهم، عرفته على الفور حالما سمعت جوابه كان يدعى "ملازم رائد":
ـ لا رفيقة.. حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.
كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخة
ـ لا راح أخذه هسه.. وما لي علاقة بأي قرار!.

قالتها بحزم.. وحدي من يعرف عنادها الجميل وتصميمها الذي لا يقف بوجهه شيء، لا عائلتها التي رفضت زواجها بيّ، ولا التقاليد وهي تلتقي بيّ كل يوم في بيتنا في ـ الحي العصري ـ أو بيوت الأصدقاء، ولا إصرارها على العمل في التنظيم السري رغم اعتراضي قبيل صعودنا إلى الجبل.
 (علمت لاحقاً أنها أصيبت بالعمي المؤقت أيضاً وبحروق في أماكن متعددة من جسدها اخذت تزداد سعيراً، وأن بعض الرفيقات ممن لم يصبن قامنَّ بالعناية بها، وتطبيب جروحها ومساعدتها بتناول الطعام ومتطلبات اليوم الأخرى من تحمم والذهاب إلى التواليت إلى أن أستطاعت فتح عينيها، فجاءت تبحث عني على الفور رغم حروقها المستعرة. سيتدهور وضعها الصحي شيئا، فشيئاً بسبب ذلك وستعاني باقي العمر من أمراض التنفس والرئة، لكن بحالة أخف مني قليلا بسبب وضعها منديلاً مبلالاً وقت القصف). 
سمعته يردد:
ـ رفيقة ما يجوز.. رفيقة!.

باعدت أجفاني مغالباً ألمها، فرأيتها تنحني وترفع حافة الستارة المنسدلة، وتهمس:
ـ ها حبيبي.. أش لونك؟!.
ساعدتني على النهوض. أغمضت عيني مستسلماً ليديها الحانيتين. قادتني لتصعد بيّ المسلك المجاور لساقية النبع الذي بدأ ضجيجه يتعالى، فأدركتُ أننا نقتربُ من منبعه. أنساني ملمس أصابعها الناعمة جحيمي للحظات.
ـ إلى أين تريد بيَّ؟!.

هذا ما لم أفكر فيه وقتها، فأن أكون قربها حتى ولو في الجحيم فذاك حلم الليالي التي افتقدتها منذ اللحظة التي سمعتها تصرخ:
ـ رفاق.. عميت!.

كنت أسير شاعراً بوهج الشمس المشرقة ذاك اليوم، فقد كنت أزيد من ضغط أجفاني إلى بعضهما علَّ ذلك يخفف من سعير النار فيهما، مخترقاً أجساد تخيلتها منبطحةً، جالسةً، مكورةً على جانبي المجرى وهي تسعل ذلك السعال المخنوق وتطلق صراخ الألم والشكوى:
ـ ولكم اختنقت!.

ـ ولكم أحترق جسمي
ـ ولكم عيوني راح تطلع من وجهي!.

من المؤكد أن رفاقي المساكين ليس لديهم من يعني بهم كما هو حالي وحبيبتي التي تأخذ بيدي صوب مكان حيث ستكون جواري. في ذلك البؤس حسدتُ نفسي.  وصلنا إلى موقع فيه ضجة الماء شديدة، فقدرتُ أنه جوار فتحة النبع تماماً. طلبتْ مني الاستدارة نحو اليمين ورفع قدمي كي أصعد. فعلتُ ما طلبت مني. أصبحتُ فوق المكان المرتفع بمقدار نصف مترٍ عن الممر. باعدت أجفاني، فوجدتني داخل ـ كبرة ـ (مكان مسقف بأغصان البلوط يرتكز على أربعة أو ثلاثة أعمدة من سيقان الأشجار المتينة يستخدم كمأوى في الصيف قرب القمم لتفادي الحر). مفروشة بالبطانيات. طلبت مني الاستلقاء. فجلستُ بمساعدتها، وانطرحت على ظهري.. حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف ما أصاب جسدي. لم يكن يؤلمني مكان محدد عدا اللهيب القائم في كل لحظة في عينيَّ، إذ كان الألم متساوياً في كل قطعة فيه وكأنه صبَّ فيه.

ـ كيف مضى الوقت بعد ذلك؟!.
هذا ما لا أعرفه إلى هذه اللحظة؟!
سقطتُ في نومٍ ليس مثل نوم البشر. دخلت مرةً أخرى مكملاً رحلتي في عالمٍ آخر رأيت فيه الأهوال.. عالم غريب فيه الظلام مرئي.. وكان دوي النبع المجاور لرقدتي مفتاح ذلك العالم. سقطتُ في نومٍ جعلني لاحقا أعتقد بأن ثمة عالم ينتظرنا بعد هذا العالم الذي نعيش فيه. باتت قناعتي راسخة بذلك حال عودتي منه. كان خروجي منه جزء منه، فبينما كنتُ ألهث في ذاك الظلام المرئي سمعت إطلاق رصاص فوجدتني على الفراش. وصوت ـ أم بدر ـ زوجة طبيب أسنان الموقع الموشكة على الوضع وقتها تصرخ:
ـ مات.. مات!.
رحت اسأل:
ـ من.. من.. من؟!.

فأجابتني ناهدة بصوت مكسور:
ـ أبو رزكار أستشهد!.

صحوتُ تماماً وكأن جسدي ليس به شيء. نهضتُ بنصف جسدي الأعلى صارخا:

ـ لا.. لا.. لا..

ونشجتُ بصوتٍ مسموع بحرقة. أحاطتني بذراعيها وضمت رأسي إلى صدرها مرددة:
ـ حبيبي بك ما يكيفك.. أرجوك أهدأ!.

شبعتُ نحيباً على صدرها وأبو رزكار صاحبي ورفيقي سوف لا أراه إلى الأبد.. ظللتُ محتمياً بصدرها الساخن النابض إلى أن خف نحيبي فسقطت من جديد في رحبة ذلك العالم الزاخر بكل رموز عمري. لم أكن نائماً كما كانت تعتقد.. لم أكن أبدا.. كنت في محنة مختلفة أناضل في الصمت والرؤيا حتى بلغت مكاناً كنت فيه عارياً وسط الجموع العارية المحشودة في ساحة واسعة يحرسها صقر الرب الهائل. الواقف في الصف لا يستطيع الالتفات أبدا ـ هذا العالم حاولتُ تصويره بالكلمات في فصل روايتي ـ الإرسي ـ الأخير (ساحة الحشر).

المرة الثانية التي فتحتُ فيها عيني خارجاً من بهمة ذاك العالم الضاج بصمتٍ، وجدت وجهاً يطل عليَّ محدقا فيَّ بصمت. وجه أليف لكنني لم أستطيع تذكره في اللحظة الأولى حتى أنني ظننت أنه وجه من وجوه ذاك العالم الذي كنت فيه فسألته:
ـ من أنت؟!.
فارتسمت على ملامحه الخلاسية ظل بسمه وهمس:
ـ سلام... أنا إبراهيم ـ أبو خوله ـ!.

كان صوته خافتاً يقترب من الهمس كمن يخشى أن يسمعه أحدٌ. سحبت جسدي قليلاً، رافعا رأسي، وفاتحاً عينيّ، فهبطت ملامحه الودودة في نفسي، سألته:
ـ ما الذي أتى بك؟!.

كنت أعرف أنه في موقعٍ يبعد ثلاثة أيام مشياً على الأقدام.
ـ سمعت بما أصابك!.

 قالها ومسح بيده السمراء على رأسي. أغمضتُ عيني مبتهجاً رغم وضعي المتأرجح بين الصعود إلى السماء والبقاء، فإبراهيم حبيب حميم مضى على معرفتي به في ذلك الوقت أكثر عشر سنوات، كان صديق أخي الشهيد ـ كفاح إبراهيم ـ، معه في نفس المرحلة بالجامعة التكنولوجية ببغداد. تعرفت عليه في زيارة للجامعة عام 1976. من أهالي البصرة، من بقايا ثوار الزنج كما علق الشهيد لحظة تقديمه لي..

إلى يمين الصورة سلام إبراهيم في الوسط إبراهيم عبد الحسين ـ أبو خولة ـ وإلى اليسار الشهيد كفاح إبراهيم  1977

ومن يومها تعاشرنا حبيبين حميمين، لم يكن يتكلم إلا باختصار وعند الضرورة.. التقيت به عام 1979 في دمشق هارباً لتوه بينما كنتُ في طريق عودتي للعراق من بيروت، فقضينا ليلتين في الفندق الذي نزلتُ فيه. بعد خمس سنوات من ذلك اللقاء وجدته في الجبل يعمل بمفرزة طريق تعبر الثوار من وإلى الأراضي العراقية عبر محطات في الجبال التركية، ثم عقب حملة الأنفال، وفي صفحة من صفحات المنفى التقينا في ـ كييف ـ عاصمة أوكرانيا. كلما نلتقي كأننا نلتقي أول مرة، نفس الود والمشاعر الساخنة، لم نزل كذلك هو الآن في ـ أستوكهولم ـ نلتقي بين الحين والحين وكأنه اللقاء الأول لنا في نادي الجامعة التكنولوجية ببغداد.

أغمضتُ عينيَّ ساقطاً في غيبوبة أخرى.. غيبوبة.. مفردة أدق تعبيراً من مفردة النوم. كنت أسبح حتى ذلك الوقت في فضاء لا ألم جسدي فيه، إذ يقتصر الشعور بالجسد فقط في لحظات الصحو النادرة التي أجد فيها أمام ـ إبراهيم ـ أو حبيبتي ـ ناهدة ـ جواري. كم يوم بقيت على هذا الحال؟!.. لا أدري!. غبتُ تماماً عما يحيط بيَّ، عدا وجهيَّ حبيبيَّ المطلين على رقدتي. هما وهدير ماء النبع، كلما أفقتُ من ذلك العالم المخيف. لم تكن تلك أياماً، بل دهوراً امتدت وكأنها بلا نهاية إلى أن استيقظتُ يوماً شاعراً بمواقع في جسدي تحرقني حرقاً، فجعلتُ أصرخ فرط ألم ما بين فخذي، خصيتي، عضوي الجنسي، إبطيَّ، بطني، كتفي الأيمن، مضاف إلى ضيق في التنفس وكأنني أوشك على الاختناق. صار بمقدوري فتح عينيّ مدة أطول، فالحرقة بدأت تخف قليلاً.. قليلاً بنسبة عكسية مع مواقع جسدي المحروقة التي عادت لسيطرة شعوري. أحسستُ أنني عبرتُ مرحلة الخطر وذاك العالم الجحيمي الذي رأيته في كوابيس غيبوبتي لم اعد أراه، لكن ما كان يخيفني هو اختناقي الليلي، إذ أفزَّ بعد دقائق من سقوطي في الغفوة وأنفاسي موشكة على الانقطاع. في صباح مشرق قلت لإبراهيم:
ـ أريد مرآة!.

فأنسلل على المسلك الهابط وعاد بعد دقائق وفي يده مرآة صغيرة. جعلت وجهي بمواجهة الشمس. فتحت فمي على سعته ورفعت المرآة بمستواه فرأيت منظراً شديد البشاعة. في عمق فمي تضخمتْ اللوزتان حتى كادتا تسدان مجرى فمي. قلت لإبراهيم:
ـ صيح لي الطبيبة فورا!.
فهرع وجاء بأم هندرين. أريتها فمي فقالت:
ـ ماذا أستطيع أن أفعل لك!. ليس لدينا أدوية لهذا النوع من الإصابات!.
سألتها على الفور:
ـ أليس لديك بنسلين؟!
قالت:
ـ نعم لكنه من النوع الزيتي المؤذي وقوته مليون!.

ـ أعطيني جرعة فوراً!.

هل أنقذتني تلك الجرعات؟!. لا أدري لكن الورم في جوف فمي خفَّ، فأصبحَ بمقدوري عبّ الهواء بصعوبة أقل.
كل غروب يقودني ـ إبراهيم ـ من يدي على المسلك المنحدر نحو غرفة الحمام. في ظلامه الحالك كان يجردني من ثوبي الطويل ويدلك جسدي بحذر شديد، إذ كانت أصابعه تمر على جلدي المتقّرح بالفقاعات في لمسٍ أكادُ لا أحس به قبل أن يدلق عليّ طاسة ماء فاتر، ثم يجفف جسدي بمنشفة طويلة يضعها وينقلها قطعة بعد قطعة دون فرك، يلبّسني ثوبي ويعود بيّ إلى الفراش ويظل جالسا جواري، يناولني الأقراص المهدأة وينتظر حتى سقوطي في النوم. سألت إبراهيم عن سرّ غياب حبيبتي:

ـ وين صارت؟!.

ـ مشغولة بـ ـ أم بدر ـ فالطفل مات في بطنها ويحاولون إخراجه منذ البارحة وزوجها مثل المجنون يدور من غرفة إلى أخرى يبكي ويهذي!

شبّتْ في جسدي دفعة جديدة من الحرائق وخصوصاً بين فخذيّ وخصيتيّ وعضوي. رفعت ثوبي ووضعت المرآة ففزعت. كان عضوي متقيحاً. بقيتُ أياماً مشلولاً بالألم والرعب دون أن تفعل لي الطبيبة شيئاً، إلى أن جاء طبيب الفوج الأول ـ باسم ـ (يعيش الآن في الدنمرك) فدأب على قشط الجزء المتقيح كل يوم، فتشوغ روحي، وتتلاشى من شدّة الألم وتعود ما أن يبعد المبضع عن قضيبي. كان إبراهيم وناهدة يمسكان بي من الجانبين أثناء عملية القشط التي كان يجريها كل صباح إلى أن جف الجرح (الدكتور ـ باسم  ـ كان يترجم لي في مقابلة موفدة منظمة مساعدة اللاجئين العالمية التي قابلتنا في ـ موسكو ـ في خريف 1991 لما حُصِرَ أكثر من ثلاثمائة عراقي في أعقاب الأحتلال العراقي للكويت وهم في طريقهم إلى دول اللجوء. فسردتُ عليها هذا المسرد ولما وصلت إلى هذا الموقع أشرت نحو ـ باسم ـ  المبتسم الواقف بيني وبين المحققة التي كانت من الصدف دنمركية وقلت:
ـ وهذا الطبيب الذي قشط قضيبي وأراني الويل!.
فترجم لها جملتي ضاحكاً ومؤكدا كلامي.
هذه الناهدة.. وهذا الإبراهيم كانا ملاكيَّ الحارسين في تلك المحنة التي أرجحت وجودي على حافته. عندما عبرتُ المرحلة الحرجة طالعاً من البرزخ الضيق الفاصل بين العالمين، تشبثت بالدنيا تشبث الأعمى.
هل سأعيش ذات التجربة قبيل لفظ أنفاسي؟!.
هل سأرى عالماً يكتظُ بكل تلك الوجوه، عالماً صامتاً، واضحاً، متحركا؟!.
بتُ على يقين من ذلك، فالبرزخ المتخيل موجود وحقيقي ومخيف. وحده العفيف في هذه الدنيا سيمّرُ بهِ دونَ عناء. ولما لم أكن عفيفاً في عمري إلا في طرفه الأخير، فسأرى كل تلك الرؤى المرعبة مرة أخرى. تشبثتُ بالدنيا كغريقٍ يتعلق بقشةٍ، وكان من أفظع هواجسي هو موتي وترك حبيبتي وسط تلك الظروف المضطربة والمجهول. الهاجس نفسه كان يمتلكها أيضا، في لهفتها عليَّ، وهي تعني بيّ كطفلها الوحيد. كنا نشعر أن الحياة  دون علاقتنا ليس لها معنى.

تعافيتُ قليلاً.. قليلاً، وبعد أكثر من شهرين تمكنت من العودة إلى المشي والبدء في ممارسة متطلبات يوم الجبل، أي ما يشبه وضعي قبيل القصف ذاك. فقد كنت أسوء حالة إصابة نجتْ من موتٍ أكيد. بقيت أثار الجروح والتقرح على جلدي وشماً حفر جسدي سأحمله حتى الممات، لكنني عدت للحياة بشغف من يعود من برزخ العالم الآخر. رغم أن حيوية حركتي أصبحت أقل. كنتُ سعيداً بالدنيا وحبيبتي جواري نعني ببعضٍ. الشيء الذي أقلقني هو تدهور صحة حبيبتي ـ ناهدة ـ يوماً بعد يومٍ. إذ كانت تزداد نحولاً، مع سعال جاف يصاحبها نهاراً وليلاً. كانت تقام كشأنها دون شكوى أو قول. قلت لها:

ـ يا حبيبتي وضعك يتدهور وجسمك ينحل ونفسك يضيق يجب أن تفاتحي الرفاق كي يبعثوا بك للعلاج أو للفحص على الأقل!.

انصاعت بعد إلحاح، فخرجنا بمفرزة في خريف عام 1987 من زيوة بهدينان إلى لولان. طريق طويل محفوف بالمخاطر. كنت أقود البغل المخصص لها فقد كانت متعبة لحدود عدم قدرتها على السير. الطريق أعرفه فطالما سلكته في مهمات بريدية طوال سنتين. وصلنا إلى مقرات ـ لولان ـ الواقعة في المثلث الحدودي الإيراني العراقي التركي، فتبين أن لديها متاعب في الرئتين والكليتين، وسيكتشف لاحقا في معسكر اللجوء ـ خوي زرعان ـ في أقصى الشمال الإيراني بأنها مصابة بالسل الرئوي، بينما

سلام إبراهيم ـ أبو الطيب ـ، وناهدة جابر جاسم ـ بهار ـ في مجمع ـ زيوة ـ للاجئيين في إيران 1988

سقطتُ أنا فوراً مصاباً بالتهاب الرئة الحاد الذي سوف يظل لصقي كل العمر، ففي الدنمارك صرت نزيلا أليفا في مستشفى مدينتي   Roskilde كل شتاء. وهذا ما كنته أيضا في الشتاءات التي أعقبت إصابتي سواء في كردستان أو محطات اللجوء في دمشق وموسكو. في وضعي البائس ذاك في مقرات ـ لولان ـ. طلبت مقابلة لجنة طبية تتكون من رفيقين من الأطباء هما ـ أبو يسار ـ و ـ أبو كوران ـ شكوت لهما حالي في غرفة من الحجر والطين في موقع يسمى ـ بيربنان ـ  شكوت من ضيق نفسي قلت لهما:
ـ أحس بأنني غير الذي كنته قبل القصف!
 وطلبت منهما مساعدتي.

أكتب هذه التجربة المرة وقبل يومين استمعتُ إلى شهادة رفيق كردي من الاتحاد الوطني الكردستاني لا أتذكر أسمه كان يقول في شهادته أن أطفاله باتوا يخافون من عينيه ولجأ بمساعدة حزبه ـ الأتحاد الوطني ـ عقب الإصابة مباشرة إلى ـ هولندا ـ وجلب كل التقارير المؤيدة لذلك. أكتب الآن بمرارة فمن المفترض أن يكون الطبيب أكثر أنسانية وإحساس بمعاناة المصاب، لكنهما خذلاني كإنسان مصاب يعاني قبل أن أكون رفيقاً لهما. كنت ومازلت أعتبر الطبيب ساحراً. فهو من يشخص علّه الجسد. لكنني في تلك الغرفة الضيقة وهما يضعان السماعة على صدري العاري وظهري، وينصتان إلى صوت تنفسي ليقولا بعد ذلك:
ـ رفيق ما بيك شيء.. أنت صاغ سليم!.
كفرتُ بعد وصولي للدنمرك بهما!.
كفرتُ بالإنسان حتى!
خرجت من غرفة  الطبيبين حائراً:

ـ هل أنا حقاً صاحٍ أم معطوب؟!. فإذا كنتُ صاحياً ما هذا الضيق في النفس والتهاب الرئة المتكرر والعناء الذي ألقيه عند القيام بواجبات حياة الثوار اليومية.

أثبتت الأيام أني معلول والطبيان ـ أبو كوران ـ، و ـ أبو يسار ـ حمَّلاني عناء أشد في التجربة، إذ أن قرارهما جعلني أبقى بين الثوار حتى نهاية الأنفال وأنا أنوء بنفسي في تلك الظروف التي كانت أشد وأضني وهذا ما سأعود إليه في القسم الثاني من هذه الشهادة.

*      *      *

أستيقظ باكرا مدندنا:
 (آه يا أسمر اللون حياتي الأسمراني)

أستعجل الساعة منتظراً ظهور الطاغية في القفص. وأحبائي الأكراد بوجوههم المغضّنة العميقة وتلقائية ما ينطقون به عما تجشموه من أهوال، وبلغتهم التي أحب وقعها، فطالما أشعرتني بالأمان وأنا أشاركهم خبزهم وفراشهم وغرفهم وجوامع قراهم والمصير كذلك. هذا المشهد هو ذروة في تجربة حياتي.. هاأنذا أجلس مسترخياً وحيداً كل صباح منذ السابعة والنصف وحتى الثالثة، ومن أقعدني وهمشَّ حياتي يرزخ في قفصٍ، بلحية رثةٍ، وبقسماتٍ ذليلةٍ، وإلى جواره وخلفه يجلس من كان أدوات طغيانه ينصتون لفلاح كردي مغضن البشرة كان يافعا حينما كنت ورفاقي الثوار في بيته يقدم لنا الخبز والمأوى والماء. أرتب طقوس هذه الصباحات بقلبٍ راقصٍ.

الطاغية يجلس في القفصِ ذليلاً، لا يستطيع أن يتواقح كما فعل في محاكمة قضية الدجيل، فمبرر كونه رئيس دولة تعرض إلى محاولة اغتيال انتفى.  ثمة بشر ضُيعوا في المقابر الجماعية والقصف الكمياوي، والتهجير دون ذنب سوى أن مناطق عيشهم كانت غير مسيطر عليها من قبل أجهزته الأمنية وجيشه. الأثر البعيد المخرب لحياة البشر لا يدركه الطاغية لأنه ببساطة أمي بالمشاعر أو دون مشاعر حتى. الشاهد الكردي الذي أسهب في تفاصيل شهادته، صاحب الاسمين والتقارير الطبية من هولندا رفع نظراته لُيري المحكمة والمشاهدين عينيه المعطوبتين قائلا:
ـ أطفالي يطلبون مني لبس النظارة لأنهم يخافون من شكل عيني!.

هذا الأثر النفسي العميق الضارب أكثر العلاقات حميمية في الوجود، الأب بالأبناء، لا يفهمه إلا من عانى مثل هذه التجربة. ما قاله الشاهد عانيته بشكلٍ أخر مع أبنائي هنا في الدنمرك. فأبني الصغير ـ صلاح ـ المولود هنا في الدنمرك عام 1993 ليس لديه القدرة على فهم ما مررنا به، وهو يرى أمه تعمل وناجحة في عملها لكننا نعاني من مأزق اقتصادي مستمر بسبب النظام الاجتماعي هنا. فكلما تقدمت بعملها وزاد مرتبها قلَّ مرتبي باعتباري متقاعداً، هو لا يفهم سبب عجزي عن العمل، ولا يستطيع تصديق أن ممارستي الرياضة العنيفة يوميا المشي الطويل، السباحة، صعود سلم البيت ونزوله كل يوم لساعة هو للمحافظة على وزني الذي له علاقة جوهرية بقدرة الرئتين.. هو لا يفهم كل هذا.. بل قال لي في يومٍ ونحن نخوض في إشكالية وضعنا الاقتصادي المتعب ونحن نجلس حول مائدة الطعام:
ـ بابا ليش ما تشتغل حتى تساعد العائلة؟!.
فأجبته بأنني متقاعد بسبب وضعي الصحي، ردَّ بسخرية:
ـ وهل من يصعد السلم لساعة كاملة، ويقود الدراجة الهوائية لساعتين، ويسبح ساعة مريض!.

هذه محنة لا يفهمها الدكتاتور أبدا.. فأين له الفهم وهو فاقد الحس بالآخرين.. لذا لم يفهم حتى جملة واحدة مما قاله ذلك الشاهد الرفيق الكردي من ـ الأتحاد الوطني الكردستاني ـ عن أولاده الذين أصبحوا يخافون كلما رفع النظارة عن عينيه.

ليس ما أصابني في القصف ذاك هو فقط سبب متعتي بمشاهدته كل صباح يجلس بذلٍ، يطرد، ويأتون به كلما قرر الحاكم.. بل هذا الكائن حَوّلَ حياتي إلى كابوس.. فمنذ أيام حكمه الأولي في عام 1972 اعتقلت أول مرة وأنا لم أبلغ السادسة عشر من عمري وعُذِبْتُ في أمن ـ الديوانية ـ بشدة، فلقة، ضرب مبرح في كل ما تصله أيدهم من جسدي.. وذلك ما جعلني أعيش كابوساً مستمراً تظهر فيه نفس الوجوه التي اعتقلتني أول مرة.. سيتكرر ذلك أربع مرات آخرها عام 1980 حينما خطفوني مع صديقين من بار على أبو نؤاس، وأروني الويل في صفحة أخرى سأرويها في موضع أخر.
هذا الكائن الهمجي البدوي الجاهل العنيف القاسي، سيقتل أعز أحبائي أخي الأصغر الرسام ـ كفاح إبراهيم ـ، ابن عمتي نعيمة،

إلى يمين الصورة الشيهد كفاح عبد إبراهيم، إلى اليسار الشهيد صلاح مهدي الصياح، لم يعثر على رفاتهما في المقابر الجماعيةـ الصورة 1977 في الجامعة التكنولوجية ببغداد

 ـ علي عبد الباقي ـ، أبن عمتي سهام  ـ صلاح مهدي الصياح ـ، أصدقائي حازم الصمياني، جميل مگط، عدنان حسين، لعيبي مسلم، كريم ناصر، حميد هلال، أستاذي مدرس الفيزياء ـ شاكر داخل ـ والعشرات من الأقرب إلى القلب والروح سوف يقتلون سراً في الأقبية وساحات الإعدام ممن كانوا يقيموها في ملاعب كرة القدم في كل مدينة صورت ذلك في روايتي ـ رؤيا الغائب ـ التي صدرت عام 1996 عن دار المدى. وفصلها الأول ـ في ساحة الإعدام ـ أُرشفتْ كوثيقة في موقع ـ الذاكرة العراقية ـ الألكتروني الخالص بجرائم النظام، وسوف لا يعثر على أي جثة من جثثهم في المقابر الجماعية التي نبشت بعد سقوطه.

ليس هذا فحسب، سيسوقني جنديا لأرى الويل في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية منذ 1982. سيغير مجرى حياتي التي ظننت أنها استقرت بعد زواجي عام 1981 من حبيبة عمري. لكنني سأجد نفسي هاربا مطارداً في مدينتي ـ الديوانية ـ حتى التحاقي سرا بالثوار في الجبل وحيدا في آب 1982.. لأخوض جحيماً آخر وأحن إلى مدينتي وحبيبتي وأبني فأعود سرا لأعيش جحيماً جديداً في تجربة أعسر مكتظة بالكوابيس التي صورتها في المفصل الأول من ـ الإرسي ـ حينما اضطررت للمكوث في غرفة علية ضيقة في بيت قديم وسط المدينة وقتها دبرت لي حبيبتي مسدساً كنت عازماً على الانتحار ولا الوقوع بين أيديهم مرة أخرى. سأنجح بعد تجربة أخرى في جبهة الحرب في الالتحاق بالثوار مصطحباً حبيبتي وتاركاً أبني ـ كفاح ـ الوحيد المصاب بالربو، لو جلبناه معنا لقضي في القصف بالغازات السامة حتماً. سأعيش هذا المخاض الجديد متفاهماً قليلاً مع نفسي، فأنا كشخص غير ميال للعنف والقتل حتى الثوري.. سأعيش إلى اللحظة التي هبطت علينا فيها آلهة الحديد بالغازات السامة كما صورته في هذا الموضع. سيعّتل جسدي ما تبقى من العمر.. وبعد الأنفال سأعيش جحيم معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، والضياع في المنفى، في دمشق، موسكو لأعيش تجارب محتدمة هي جحيم من نوع آخر صورته في روايتي المعدة للطبع ـ الحياة الفقاعة ـ ثم في جحيم المنفى الدنمركي المستقر الذي رأيتُ فيه ويل من نوع أخر.

هذا الكائن القروي ابن العوجة ـ صدام حسين ـ (النكرة) حول حياتي إلى جحيم في مقتبل عمري وفي شيخوختي، ليس أنا فحسب بل أبناء جيلي ممن لم يقض في التجربة وبقى حيا. أدون هذا القول مكتشفاً هذه اللحظة أنه جعلني أعيش الجحيم مرتين الأولى في حياتي الواقعية والثانية في المنفى، وأنا أجلس كل نهار وحيداً في بيتٍ ريفي في طرف منسي غريباً عن عالمي، أدونُ ذلك الجحيم في كل مراحله، وأتَعَصَرْ مكتوياً بالنار، وكأن ما أكتبهُ يحدث لي في هذه اللحظة.

متعتي لا توصف، ووجوه الفلاحين الأكراد، تظهر تباعاً أمامي على الشاشةِ. تفضي بقصةٍ عشتُ تفاصيلها الصغيرة التي لم ينجحوا في بيان مدى فداحتها قولاً، فأثارها المدمرة تفوق ما قالوه وهم يقفون في مواجهة الطاغية. مع ذلك كنت أرقص طرباً وأحتسي المزيد من كؤوس الشاي في فترة الاستراحة منتظراً ظهور الطاغية على كرسي مذلته، بعد أن طوطمته أجهزة القمع التي بناها برؤية كيان صبَّ من الشرِ الخالص.
أصبح لزقزقة العصافير على أشجار الحديقة نغماً مختلفاً، يأخذني إلى فسحة فرح غير مسبوق مع كل جلسة أرى فيها الطاغية ينصت دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه، أمام تلك الشهادات العفوية من فلاحين أكراد لم يعرفوا أبدا لغة التفلسف.

حسدت نفسي قائلا:
ـ أنت محظوظ يا سلام إبراهيم مادمت تعرضتَ لكل ما تعرضت إليه وبقيتَ حياً، إلى حين ظهوره في قفصِ الاتهام على شاشة التلفاز ذليلا. يشكو أحيانا من سجانٍ ضربه أو شتمه أو عامله بقسوة.. أنت محظوظ فالكثير من ضحاياه ماتوا، قبل أن يروا هذا اليوم. المهم هو أن تستمتع بهذه اللحظات النادرة والطاغية يشكو!.

القاتل يشكو.. فاقد الضمير يشكو.. هو الذي ربى جيلاً من القتلةٍ.. مشهد لا أنساه حينما وقعتُ بين أيديهم آخر مرة عام 1980 تعبوا من التعذيب ولم يكن لديهم دليلاً ضدي. أخذوني في جلسة لتدوين أقوالي. وحينما أجبت المدون عن سؤال محدد يتعلق بالاتجاه السياسي لصديقي ـ عبد الحسين داخل ـ الذي قبضوه معي وقلت: لا أعرف أعتقد أنه مستقل، وهو كذلك. قام المدون الذي كنت ألمحُ خياله من خلال قطعة القماش المغطية عينيَّ على ضوء مصباح منضدة قوي أمامه. التفَ. صار فوقي، وسحق رأسي بحذائه، وهو يصرخ:
ـ أحترق ـ فهد ـ بقبرو!.

لا يدري الطاغية، أنه حينما يشكو من حارسٍ عامله بخشونة مدى البهجة التي تجلبها شكواه لي ولأمثالي ولكل عراقي ذاق جحيم أقبيته السرية وقسوة رجالها.. لا يدري.. دعه لا يدري كي تمتد المتعة! ـ حسدت نفسي وتذكرت العديد من أصدقائي الحميمين.. ومن أعزهم صديقي الشاعر ـ عزيز السماوي ـ الذي مات قبل السقوط بعام 2002 في منفاه اللندني.. أمي التي ماتت 1996 كَلتْ من الدعاء عليه فقالت لي:
ـ بعد ما أدعي عليه راح أدعي له!. هذا يمكن الله يحبه!.
تقول ذلك بمرارة وهي تشاهد المزيد من الفظائع. ستفجع بعدي بابن بنتها أختي الكبيرة ـ وداد إبراهيم ـ مدرسة مادة الكيمياء في إعدادية الديوانية للبنات منذ مطلع السبعينيات، فسوف يشنقون أبنها ـ محمد حازم مرتضى ـ مواليد 1973 ويسلمون جثته عام 1995 بعد مشاركته في انتفاضة آذار 1991 وبقائه مختفياً في بغداد وكردستان إلى حين القبض عليه وإعدامه.

في جلستي الممتعة على أريكة صباح مشرق، تمنيتها حيةً لتستمتع معي في مشاهدة الطاغية التي ضيّع أبنها ـ كفاح ـ وشردني وقتل ـ محمد ـ ابن بنتها ذليلاً يُطرد من القاعةِ حينما يبدي عدم أدبه المفطور عليه. وأبي الذي كان يسخر وهو يسكر كل مساء من السلطة ورئيسها الذي ينعته بالزعطوط ـ تعبير عراقي يطلق على الرجل غير الناضج ـ

الثلاثة لم أرهم منذ أن فارقتهم. كانوا يحلمون بمثل هذا اليوم الذي أستمتع به وحيداً في صالةٍ في بيت ريفي بطرف مدينة دنمركية تجاور العاصمة. أرقص لهم.. أستحضرهم في تجربة خاصة، بمن درّبَ خيالهُ على لمسِ أحبة ماتوا وكأن اللمس فيزيقياً. أسرُّ لهم بما يجرى.. بمتعتي وأنا أشاهد الطاغية في قفص. يجري كل ذلك في فترة استراحة الجلسة!

هذا الطقس البهيج وازن مأساة تجربتي، وجعلني أول مرة أخرج من ضيق عالم البؤس الذي أعيشه في المنفى.. فمع كل كلمة يشكو بها الطاغية من سوء المعاملة أهبُ من الأريكة لأرقص طرباً. أرقص وأصرخ مبتهجاً:
ـ القاسي يشكو.. القاتل يشكو!.. ابن العوجة يشكو.. يشكو!. وكأنه شخصا محترماً

وقت شكواه كنت أستعيد بلذة لحظة القبض عليه في حفرة بأرياف قصبة ـ الدور ـ حيث قبضوه بلحيةٍ كثة ووضع بائس سيظل رمزاً لجبنِ كلِ حاكمٍ جائرٍ.. أستعيد بلذة حركة يديه، وهو يمسح لحيتة الشيباء القذرة، رامقاً العدسة ومن قبضوه، والتي أختارها المخرج الأمريكي كحالة يعرض فيها شدة ضعفه. كنتُ مع نفسي أحمدُ الرب أنه لم يَقدِم على قتل نفسه، فلو فعل ذلك لتحول إلى رمز.. حمدتُ الرب رغم أن مجريات الأحداث أثبتت أنه جبان بكل ما بالكلمة من معنى.. حد لم يستطع إطلاق رصاصة على رأسه، كي يتخلص من كل الذل الذي هو فيه الآن.. جبان.. جبان تحّكم بكل شيء وقادنا إلى حروب وخرب النفوس وخلف العراق كومة بؤس وأسلم البلاد ونفسه للأمريكان طالبا الأمان صارخاً من باطن حفرته التي كان يخبأ نفسه فيها كجرذٍ:
ـ أنا صدام حسين رئيس جمهورية العراق!.
ـ اللعنة عليك يا هذا!..اللعنة.

أعيش مهرجان صباحي، يحفل بكل أنواع البهجة، التي أفقدني إياها الطاغية الجالس في قفصه، وهو ينصت لأعز أحبة عاشرتهم في عمري، فلاحي الكرد الذين كانوا يقدمون لي الخبز، قبل أن يقدموه لأولادهم، والفراش والمأوى وحنان عوضني قليلاً عن حنان عائلتي وأحبتي في مدينتي الجنوبية البعيدة. أقفز من أريكتي وقول صاحبي ـ الفلاح الكردي ـ البسيط ذو الوجه المغضن مكثفاً ومفحماً، وأصرخ:
ـ يسلم فمك!.

متمنياً لو كنت حاضرا في المحكمة لخرقت كل القواعد وحضنته من القلب كما حضنني في تلك الأيام المضنية في بيته الفقير، وشاركني الخبز والغطاء والمصير.
ـ ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
وأنا في فضاء ـ

خريف عام  2002 الأجواء مشحونة. الحرب التي أسقطت الطاغية وجعلت العراق بلداً محتلاً، موشكةً على القيام. كنتُ أجلس في نفس هذه الصالة وعلى نفس الأريكة الجلدية السوداء أستمع إلى مقطوعة أحبها لـ ـ موزارت ـ قبل أن أشرع في الكتابة كما عودت نفسي كل صباح، مقاوماً شعوراً بالعجزِ والضيق ينتابني كلما تخرج حبيبتي إلى العمل وطفليَّ إلى المدرسة، فأسقط في الصمت والوحدة. منذ أكثر من عشرة أعوام أقاوم هذا الشعور الذي يشلني ويميت أصابعي، فلا أستطيع مسك القلم أو القراءة لاعنا الدكتاتور الذي أحال حياتي جحيماً، فعالمي أصبح محدوداً بحدود البيت، ونزهات في الحقول، والقراءة والكتابة والصمت.. كل هذا يبدو حلماً لمشروع كاتب. لكن أن تكون معلولاً ومنفياً في ركن قصي من الدنيا، ومحشود الذاكرة بعنفٍ دموي في الزنزانة وجبهة الحرب، وبين الثوار في الجبل، ومعسكرات اللجوء يجعلك تتلظى بالجحيم وحيداً في ضيق دائرة عالمك الساكن.

فيما كنت بذلك الوضع البشري، قُرِعَ جرس الباب. قفزت من الأريكة مذعوراً متسائلا:
ـ من يا ترى؟!.
ونظرت إلى الساعة المعلقة على الجدارِ. كانت تشير إلى العاشرة صباحاً. ليس أحدٌ من أفراد عائلتي، ومن غير المألوف هنا أن يزورك أحدٌ دون موعد مسبق، وعلاقاتي بالعراقيين محدودة جداً، ومنتقاة بحيث لم يزرني أحد دون اتصال هاتفي. تلكأت في طريقي إلى المدخل، فرنَّ الجرس من جديد. خطوتُ نحو الباب. حاذيتها. ارتكزتُ على أطراف قدميَّ، وأزحت الستارة الخفيفة المغطية قسم الباب الزجاجي العلوي من طرفها، فرأيتُ رجلاً طويل القامة، مشدود الجسم، بملابس أنيقة، سترة بيضاء، وقميص وردي، وسروال أسود، يقف على مبعدة خمسة أمتار من عتبة الباب مصوباً عينيه الحادتين للنقطة التي أزحت فيها الستارة. رجعتُ خطوة إلى الوراء، مردداً مع نفسي:
ـ لا بد أنه شرطيٌ!. لكن ما الذي يبغيه مني؟!.

ومددت يدي نحو مقبض الباب. فتحتهُ. تبسّم تلك البسمة التي يخبئها الدنمركي تحت شفتيه ويشهرها لكل وجه بحيث باتَ الشخص لا يدري هل هي حقيقية من القلب أم أن البرتوكول الاجتماعي وطبيعة الحياة جعلتهم يضمرون مثل هذه البسمة؟!.
ـ ففي بلدي لا نبتسم إلا لمن نحبُّ أو نودُّ!. ـ

لم أزل مرتبكاً، لا أدري ماذا أقول؟. وقفتُ حائراً وفي قبضتي اليسرى مقبض الباب. خطا نحوي بحيوية وقال:
 ـ أنا أسمي Erik Hansen

لم يعنِ لي اسمه شيئا، لاحظ ذلك من خلال ردود فعلي الحيادية وهو يقطع الخطوات الخمس التي تفصل بين وقفتي على حافة العتبة وجسده المندفع نحوي، ففتح وهو يتقدم ملفاً كان بين يديه. ولما  أصبحَ جواري أشارَ إلى صورة فوتوغرافية ليّ أظهر فيها عار الظهر محروقا، فتذكرت على الفور أن مصوراً لم يصب بالقصف من الثوار. صورنا في اليوم التالي، ولديَّ واحدة من تلك الصورة سيجدها القارئ هنا:

سلام إبراهيم في اليوم التالي للأصابة   6 ـ6 ـ1987

 ـ لكن من أين لهذا الدنمركي غريب الأطوار الذي قرع على الباب دون موعد هذه الصور؟!، ثم ما الموضوع؟!.
 كنتُ أسأل نفسي هذا السؤال، راغباً في أن يدعني وشأني، فبعد تلك الحياة العاصفة بتُ أميل للعزلة والصمت والسلام، رغم شعوري أنني شبه مدفون في الحياة، لكن ما كان يعزيني هي أشياء صغيرة.. قطي الأحمر، وعصافير الحديقة، وحفيف أشجارها، وأفق الحقول المفتوحة التي أطل عليها من النافذة جهة باب البيت، القراءة والكتابة وأبنائي الثلاثة وحبيبتي.
أشار إلى صورتي قائلا:

ـ أليس هذه صورتك يا ـ أبو التيب ـ (الطيب)
قلت مع نفسي:
ـ يخاطبني باسمي الحركي أيام الجبل!.
بادرته فورا:
ـ نعم هذا أنا.. لكن من أنت؟!.
قلتها وسحبت جسدي خطوة. غمرني بابتسامة ودودة وكأنه تيقن من شيء ما كان يشك فيه وقال:
Jeg er statsadvokat" "
ـ يعني (أنا محامي الدولة).
صمت لثانيتين وأردف:
ـ القضية تتعلق بتعرضك في كردستان لقصف بقنابل الغاز.. ونحن نريد أفادتك عن تلك الحادثة!.

فهمت كل سلوكه الذي بدا غريباً على الأعراف الدنمركية. إذن هو باغتني كي يتأكد من أنني الشخص المعني في الأدلة التي بحوزته.. لذا لم يتصل أو يراسلني كما هو العرف بل ضبطني تماما وبشكل مباغت. لم يكن لدي مانعاً من الإدلاء بإفادتي بل أسعدني ذلك، فهاأنذا أجد أخيرا من يهتم بما جري لي قبل أكثر من خمسة عشر عاما في وادٍ منسي من أودية كردستان.
أجبته:
ـ موافق!.
لف أوراقه في محفظته وقال:
ـ هل تريد أن نلتقي هنا في دائرة شرطة مدينتك Roskilde   أم تريد الحضور إلى مكتبي في كوبنهاجن؟!.

ولما كنت أكره كل ما يمت للشرطة بصلة، رغم اختلاف الأمر حيث الشرطي هنا حامي حقيقي لحق المواطن بالعيش دون تهديد، فقد قلتُ له:
ـ في مكتبك أفضل!.
أقترح على الفور موعداً وافقته، فشدَّ على يدي بقوة قائلا:
ـ إلى اللقاء!.
ـ إلى اللقاء!.

وانسل مستديرا. عندها انتبهت إلى عدم لياقتي، فأنا لم أقل له تفضل لنجلس في الصالة، ولم أدعُه لفنجان قهوة، بل عاملته بجفاء، رغم أن الأمر الذي جاء به حيوي ومهم في فضح قتلة أبناء شعبي!.

قلت مع نفسي:
ـ باغتني وأرعبني.. مما جعلني أرتبك ولا أفكر بمنطق معقول، بل وجدتني أتخندق مدافعاً عن وجودي غريزياً، وهذه خلاصة سلوك تجربتي في بقعة بلدي الدامية!.

ففي زمن الطاغية الجالس في القفص الواسع الآن المطل من شاشة التلفاز الملونة الكبيرة. عاش العراقي متهماً. يخشى ظله ويحاذر من أقرب البشر إليه بعدما أجبر على توقيع مادة ـ 200 ـ القاضية بإعدامه لو أكتشف أنه يعمل مع حزب أو حركة تناهض السلطة. زمن الطاغية أنسانا اللياقة، وجعلنا نسلك سلوك بشر الغابة. غاب المحامي خلف ثنية بيت جارنا المقابل المفتوح على حقول خضراء تمتد حتى الأفق المنخفض، بقيتُ واقفاً أحملق بأفق ذاك النهار الخريفي المشمس، متأملا هذا الحدث المباغت الذي لم يستمر سوى دقائق معدودة.. القرع الخاطف، والحوار الخاطف أيضا، والموعد السريع، فوجدتني لا أدري ما القضية حقا، من أثارها؟، ولم؟!. وكيف وصلت الصور وأسمي الحركي إلى محامي الدولة الدنمركي؟.. وهو بدوره لم يوضح أي شيء عدا أنه توَّثقَ من كوني صاحب الصور التي لديه، ومن أسمي الحركي في ثمانينيات القرن الماضي بين الثوار في الجبل. رتبَّ موعداً، وغاب باحترافِ خبيرٍ دون أن يوضحَ أي شيء!.

دخلت الدار وقلت لنفسي وأنا أهبط مسترخياً على الأريكة السوداء التي صارت أكثر لصقا بجسدي من أي شيء أخر في سنوات المنفى الدنمركي العصية:
ـ أصبر يا من لم تعّلمكَ المحن الصبرَ أصبر!.

لكن من أين يأتي الصبر لواحد مثلي.. شبه مجنون، فضولي حد كاد يقتله هذا الفضول في كل التجارب التي مرَّ بها منذ الطفولة وحتى الآن.. فمن يمد يده في حفرة قبرٍ ليلمس حديد صاروخ لم ينفجر تبين لاحقا أنه صاروخٌ محملٌ بغازاتٍ قاتلةٍ، كيفَ لهُ الصبرَ والهدوءَ؟! فكرتُ طويلاً بما يجري من تفاصيل تتعلق بالعراق هنا في الدنمرك، فوجدتُ أن قضية ـ نزار الخزرجي ـ الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش العراقي وقت حملة الأنفال والذي لجأ إلى الدنمرك، مع عائلته والذي أختفي في ظروف غامضة رغم قرار الإقامة الجبرية عليه الصادر من المحاكم الدنمركية لتهم تتعلق بإبادة الجنس البشري!.
ـ هل الأمر يتعلق بهذه القضية؟!.
سألت نفسي مرارا.

عادت حبيبتي من العمل أخبرتها، فدخلنا في حوار شغلنا لليلتين هما الفاصل عن الموعد، ولم نصل فيه لشيء. فلا محامي الدولة أشار إلى أي علامة تتعلق بالموضوع، ولا مسار الأحداث توحي بأن قضية ستثار ضد ـ نزار الخزرجي ـ رئيس أركان الجيش العراقي وقت التهجير والقتل الجماعي والمقابر الجماعية التي اكتشفت لاحقا في كردستان وأنحاء العراق، إذ أنه لبس ثوب المعارضة وهرب بعد إصابته في الرميثة بين السماوة والديوانية حينما كلفه صدام بقمع انتفاضة الجنوب العراقي في آذار 1991. وخلصته علاقاته العشائرية من موت محقق ليلجأ بعدها إلى الأردن عبر كردستان ويصل الدنمرك، فيحاصر بقوانين دول تحاسب على من أرتكب جرائم إبادة بحق البشرية، فتحدد إقامته، لكنه سيختفي من الدنمرك في ظروفٍ غامضة قبيل الهجوم الأمريكي على العراق مطلع 2003. 

قالت لي ناهدة:
ـ أذهب للمقابلة وسنعرف الموضوع!
كان الموعد في الحادية عشرة صباحا، والمكان مكتب محامي الدولة الدنمركية في كوبنهاجن. بكرتُ بالنهوض. أخذتُ دشاً. حلقتُ ذقني. ارتديتُ أفضل ثيابٍ لديَّ، وكأنني ذاهبٌ إلى حفلٍ.. وهو كذلك كما ستبين مجرى الأحداث. أخذت حافلة التاسعة والثلث من مكاني الريفي حتى محطة قطارات روسكلدة. أربعة كيلو مترات تستغرق عشرة دقائق تقريباً في الحافلة غير المكتظة في ذلك الوقت إلا من بعض المتقاعدين الطاعنين بالسن. تضايقت من حركتهم البطيئة أناء الصعود والنزول من وإلى الحافلة، ناسياً أنني أيضاً مثلهم في حساب الحياة متقاعداً عاجزاً أنتظر وقت إيابي من هذا العالم الذي تشبثت به تشبث أعمى في هذه البقعة الآمنة التي تشبه الجنة التي وردت تفاصيلها في كُتبْ الله السماوية الثلاثة. رغبتُ في قنينة بيرة. كما هي عادتي كلما ركبت قطاراً. احتسي على مهل وأتمتع بالفرجة. النافذة الزجاجية العريضة وهي تسرع مخترقة الحقول والمدن.. وجوه الركاب المنشغلين بشأنهم القريبين من عطشي لكل بسمة أو همسة أو كلمة أو ضحكة عين طالما أجدها في وجه راكب أو راكبة عابرين.. متعة قد تكون الأهم في منفاي، أمارسها كلما قصدتُ مكاناً أبعد من صالة بيتي.. سجني وجنتي:
ـ تماسك يا سلام هذه الرحلة ليست لأحلام اليقظة وأخيلة الخمرة الخفيفة.. أنت ذاهب لأعلى سلطة في أرقى النظم ديمقراطيةً.. فبلا شرب يا مجنون!.

كبحتُ نفسي المتعودة على التسيب بعناء. نزلت من عربة القطار إلى رصيف المحطة المفترض أن تكون قريبة. تسلقت السلالم المؤدية إلى الشارع، لكنني لم أجد علامة تقودني إلى العنوان الذي كتبه المحامي على ورقة صفراء هي بين يدي هذه اللحظة. تخبطت بين شوارع عدة طويلة مشجرة ساحرة، لكن لم أجد حرفاً من العنوان الذي بين يديَّ في لوحات أسماء الشوارع الخضراء المعلقة عند تقاطعات الطرق، وعلى جدران الأبنية المشكلة مدخلاً لتلك الشوارع. تخبطتُ على أمل العثورِ على أسم الشارع المقصود مادمت على مقربةٍ. كنتُ فعلاً على مقربةٍ، لكن الوقت مرَّ، وجنَنَّ فضولي إلى اللقاء الغامض والقصة المباغتة التي جعلت لوجودي معنىً حيوياً في الدنمرك بعد قرابة أكثر من عشرة أعوام على تواجدي هنا. وجدتُ نفسي قرب جسر يعبر على قناة من قنوات العاصمة المائية المنتشرة في أرجائها. نظرت إلى ساعتي اليدوية كانت تشير إلى الحادية عشر إلا ربعاً. تأرجحت على حافة الوقت مجنوناً ولوحت بيدي لأول سيارة أجرة مارة. توقفت، طالعني وجه أليف تبين أنه عراقي، أعطيته العنوان فتبسم وقال لي بلهجة عربية عراقية:ـ
أصعد يا أخي!.

لم يسر إلا مسافة خمسين متراً في شارع جاور مجرى قناة، ثم استدار يميناً، وسار مسافة عشرين متراً وقال لي:
ـ هذا الباب هو العنوان الذي تبغيه!.

دفعتُ له على عجل. تركني أمام بناية بيضاء قديمة مكونة من طوابق أربعة أو أكثر، فذاك ما لم أستطع حصره إذ وجدتُ نفسي بمواجهة درفة باب بيضاء عريضة جاوزتها، فوجدت نفسي في باحة عريضة أيضا. لم يكن هنالك مصعد، فالبناية أقدم عهدا من زمن المصاعد. تسلقت السلالم العريضة بصمت فالعنوان هو في الطابق الأول. يعني القضية تتعلق بقطع سلالم تنحني مرة واحدة. وجدتني في باحة وسيدة جملية أخذت بيدي قائلة:
ـ أنت سلام نحنُ بانتظارك!.

لم أفهم شيئا من كلامها الذي بدا لي عاطفياً غريزياً لا يتناسب مع المكان الذي ذكرني على الفور بالأماكن التي صورها ـ كافكا ـ في روايته الشهيرة ـ المحاكمةـ. صعدت خلف السيدة متوسطة العمر المبتسمة طوال الوقت سلماً قصيراً أفضى إلى فسحة جدرانها بيضاء وبابها أكثر بياضاً، ومن نوافذها الزجاجية يتدفق ضوء صباح ساطع يكشف كل ما بالوجه من خلجات. دَوَرَت المقبض ودفعت الباب قليلاً.. قليلاً.. فظهرت منضدة مدورة يجلس حولها المحقق الدنمركي Erik، وجواره سيدة بدت عربية متوسطة العمر ستقدم نفسها كونها مترجمة. التفتُ نحو الباب التي دخلت منها، فوجدتها قد اندملت بالجدار الأبيض وبعناء لاحظت المقبض المدور الصغير. شملتُ الجدران البيضاء والنافذة الطويلة العالية والسقف العالي جداً قبل أن أخطو نحوها. كانا قد قاما من كرسيهما حال ولوجي الباب، ومدا ذراعيهما لمصافحتي الواحد بعد الآخر. وجدتُ كرسياً مسحوباً فقعدتُ عليه. وبدأ المحقق بالسؤال عن اسمي، وموطني، وطفولتي، وشبابي والمدارس التي درست بها في العراق، ذكرتني أسئلته بالتحقيق الذي أجرته المحققة الدنمركية أيضا في موسكو والذي على أساسه قبلتني الدنمرك كلاجئ سياسي:

ـ إذن يريد التوّثق من شخصيتي وصحة إفادتي القديمة؟!.
قلت مع نفسي ذلك، وأجوبتي سريعة واضحة لأني لم ألفق قصة كما فعل الآلاف من اللاجئين. كان يسجل كل كلام ويكتب أيضا بينما ملامحه التي رأيتها ودودة حينما قرع باب بيتي، تحولت إلى ملامح جدية صارمة، منهمكة في عملها بحياد تام، فبدت بلا عواطف. نشر على المنضدة صوراً فوتوغرافيةً لي وللعديد من الرفاق الذي أصيبوا في القصف. وأشار بإصبعه نحو صوري وسألني:
ـ أهذا أنت؟
أجبت بالإيجاب، فسألني عن أسماء العديد من رفاقي فذكرت أسمائهم مشيرا أنها أسماء حركية وليست حقيقية. ردَّ بأنه يعرف ذلك وأضاف:
ـ قبل أن نبدأ سنشاهد فلما؟!.

ودس يده في حقيبة سوداء. أخرج قرص CD وضعه في الجهاز الموضوع تحت شاشة تلفاز متوسطة الحجم وكبس على زرا بالكنترول، أول من ظهر هو وجه أبو حسن  الملقب ـ حبيب قلبي ـ وهو يشير إلى بقايا الصاروخ الضخم الذي أنفجر جوار الشهيد ـ أبو فؤاد ـ وقتما كنت أستحم في غرفة لا تبعد سوى ثلاثين مترا. تذكرت قصة هذا ـ الفلم ـ فبعد سنتين من حملة الأنفال، ورحلة طويلة في معسكرات اللجوء التركية والإيرانية تمكنا من الوصول إلى ـ دمشق ـ وفي غروب يوم صادفني رفيق من رفاق أربيل في شارع مساكن برزة الرفيق (رياض قرجوغي) وهو الشاعرـ نجم خطاوي ـ فأخذني على جهة وهمس لي:
ـ شفت البارحة فلم عن أصابتك!. هاي أشجان صاير بيك؟!.

وقتها تذكرت فيما يشبه الحلم أن الرفيق ـ أبو سامر ـ أخرجنا أنا وأبو رزكار من تحت الكلة في اليوم الثاني أو الثالث للقصف، في الوقت الذي لم تبدأ فيه الآلام تتركز في أماكن محددة من جسدي، وقادنا إلى حافة مساحة مستوية. باعدت أجفاني لأرى ما الذي يجري، فرأيت أحدهم يحمل كاميرة فيديو. همس أبو سامر:
ـ أنهم من أعلام الحزب الديمقراطي الكردستاني، يريدون توثيق ما حدث!!.
نسيت الأمر برمته ما أن وقعت في الغيبوبة.
 قلت لنجم:
ـ أيكون نفس الفلم الذي صوره ـ حدك ـ بعد الضربة مباشرة؟!
أجاب:
ـ لا أدري حصلت عليه بعلاقة شخصية فأشترط عليَّ الرفيق أن لا أريه لأحد لضرورات أمنية!.
بعد حوار طويل أقتنع ـ نجم ـ بضرورة حصولي على نسخة منه فأتى به وذهبنا معا إلى محل تسجيل ونسخت نسخة لي وأوعدته بكتمان الأمر، لكنني حينما شاهدتها مرات عدة تأملت في أمر كتمانها، فوجدتها وثيقة تخص العديد من رفاقي المتواجدين في دمشق والراغبين في الحصول على لجوء في بلدان أكثر أماناً. وفعلا أشعت الشريط.. وهاهو الشريط نفسه يعرضهُ عليَّ المحقق الدنمركي في غرفة بمبنى محامي الدولة في كوبنهاجن بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً.  كان ـ أبو حسن ـ يشرح ماسكاً الشظايا الكبيرة بملقط حديدي في وسط الوادي، علقت قائلا:
ـ كنت في تلك الغرفة الصغيرة المجاورة التي هي حمام!.

فأوقف الشريط وأعاد اللقطة إلى حيث أشرت. سجل شيئاً، وعاود التشغيل. دارت العدسة في لقطة بانورامية حول محورها فظهرت أشجار الوادي كالحة اللون سوادها يختلف عن الأشجار المحترقة. لون يميل إلى البني الداكن. ألقيت ملاحظتي تلك وكان ـ Erik ـ يسجل كل ما أنطق به. سينقل المشهد إلى موقع الدوشكا حيث أصعدونا في صبيحة اليوم التالي للقصف، ودارت العدسة دورة بانورامية مظهرة القمم المحيطة بصحن الوادي لتهبط إلى مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ المنحدر والذي بدا كخيطٍ رفيع، أوقف اللقطة وسألني:
ـ هل هذا الموقع الذي كنتم فيه؟!.
ـ أجبته نعم
ـ ما اسمه؟
ـ زيوة ويقع خلف مدينة العمادية بالضبط!.

سيظهر بعد هذا المشهد المصابون منتشرين تحت ظلال الأشجار، وخلف صخور كبيرة تحجب أشعة الشمس، يسعلون، مسودي الوجوه، يحدقون بشرود نحو العدسة المارة خطفاً على وجوههم. السعال متواصل خافت مخنوق يختلط بضجيج مجرى النبع. بدت الأجساد المنتشرة كعصفٍ مأكول يبرك في صمتٍ لا يعكره سوى السعال وصوت الساقية وتنادي من لم يصابوا الخارجين الداخلين من وإلى حافة العدسة حاملين بأيدهم شيئا ما، لمساعدة المصابين المتضورين ألماً. أشرت إلى ـ أبو سعد ـ الذي مرَّ بلمحة بصر في العدسة قائلا:
ـ هذا أبو سعد سينتحر في قصف بغازات الأعصاب بعد أكثر من سنة بنفس الموقع وسأدفنه بيدي!.
أوقف الشريط مثبتاً اللقطة على قامة ـ أبو سعد ـ بلحيته الكثة وقوامه الطويل، سألني:
ـ هذا؟!.
ـ نعم!.
ولذلك قصة أخرى، كنت فيه شاهداً، سأرويها في القسم الثاني من هذا الكتاب.

أكثر من مائة مصاب، من بينهم نساء وأطفال من أبناء رفاق في المقر أو أبناء عوائل كانت تمرَّ صدفة، تظهر في الشريط اللاهث الذي سيبطئ قليلا أثناء تصوير ـ كانياوا ـ الرفيقة اليسارية الكردية الإيرانية السمراء الجميلة وهي مسودة الوجه لم تستطع الإجابة عن سؤال وجهه لها ـ أبو سامر ـ بل لم تتمالك نفسها، فبدأت تتعسر قسماتها متقلصةً قبل أن تنشج بخفوت. كانت هي الأخرى امرأة شجاعة مقدامة، تناوبت على العناية بأبي فؤاد مع حبيبتي ـ ناهدة ـ وإلى جوارها يجلس زوجها ـ ملازم ـ علي ـ بنظارته الطبية ذي العدستين الصغيرتين، يمسّح بصمت ضفيرتها السوداء الطويلة. ضمت رأسها بين ذراعيها الملتفتين حول ساقيها المضمومين إلى صدرها، عارضاً عن العدسة والسؤال.

دخلت العدسة وجوه لكل منهما قصة أعرفها وتحتاج إلى سرد، وجوه قاومت الطاغية وتركت المدن، الزوجة، الأبناء حالمةً في التمكن من الخلاص من كابوسه في المقاومة.. وجوه.. ووجوه  مرَّ ـ حميد مجيد موسى ـ  سكرتير الحزب الشيوعي الآن ـ حميد بغش (أبو زكي) الذي توفى في منفاه قبل أعوام عدة، أبو عليوي بوجهه المنغولي المتجهم (وهو أخ للاعبين عراقيين مشهورين من البصرة لعبا في المنتخب العراقي لكرة القدم طوال فترة السبعينات وهما، هادي أحمد، وعلاء أحمد) وقد تحول لون بشرته من السمرة إلى السواد.
ـ هل أعد الأسماء؟!.

لا.. ليس موضعها في هذا المقام. أجلس وسط المحقق والمترجمة. نحدق نحن الثلاثة بشاشة التلفاز وهي تبحر في لحظةٍ غيرت مجرى حياتي، إذ أكسبتني العجز الدائم، فتعطلت حياتي العملية تماماً. وقعت عين العدسة على هيكل ـ أبو رزكار ـ النحيل. وقتها لما رأيت الفلم في دمشق أدركت لِمَ لم يجب على ندائي الملح المكرر، وأنا أطلب منه إسماعي ولو كلمة واحدة في وجودنا تحت الكلة السوداء. كان مسلوخ الجلد، وجهه.. ظهره.. بطنه.. ذراعيه.. الجذع الأعلى العاري تتزاحم فيه الفقاعات. أعدت مرات عديدة شريط هذا الفلم، فوجدته يسرح بعينيه المفتوحتين عكس كل المصابين في عالم بدا غريبا عن عالمنا.. أيقنت وقتها أنه كان في البرزخ يمضي.. في ضيق ذاك الممر المحشود بالغرائب الذي مكثتُ فيه، لكنني نجوت كمن يعود من الموت.. كان في البرزخ ذاك يرى ما لم يره الأحياء إلا مرة حيث يستطيعون قص تلك التجربة أبدا. قلت للمحقق:
ـ هذا أبو رزكار توفى بعد تصوير المقابلة بخمسة أيام!.
أوقف اللقطة. كتب شيئا، ثم كبس زر التشغيل، فسد مساحة الشاشة وجه " أبو الوسن " الذي تكلم قليلا وأشار إلى ما بين فخذيه, كان يرتدي سروالاً كرديا، علقت قائلا:
ـ هذا ـ أبو الوسن ـ سينتحر في قصف بغاز الأعصاب بعد أكثر من سنة وسأدفنه بيدي!.

أوقف اللقطة. فجمد المسكين. وجهه مسود، وذراعاه تشيران إلى ما بين فخذية وخلفه على كتف الساقية وتحت الأشجار الجامدة في اللقطة يظهر بعض من المصابين وهم يستلقون أو يجلسون ضامين رؤوسهم ما بين أذرعهم المرتكزة على ركبهم المضمومة المتلاصقة.

رفع المحقق رأسه عن الورقة التي كان يخط عليها. حرك الشريط مرة أخرى فظهرت أنا. فسألني على الفور:
ـ أهذا أنت؟!.
ـ نعم!.

أوقف الشريط فأبحرت في ذلك الكائن المحطم الذي كنتهُ. وجه محروق تماماً، عينان متورمتان أحاول فتحهما ناظراً إلى شخص ما إلى جانب العدسة. لم أكن أرتدي سرولاً كرديا وقميص، زي البيشمركه المألوف، بل رأيتني في دشداشة طويلة سوداء من تلك التي نلبسها في جنوب العراق. سألتُ لاحقاً من أين أتوا بها، قالوا أنهم لما وجدوا أن كل قطعة من جسدي من أخمص قدمي وحتى رأسي محروقة ومليئة بالفقاعات، بحثوا عن هذا الرداء الذي كانوا قد جلبوه من المدن القريبة ليرتديه ممثل في عرض مسرحي عرض قبل القصف بأسبوعين. مشى الشريط، فبدأت أجيب على أسئلة وجهها كادر التصوير، وجدتني متماسكاً. حمدتُ الخالق لوجود امرأتي القوية إلى جواري. شرحتُ باختصار كيف أصبت. أوقف المحقق اللقطة ليسألني:
ـ أي لغة كنت تتحدث؟!.
ـ العربية!.
فسألني:
ـ أيوجد عرب بين هؤلاء المصابين؟!.
أجبتُ:
ـ غالبية الذين ظهروا في الشريط هم من العرب، بالإضافة إلى أكراد ويزيدين وكلدان وأشوريين، صابئة، ومسيح، ومسلمين، سنة وشيعة!. تجد تركيبة العراق كلها في هؤلاء!.

مرّت العدسة على جسدي شبراً.. شبراً. كان مليئاً بالفقاعات المتقرحة. رفعتُ الثوب كنت لا أرتدي لباساً داخلياً، فظهرت أعضائي التناسلية محروقة متقرحة مليئة بالفقاعات. أوقف الشريط حينما أظهرت العدسة كتفي الأيمن بلقطة كلوز، فأحتلت القطعة المتقيحة مساحة الشاشة. كانت الإصابة فيه أكثر شدة وفقاعاته أكبر وأوسع. طلب مني نزع قميصي ففعلت فرأى أثار تلك الفقاعات لم تزل توشم جلد كتفي وما زالت وستبقى حتى لحظة إيابي من هذا العالم. فعل كذلك مع أعضائي التناسلية، إذ أن أثار قشط دكتور "باسل" لم تزل توشم قضيبي الذي لم يزل يلتهب وتتورم فتحة البول في الجو الحار. سجل أقوالي ومشاهداته، ثم أغلق الشاشة قائلاً:
ـ والآن ستقص لي ما حدث ذلك اليوم والأيام التالية بالتفصيل!.
فسردتُ على مسمعه وللاقطات المسجلة كل ما سردتهُ للقارئ. كان يكتب كل شيء، ولما أكملت القصة سألني سؤالا واحدا فقط:
ـ هل تعرف ـ نزار الخزرجي ـ رئيس أركان الجيش العراقي وقتها شخصيا؟!.

أجبت بالنفي، وعرفت أن الأمر يتعلق به، وبهروبه من مكان إقامته الجبرية في بيته بمدينة " Næstved" واختفائه الغامض من الدنمرك قبيل الهجوم الأمريكي في آذار 2003 لاحتلال العراق. دفع الأوراق التي كان يسجل فيها أقوالي وطلب مني التوقيع قائلا:
ـ ستكون شاهداً لو قبضت شرطة الأنتربول على شخص ـ نزار الخزرجي ـ حال دخوله أي دولة أوربية، أما هنا في الدنمرك أو في المحكمة الدولية لمجرمي الحرب في لاهاي.

قلت له:
ـ هل أستطيع الحصول على نسخة من محضر هذا التحقيق، فهو ينطبق على قادة الدولة العراقية، ـ صدام حسين ـ وأعوانه فيما لو قبض عليهم!
أجاب:
ـ لا أستطيع
وناولني كارته الشخصي قائلا:
ـ لو أرادت أي جهة رسمية عراقية ملف هذه القضية فلتتصل بي وسوف أزودها بالتفاصيل كلها!

كتب على الوجه الأول للكارت:

STATSADOKATEN
STATSADOKATEN FOR

SAELIGE INTERNATIONAL STRAFFESAGER
(SPECIAL INTERNATIONAL CRIMES OFFICER
)

على الوجه الثاني:

Erik Hansen
Vicekriminalkommissaer
 (Detective Chief Inpector)
Jens Kofods Gade 1, 1268 København K, Denmark Email: sico@ankl.dk
Telephone + 45 33 30 72 56  
 Fax + 45 33 30 72 70

ننصت أنا والطاغية
هو في دهشة وامتعاض
وأنا في نشوة وطرب
هو في قفص
وأنا في فضاء

أستيقظ مع طلوع الشمس. أذهب في نزهة بين الحقول أعود منتشياً. أعد الشاي. أفتح التلفاز. أرنم:
آه يا أسمر اللون حبيبي الأسمراني
                        حبيبي وعيونه سود هم الكحلة رباني
أدور بأرجاء الصالة في انتظار ظهور الدكتاتور على كرسي الذل بلحيته غير المشذبة وبقسماته البائسة التي تحمل بقايا مكر قديم وهو يستمع إلى ما فعله بأبناء وطني وبيّ.
وآه يا أسمر اللون

10 ـ 10 ـ ‏2006‏‏

الدنمارك   

 

القسم الثاني
مع قاضية المحكمة الهولندية في لاهاي
عندما أدخل الدكتاتور رفاقي في الجنون
رغم غياب الطاغية عن جلسات المحاكمة، فما زلت أتابع تفاصيلها، متأسفاً لإعدامه لجريمة لا تقارن بجريمة الأنفال أو التهجير، أو قتل عشرات الآلاف ممن خطفوا من الشوارع وأماكن العمل ووحدات الجيش والمدارس وكل مرافق الحياة. كان بودي أن يطول آسره ليسمع ما فعلت يداه بأبناء وطني، مع ذلك لم يخفت حماسي في الإنصات ومراقبة وجوه الشهود المنتشية، ووجوه الطغمة المكسورة، التي كانت اليد الضاربة للدكتاتور، والتي قامت بالتنفيذ الفعلي لجرائمه على الأرض.  عدا أن ما يسرده الشهود يشكل فصلاً مهماً حدد مصيري لاحقا.

أتابع جلسات المحاكمة مستفزاً من صلافة زمرة الطاغية وهي تتصنع البلاهة وتسوق مبررات واهية، يعرفها كل من عاش تلك التجربة سواء أكان في مدن كردستان أو في ريفها البعيد الذي يسيطر عليه الثوار. فلا وجود لقوات عسكرية إيرانية في أية بقعة من بقاع كردستان، لا في السليمانية، ولا في أربيل، ليس القوات الإيرانية فحسب بل لم يكن ثمة تواجد عسكري للأحزاب الشيعية التي تدعمها إيران، فطوال فترة جوباني أرجاء كردستان لم يصادفني إلا نادراً أنفار منهم في طريقهم للهروب إلى إيران أو التسلل إلى داخل العراق.

رغم وجودهم في القفص لم تزل وجوههم تحتفظ بقسوتها وصلافتها وتدافع عن الجرائم التي أقترفتها بحق العراقيين ومنهم الأكراد والثوار في الأنفال، وتجعلني أشعر بالخجل حينما أقارنها بموقف المدعى العام الهولندي الذي أعتذر لي عن جريمة اقترفها تاجرسلاح من بلده. أشعر بالخجل من قسوة أبناء جلدتي وهمجيتهم ممن كان في السلطة وتحكم بمصائرنا قتلاً وتشريداً.
أشعر بالخجل وهؤلاء القتلة بدلاً من أن يعتذروا للضحايا، يدافعون عما أقترفوه!.

في الساعة الثانية عشر من صباح يوم من أيام المحاكمة، وعندما رُفِعتْ الجلسة لاستراحة الظهيرة. قمتُ من أمام التلفاز منتشياً من وجوه أولئك الفلاحين الأكراد المتماسكة وهي تقف لتروى ما رأت وتجشمت من أهوالٍ بصوتٍ واثقٍ قوي يزيد من صلابة وجوههم المتخذة من صلادة الجبل قوامها. وجوه كنت منذ التحاقي في نهاية صيف 1982 أطيل التحديق في ملامحها، في غرف بيوتهم، وهم يقدمون ما توفر من زاد للثوار، أو حينما تحتدم معركة فيقومون بتوفير الزاد والعتاد للثوار المنشغلين على القمم ومتاريس السفوح وهم يصدون هجوما للجيش، أو في رحلة الهجرة الطويلة مع حشودهم صوب الحدود التركية، ثم في معسكرات اللجوء في أقصى الشمال الإيراني. وجوه  تقف أمام طغمة الطاغية وتروي فأحسها بعمقٍ وشجنٍ مختلف تماماً عما يحسه المشاهد ممن لم يعش التجربة بالجسد خطوة.. خطوة..

نهضتُ قاصداً مدخل البيت كما أفعل كل يوم لفتح صندوق البريد المعلق جوار الباب الخارجي، فوجدت رسالةً على غلافها مطبوع أسمي وعنواني. قلبتها باحثاً عن المرسل. كان المرسل هولندياً. فتحتها على عجل. وعلى ضوء مصباح ممر البيت المتدلي من السقف قرأتها. كانت من محكمة ـ لاهاي ـ ترجو مني الاستجابة لطلبها في سفري إلى هنالك للإدلاء بشهادتي حول الأنفال في قضية تاجر السلاح الهولندي ـ فرانس فان ـ الذي كان وسيطا يزود العراق بمواد أولية لتصنيع الأسلحة الكيماوية، (اخبرني المترجم حسين اليزيدي  ونحن بانتظار الدخول إلى غرفة التحقيق بأن هذا التاجر منحه صدام حسين الجنسية العراقية وأسمه العراقي ـ فارس ـ ولدية بيت في شارع حيفا وأنه حكم أقصى حكم في القانون الهولندي 15 عاما لكنه طلب التمييز وستعاد المحاكمة في الشهر الرابع 2007، وأخبرني أيضا بأنه باع كل ما يملك ونقل المتبقي من أملاكه إلى أولاده وعائلته كي لا يدفع تعويضاً للضحايا)   وستقوم الجهات الهولندية بتحمل نفقات السفر والإقامة.

لا أدري من زودهم بعنواني، ولم أسأل عن ذلك فقد وجدت أن قاضية التحقيق لديها محضر التحقيق الذي أجراه معي المدعي العام الدنمركي، معنى ذلك أنها حصلت على عنواني منه. كان تحقيقاً مضنياً استمر من التاسعة صباحا وحتى السادسة والنصف مساء، وهذا ما سأعود إليه لاحقا، لكن أشير إلى أن قاضية التحقيق الهولندية استخدمت طريقة مختلفة عن طريقة تحقيق القاضي الدنمركي. إذ كانت تسأل عن التفاصيل التي رويتها في القسم الأول ـ عندما أدخلني الدكتاتور إلى الجحيم ـ المنشور قبل شهرين في مواقع إلكترونية عديدة، فأدركت أنها درست القضية ومحضر التحقيق وصاغت أسئلتها الدقيقة التي واجهتني بها قبل أن أقوم برواية شهادتي من جديد، لكنها لم تطلب مني في مطلع التحقيق تفصيلاً عما جرى معي، بل ركزت على قضية أخرى هي تلك التي لم أروِها لا في شهادتي التي كتبتها ونشرتها ولا بمحضر التحقيق مع القاضي الدنمركي والتي تتعلق بما رأيته وشاهدته من فظائع في حملة الأنفال، كنت قد أشرت لها عرضاً في الشهادة الأولى، بمعنى أنها ركزت على إفادتي كشاهد قبل إفادتي كضحية وهذا ما سأحاول روايته في هذا القسم.

حينما عدت إلى بيتي في الدانمارك، وتابعت بطانية الطاغية الجالسة على كراسيها في المحكمة.. استغربت جدا لبلاهة أقوالهم وهم يجيبون على أسئلة القاضي ـ محمد عريبي ـ، مصورين أنفسهم كأبطال كانوا يدافعون عن عدوان إيراني تارة، وفي أخرى كونهم يؤدون واجبا مهنيا تفرضه عليهم وظائفهم والتحصيل العلمي العسكري الذي أهلهم لذلك!. أي منطق مقلوب هذا.. ومن يصدق أقوالهم؟!. أنا واثقٌ من أنهم يسخرون من أقوالهم سراًا!. فما جرى من تهجير وقتل وقصف بالأسلحة الكيماوية، الجميع في قيادة الجيش والمخابرات والاستخبارات وحزب البعث والأمن يعرفون تفاصيل التفاصيل وبتنسيق تام أدى إلى طمر تلك الأعداد الهائلة من البشر في مقابر جماعية التي ما كشف منها حتى الآن ما هو إلا قطرة في بحرٍ عند مقارنة الأعداد التي ضاعت في الأنفال وغير الأنفال وعقب انتفاضة أذار 1991 مع عدد من وُجِدَ في المقابر المكتشفة حتى الآن.

سأسرد تجربة مرت بي قبل قيام الحرب مع إيران تبين دقة التنسيق بين الأجهزة الأمنية والتي صارت أكثر دقة أيام الحرب. في يوم الجمعة 6 ـ 6 ـ 1980 كنتُ مجازاً، فالتقيتُ بصديقٍ لي يدعى ـ عبد الحسين داخل ـ في بغداد. وقتها كنت مساقاً لخدمة الأحتياط، ووحدتي العسكرية على جبهة العمارة، إذ كان الجيش يحشد على الحدود الإيرانية، وفي نفس الوقت قامت الأجهزة الأمنية بحملة شرسة على القوى الديمقراطية والمعارضة. أخبرني ـ عبد الحسين ـ بأننا سنلتقي بصديقٍ له مختفٍ عن أنظار السلطة يدعى ـ ميثم جواد ـ علمت أنه خريج أداره واقتصاد وموظف حكومي، وفعلا التقيناه جوار مكتبة النهضة في شارع السعدون، وذهبنا إلى حديقة فندق قديم في شارع ـ أبو نؤاس ـ لا أريد الخوض في تفاصيل هذه القصة، فموضعها ليس هنا، لكن أود سرد ما يتعلق بإدعاء بطانية الطاغية عدم علمهم بما كان يجري من عمليات تقتيل وتهجير، فما أن خرجنا من البار في العاشرة ليلا حتى أنقض علينا رجال الأمن بعنف وسحبونا إلى سيارات ثلاث تقف في فرع جانبي. أخذونا إلى الأمن العامة القريبة وهناك أرونا الويل، في الليالي الثلاث الأولى، ثم فرقونا، إذ بعثوا بيّ إلى ـ الشعبة الرابعة ـ استخبارات، وكان مكانها في وزارة الدفاع خلف قاعة الشعب بالضبط. وعقب أشهر من إطلاق سراحي علمت أنهم أطلقوا سراح ـ عبد الحسين ـ بعد عشرين يوما كونه مدنياً.  أما ـ هيثم جواد ـ  فضاع في أقبيتهم إلى أن أبلغت عائلته شفهياً بإعدامه عام 1983.

 ليسمع من كان في المراكز العليا من بطانية الدكتاتور، ممن يقول في المحكمة بأنه لا يعلم ما يجري حوله، وخصوصا وزير الدفاع ـ سلطان هاشم ـ، الذي صور نفسه حملاً وديعاً، وهو المكلف بقيادة حملة الأنفال، ليدقق معي في درجة تنسيق الأجهزة الأمنية ودقتها في أصغر التفاصيل المتعلقة بجندي قبض عليه في بار وأطلق سراحه لعدم ثبوت الأدلة، وهذا ما ورد في كتاب الاستخبارات ـ الشعبة الرابعة ـ بالضبط الموجه إلى وحدتي العسكرية، فكيف إذن بعمليات تتعلق بثوار رافعين السلاح أو بفلاحين وهاربين ممن يسكن في مناطق لا تسيطر عليها السلطة؟!.

أعود إلى سرد بقية القصة، وهنا أسرد ما يتعلق بالتنسيق ودقته لا شهادتي عن السجن ومعتقلات استخبارات الجيش التي مررت بها من بغداد إلى الموصل ورأيت بها ما رأيت فموضعها ليس هنا كما ذكرت:  قامت الاستخبارات بعد تحقيق سريع أكدتُ فيه ما قلته في الأمن العام، بإرسالي إلى وحدة في أقصى الشمال تعسكر جوار منابع النفط في ـ عين زالة ـ بالموصل. بدا الأمر وكأنه خطأ من قبل قلم الأستخبارات، فأعادتني تلك الوحدة إلى وحدتي في جبهة العمارة، وكان نائب ضابط القلم من معارفي في المدينة ولي علاقة ودية معه. أخذني جانبا وقال لي همسا:

ـ لمن كنت جوه عدهم وصلنا كتاب من أمن الديوانية فيه كل المعلومات عنك. كنت من تنظيمات الحزب الشيوعي سابقا!. وهذا ما لم تذكره في تحقيق الأمن العام!.لاحظ ارتباكي، فطمأنني بأنه أخفى الكتاب، كي لا تعاد دورة التحقيق، فلم تبق سوى أيام وأسرّح. وهذا ما كان بالضبط.ٍ
ويقولون في المحكمة بصلافة:ٍ
ـ لا نعرف عن المعتقلين والمقابر الجماعية شيئا!.

*          *          *

في الطائرة المتوجه صوب أمستردام سرحت بعيداً، مستعيداً تفاصيل تلك الأيام التي مرّ عليها قرابة العشرين عاما، إذ يتوجب عليّ سردها من جديد. الله خصني بذاكرة تحفظ أصغر التفاصيل، فتتجسد أمامي بألوانها وأصواتها وروائحها وكأنني أعود مستقلاً مركبة الزمن في قصص الخيال العلمي، فأعيش من جديد كل قصة مرت بيّ. الفترة الممتدة بين قصف مقرات زيوة العمادية الأولى بالأسلحة الكيماوية  في 5 ـ 6 ـ 1987 والثانية ليلة 20،21 ـ 8 ـ 1988 كانت عسيرة بالنسبة لي، فوضعي الصحي كان مضطرباً، إذ لم أكن أعلم مقدار الخراب الذي أصاب رئتي من القصف الأول، فكنت أقع مع كل زكام طريح الفراش بالتهاب الرئة، وعشت وحيدا مرتبكاً في الموقع، فزوجتي ـ بهار ـ حجزها الثلج الذي تساقط ذلك الشتاء بجنون فقطع الطريق بين لولان الواقعة في المثلث الحدودي الإيراني ـ العراقي ـ التركي، ففرقنا قرابة ستة أشهر، وكانت قد ذهبت للعلاج من التهاب الكلية وحالة هزال عام أصاب جسدها. سنكتشف في العام التالي 1989 ونحن في معسكر اللاجئين ـ أوردكاه خوي زرعان ـ في أقصى الشمال الإيراني أنها مصابة بالسل الرئوي، هذا على المستوى الشخصي، أما على المستوى العام فقد كان هنالك اضطراب شديد والأنباء المتواترة عن اتساع حملة الأنفال على أرياف السليمانية وأربيل، عقب قصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية في أذار 1988.. مما جعل المقرات تعيش حالة أرتباك.. تغير مواقعها على فترات متقاربة، وذلك يعني المزيد من الجهد في البناء وتوفير المستلزمات، بالإضافة إلى خوض الثوار معارك شرسة في هذه الفترة دفاعاً عن قواعد الثوار والقرى المحررة ـ المقصود خارج سيطرة السلطة ـ مع ورود أنباء عن قرب نهاية الحرب مع إيران.

هذه لوحة الوضع حينما كنت أعد الليالي عداً، لاعناً الثلج والطبيعة التي أحسست أنها تعاقبني بإبعادها عني. ما كان يخفف عليَّ قليلا، هو وجود الرفيق الشيخ ـ أبو ماهر (ثابت حبيب العاني) والذي كانت غرفته مقابل غرفتي في المقر الجديد في قرية ـ بندري ـ التي هجرها سكانها، وتقع في وادٍ متطرف في الحوض، والذي انتقلنا إليه بعد شهرين من قصف 5 ـ 6 ـ 1987. كان الشيخ قد نجا من موتٍ أكيد، لكنه رفض أيضا مغادرة الجبل، فبقى جوارنا. كنت أقضي المساء في أحاديث ذات شجون معه، أتمنى سردها في يوم ما. أتذكر ملامحه الوديعة حينما غضبَ عليَّ حال عودتي من ـ لولان ـ دونها:
ـ ليش رجعت وعفتها هناك.. ليش.. ما بقيت وياها مو مريضة!
ولما أخبرته بأنهم أجبروني على ذلك، ردَّ علي:
ـ أش يسولك لو عاندت وبقيت.. لا أبو الطَيِبْ قصرت هواية!. مو أنت تعرف زين زوجتك اجتماعية.. راح تتأذى هوايَّ!.
وفعلاً ندمت جداً، والثلج مدَّ الفراق من شهر إلى نصف سنة، انشغلت خلالها ببناء غرفة لنا في الموقع الجديد، وجمع الحطب الذي لم نستخدمه أبداً، إذ أنها لم تعد إلا في أواخر نيسان 1988 في مفرزة غامرت لكنها وصلت.

كان ذلك اليوم من أسعد أيام حياتي. أقول ذلك بعد قرابة عشرين عاماً منه، إذ لم أرَ نفسي تعانق أقصى لحظات السعادة لاحقاً، مثل عناقها حينما دخلت عليَّ بغتة وأنا في غرفتنا الجديدة. وهذا ليس موضع كلامي فقد كتبته في فصول رواية معدة للطبع مزجت بها الواقع بالأخيلة، الأسطورة بالعقل. عشنا تلك الفترة ولدينا إحساس، أن كل شيء مقبل على الانقلاب، لكن بأي اتجاه، لم يكن أحد يريد التخمين وقتها. كنتُ أعتقد شخصيا بأن الحرب مع إيران إذا توقفت، فسوف نقذف بظرف أيام خارج الحدود، ومن يقاوم سيقتل طبعا.. لكن وقتها لم أستطع ولا يريد أحدٌ الإجهار بذلك.

كنا نعيش على هذا الهاجس الداخلي، لكننا كنا شجعاناً نقاوم ببسالة ما نراه مخفيا في قادم الأيام. أقول ذلك الآن لأن ما جرى أثبت تلك البسالة التي يتمتع بها العراقي المقاوم بين جبال كردستان العراق.

*      *      *

أتابع تفاصيل المحاكمة والطغمة الجالسة في القفص، منتظراً دور أحدهم بالكلام، أصغي بعمق مراقباً وراصداً انفعالات الوجه ونبرة الصوت والحركة، فوصلت إلى خلاصةٍ تقول:
ـ أن هذا النمط من البشر مجرد من الضمير.. الذي يُشعِر الإنسان بالذنب.. هؤلاء لا شعور بالذنب لديهم مطلقاً.  هؤلاء غير معنيين بالآخرين، بالناس بالمجتمع.. لا يفكرون إلا بأنفسهم. هم لا يفكرون بالتفاصيل التي تنتج عما فعلوه.. وبالمناسبة هذه سمة لا تخصهم فقط بل تخص كل متعصب. هذا النمط من البشر نُزِعَ منه الضمير، أو هو نزعه، أو هو أصلاً بلا ضمير. فلا يهمه مشاعر الآخر.

ـ قد يسأل القارئ كيف توصلت إلى هذه الخلاصة؟!.
هنا سأسرد على القارئ تجربة حية رأيتها أمامي وكلما أتذكرها الآن بعد مرور قرابة عشرين عاما أحس بشيء ما يفطر قلبي ويورثني الهم والحزن.

كما ذكرت كان الوضع مضطرباً. أنتقل مقر قاطع ـ بهدينان ـ فيها إلى وادٍ يدعى ـ شيفيا ـ وفصيل المكتب السياسي إلى ـ كاني ساركي ـ. وتقرر إبقاء مجموعة صغيرة سريعة الحركة في موقع ـ زيوة ـ، خيرونا بين البقاء أو الأنتقال إلى المقر الجديد، ففضلنا أنا وـ بهار ـ أن نكون من ضمنها بعدما أضنتنا الحياة الجماعية وتفاصيل الثوار. وفعلا كنا مجموعة صغيرة من الأنصار منسجمة إلى حد ما، ترتب يومها بشكل معقول منتظرة الآتي. كنت أشعر في أعماقي أن هذا السلامَ مؤقت عابر سرعان ما سيزول، لكن في قرارة نفسي أتمنى أن يدوم وحبيبتي بين ذراعي كل مساء في غرفة تجاور قاعة فصيل الإسناد. في أواخر الشهر السادس 1988 كنا نتناول وجبة الغداء حينما لمحنا من المسلك الهابط من قمة العمادية ثلاثة مسلحين وامرأة بثوبها الكردي الفضفاض يهبطون مسرعين، تبين أنهم من الفوج الأول المرابط في وادٍ من أودية جبل ـ كارا ـ. المرأة كانت زوجة الشهيد ـ أبو فؤاد ـ الذي قضى في القصف الأول للموقع 1987، جاءت تزور قبره بمناسبة مرور سنة على مقتله.

كيف أصف المشهد؟!.
كيف؟!.
سأحاول رغم المرارة رسم المشهد من جديد، لعل من يشاهد المحاكمة يدرك معي مقدار لا إنسانية هذه الطغمة التي تتمسكن أمام العدالة مصورةً نفسها وكأنها لا تدرك ما كان يجري وتعتقد أنها كانت تمارس واجبا وطنيا. الموقع يطل على مجرى ـ نهر الزاب الأعلى ـ، على رابية متدرجة يبدو أنها كانت في أوقات السلم مزارع عامرة تحولت وقت الثورة والهجرات إلى مساحات عشبية متدرجة من الرابية وحتى ساحل المجرى في مسطحات تمتد لأكثر من عشرة أمتار. على المسطح التالي لفسحة رابية موقع الإسناد دُفِنَت جثتا ـ أبو فؤاد ـ وأبو رزكار ـ وعادة ما يقوم الرفاق بوضع الزهور على قبري الشهدين بين الحين والحين، لم يكتب شيء على الشاهدتين، لكن الكل يعلم من يرقد على اليسار ومن يرقد على اليمين. كنت أحس أن المرقدين مدفونين بقلبي حتى أني الآن لحظة الكتابة أراهما تحتي وكأنني عدت إلى تلك اللحظات المدمرة حينما كنت أضع باقتا زهور برية وأكلمهم عما جرى في غيابهم مستذكرا كل الأحباب الذين غابوا في المعتقل أو قتلوا لاحقا في المعارك.

قدمنا لهم الطعام. كنت أختلس النظر إلى وجه ـ أم فؤاد ـ التي رفضت بشدة تناول الطعام مكتفيةً بجرعة ماء بلّت فيه ريقها الذي بدا ناشفاً. كنت أتتبع الماء الذي تحاول بلعه بعناء، إذ يتكسر وجهها ألما. قلت مع نفسي:
ـ سيكون هذا اليوم عسيراً!.

ففي التحاقي الثاني بالثوار شباط 1985، ومعي زوجتي حللنا ضيوفا في بيتهم في قرية صغيرة أقيمت على عجل، تجاور الفوج الأول تجمعت فيها عائلات البيشمركة اليزيدين التي هجرتها السلطة من قراها، إذ كُلِفَ ـ أبو فؤاد ـ بتوصيلنا إلى مقر القاطع، فرأيت مدى عمق علاقة الشهيد بها، كان لا يكف عن المزاح معها مزاحاً لطيفاً يجعل وجهها يتهلل سعادة.  كان لديهم جوقة من الأطفال، أحدهم أرسل إلى ـ الاتحاد السوفيتي ـ للدراسة.. وهو وحده من نجا من العائلة إذ ستضيع جميعها في مقبرة جماعية لم تكتشف لحد الآن. وهذا ما سأحاول إلقاء الضوء عليه لاحقاً. ما أن فرغنا من الوجبة حتى سألتْ عن قبره. ارتبكت الوجوه، ورحنا نحملق الواحد في وجه الآخر منتظرين مبادرة أشجعنا. كررت السؤال مرة ُثانية وثالثة، فهبطت قلوبنا إلى أسفل أقدامنا، ممعنين بالصمت، هاربين بعيوننا إلى القمم والسفوح وذرى الأشجار الشاهقة.. إلى أن أنقذتنا ـ بهار ـ مجيبة:ٍ

ـ سآخذك إليه!.

قادتها من ذراعيها وتوجهت بها صوب المسلك الهابط جوار مجرى النبع. تبعها المقاتلون الثلاثة الذين قدموا معها. خطوتُ خلفهم متردداً. انحرفتُ يميناً مبتعداً عن المسلك الهابط. تلفت فوجدت رفاق الموقع جميعهم يتوجهون صوب الحافة المطلة على فسحة القبرين. يتابعون بعيونهم المضطربة الموكب المكون من المسلحين الثلاثة السائرين خلف زوجة الشهيد يهبطون تتقدمهم ـ بهار ـ. استداروا صوب الفسحة الصغيرة الممتدة على مسافة عشرة أمتار فقط. أبطئوا الخطو. سحبتها زوجتي برفق من معصمها الناحل إلى أن وقفتا أمام القبرين. ورأيتها تشير نحو كومة التراب المرتفعة قليلاً.

كانت الشمس ساطعة في ذلك اليوم تضفي على المشهد وضوحاً يركز في الذاكرة.. تحجر نظري على وقفة الأرملة التي كانت تنتظر عودة زوجها من العلاج بعدما تعرض لمحاولة اغتيال قبل عامين، إذ دس رفيق تعاون سرا مع السلطات سم الثاليوم في كوب لبن. قاوم ونجا بعد علاج لمدة عام في إيران. كان في طريق عودته للقاء العائلة فحلّ في الموقع على أن يبيت ليلته ليواصل في الصباح الباكر طريقه إلى الفوج الأول في وادي ـ مراني ـ بگارا، وفي ذلك الغروب قصفت الطائرات العراقية ـ زيوة ـ بالغازات السامة، ومن سوء حظه أنه كان يجلس على حافة موقع سقوط القذيفة التي أعمته على الفور وغيبته بعد ساعات ست إلى الأبد.

أرى الآن وأنا أشرف من الربوة قامات الرجال الذين لم يجرؤا على الاقتراب، فبقوا على مبعدة أمتار إلى يمين ويسار المرأتين الواقفتين أمام القبر. رجعت زوجتي خطوتين وتركتها وحيدة، وتحتها يرقد حلمها المستحيل نائماً في الترابِ. طال الصمت وسكون قامتها المتماسكة المصلوبة جوار كومة التراب.
ـ هل كانت تخّلقه من جديد من ذاكرتها؟!.
هذا ما بت متأكدا منه، وما حدث معي حينما زرت العراق 2004 ووقفت أمام قبر أمي وأبي اللذين قضيا وأنا في المنفى!.
كنت غير مصدق بأنهما يرقدان هنا خلف حائط من الجص والآجر في سرداب صغير ضائع بين بحر من القبور في مقبرة ـ السلام ـ في النجف!.

تلفتُ حولي، فوجدت رفاقي موزعين خلف شجيرات الحافة، مثل من يخاف من شيء يلوح تحتنا على لوحة الفسحة الصامتة، رجال بأسلحتهم المتدلية على الجنب، زوجتي المنتظرة، قامة الأرملة الجامدة بثوبها الفضفاض الطويل وكأنها تؤدي صلاة ما سرية!. وخلفها غابة صغيرة، فالنهر الدافق،  ثم سفح قائم وكأنه جدار يرتفع عالياً أمامنا، وحده دوى مجرى الزاب الهادر يتردد صداه في الوادي.

هل كانت بصمتها الطويل الذي أربكنا ووتّرنا تمارس طقساً من طقوس الموت لدى الطائفة اليزيدية؟!.. لا ادري!. لكن تلك اللحظات أشعرتني بفداحة الفقد المباغت لمحب حميم. لا أدري كم من الوقت ظلت ساكنةً كتمثالٍ من حجرٍ.. فزمن تلك اللحظات زمن مختلف لا يقاس.

كنت أحبس صراخي مستذكراً أحبابي الذين ضاعوا في المعتقلات!.
كنت أحبس دمعي متخيلاً ألم كل عراقية فقدت زوجها غيلةً!.
كنت احبس هاجسي متخيلاً زوجتي الواقفة خلفها بمسافة مترين، تقف هي أمام كومة ترابي لو قضيت في القصف الذي قضى على أبي فؤاد!.
كنت أركز نظراتي على قامتها الجامدة، فلمحت أول تمتمة دون صوت بانت من حركة شفتيها. تمتمت بصمت فيه جلال، وقليلاً قليلا بدأ الصوت يظهر ضعيفاً مكسوراً أول الأمر، ثم شرع في التماسك شيئا فشيئا إلى بات واضحاً، خصوصاً بالنسبة لنا نحن الواقفين على حافة تطل على المشهد. بدأت بسرد قصة حبهما وكأنه متجسدٌ أمامها. تقص وتعلق وكأنها تسمع ما يقوله لها. القصة جديرة بالسرد في موقع غير هذا. ففيها يتجسد حجم معاناة زوجة العراقي المتورط بالسياسة، والذي يحبها وتحبه، فالأمر ليس بسيطاً كما يتخيل البعض. من يتورط في السياسة بصدق المبادئ، ويعارض سلطة دكتاتورية ويضحي بكل شيء حتى بتشريد عائلته داخل وطنه ذلك يعني أن مثل هذا الشخص كرس كل عمره لحلم مدينة فاضلة ما زالت الإنسانية تصبو إليها.

كنت أنصت لصوتها رائيا ألوان القص، شاما روائح الحكاية، لامساً أجسادَ الشخوص. قصت كل ما جرى لها وللعائلة أثناء غيابه الطويل الذي بات وقتها سنتين. سنة علاجه في ايران، ومرور سنة على مقتله.. قصت إلى أن أنهكها الكلام والحكاية، فصرخت صرخةً واحدةً طويلةً حادةً أصابتنا بالكمد وارتمت على كومة التراب. غطتها مولولةً صارخةً باسمهِ. كنت أنشج بصمت، وجواري ينشج رفاقي. وتحتنا ينشج الرجال الثلاثة بصمتٍ، وأم فؤاد تناديه كي يقوم من جديد قابضةً على ذرات ترابه في حركة تشتد وتنبسط وكأنها تحاول خلقه من جديد. وحدها زوجتي بدت متماسكة منتظرة لحظة مناسبة كي تنتشلها من وهم عودته.

كانت الشمس شديدة السطوع تبحر في سماء شديدة الزرقة، بالغة الجمال وجدتها شديدة القسوة، لحظتها اكتشفت أن الطبيعة الجميلة تبقى ساطعة غير آبهة بأحزان البشر ومأزقهم. هذا ما ينتابني حتى الآن كلما رأيتُ مشهد تفجير في بقاع العراق وخلف المشهد نخيل وسماء صافية ووجوه عراقية مندهشة تظهر على شاشة التلفاز مطالبة بالأمان. الطبيعة في كينونتها السرمدية ضد فعل القتل. هذا ما ترسخ لدي في وقفتي مطلاً في يومٍ صيفي مشمس زاهي على مأساة ليست فردية إذ أنها ستعمم منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة حيث القتل والترمل بات مألوفا وكأنه قدر العراقيات.

أحسستها وكأنها تحاول الغور في التراب ومسكه فيزيقيا من جديد. حلم مستحيل.. لوعة الأرملة المحبة، فتذكرتُ مشهدٍ مماثل وقفت فيه مثل وقفتي هذه محملقاً ومتأملاً ذات العذاب.. ذات الألم، لكن بوضعٍ مختلفٍ تماماً، فقد كان القتيل حاراً أي جسده الفيزيقي ملفوفا بالكفن الأبيض. كان جاري العسكري المطوع ـ مهدي خريبط ـ سائق الدبابة الذي قتل في جبهة الحرب الإيرانية العراقية عام 1981. كنت أحبه والمحلة والمدينة كلها. كان شفافاً حميما شهماً ودعّنا قبل مقتله بأسبوع، فدفع حساب المائدة في نادي موظفي الديوانية قائلا:
ـ يجوز بعد ما تشوفوني!.

وجلبوه ملفوفا بالعلم العراقي. حضرت طقوس الغسل على دكة غسل الموتى الأسمنتية في مغسلٍ بطرف مقبرة السلام بالنجف. تابعتُ ردود فعل الجسد الميت المستسلم ليدي المغّسل.. رأيته حياً يقف ذلك المساء قبل أسبوع وهو يودعّنا. أدركت أنه من البشر الذين يرون خفايا القادم. اصطحبت الجثة بعد التغسيل إلى مرقد الأمام علي، حيث لففنا بها حول الضريح ثم إلى المقبرة. وهنالك وجدت زوجته وأخته وأمه ينتظرون.

ركزت على وجه الزوجة لسبب خاص أكشفه الآن، ففي في ليلة صيفية من ليالي ـ الديوانية ـ كنا نمرّ جوار بيتهم ذو الطوابق الثلاثة الكائن خلف شارعنا في ـ الحي العصري ـ أنا و ـ هاشم لفتة ـ الذي سيقتل هو الآخر في الحرب بعد أشهر. سمعنا صوت ضحك امرأة صاخب مزق صمت الليل، يأتي من نافذة في الطابق الثاني لبيت خريبط. أسر لي هاشم بأنها غرفة ـ مهدي ـ وكان وقت السماع لتوه متزوجا، فتخيلت وقتها مقدار البهجة التي تكمن في سرير الزوجية، تذكرت ضحكتها وأنا أحملق في جثته وهم يخرجونها من تابوت الخوص ملفوفة بالكفن الأبيض لتوارى في حفرة. رميت بصري نحو وجه زوجته، فرأيت وجهها شاحبا.. لا بل ميتا.. كانت تحاول الصراخ دون جدوى، فصوتها مات، فراحت تجود بنفسها غاديةً رائحةً في مسافة عشرة أمتار تسمح بها فسحة بين القبور.

وجه جميل فيه صفرة الموتى سوف لا أنساه أبدا مختلطاً بصدى ضحكتها العاصفة الهابطة من شباك في طابق ثاني في الحي العصري.
يا إلهي.. لماذا تزيد من عذابي وتجعلني أشهد عذاب الأرملة العراقية وهي في أقصى لحظات تمزقها؟!.
يا لقسوة  ترابك يا وادي الرافدين!.
أقف على حافة رابية، وتحتي أرملة عراقية أخرى، قبضتها تمسك بتراب القبر صارخة بكل ما بالصراخ من وحشية، حالمة بقيام نديمها من التراب. نشجت بصمتٍ، لا ادري الآن لماذا كنت خجلا من التعبير عن مدى حزني لفقد ـ أبو فؤاد ـ لا ادري.. أفكر الآن لحظة الكتابة وأنا أتعّصر ألماً. لِمَ لَمْ أنزل وأبكي جوارها؟!. لِمَ؟!!. والجواب.. كنت في غير هذا النضج الفكري والإنساني الذي حذف بيّ عن كل فكر أيديولوجي وبقت لدي فكرة واحدة.. واحدة تقدس الإنسان كقيمةٍ مطلقةٍ.

في لحظة أدركت زوجتي ضرورة تدخلها.. وهذه اللحظة لا تحتاج إلى عقل بل هي غريزة. رأيتها تتقدم قاطعةً مسافة المترين الفاصلة بينهما تحت شمس الله المولعة، وتنحني نحو جسدها الحاضن تراب القبر وتشّده بذراعيها شداً خفيفا وكأنها تقول: كفى.. كفى. ساعدتها على النهوض. بدت الأرملة بائدة القوى، متعبة، فاستسلمت لذراعيّ زوجتي مكفكفة دمعها بطرف ثوبها، ومتمتمة بصوت خفيض كلاماً غير مسموع.

صعدت بها نحونا. كان ذلك اليوم من أشدّ التجارب ألماً، فان يقتل رفيق جوارك في معركة أو قصف، غير ما تشاهد من له علاقة حميمة به وهو يندبه.

أجلس أمام التلفاز كل صباح يبث فيه محاكمة مجرمي الأنفال محملا بهذه التفاصيل، متسائلا بذهول:

ـ كم عراقية ترملت في زمن العراق الدامي؟!.

ـ هل الجالسين في قفصٍ من صنف البشر؟!.

ـ هل يشعرون بذرة مما شعرنا به ونحن نشاهد فظائع ما فعلوه بمن عارضهم في الرأي؟!.

الشاهد الذي أوردته ـ أبو فؤاد ـ مثالاً يلخص كل ما فعلته زمرة ـ صدام ـ في العراق والعراقيين!.

هل تشعر الطغمة الجالسة في قفص الإتهام بما شعرت به أو يشعر كل إنسان ذو ضمير من تفاصيل القتل والتهجير والسحق لمناطق وبشر ليس لهم ذنب سوى وجودهم الجغرافي في أمكنة لم تستطع السلطة السيطرة عليها؟!.

أجلس كل صباح متابعاً تفاصيل المحاكمة ساخراً من مرافعاتهم التي يحاولون فيها تصوير أنفسهم كموظفيين مهنييين كانوا يؤدون واجباً!.

*              *              *

 

لم أجد سائق التاكسي الهولندي الذي كان من المفترض أن ينتظرني في مكان خاص بمطار أمستردام. انتظرت قليلاً قبل أن أتصل بصاحب لي معرفة قديمة به  يسكن ـ لاهاي ـ فنصحني بركوب القطار. قطعت تذكرة ونزلت إلى الرصيف. كان المساء قد هبط. اتخذت كرسيا جوار النافذة. كنت مطمئناً فمحطتي هي الأخيرة، مما جعلني أسترخي متأملاً وجوه الركاب، ووقع اللغة الهولندية التي لا أفهم منها شيئاً.. الوجوه مختلفة عما في الدانمارك.. إذ يظهر اختلاط الأجناس بوضوح من العاملين والمسافرين في المطار، ومن المنتظرين على أرصفة القطارات، ومن ركاب العربة.. شيء أشعرني براحة مضافة، فلا أحد هنا يرمقك بعينين مستغربتين، أو غاضبتين، أو ساخرتين، أو يتجاهلك بعد نظرة تعالٍ..  وفي أفضل الأحوال إذا تنازل وبادلك الحديث فأول ما يبدأ به سؤال يذكرك بغربتك ويشعرك بكونك طارئا:
  ""Hvor kommer du fra?
ـ من أين أي بلد أنت؟!.
رغم كونك تجنست بالجنسية الدنمركية، مما يعمق نفورك من المحيط ويجعلك تحس أنك على هامش بشر هذه البقعة وهم يضعون الحواجز في أصغر تفصيل عند احتكاكك بهم.
 هذا ما يحدث للأجانب كل يوم في الدانمارك.

وقليلا.. قليلا.. سرحت من جديد منفصلاً عن الركاب وضجيج العربة، مفكراً بما ينتظرني غداً في جلسة التحقيق.. فوجدتني أغور مرة أخرى في التفاصيل الصغيرة السابقة لقصف موقع ـ زيوة ـ الثاني بالسلاح الكيماوي. مباشرةً عقب مغادرة أرملة الشهيد الموقع، فكرتُ بالتمتع بإجازة هي الوحيدة طوال فترة تواجدنا في الحركة المسلحة، كان ذلك من حقنا، لكن الرفاق العرب ليس لديهم مكاناً يذهبون إليه، بعكس الأكراد إذ يستطيعون زيارة عائلاتهم التي هُجِرَتْ من المدن كالعمادية ودهوك إلى مناطق تقع خارج سيطرة السلطة.

علقت زوجتي على مقترحي قائلةً:
ـ وين نقضيها؟!

قلت لها:
ـ نذهب لزيارة بيت ـ هوار ـ!.

وهوار رفيق من العمادية خريج أكاديمية الفنون الجملية ـ بغداد ـ، يعمل في التنظيم المدني، يسكن مع والدته التي هُجِرَتْ في وادي ـ هفنكه ـ المقابل لقلعة ـ العمادية ـ من جهة سلسلة جبال ـ گاراـ. خرجنا بصحبة رفيق كردي ربطتنا فيه علاقة صداقة قوية ـ أشتي عمادية ـ كان دليلنا إلى بيت ـ هوار ـ فقضينا أياماً ممتعةً شاعرين بدفء العائلة بعيداً عن توتر القصف وحياة القواعد العسكرية، بلا حراسات، بلا طبخ، بلا احتكاكات، وتنقلنا بين بيوت الرفاق في ـ دريش ـ و ـ أسبندار ـ. و ـ رزو ـ قضينا وقتاً طيباً وحميما في بيت عائلة ـ سردار ـ ووجدت هنالك ـ كروان عقراوي ـ وخضنا في أحاديث وحوارات شيقة وعميقة، إذ كانا من المثقفين العاملين في التنظيم المدني للحزب الشيوعي العراقي. (عندما تسللت إلى كردستان العراق صيف 1997  لجلب أبني الكبير ـ كفاح ـ الذي تركناه في مدينتنا عام 1985 عند إلتحاقنا بالثوار، سألت عن كروان، وسردار، فعلمت أنهما انتقلا إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، فأصبح الأخير مسؤول مشاريع في مؤسسة إعادة أعمار كردستان، والأول ـ كروان ـ مشرفاً على إعلام حدك أو شيء من هذا القبيل). ومن هناك ذهبنا إلى مقرات قريبة أخرى في  سلسلة جبال ـ گارا ـ الفوج الأول، وقاطع أربيل، ثم عدنا إلى بيت ـ هوار ـ.

 بينما كنا ننعم من جديد بدفء البيت وطقوس العائلة، وفي غروب يوم رائق، أمطرتنا مدفعية الجيش بعدة قذائف، وسمعنا صوت ضجة مصحوبة بطلقات التنوير فيما يبدو كمهرجان احتفالي،. كنا نقف على فسحة تطل على الوادي الضيق وبساتين التفاح والنبع البارد الذي كنتُ أسبح في حوضه كل ظهيرة، محدقين بتساؤل عن سرّ قنابل التنوير والضجيج والقصف المفاجئ. لم يطل اللغز سوى دقائق إذ قدم سردار نحونا قائلا:
ـ لقد توقفت الحرب مع إيران!.

كان ذلك يوم 8 ـ 8 ـ 1988. أدركنا دون تصريح بأن الأيام القادمة ستكون حاسمةً. قررنا العودة إلى المقر ـ زيوه ـ فوراً، فعدنا في نفس المساء. عشنا تفاصيل اليوم المعتادة، لكن ثمة شيء غامض يثقل حواسنا. نشعر به يقترب منا حتى نكاد نلمسه ونشمه في الهواء المحيط بنا، في الأشجار، في الشروق والغروب وضجيج النهر وشكل الظل، ولم تكذب حواسنا إذ سرعان ما ضَّج الغد بطوابير سكان القرى وهم يتجهون صوب الحدود التركية، حاملين الضروري من مستلزماتهم على ظهورهم، وعلى البغال، لكن لم يبلغنا شيء من قيادة القاطع. كان الجو ساكنا، جميلا، والأيام مشمسة دافئة. كنت أعيش شاعراً بمزيج مشاعر متناقضة، فمن جهة لازلت غير مصدقٍ عودتها من مجهول إيران والقواعد البعيدة، أتلمسها كل مساء وكأنني أتعرفها لحظة اللمس، بكل لذة المرة الأولى، ومن جهة ثانية كنت أشعر أن ثمة كارثة مخبوءة في الأفقِ، قادمة لا محالة، ستغّير كل هذا الترتيب، وهذا ما حدث بالضبط بعد أيام.

لم أنس إلى هذه اللحظة ذلك الغروب الرائق من يوم 20 ـ 8 ـ 1988. كيف أنسى ذلك الغروب والمساء والليلة وصبيحة اليوم التالي. كيف أنسى؟.. ولولا تلك الصدفة التي حذفت بـ (بريفان) -- وهو بيشمرگه من مدينة العمادية، لديه أخ ـ دليفان ـ فقد ساقه الأيمن قبل أشهر في معركة لكنتُ في العالم الآخر. كما ذكرت كنا مجموعة صغيرة من المقاتلين بقينا في موقع ـ زيوة ـ. أجد من الضروري توثيق أسماء المتواجدين ذلك المساء، كونهم سيتوزعون بين شاهدٍ وشهيد. كانت تتكون من: سلام مروگي، عمودي، منذر، أبو الوسن، أبو جواد، أبو سعد، أبو نادية الفوج الثالث، أبو الطيب، بهار ـ ناهدة جابر جاسم ـ، يضاف إلى عائلة ـ أبو طريق، وأم طريق ـ اللذين كانا ضيفين على الموقع،  فمنذ القصف الكيماوي في 5 ـ 6 ـ 1987 انتقلت الفصائل إلى أماكن مختلفة لتقليل الإصابات في حالة وقوع قصفٍ مماثلٍ.

كان غروباً رائقاً، لا يعكره سوى أصوات تصلنا من عمق الوادي. كنا مجموعة منسجمة تقريباً، نقضي الوقت بأداء المهام اليومية من حراسة وطبخ، وباقي الوقت نزجيه بالضحك والتعليقات والذكريات والأحلام. فالمجموعة بأجمعها عربية، أي تركت مدنها وأمكنة الطفولة والصبا والشباب وامتزجت بثوار الجبل الأكراد منذ أكثر من ثمانية أعوام. للذكرى والأشواق مسافة في يومنا الهادئ ظاهراً، المضطرب بهاجس ضجيج سكان القرى الأكراد العابرين النهر نحو الحدود.

 صمتٌ مريبٌ، وغسق يلوحُ رائقاً. هذا ما رَسَخَ في نفسي من ذلك المساء المفصلي. كنا غارقين في ضحكٍ وتعليقاتٍ تتعلقُ بما صدناه في ظهيرة اليوم السابق من سمكٍ، والتعليقات تتعلق بمراقبة بعضنا لبعضٍ في الكيفية التي كنا نلتهم بها السمك المشوي. كنا في ذلك الجو المرح حينما أنحدر ـ بريفان ـ نحونا على المسلك النازل من القمة. كانت تربطني به علاقة حميمة، إذ كان يبات في غرفتنا حينما أجريت عملية قطع ساق أخيه ـ دلفان ـ المصاب وقت غياب زوجتي في ـ لولان ـ. وصار يكن لي وداً عميقا حينما بادرت وتبرعت بدمٍ لأخيه. ألقى التحية علينا، ثم أقبل نحوي. تعانقنا، وسألته:
ـ هل تعشيت؟!.
ـ نعم في القرية!.

ألححت عليه كي يذوق سمك ـ الزاب ـ المشوي، فنزل عند رغبتي وأكل واحدة. رجعنا إلى الهزل والضحك والنكات، لا سيما بوجود ـ أبو جواد ـ الذي لا شاغل لديه سوى رواية النكات ولقط كل ما يضحك في يوم الجبل والحياة. كان ـ بريفان ـ يلزم الصمت وعيناه تجوب في وجوهنا المرحة منصتاً لسيل النكات، لكنه بدا وكأنه لا يسمع إذ لم يضحك مرة واحدة. كففت عن الإنصات ورحت أتتبع  قسماته التي ستكون باباً أتاح ليَّ العيش حتى الآن كي أروي ما أرويه. كان مذهولاً ً وقسماته تخفي حزناً يلوح من طرف عينيه اللامعتين بدأ يتسع، ويتسع مع إمعاننا بالضحك وراحة البال. كان المساء يهبط ببطء شديد قادماً من عمق البساتين والوادي وشعاب الجبل. كنت أحلم بليلة هادئة أتوسد فيها جنب زوجتي الحبيبة عقب هذا المساء الرائق. كنت أحلم حينما انتهز لحظةَ صمتٍ تحدث عادة عندما يحاول أحدهم ترتيب قصة أو نكتة، فقال من جلسته المسترخية المتأملة بهدوء مشوب بالدهشة:
ـ أنتم ليش باقين. ما تشوفون كل العالم تترك قراها وتروح للحدود التركية. تره ما بقى أحد. بقائكم هنا ما به معنى!.

قال ذلك وغادر القاعدة لا أتذكر الآن بأي اتجاه، إذ أسقطنا كلامه في صمتٍ مضطربٍ. بقينا نحملق بوجوه بعضنا البعض محاولين الوصول إلى فكرة ما تجد منفذا للمأزق الذي وضعنا فيه رفيقنا دون جدوى، كلنا نحب الحياة وتفاصيلها في الموقع الصغير المحدود العدد المنسجم، لذا لم يستطع أحد قرابة دقائق جاوزت الخمس قول شيئا ما.. إلى أن نهض مسؤول الموقع العسكري الرفيق ـ منذر ـ من جلسته،  بقامته القصيرة، ووجهه العريض، وشاربه الكث، كاسرا صمته الطويل، ـ هو الآن لاجئا في النروج ـ. توسط تبعثرنا على الفسحة الممتدة جوار قاعة الإسناد، واجهر بصوت حازم يقترب من الصراخ:
ـ رفاق القضية يبدو مو طبيعية!.
كان لدي رغبة شديدة بقضاء تلك الليلة في غرفتي مع زوجتي.. فسألت:
ـ أش تقصد!.
ردّ على الفور:
ـ القضية تبدو خطيرة.. تغادر العوائل الموقع الآن دون نقاش!.
كان يقصدنا، وعائلة أبو طريق!.

نظرتُ إلى زوجتي كانت شاحبةً، وكنت أدرك أنها تعاني من مرضٍ غامض سيتبين لاحقا أنه ـ سل رئوي ـ. علقتُ بضعف:
ـ منذر لكن ـ بهار ـ تعبانه!!.
أشتدَّ غضبه، وجعل يصرخ بكلام غير موجهٍ ظاهراً إلى أحدٍ، لكنه كان يقصدنا.  أتذكر كلماته الحادة:
ـ.. لا تخبلونه.. لا تخلونه نخربط.. هسه العوائل تطلع من الموقع.. هسه بلا نقاش ولا تأخير!.

أصراره يشترك مع خبر ـ بريفان ـ العابر كونهما منحاني هذه الفضلة من عمري.. وجعلاني أعيش وأكون أسرة وأكتب كتبا.. وأشهد عما رأيته!.

*          *          *

استيقظتُ على ضجيجٍ. وجدتُ القطارَ متوقفاً في محطةٍ، والركاب جميعاً يغادرون كراسيهم باتجاه أبواب النزول. أدركت أن هذه هي المحطة الأخيرة ـ لاهاي ـ. حملت حقيبة الكتف السوداء البالية وترجلتُ من سلالم القطار. كان الرصيف طويلا وعريضا. توقفت قليلا عليّ أرى ـ خريف ـ لكنني لم أجده. في المسافة بين الرصيف وبناية المحطة تأملت شخصية صاحبي الغريبة، فهو من عائلة يسارية رافقت نضال اليسار العراقي في كل مراحله، وأخرها تجربة الكفاح المسلح في ـ كردستان ـ خلال عقد ثمانينات القرن الفائت. التحق ستة أفراد من عائلته بثوار الجبل أستشهد منهم اثنان. أما ما تبقى، فقد حلّ أثنان منهما في موسكو كطلبة دراسات،  وبقي معي أصغرهم  حتى حملة الأنفال. صاحبي فقد ضاع بين كردستان وإيران والأحزاب الكردية إلى أن نط في هولندا لاجئاً في منتصف التسعينات، ولي عليه غيض قديم فقد تجاهلني ـ رغم أننا من نفس الجيل وعشنا نفس التجربة أخرها اختفائه في مشتمل ـ الوزيرية ـ في بغداد بين 1979 ـ 1982، حيث كنت أتردد  حتى التحاقه بالجبل، تجاهلني في مقهى بقرية ـ زيوة إيران ـ رغم مناداتي عليه، إذ توقف لعشر الثانية، كان أنيقا ببدلته الكردية، حليق الوجه، يحمل مسدساً ظاهراً على جنبه. رمقني جانبا وردد:
ـ سأرجع بعد قليل!.

طبعا لم يعد، ولم أره منذ ذلك المشهد. ومن المفترض أن يكون في انتظاري على رصيف المحطة. كنتُ عازما على استقباله بعنف وبلغة أحيائنا الشعبية السوقية التي يجيدها كلانا، لكنه استقبلني بحفاوة وراح يقّبل عيني ويحضنني جاهرا بأشواقه قولاً. أخذني إلى الفندق سيراً على الأقدام. وطوال الطريق كنا نخوض في ذكرياتنا التي تبدو أبدية عن أمكنة طفولتنا وصبانا وشبابنا ونضجنا في الديوانية، فصورني بطريقة لم أكن أعتقد أنها سائدة حولي. قال لي:
ـ أتعرف ماذا أتذكر منك في المدينة؟
قلت:
ـ ماذا؟
أجاب:
ـ ضحكتك العاصفة المشهورة!.
تساءلت مستغربا:
ـ كيف؟!.
فمن المستحيل عليّ تخيل مرحي في عراقيَّ العاصف، فقد كنت طوال الوقت مضغوطاً، متوتراً، قلقاً.

قال:
ـ كنا نجلس في مقهى ـ عواد ـ  ومن بعد أكثر من مائة متر نسمع ضحكتك العاصفة فيقول حسن شطاوي: هذا سلام!. وفعلا  يقترب هدير ضحكك قليلاً .. قليلا حتى تصل المقهى.
سكت قليلاً قبل أن يسألني:
ـ ألا تقل لي الآن ما الذي كان يضحكك طوال الوقت؟!.
أجبته:
ـ وهل حقاً كنت أضحك هكذا؟!.

في غرفتي بالفندق طلبت منه الاتصال فوراً بأخيه الذي يصغره وهو صاحبي أيضاً. قدم على الفور وسهرنا ليلتها سهرة أفضت بنا إلى مقاه وبارات في ـ لاهاي ـ لا أتذكر منها سوى أضواءها الخافتة ودخان سجائر روادها ووقع لغتهم الغريبة على مسمعي فتبدو لي الآن مثل حلم خاطف. لم أرَ من هولندا سوى، المحققين، والمترجم، ووجوه خاطفة في القطار والبارات والمطار، والأخوين اللذين غادرا قبيل الفجر بقليل وتركاني في حالة صحو غريبة.. في تركيز حواس تكثف من زخم ذكريات المدينة وتلاقينا فيزيقيا في غرفة وثيرة، وزحمة ما ينتظرني من امتحان ذاكرة عسير سأواجهه غدا أو بعد ساعات قليلة في حضرة قاضي تحقيق هولندي وأنا بهذا التعب والإنهاك.

رميت جسدي المهدود في السرير العريض الناعم، قائلا مع نفسي:
ـ لأنم لساعات ولو!.
فموعد قدوم التاكسي في الثامنة أي بعد ثلاث ساعات فقط!
حاولت بكل الطرق جعل حواسي تخفت إلى حدود الغفوة دون جدوى. فما ينتظرني غداً في حضرة محققين شديدي الدقة، محايدين جعل ذاكرتي تتوقد في محاولة لتبرير نفسها. كنت أفهم وأدرك مأزقي، لكنني كنت أبحث عن فسحة أجدد فيها قواها، لكن هيهات. وجدت نفسي وحيداً في غرفة الفندق، مستلقيا على السرير العريض، أحملق مطلاً على باقي القصة التي كانت تتوارد أمامي على كرسي عربة القطار، وكأن ذاكرتي تريد جعلي شاهداً واثقاً غير مضطربٍ في الغد في مواجهة موظف أوربي ليس له علاقة بالمطلق بما يجيش بنفسي من عواطف وأشجان أبثها الآن بالحروف. موظفٌ معني ليس بما عانيته أو رأيته، بل بجمع وتمحيص الأدلة بحيادية. أحتاج إلى تذكر تلك التفاصيل كما حدثت بالضبط كي أكون مهيئاً للردّ على الأسئلة المتعلقة بتلك التفاصيل التي مرّ عليها أكثر من عشرين عاما.

حَجّرَ أجفاني غروب ذلك المساء البعيد الذي يتوجب عليّ سرد تفاصليه غداً. لبثتُ ساكناً في السرير، أحملقُ بسقف غرفة الفندق الخفيض وكأنني استيقظت تواً من نومٍ عميق. رأيتني مشدوها.. حائراً والظلام يوشك على الهبوط بين تعب زوجتي والموقف الحرج. كنت أستطيع العناد والبقاء رغم ثورة ـ منذر ـ، لكنني تحاورتُ مع  زوجتي، فأتفقنا على مغادرة الموقع. لملمنا وثائقنا وما هو ضروري  من الملابس على عجلٍ، وغادرنا الموقع بصحبة أبو طريق وزوجته المتواجدين الآن في السويد.

انحدرنا نحو مجرى نهر الزاب، والغروب يوشك على العتمة. صرنا جوار ـ الترفيك ـ وهي عربة معلقة على سلك نحاسي غليظ يربط بين ضفتي النهر، يعلوه سلك أخر يُسحب من قِبَلِ الراكب كي تسير عجلة العربة على سكة السلك في اتجاه الضفة الأخرى.  كنا نشعر بأن ثمة شيء ما سيحدث قريبا.. شيء لا ندرك كنهه، وكنت أودع بعيني وقلبي الأشجار والوادي والبساتين والصخور والهواء وصفحة السماء الضيقة بين القمم المحيطة بشجن. أصافح تلك الأمكنة التي صار لنا فيها أكثر من سنوات ثلاث، نضحك ونحزن وندفن شهدائنا، ونحلم، ونتخاصم ونتصالح، ونزرع، ونأكل، ونلعب، نسيج حياة فريدة أكسبني خبرة حياة تعادل ما سبق من عمري. ساعدنا بعضنا في العبور وصرنا على ضفة ـ الزاب ـ القريبة إلى مسلك يؤدي إلى الحدود التركية. قطعنا الضفة الوعرة، فوصلنا إلى طريق سيارات فقد فعاليته مع الثورة التي سيطرت على مسالكه. وجدناه يحتشد بطوابير سكان القرى الأكراد، نساء ورجال وأطفال وبغال محملة بما استطاعوا يرتقون الطريق الصاعد نحو الحدود التركية.  صعدنا مثقلين بالهواجس. ننصت لتنادي الفلاحين وصراخ الأطفال وصمت الجبل، والسكون المخفي الضامر شيئاً ما. أول مرة ألمس بكياني المثل الشائع الذي يقول ـ هدوء يسبق العاصفة ـ متجسداً ببطء إيقاع خطانا المرتقية الجادة التي تبدو في الأفق كخيط رفيع يضيع في عمق الوادي. عند مفترق في منتصف الشارع العريض، أنفتح وادٍ جانبي ضيقٍ فيه مسلك يؤدي إلى موقع المكتب السياسي. عزمنا على الذهاب إلى فصلينا القديم حيث حللنا فيه فور التحاقنا بالثوار. فقلت لأبي طريق وزوجته:
ـ سنذهب إلى فصيل المكتب السياسي. هل تأتون معنا؟!.

رفضا مواصلين الطريق نحو مقر قاطع بهدينان في ـ شيفيا ـ. تسلقنا المسلك وحيدين، مسرعين بخطانا، فالليل أوشك على الحلول. خلفّنا تحتنا قرية ـ كاني ساركي ـ كانت خاوية من سكانها، صعدنا صعوداً حاداً قرابة نصف ساعة فبلغنا  الموقع الذي وجدناه مضطربا.. كان المساء قد هبط مضفياً على المشهد مزيداً من القلق والحركة غير الطبيعية، فالجميع يهيأ نفسه للرحيل دون التصريح بذلك علنا.

كان العديد من القيادات قد أنتقلت إلى لولان  حيث جرت هنالك أيضا أخر المعارك العنيفة في حملة الأنفال. وما تبقى جمعاً مختلفاً غالبيته من كبار السن، وبعض الرفاق المعاقين بسبب المعارك ـ أبو نصار ـ (جابر هجيل) الذي فقد ساقه الأيمن من فوق الركبة لأصابته بمعركة، وزوجته ـ أم نصار ـ وأبنته بنت الشهرين ـ لهيب ـ (تتواجد هذه العائلة في السويد). لم نستطع النوم ليلتها!. جعلنا ضجيج الطائرات المروحية الذي بدا لنا قريباً، وصوت القصف المدفعي المكثف الذي شعرنا به يقترب قليلا.. قليلا من الموقع الذي كنا فيه نجوب سطوح غرف وقاعة الموقع المرتفع المطل على الطريق الرابط بين زاخو وكاني ماسي ومجرى الزاب، وحوض زيوة تحتنا تماما بخط مستقيم بدا قريباً جداً.

عند منتصف الليل تقريبا، هزّنا صوت انفجارات متوالية بدت وكأنها رشقة راجمة صواريخ. كان القصف مكثفاً، تكرر شديداً بحيث تمكّنا من فوق سطوح غرف الموقع رؤية لهيب الانفجارات العنيفة وصوتها القادم من موقع الحوض، مصحوبةً بضجيج طائرات مروحية لم نستطع رؤيتها في تلك الليلة شديدة الحلكة.

كنت أتتبع ذنب الصاروخ المتوهج في طريقه نحو الحوض شاعراً وكأنه يخترق جسدي. همست لزوجتي:
ـ على جماعاتنا بالضبط!.
ـ متأكد!.
ـ...!.

لم أقل شيئاً، إذ لفنا الصمت والسكون التام الذي أعقب القصف، فَلبثنا نحملق بالظلام عاجزين إلى أن بادر الرفيق ـ أبو الجاسم ـ  مسؤول الموقع (يقيم الآن في مالمو السويدية) طالباً من الجميع ممارسة الحياة كما يجب، فرُتبت الحراسات، وطلب من البقية الخلود إلى النوم أستعدادا لإحتمالات الغد. لم تستوعب قاعة المقر عددنا، رغم درامية الوضع كانت تعليقات أبو نصار ـ جابر ـ مقطوع الساق الساخرة تضفي على الجو المضطرب شيئاً من الرواق إذ تجعلنا ننخرط بضحك عاصف. كنا نحشر زوجتينا بيننا. قام بجذعه الأعلى ورمق الأجساد المحشورة الضاجة وهي تعدل أفرشتها على ضوء الفانوس الشحيح وقال:
ـ أبو الطيب.. أشلون شدة هاي.. الليلة ما ينعرف رجلها من حماها!.
وأطلق ضحكته العاصفة.

لا أدري كيف سقطتُ في النوم، لكنني أستيقظتُ على ضجةٍ تأتى من نافذةِ القاعةِ المطلةِ على المسلكِ القادم من أسفل الوادي. نظرتُ إلى ساعتي اليدوية كانت السابعة إلا ربعا صباحا. قفزتُ من فراشيَّ على الفور، وهرعتُ نحو باب القاعة متجهاً نحو مصدر الضجة، ومن حافةِ جدار القاعة بان لناظريَّ رفيقين ممن كنا معهم مساء البارحة؛ الأول ـ سلام مروگي ـ يعيش الآن في السويد ـ،  والثاني ـ أبو نادية الفوج الثالث ـ. كانا هلعين، يتنفسان بالكاد، ويوشكان على الانهيار، يضربان على جبهتيهما براحة كفيهما ضرباً شديداً صارخين:
ـ  راحَوا الرفاق!.
ويلطمون على جبهتيهما.

كان ـ أبو الجاسم ـ يقف جوارهم رابط الجأش، يحاول تهدئتهم كي يرويا لنا ما حدث بالضبط، لكنهما كانا متهسترين. كنت واقفاً على مبعدة ثلاثة أمتار أحملقُ في قسماتهم المفزوعة تحت شمس الصباح الساطعة. عيونهم الزائغة  تشردُ من وجوهنا نحو أقدامهم وأيديهم، والوادي والجبل  في ذهول كجنون، بينما يروون ما جرى لهم بطريقة سأفهمها بعد ساعات إذ وجدتها مناسبة للهول الذي رؤوه. كان كلامهم مضطرباً، متقطعاً بلطم الجباه وكأنهم يرون في تلك اللحظة رعب الليلة السابقة. كنتُ أنصت رابطاً بعناء جملهم غير المترابطة:

ـ أنضربنا كيماوي.. ما ندري.. صارت بينا هستريا.. كل واحد  ركض بصفحه. أحنه ركضنا باتجاه الزاب وسحبنا ـ أبو سعد ـ وعبرناه للجهة الثانية، لكن لما ركبنا ـ الترافيك ـ صرخ بنا؛  لا تتركوني. تره أضرب رأسي بطلقة.. لا.. لا.. لا.. !.. أرجعوا.. أرجعوا!. كنا نفكر بالبقية، سحبنا السلك ولما صرنا فوق نص النهر، سمعنا طلقة، كان الظلام شديد، وما ندري هو عدل لو لا.. رجعنا للموقع وفتحنا كل بنادق الرفاق وطلعنه الإبر. وجمعنا أسلحتهم وضميناها تحت لوح خشب في مكان دكان المقر القديم.

كان حديثهم مصحوبا بتحريك الأذرع الواهنة التي تسقط إلى الجنب خائرة شبه ميتة مع جزع القسمات وضياع العيون في ضباب الليلة المجنونة، ومأزق رفاقهم الباقين، وصدفة النجاة ومحنة مطالبنا بسرد ما جرى كي نفهم ونتصرف. لم يقولا لنا كيف قضّيا ليلتهما قبيل الوصول لموقعنا. لم يطالبهم أحدٌ بذلك، لكن حينما تعرفت على تفاصيل المشهد لاحقا قدرتُ أنهما عرفا كل التفاصيل لكنهما لم يستطيعا البوح وقتها.. أو قدرا فداحة ما جرى وفداحة عجزهما أيضا في فعل شيء يساعد البقية.

كنت رابط الجأش أنصت مجمعاً التفاصيل متخيلا مصيرنا أنا وزوجتي فمن المفترض أن نكون معهم لولا ـ منذر ـ.

كان وجهيهما بائسين شاحبين يائسين. بينما بقية الرفاق المحتشدين  حولنا ينصتون فاغري الأفواه.

لم يكن الأمر يحتاج إلى طول تفكير. التفت ـ أبو الجاسم ـ نحو حشد الرفاق وقال على الفور:
ـ رفاق من يتطوع للنزول إلى الموقع؟!.
ساد صمت كثيف مخجل، والخجل لم يكن مبعثه الجبن، بل لأن غالبية المتواجدين أما كبار السن أو مرضى.
الصمت لم يستمر طويلا، إذ حسم ـ أبو الجاسم ـ الأمر. إتجه صوبي قائلا:
ـ أبو الطيب أكلفك بالنزول إلى الموقع!.
رَمقتُ زوجتي جانبا. كان وجهها مضطربا، أجبته:
ـ أنا جاهز!.

تفحّص الوجوه بعيون حاذقة، وأختار أربعة. فرهاد ـ مؤيد كريم ـ من أبناء مدينتي الديوانية، وكان من كُلِفَ بتوصيلنا من بغداد إلى مناطق الثوار في الجبل عند التحاقنا (يعيش في السويد). و أبو حاتم ـ مناف الأعسم ـ ربطتني به صداقة عميقة نشأت في القاعدة، فوثقت به حد كلفته حينما تسلل إلى بغداد عام 1986 بالاتصال بعائلتي وفعل ذلك. كان يعاني من ـ الدسك  وهو يعني آلام أسفل الظهر المبرحة ـ حتى أنه يعرج بمشيته قليلا، وافق على الفور. وأثنان من حزب ـ تودة ـ الإيراني، ممن ضاقت بهم السبل زمن الثورة الإيرانية فلجئا إلينا. الأول ـ كامران ـ وهو شاب يصغرني كثيرا خفيف الظل حيوي، طلب مني تعليمه اللغة العربية قراءة وكتابة طوال سنتين إلى أن أتقنها ـ ستفرقنا شؤون الدنيا.. سألتقي به صدفة في إحدى شوارع ـ طهران ـ بعد أن قذف بنا الجيش العراقي العائد للتو من حربه مع إيران إلى تركيا وإيران، فكانت محنة رفاقنا الإيرانيين محنة. كان غالبيتهم من أكراد إيران. فضّل معظمهم البقاء في معسكرات اللاجئين  في تركيا، عدا قلة كان ـ كاميران ـ من ضمنهم. لم اكن أعلم ذلك إلا حينما سمعت أحدهم يناديني باسمي في شارع (جمهوري إسلامي) وسط ـ طهران ـ. التفت فباغتني بوجهه  الباسم، تعانقنا بحرارة. كان بصحبة شاب أصغر منه يرتدي ملابس المغاوير العسكرية الإيرانية. قدمه لي:
ـ أخي الصغير
أخذني إلى مطعم راقٍ في شمال ـ طهران ـ هامسا:
ـ لا تخف لا يفتشون هنا!.

كنت أشعر بغبطة وأنا أستعيد تلك اللقاءات السرية الحميمة مع أخي الشهيد كفاح عبد إبراهيم ـ  وأولاد  عمتيّ ـ صلاح مهدي الصياح ـ و ـ علي عبد الباقي ـ، وآخرين ممن اضطروا إلى الاختفاء في بغداد، زمن حملة الدكتاتور لتصفية اليسار والديمقراطيين العراقيين في أعوام 1978 ـ 79 ـ 80.. كنت أسعد بتقديم المساعدة لهم. جلست معهما دون أن يراودني هاجس الخوف من ضياعي في سجون المعممين، بالعكس كنت سعيدا باللقاء وقضينا وقتا نسترجع فيه أيامنا  في مواقع الثوار بالجبل. كان شجاعا، حذراً يراقب الرواد بعينين ذكيتين، ويتصرف بثقة كشأنه  في التجربة التي أشرع بسردها للتوثيق، إذ كان أكثرنا حيويةً وتوقداً في معالجة الموقف الذي وجدنا أنفسنا فيه حال وصولنا الموقع ـ زيوة ـ  شديدي الارتباك!. منذ ذلك التاريخ خريف  1989 لم أره.   تحيتي له أن كان حيا علّه يطّلع على هذا النص الذي هو اللب فيه.

الثاني ـ شمال ـ وهو كردي إيراني من نمط الشخصيات الصامتة المنغلقة والدقيقة في تنفيذ ما يطلب منها وكأنه فُطِرَ منذ الولادة على الطاعة مثل جندي بالسليقة.

كان صباح 21ـ 8 ـ 1988  شديد الفتنة، مشمساً، هادئاً، بمزيج ألوان  أشجار السفوح الذهبية الأوراق، والمسالك الضيقة المغمورة بالورق البني والأصفر والذهبي والأرجواني المتساقط من أغصان البلوط والحور. أشعرتني ألوان الخريف بالضيق، فالفتنة الآسرة  لا تناسب قلقنا على مصير رفاقنا الخمسة.. لم تزل طوابير الفلاحين الأكراد تصعد عكس سيرنا متجهة نحو الحدود التركية. لم يتطلب الأمر كثيرا من الوقت إذ في أقل من 45 دقيقة صرنا جوار مجرى الزاب الهادر. أنعطفنا يساراً هابطين مع المجرى، قاصدين العربة المعلقة. كنت أقارن محتدماً بين جمال الطبيعة بشمس النهار الساطعة، وصفاء زرقة السماء ولوحة السفوح بديعة الألوان.. وعنف الإنسان رائياً  القتلى من زملائي الجنود في جبهات الحرب، من رفاقي الثوار والفلاحين الأكراد في القصف والمعارك. عنفٌ في عنفٍ في عنفٍ وَسَمَ تجربة حياتي منذ الصبا وحتى اللحظة التي أنحدر فيها جوار هدير النهر، هاجسا بمقتل رفاقٍ كنت بالأمس أشاركهم الأكل والشرب والمنام والهم وكل شيء. سألتُ نفسي ذات السؤال المّر الذي ينبعث كلما وجدت نفسي في مواجهة موقفٍ كهذا:
ـ هل الإنسان شرير بالسليقة؟!.
ـ هل الشر القاعدة.. والخير الاستثناء؟!.
ـ لم أنا هنا وأهلي وأمكنة طفولتي في الجنوب، محروما منهم ومنها.. دونهما الموت؟! ـ وما نهاية المطاف؟.. هل سأقضي نحبي في هذه الأمكنة الغريبة البعيدة.. أو سأنجو؟!. وقتها لم أكن أدري حقا، فلو كنت قد عاندت مساء البارحة وبقيت في الموقع لقضيت نحبي فورا مع زوجتي، فقد كنّا وقتها لم نبرئ بعد من أصابتنا قبل عام ونيف والتي سردت تفاصيلها في القسم الأول!. ماذا حدث لرفيقي ـ أبو الوسن ـ الذي أصيب في القصف الأول وظهر معي في شريط ـ فيديوا ـ صور بعد القصف بأيامٍ ثلاثة؟!.

كنت مشغولاً بالأسئلة، حينما لاحت في عمق الوادي عربة المعبر الأول المعلقة بين الضفتين. كان هدير الماء يزداد صخباً كلما ضاق الوادي، فينحصر المجرى بين سفحين يشهقان نحو السماء باستقامة. رغم ضجيج الماء سمعتُ أصوات تُنادينا من الضفة الأخرى. توقفتُ متطلعاً عبر الماء.   جاءت الأصوات ضعيفة من باطن الهدير. أعتليتُ صخرة عالية، فرأيت من يلوح بيديه إلينا صارخاً دون صوت، بالضبط كما هي الحال في الأفلام الصامتة وجواره ثلاثة أشخاص لم أستطع تبيان ملامحهم، فقد كانوا على مسافة بعيدة، يضاف أن هدير المجرى يجعل من المستحيل التعرف على صوت المنادي من الضفة الأخرى. صرخت برفاقي ملأ حنجرتي فالتفتوا نحوي. أشرت لهم عبر النهر، فشخصوا بأبصارهم صوب ما أشرتْ، أقبل ـ أبو حاتم ـ مهرولا ليصعد جواري. أَحَدَّ البصر، ثم صاح بسرور:
ـ منذر وعمودي!.

لوحّنا لهما بأذرعنا ظانين أن رفاقنا قد نجوا، وركضنا نحو المعبر الأول، وشرع الرفاق بالصعود واحدا.. واحدا إلى العربة المعلقة. تريثتُ قليلا حينما تذكرت بغتة كلام ـ سلام مروكي ـ،  و ـ أبو نادية ـ اللذان كانا يلطمان جبهتيهما كلما وصلا في سردهما المضطرب إلى الرفيق ـ أبو سعد ـ الذي قالا أنهما ساعداه بالخروج من الموقع، وعبراه إلى الضفة التي نحن عليها الآن. قلت لهما:
ـ سأعبر من الترفيك الثاني!.

ـ ليش؟!
سألني ـ أبو حاتم ـ
ـ أشوف شكو هناك!.
ـ زين!.

قالها وسحب السلك النحاسي الممتد عبر النهر، فاندفعت العربة الصغيرة منحدرة على بكرة السلك الأوطئ متأرجحة فوق الأمواج الصاخبة التي ترتفع فيبلل رذاذها العربة. المسافة بين المعبر الأول والثاني تزيد على المائة متر. التففت على مسلكٍ ضيقٍ يحاذي حافة سفحٍ قائمٍ وكأنه جدار. مع كل خطوة أقطعها يزداد أضطرابي، فيضج قلبي ويصطخب، هامساً مع نفسي:
ـ لو أجده حياً يا إلهي!.

فهو  شاب في الثلاثينيات، نشيط، محب للنكتة. ساعدنا كثيراً وقت أُصابتنا في القصف الكيماوي الأول قبل عام، إذ كان ضمن مجموعة الدوشكا القريبة إلى القمة والتي لم تُصَبْ. أكمل تعليمه في موسكو وحصل على شهادة دكتوراه في العلوم الزراعية، وبدلا من الذهاب للعمل في دولة ما كما فعل العديد من زملائه، تسلل إلى الجبل عِبرَ الحدود سراً للمساهمة مع الثوار بحمل السلاح، حالماً بيوم الخلاص من الدكتاتور. كنت أتقدم نحو المعبر الثاني مستعيداً تفاصيل أول البارحة حينما تنافسنا على أكبر سمكة صدناها من ـ الزاب ـ. كان أسرع مني، فخطفها بخفة مطلقا ضحكة فوزٍ مرحةٍ. أمسكها بيديه. ورمقني بمكر، وكأنه قرأ ما يدور في رأسي. مد يده نحوي قائلا:
ـ خذها، لكن ليس لك لرفيقتنا ـ بهار ـ
أي لزوجتي.

بتُ على بعد عشرين متراً من المعبر الثاني، في منخفض المسلك الضيق، الذي بدأ يرتفع قليلا.ً. قليلاً.. كنت أعرف المكان بدقةٍ، فما أن أقطع هذا الارتفاع الممتد قرابة عشرة أمتار حتى أشرف على الفسحة المحيطة بموقع المعبر. تلكأت بخطوي، وقفت للحظات محاولا السيطرة على سيلٌ من الرعشات هزتني هزاً:
ـ هل سأجده ميتا أم مصابا؟!.
بعد ثلاث خطوات تسمّرتُ على المسلك الصاعد. رأيتني وكأنني أعيش اللحظة من جديد، فتقطعت أنفاسي وكأن ما رأيته قبل قرابة عشرين عاما يحدث أمامي الآن. نفضتُ رأسي مقاوماً سطوع ذاكرتي، متشبثاً في الحاضر وكأنني أود لقط أنفاسي قبل التذكر، فوجدتني مستلقياً على فراشٍ مرتبٍ، ساكناً أحملق بشرود في السقف الواطئ، هَدَأتُ أنفاسي قليلاً طلعت من القصة لأجد نفسي في غرفة فندق بمدينة ـ لاهاي ـ. التفت نحو النافذة.. الظلام يشحب قليلاً.. قليلاً.. والسكون يعم كل ما حولي ما عدا ضجيج ذاكرتي المشحوذة بتفاصيلها الدامية. تماسكتُ بعناء قبل أن أنحدر قليلاً.. قليلا  في جحيم ذلك المكان البعيد. شددتُ جسدي محاولاً التماسك وتقدمتُ مسرعاً تحت شمس تلك الظهيرة الساطعة.

من على مرتفع المسلك الهابط نحو فسحة العبور رأيته مستلقياً على ظهره على بعد خمسة أمتار من العربة المعلقة الساكنة. يحاذي حافة الماء تماماً، والموجة ترش جسده الساكن بين الحين والحين برذاذها المتطاير. ركضت نحوه يصفر في رأسي دوي فراغٍ دوار، مفجوعاً هلعاً. صرتُ فوقه تماماً. كان مستلقياً على ظهره بقسماته الساكنة، وعينيه المفتوحتين الجامدتين المحملقتين في صفحة السماء الصافية الزرقة. جمدتْ في قسماته صرخة رعب نحتت لحظته الأخيرة. بندقيته الكلاشنكوف نص الأخمص جوار رأسه. تهالكتُ على ركبتي اليمنى هابطا إلى جواره. حاولتُ إسدال أجفانه. لم تستجب لأصابعي. تماسكتُ من جديد. إنحنيت عليه. طبعتُ قبلةً على جبهته، فتساقطت دموعي. لم أزل حتى هذه اللحظة أشم رائحته القوية رغم موته. كانت بقعة مدورة من الدم تحيط رأسه، وثمة ثقب صغير حفر صدغه الأيمن بينما فتحة الصدغ الأيسر أعرض وأشد تمزقا. تخيلتُ مشهد ليلته الأخيرة مجمعاً ما سمعته من الرفيقين اللذين عبراه. كيف ساعداه على الترجل من العربة إلى دكة الصخرة، كيف تركاه مستقلين العربة. تخيلته يتهستر وهو يشعر بنفسه وحيدا في العالم، سمعتُ صراخه والعربة المنحدرة تضيع في الظلام رويداً.. رويدا، رأيته في الحلكة يدور مثل مجنون وغاز الأعصاب أذهب عقله، صارخاً:
ـ إذا تعوفني راح أضرب راسي طلقة!.
دون جدوى إذ غابا في الظلام والهدير، فسحب أقسام بندقيته.. وجلس ليركزها على ركبته ملصقا الفوهة الباردة بصدغه غاطاً في الحلكة. يسكن قبيل الضغط على الزناد، لينتفض مبعثراً ذاكرته ووجوده ويستلقي بالوضع الذي وجدته فيه.

نهضت من جواره منهكاً. قطعت الأمتار العشرة نحو العربة المتأرجحة، غير مستوعبٍ وقتها لِمَ أنتحر بعدما أخرجاه من موقع القصف سالماً، فما كان عليه سوى السير حتى موقع فصيل المكتب السياسي كما فعلنا غروب البارحة مجرد ساعة أو أكثر بقليل. حشرتُ جسدي في العربةِ الضيقةِ، وسحبت السلك الأعلى فأنزلقت نحو الضفة الأخرى. كنت شارد الذهن، فلم أنتبه إلى ـ كاميران ـ و ـ شمال ـ يحيطان بـ ـ عمودي ـ  و ـ منذر ـ ويقفان على مقربةٍ من مكان نزولي على الضفة إلا وانا فوق منتصف النهر. ترجّلتُ وعانقتهما. كان ـ منذر ـ يعط برائحة غريبة متوتر القسمات وفي عينيه شرود. لم يخب أنطباعي الأول، إذ سرعان ما هدر هاذياً بكلامٍ نابٍ غريب، رافعاً ذراعيه القصيرتين ملقياً خطبة تشتم كل شيء الحياة والوجود والبشرية. لزمتُ الصمت محملقاً في منقذي المتأرجح على حافة الجنون. كان لا يسمع أسئلتنا ونحن نحاول فهم ما جرى لهم ليل البارحة. كان يشتم كل ما يخطر على باله دون رابطٍ ما. بقيّ على هذه الحالة أكثر من أسبوعين، يغط في الشرود والخدر، ثم ينفجر بغتة. ظل حتى  وصولنا مخيم ـ گفرى ـ التركي، ولم يتزن إلا بعد مرور عدة أشهر.

أما ـ عمودي ـ فقد كان يترنح مثل سكران، لكنه بدا متمالكا نفسه قليلا ينصت لما نقول. سألناه عما حدث بالضبط، فبدأ برواية ما جرى ليل البارحة بوضوح وتفصيل جعلنا نعيش الحدث:ـ كنا نسهر  في قاعة الإسناد، وكان ـ أبو جواد ـ يروي نكاتاً كعادته  عما شافه في سجن ـ إيفين ـ الإيراني، لما زار إيران وسجنوه. كنا غارقين بالضحك، وفجأة اهتزت القاعة مثل ما راح تطبق علينا. فطفرنا مثل المجانين. وركضنا بلا شعور مزدحمين بباب القاعة. وكان أول واحد طلع هو ـ أبو الوسن ـ كان يصرخ:
ـ كيماوي.. كيماوي.. رففففففففففففففففاق!.
خَبّلنا، كان يصرخ مثل مجنون وغاب بالظلام. القذائف تتساقط حولنا. كل واحد ركض لجهة وهو يصرخ بأصوات غريبة.. صرنا في حالة جنون كامل.. (قصته سيرويها لمخرج سينمائي بريطاني جاء عام 1989 إلى مجمع ـ زيوة ـ في أقصى الشمال الغربي الإيراني، وسيختار المخرج انفعال عماد ـ يعيش الآن في فينا بالنمسا ـ  وهو يصف ما جرى لهم بالجنون الكامل، كنهاية مقطع ينتقل فيه المونتاج إلى مشهد مختلف في الفلم،وهو لدي على شريط فيديو حصلت عليه صدفة لما حللت في دمشق عام 1990 لدى صاحب تسجيلات كردي بمنطقة ـ ركن الدين ـ فاستنسخت نسخة ما زلت أحتفظ بها).

بعدين فقدت الوعي، لمن حسيت لقيت نفسي في عالم آخر غريب، كأني بيوم القيامة، كنت أصرخ بدون صوت وأتقلب على التراب، لكن ما ادري وين، تنفتح الأرض بصفي فأكمش حافة الشق خاف يبلعني.. شق أسود عميق يسحب جسمي.. أقاوم، أصرخ، أشِد التراب بأصابعي  بقوة، والشق يدور.. وأدور مثل سورة ماء، ونَفَسي يضيق.. أختنقت وحسيت بجسمي كله مشتعل تمنيت الموت حتى اخلص من العذاب والعالم الغريب العجيب اللي وقعت به. لكن أشلون أموت وما بيدي شيء أقتل به نفسي. حاولت لمن شفت بندقيتي قريبة. زحفت ومسكتها. سحبت الأقسام بسرعة وخليت فتحة الماسورة برأسي وضغطت الزناد، ظنيت أني متت، وما جرى بعد ذلك تصورته بعد الموت، فخرسني الرعب وحسيت السماء سودة مثل سقف تنزل وتطبق عليّ، وبصفي أنشقت الأرض نصين وسحبتني فوقعت بالهاوية. تصورت نفسي متت وقعدوني يوم الحشر.. عشت زمن مثل الأبد، لا بداية له ولا نهاية.. يا بويه أش لون عذاب.. أش لون انقضت الليلة وطلع الفجر ما أدري. فوجدتُ نفسي على الفسحة التالية لموقع الإسناد جوار قبري الشهيدين  ـ أبو فؤاد ـ و ـ أبو رزگار ـ وعلى بعد عشرة أمتار مني شفت ـ منذر ـ يتلوى بمكانه مثل واحد به صرع، زحفت صرت قربه. لزمته من كتفه ورحت أهزه وأصرخ:
ـ منذر.. منذر!.

ففزّ وراح يصرخ صراخا مرعبا، ويتقلب حتى وصل حافة الفسحة. فركت عيوني ولزمت الصخور حولي وظليت جامد قاطع نفسي أسمع صراخ منذر الغريب المتواصل وشتائمه.  حاولت أقوم وأمشي إليه، لكن ترنحت لما رفعت جسمي وسقطت مرة ثانية على الأرض. تحسست جسمي،  وقلت مع نفسي: لا والله أني عدل مو ميت.. بعدين سمعت صوت العصافير والطيور، وفجأة حسيت بنفسي قوي فركضت لـ ـ منذر ـ ساعدته على النهوض، ردت أسحبه فحرن بمكانه وعيونه على ضوه الفجر شفتها مثل عيون المخبل، وكأنه لا يعرفني. ظل دقيقة عيونه بعيوني وأنفجر بضحكة مخيفة، أنتهت بهذيان وشتائم، وكلام ما مترابط مثل ما تشوفوه. هزيته ألف مرة دون فائدة بعدين سحبته بالقوة ونزلنا لضفة الزاب. فكرت نروح لمقر ـ حدك ـ القريب وفعلا بنص الطريق جاء بيشمرگة ـ حدك ـ وأخذونا لمقرهم. ما نمنه إلى أن شفناكم.

فسّر لنا ـ عمودي ـ كل شيء، فلم نفهم من ـ سلام ـ  و ـ أبو نادية ـ سبب أفراغهما بنادق الباقين  من الأبر،  إذ لم يربطا ذلك بأنتحار ـ أبو سعد ـ. لكنهما تصرفا بالغريزة مدركين أن رفاقهم المتخلفين في الموقع ممكن أن يكون مصيرهم كمصير ـ أبو سعد ـ وأن القنابل التي سقطت تحوي شيئا يحرض على الهستريا والانتحار، لذا قرارا العودة لتجريد البنادق من إبرها وهذا في حقيقة الأمر ما أنقذ هم،  كما بدا من حكاية ـ عمودي ـ سنعرف لاحقا أنهم عادوا مرة أخرى لجمع البنادق وأخفائها تحت لوح خشبي. وفيما كان عمودي يعيد القصة المرة تلو المرة، ومنذر يحملق بوجوهنا وكأنه لا يرانا وينهد بين الحين والحين شاتماً. لم أجد ـ أبو حاتم ـ فسألت عنه. أخبروني بأنه صعد إلى المقر علّه يجد ما تبقى من الرفاق، قلت على الفور:
ـ سألحق به!.

هرعتُ مسرعاً نحو صف أشجار الصفصاف والتين الممتدة بموازاة الشاطئ، أنحرفت إلى اليمين على مسلك عريض يرتفع جوار حقول كنا نزرعها في مواسم الصيف بالخضر، ثم أستدرت إلى اليسار مرتقياً درباً يحاذي مجرى النبع. في منتصف الدرب رأيت أبا حاتم ينحدر مغطياً أنفه بمنديلٍ مبلولٍ. أصبح على بعد مترين مني. كانت قدماه ترتجفان. وحينما نطق كان في صوته رعشه رغم محاولته التماسك:
ـ أبو جواد استشهد. لم أعثر على أبي الوسن ولا على أبي سعد!.
أخبرته عن أبي سعد!.
رد بحياد:
ـ يعني بقى بس أبو الوسن!.
تنحيتُ جانباً كي يمرّ، فلم يتحرك وقال مستغربا:
ـ وين رايح؟!، تره بعد أكو أثر ريحة في الجو!.
قلت:
ـ سأصعد.. الحقوا بيّ!.

لما وجدني مصراً، نصحني ببل منديلي ووضعه على أنفي كما فعل هو. لم أشم شيئاً رغم شدة حساسيتي للروائح منذ أصابتي قبل عام.. التفت نحوه، كان يخطو بعرجٍ خفيف برجله اليمنى ميمما صوب المعبر الأول، حيث وقف الرفاق منصتين لرواية ـ عمودي ـ الذي يعيدها المرة تلو الأخرى بنفس الحماس. كان السكون طاغياً. وحدها العصافير تزقزق غير مكترثة على أشجار الله. كنتُ أنصتُ متخيلاً جحيم ليل البارحة التي صورها ـ عمودي ـ وكأنها يوم الحشر. لم أكن خائفاً، ولم أشعر بالخوف مطلقاً في المواقف الحاسمة. كنت أرتقي الرابية تواقاً لمعرفة مصير رفيقيَّ  المسكين ـ أبو الوسن ـ، أصعد وشعور بالإنزعاج من فتنة الطبيعة عاودني. فتنةٌ غير آبهةٍ بالمأساة. البلابل تصدح. الماء ينحدر بخرير خافت. الشجر يبدل أوراقه. والشمس مشرقة تغمر أشياء الأرض بذهبها. أحسستها تسخر من قسوة ودموية صراعنا المضاد لطبيعة أرضنا ومياهنا وسمائنا وعصافيرنا وطيورنا.. نبضٌ فتّان يخربهُ الإنسان بالعنف والقتل والتخريب.

وصلتُ إلى فسحة منبسطة تجاور قاعة فصيل الإسناد، وهناك خلف غرفة فصيل الإسناد ـ وَجدتهُ مطروحاً جوار الساقية الصغيرة التي تجري من نبع القمة العالية. أهتز خطوي وأنا أقتربُ منه شاعراً بفجوة فراغٍ تنفتح تحت قدميّ. اختللت متأرجحاً مثل سكران، فأسرعتُ ممسكاً بساق شجرة بلوط كانت جواري. لبثتُ حاضناً جسدها حتى استعادت الأشياء ثباتها. عاودتُ الخطو. وقفتُ على مبعدة خطوات منه مرتعداً. أحملق في همود الكتلة البشرية اللينة باستلقائها المبعثر.. الساقين مفرودتين إلى أقصاهما.. أطراف أصابع الكف اليمنى تطفو على سطح الماء الضحل الجاري في الساقية.. المنديل مدعوك ومتكور حول العنق الموحل، المخدوش بآثار أظافر. تخيلتهُ حياً في دكنة الليلة الفائتة، وهو يشد منديله المبلول حول وجهه ظاناً أنه سينقذه من غازات الكيمياء الهابطة من سماء الليل. تخيلتُ رعبه حينما أدرك لا جدوى المنديل، فأنطلق يصرخ في الظلام ساعياً خلف الهواء، مزيحاً بأصابعه المتوترة النقاب المبلل إلى أسفل.. أظافره تنشبُّ في عنقه.. تدميه. تخيلته كيف يدور في هذه البقعة حول نفسه المشلولة برعبها.. كيف وهنت قواه رويداً.. رويداً، حتى سقط من حافة الفراغ بالغاً مساحة الخدر والأحلامِ. أمعنتُ النظر في الجسد الذي يبدو حاراً وكأنهُ سقط في غفوة عميقة للتو.. فوضى الشعر الممرغ بالتراب.. السروال المسحوب والمحشورة حافتيه عند الركبتين.. الساعة المهشمة وأحشاء الزمن مبعثرةً حوله. كان الزبد الأبيض حياً بفقاعته الهوائية الصغيرة الممتلئة التي لم تزل تنفجر عند حواف شفتيه. ظننته حياً، ركعت جواره على ركبتي، وهبطتُ برأسي نحوه ملصقاً أذني على صدره. كان ساكناً يغور في غفوته متخلصاً من عذاب الدنيا. يرقد بسلام غير آبه بالشمس وزقزقة العصافير، بقلقنا وعذابنا.. حَسدتُ الميت. لبثتُ في جلستي المستسلمة جوار جسده المسجى. بدا لي وكأنه كان يحلم بحلمٍ مزعج قبيل سكونه الأبدي، فترك أثراً على تقاطيعه الجامدة.  قسماته منزعجة من شيء ما، أكثر من كونها مرعوبة كما هي قسمات ـ أبو سعد ـ التي تركتها عند حافة النهر. لحظتها أحسست بذنبٍ إزاء ما شاب علاقتي به. كان يصطحبني في مفارز تقطع طرقاً جبلية طويلة، محفوفة بالمخاطر والكمائن التركية والعراقية من هذا الموقع ـ زيوة ـ جوار العمادية وحتى المثلث الحدودي العراقي الإيراني التركي حيث مقرات ـ لولان ـ. كنت أسأله لم يخرج مع كل مفرزة رغم تَهَرُبْ غالبية المقاتلين من مثل هذه السفرة الطويلة المضنية، فكان يجيب:
ـ رفيق أحسن لي من الموت بالقصف هنا بمقر زيوة.
نفس المكان الذي قضى فيه. حكى ليَّ قصته، كونه لجأ إلى إيران فأعتقل وذاق المرَّ في سجن ـ إيفين ـ الإيراني قبل أطلاق سراحه، فعاد إلى الثوار في الجبل، وصار بهذا الحال يخرج في كل مفرزة مشغولاً بالتنكيت والضحك والمرح حتى صار وجوده خفيفاً يرفه من عناء يوم الجبل وثقله. كنت أسخر منه، رغم أنه كان يفضي لي برغبته في الحياة مفكراً بعائلته الفقيرة التي تركها في بغداد جائعةً معوزةً، وهي السبب الجوهري من خشيته من الموت كما أسر لي مرة فلم أصدقه قائلا:
ـ ليش التحقت إذن!.

وقتها كان ذلك بالنسبة لي مبعث سخرية فقد كنت وقتها ثورياً لا قيمة لحياتي إلا بمعنى الموقف منها. (أخبرني ـ أشتي ـ قبل أيام في اجتماع لقدامى محاربي الأنصار هنا في كوبنهاجن الشهر الخامس 2007 حينما سألته عن أسم أبي جواد الحقيقي بأنه لا يتذكره وأن عائلته ـ عائلة أبو جواد ـ مسحوقة جداً ليس لديها مأوى، راجعت مقر الأنصار في بغداد، سائلة عن مصير أبنها، فأخبروها بشهادته. وأضاف أن عائلته سكنت مقر وزارة الدفاع القديمة في باب المعظم مع عشرات العوائل المسحوقة التي وجدت بعد سقوط النظام مأوى لها في أمكنة كان النظام يدير ماكنة القتل اليومي فيها). كنت أرقد جوار جسده الساكن في الفسحة محملقاً في المنديل الرطب المنزلق من أنفه حتى حافة الحنك. تخيلته من جديد، يبلَّ المنديل ويضعه ظاناً أن ذلك سينقذه من غازات الموت.. تخيلته في لحظاته الأخيرة وندمتُ على لحظة خبث انتابتني وأنا أتأرجح على حافة الموت، كنتُ شبه أعمى محروقاً تماماً، لكنني حالما رأيته واقفاً أمامي يحملق في جسدي المحروق ووجهي بذعر وذهول قلت له:
ـ مبروك خِلَصِتْ!.
كنت أقصد القصف الكيماوي للموقع نفسه  في 5 ـ 6 ـ 1987 الذي أصبتُ فيه، إذ صادف أن خرج في مفرزة قصدت الفوج الثالث القريب قبل يومين فقط من قصف الطائرات.
جلدتُ نفسي بشدة، محتقراً خبثي تلك اللحظة وأنا أتدلى من حافة الكون، وأكاد أغور في هوة سقط ـ أبو جواد ـ المستلقي جواري فيها
ـ أقسمتُ مع نفسي منذُ تلك اللحظة على احترام الإنسان في كل حالاته دون سؤال!.

ـ هاهو من كنت أظن أنه نجا قبل عام يرقد جواري ميتاً في صباح مشمس جميل يضج بصخب العصافير وهدير النهر وصخب ألوان الخريف وأنا الذي كان ساخراً أمكث جواره حائراً منتظراً.ـ هل يدرك من يجلس في قفص الاتهام بقضية الأنفال فداحة الأبعاد النفسية التي خلفوها في كل من وقع عليه فعل القتل والتشريد التي أعرض الطرف الصغير والبسيط الذي عشته ورأيته!.من المستحيل على  وزير الدفاع ـ سلطان هاشم ـ  قائد الحملة الميداني، وعلى زمرته من القتلة الإحساس بهول ما يعيشه الضحايا من تفاصيل صغيرة قبيل الموت في حملتهم، تفاصيل تجعل من رحلة العمر مجرد عذاب يتمنى المصاب فيها الموت والخلاص. كيف تشعر الزمرة الحاكمة بهذه التفاصيل وهي تجلس في برجها محصنة بالأسوار، مرفهة تعيش في رخاء ودعة بتلك المآسي، لا تشعر بل تجد فيها مادةً للتسلية ليس إلا كما سيظهر في أفلام الفيديو التي عرضت بعد سقوط النظام على شاشة المحطات الفضائية ! وحتى الآن وهم في المعتقل مرفهين، ظروفهم غير ظروف المعتقل العراقي زمن سطوتهم ودكتاتورية رئيسهم ـ صدام ـ فهم في ضيافة السجن الأمريكي يأكلون وينامون رغداً، ولا يواجهون المرارة إلا حينما يجلسون في قفص الاتهام في الجلسات المتباعدة..

هؤلاء القتلة محظوظين!.
لسبب جوهري أنهم لم يذيقوا الذّل الذين كانوا يذيقونه لأبسط سجين على أبسط قضية. فما أن يلقون عليك القبض ـ وهذا ما صار معي في المرات الأربعة التي اعتقلت فيها بين 1970 ـ 1980  وأنت في المدخل يبدءون بضربك وشتمك، ويستمر الإذلال طوال وجودك في المعتقل حتى ينزعون إنسانيتك فترى نفسك شيئاً تافهاً يشبه الحشرة يسحقونها متى شاؤا. الدكتاتور هو الآخر مات دون أن يذّل، فلم يلق ما أذاقه لضحاياه! من أين للقتلة المحظوظين الإحساس بما اقترفت أيديهم من جرائم طالت مئات الألوف من أبناء شعبي! أين لهم؟!.

أعود لأصف تفاصيل قليلة من عذاب ضحايا مساكين من رفاقي، وأبناء شعبي من الأكراد ممن قضى أو أصيب أو ضاع في الحملة، فما جرى لرفاقي هو نموذج لما جرى لكل فلاح كردي بسيط قصف في قرية بالغازات السامة والأعصاب، ولكل من عاش رحلة التشرد والنزوح، ولكل من دفن في مقبرة جماعية مجهولة، لكل عراقي ضحية الدكتاتورية!.أستلقي على فراش وثير في غرفة فندق وسط ـ لاهاي ـ غير قادرٍ على النوم. أحملق في الجدار والسقف الأبيض، والفجر تسلل من النافذة المواجهة للسرير والمطلة على وسط المدينة بمبانيها المكتظة، حائراً بما سيواجهني به المحقق الهولندي بعد ساعات قليلة.. حائراً كحالي حينما كنتُ أجاور جثة أبي جواد، كنتُ مشلولاً، شارداً أتأمل علاقتي معه في صمتٍ يضجُ بأصوات الطبيعة. وبغتة  أنتابني الرعبُ وصراخ قذيفة مدفع حطم السكون. قذفت جسدي غريزياً جوار الراقد، مدوراً عيني الفزعتين بحثاً عن ملجأ قريب، لكن مسافة العشرين متراً التي تفصلني عن أقرب ملجأ صارت وكأنها في كوكب أخر والقذائف تتولى ساقطةً حولنا. أحتميتُ بجسده الساكن. أمعنت في الإلتصاق به غامداً وجهي في عنقه المخدش العاري. أنصت للسكون المريب الضاج بهدير النهر، وخرير الساقية، وحفيف ورق البلوط المتساقط، وصمت ما بين قذيفتين، أنصت للصمت الذي أمتد وأستطال. انفصلت عنه، فرأيت قسماته القريبة محتقنة تراءت ليّ حية غاضبة من ذاك التحديق اللصيق. سحبتُ جسدي مبعداً وجهه عني. الورم جسّمَ انفعالات فزعٍ كانت دفينةٍ. فزع وشم كل ذرة في قسماته الساكنة في أبديتها
ـ لولاك يا منذر لما أختلف مصيري وزوجتي عن هذا المصير!.

أختض جسدي خضاً وانا أتخيل جسد حبيبتي ـ بهار ـ بارداً ممرغاً بالتراب، وقسماتها الجميلة محتقنة مزرقة، مشوهة. أنقلبتُ على ظهري، فانبسطتُ فسحة السماء المرئية من قعر الوادي العميق زرقاء تبحر على صفحتها مسرعة غيومٍ بيضاء متفرقة مثل صدى أو حلم. بقيت منتظراً دقائق أخرى قبل أن أنهض وأنفض ما علق بسروالي وقميصي من غبارٍ وتراب وكسر أوراق يابسة. أول ما فكرت فيه هو البحث عن ـ أبي الوسن ـ وهاجس مقتله الملحاح أطرده رغم قوة المنطق فقد عرفنا مصير الجميع إلا هو فلو كان قادرا على الحركة والكلام لوجدناه. كنت أطرد هذا الهاجس فلم يبق في قلبي مكاناً لفواجع أخرى. كنت أظن وقتها ذلك، ولم أكن أعرف أن القلب البشري لديه طاقة تحمّل تفوق كل المقاييس. كنتُ أأمّلْ نفسي بالعثور عليه حياً:ـ أين صار والجميع عرفنا مصائرهم!. فمن غير المحتمل أن يكون مختبئاً في مكان ما سالماً ولا يظهر رغم طلوع النهار؟!.

 كنت أأمل نفسي بالعثور عليه حياً، أو فاقد الوعي مثلاً،  كنت أتمنى ذلك فهو من أكثر الأنصار مسكنةً. ينحدر من عائلة فقيرة تسكن ـ مدينة الثورة ـ هرب وقت الحملة على القوى الوطنية والديمقراطية 1978 إلى الخارج وعاش في اليمن وتسلل إلى كردستان عبر الأراضي التركية منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي. وبين ثوار الجبل عانى بشّدة. كان يبث لي أسراره كلما يثقل عليه  يوم الجبل الذي أدخله في مآزق لم يكن يتوقع الوقوع فيها، حتى أنه تحول في الفترة الأخيرة إلى مدار للتندر والنكتة في وسط محيط من الأذكياء يطفو فيه الإنسان البسيط مثل أبي الوسن. وجد نفسه معزولاً وكل من يقربه يرى بعينيه ظلال سخرية. أسر لي عن عذابه من عيون تلوح فيها السخرية وأفواه تلوح على أطرافها بسمة استخفاف. لا أدري هل ما كان يشعر به هو حقيقي أم ظنٌ مَلكهُ لكثرة ما وقع فيه من مطبات؟!، لكنه كان معزولاً بالفعل  حتى أنه في الفترة الأخيرة لم يجد رفيقين ثابتين يشاركهما تناول وجبات الطعام الثلاث اليومية.. حيث يتوزع الثوار على صحن واحد ثلاثة.. ثلاثة، مما جعلني وزوجتي ندعوه ليكون ثالثنا في كل وجبةٍ. لستُ هنا بمعرض الخوض في تفاصيل حياة هذا الإنسان المسكين الحالم بمدينة فاضلة أفرزته وحيداً وسط رفاق له في النضال والسلاح، فما بثه لي من معاناة إنسانية عميقة كتبته فصلاً  في روايتي المنجزة والجاهزة للطبع ـ الحياة الفقاعة ـ التي تتناول هذه الكائنات البشرية من زاوية إنسانية مجردة من أبعاد الأيديولوجيا التي كانت تغيب معاناة التجربة، عنائها، ألمها، فداحتها، وحشتها،  بتفاؤل موهوم  كنت وشخصياتي ـ رفاقي ـ نخفيه كي لا يقول أحدٌ علينا ضعفاء، أو جبناء، كما صار مع القلة من الشجعان الذين أظهروا معاناتهم.

تذكرت ما رواه ـ عمودي ـ عن غيابه عند حافة السفح الكثيف الأشجار والأدغال، المطل على فصيل الحماية حيث أقف. نزلت مع المجرى أبحث عن أثر له بين  الشجيرات والأعشاب الطويلة. عدتُ صاعداً مع المجرى حتى القاعة. لم أر أثراً. ذهب روعي قليلا. قلتُ مع نفسي:

ـ ما رواه ـ عماد ـ إذن هو أخيلة رعب من ضجيج وفزع الليلة الماضية!.

 هببت أدور بين غرف فصيل الأسناد، الغرفة المتطرفة خلف القاعة وجدتها فارغة إلا من أفرشة مبعثرة وحقائب لرفاق غائبين، في الحقول المجاورة. نزلت إلى الفسحات المتدرجة الكثيفة الأشجار حتى بلغت حافة البستان ماراً بقبري الرفيقين ـ رزكار ـ و ـ أبو فؤاد ـ. لم أجد شيئاً. صعدتُ إلى السجن وجدته مفتوح الباب، خالياً. إنحدرت مسرعاً على الدرب الضيق النازل حتى فسحة أسفل السفح، حيث مجمع القاعات ومطابخ فصليّ الحماية والإدارة، فوجدت تحت شجرة الجوز العملاقة بغلين ميتين الواحد جوار الآخر، وعلى مسافة أمتار عشرة وجدت ثلاثة كلاب غريبة نافقة متورمة الجثث. لم أدع مكاناً في المقر وحوله لم أبحث فيه، مما جعلني أخمن بأن ـ أبو الوسن ـ لابد أن يكون قريبا جدا من مكان الواقعة، فلو تمكن من الإبتعاد على الفور من دائرة القصف كما فعل ـ أبو نادية ـ و ـ سلام مروكي ـ لظهر حتماً، لذا سارعت بالصعود إلى فصيل الإسناد من جديد. وقفت أمام باب القاعة وتخليتهم يهرعون راكضين صوب الباب، وجمعت نتف ما سمعته من الجميع في ضفيرةٍ، فأيقنت بأنهم جميعا إتجهوا في طريق هروبهم نحو ـ الزاب ـ إذ خلفه تقع مقرات رفاقهم. خطوتُ من جديد متتبعا فرضيتي فوصلت جوار جثة ـ أبي جواد ـ هالني أحتقانها السريع، وتضخّم ملامحها كأنها توشك على الإنفجار.  نزلتُ وصعدتُ مرتين مع حافة المجرى حتى عمق الوادي دون جدوى. لم أيأس فكل ما سمعته وجمعته يشير إلى أن ـ أبا الوسن ـ قريب من المكان. وفيما كنتُ واقفاً جوار الجثة، على حافة المجرى الضحل، أركّز محاولاً ترتيب الحدث من جديد وقع بصري على قطعة قماش بلون الزيتون الأخضر. أحسستها أليفة لعينيّ جداً. هرعتُ نحوها. كانت ملقاة على كتف الساقية جهة السفح. بسطها بين يديَّ، كانت حقيبتي القماشية التي أعرتها لأبي الوسن قبل أيام:
ـ لابدَّ أن يكون قريب جداً!.

قلت مع نفسي، وانحدرتُ مرتبكاً على السفح. قطعت مترين. لم ألحظ شيئاً. كانت الشجيرات والأشجار كثيفة جدا بحيث بدت كدغل مظلم. أحست بدوي الصمت يأخذ رأسي كحالي في كل فاجعة أهجس باقترابها. نزلتُ أربعة أمتار أخرى.. ووسط دغل يحيط بشجرة بلوط عالية، رأيت شرولاً معلقا من حلقاته السفلية إلى الأعلى. استغربت. خضتُ في الأدغال مقتربا. أزحت بكفيّ أخر حشد لأغصان شجيرات السفح يفصلني عنه. أخرسني المشهد وأحالني للحظة إلى صخرة. أبو الوسن واقفاً بالمقلوب تماما. يرتكز على رأسه، المحشور لصق ساق شجرة بلوط متينة، تحيط بها سيقان شجيرات أصغر وأعشاب أحاطت بالرأس والجسد، فحافظت على وضعه قائماً بالمقلوب. سقطتُ جالساً جواره بائد القوى. القسمات المسكينة المخدشة بالأغصان متضخمة محتقنة راكزة بين السيقان تحرزُ في أعماقها صرخة رعبٍ طبعّتْ كل مسامة فيها.

 

الشهيد أبو الوسن

 

أي هول أَخَذَهُ في لحظته الأخيرة قبيل خلوده إلى الصمت واقفاً على الرأس رائياً العالم مقلوباً. أستعيد الآن هذا المشهد الفاجع الفريد، جلوسي للحظات منهاراً جوار الجثة الواقفة بالمقلوب.. حملقتي الشاردة بقسماتها المحتقنة، وإنهمار تفاصيل علاقتي معه منذ حلولي في ـ زيوة ـ وحتى إيابه.. كان الوحيد الذي ينطبق عليه المثل العراقي الشائع والذي قذفه عليَّ مرةً حينما كنا نحمل كيس جنفاص مليء بالتراب لرصف ممر في الفصيل معلقا حول ما وقع به من فضيحة تتعلق بالجنس فصار مادة للسخرية وقتها:

ـ جبر من... أمه للگبر!.

لا أريد الخوض في تفاصيل ذلك، ـ سيجدها القارئ كاملة في روايتي المعدة للطبع ـ الحياة فقاعة ـ لكن أريد التذكير بأنني لحظة إنهياري وجلوسي جوار نصبه القائم بالمقلوب تذكرت شكواه، كونه لم يمارس الجنس أبدا مع امرأة رغم بلوغه الأربعين. وكان ذلك قبل سنة من مغادرته الدنيا.

ما أسرده الآن ما هو إلا تجسّيم لتلك اللحظات التي كانت تمرُ كالبرق. نهضتُ. تسلقت المنحدر الدغلي الحاد، بلغتُ جثة ـ أبو جواد ـ التي أزدادت ورماً. أردت النزول إلى رفاقي كي نرتب قضية الجثث، لكنهم ظهروا من خلف سياج البستان المحاذي للمسلك الواحد تلو الآخر، كامران، أبو حاتم، شمال. اما ـ فرهاد ـ فقد بقى بصحبة ـ عمودي ـ و ـ منذر ـ. صرنا أربعة. أخبرتهم بعثوري على جثة ـ أبي الوسن ـ، فتبعوني إلى دغل السفح وعاينوا الموقف. أول ما فكرنا فيه هو دفنهم والانسحاب على عجل، فبين لحظة وأخرى كنا نتوقع تجدد القصف، أو سيطرة الجيش على السلسة المحاذية للزاب من جهة تركيا، فيقطع خط انسحابنا إلى المقر الذي قدمنا منه. تشاورنا حول الكيفية التي سندفن فيها الجثتين. كان من المستحيل حفر قبرين لهما، لا الوقت يكفي، وليس لدينا أدوات حفر. على سن ترابي لاحظت حفرة متروكة كانت مربض قديم لدوشكا فصيل الإسناد يطل مباشرة على فسحة دُفِن فيها (أبو فؤاد، وأبو رزگار). أقترحتُ وضع أحدهم في هذه الحفرة وردمه بالصخور والتراب. لم ندع الوقت يمر. نزلت وأبو حاتم نحو جثة ـ أبو الوسن ـ زحزحناها بصعوبة وخلصنا رأسه من الدغل وسيقان الشجيرات الكثيفة. حملناه من قدميه وكتفيه وحاولنا الصعود إلى حافة المجرى التي لا تبعد سوى عشرة أمتار، لم نستطع كان الجسد ثقيلاً. أنحدر ـ كاميران ـ نحونا وحاول مساعدتنا دون جدوى:

ـ سأجد حلاً.. أنتظرا!.

قال كاميران ذلك وتسلق نحو المجرى. وضعنا الجثة وجلسنا جوارها لاهثين. بعد دقائق عاد إلينا حاملاً بطانية، فرشها جوار الجثة. حملناه. وضعناه فوقها، ولففناه مما سهل علينا حمله والصعود به. توجهنا  إلى الحفرة المتروكة. أسقطناه في باطنها، وهرعنا إلى المسلك الحجري. ظللنا ننقل الحجر حتى ردمنا الجسد المكور في الحفرة الضحلة، ثم أهلنا تراب الحواف مغطين الفتحات بين الحجر. كنا نظن أن هذا الدفن مؤقت ـ حفاظاً على أجسادهم من نهش الحيوانات ليلاً ـ، إذ سنعود حينما تهدأ الأوضاع وندفنهم بشكلٍ لائق.  بدا الإنهاك علينا سريعاً، ليس إنهاكاً جسدياً، بل نفسياً رغم أننا نحاول أن نبدو متماسكين، جديين، عمليين، نشطيين.

وقفنا حول جثة ـ أبو جواد ـ نفكر في مخرج يكفل لنا دفناً سريعاً. تفرقنا كلٍ إلى جهة نبحث عن حفرة ما أو أخدود يختصر علينا فكرة الحفر شبه المستحيلة دون أدوات وفي وقتٍ ضيقٍ مشحون بالإحتمالات. لم نجد شيئاً. تجمعنا ثانية حول الجثة نفكر ونتحاور، وفجأة تذكرت الشق الذي يحدثه مجرى سيل الربيع وسط الوادي الجانبي المؤدي إلى موقع فصيل المكتب السياسي القديم والفاصل بين غرف الضيافة وفصائل الموقع، قلتُ:

ـ ندفنه في الشق تحت شجرة التوت في الوادي!.

سألني أبو حاتم:

ـ أنت متأكد؟!

ـ نعم!.

ـ هل نستطيع حمله كل تلك المسافة؟!.

المسافة بعيدة حقا إذ تزيد على الخمسين متراً. كنت أفهم جيدا إستفهام ـ أبو حاتم ـ الذي كان يعاني من إنزلاق الفقرات سألتُ:

ـ عندكم مقترح أخر؟!.!.

حاولت تذليل فكرتي وجعلها مقبولة قائلا:

ـ المسافة كلها نزول بس صعود خفيف لمن نصير ببطن الوادي!.

وافقوني بهزة من رؤوسهم. وضعناه على نفس البطانية التي لفننا فيها جسد ـ أبو الوسن ـ وحملناه كلٍ من ركن من أركان البطانية الأربعة. سرنا مسافة عشرة أمتار، فبلغنا حافة المسلك المغطى بالحصى الناعم المحاذي لسياج بستان فاكهة متروك. ما كان يبيد قواي هو دوي النهر الصاخب، وشدو البلابل، وزقزقة العصافير، وزرقة سماء ذلك النهار الصافية وشمسها الساطعة. الطبيعة الخلابة غير آبهة بما نحن فيه من توتر وخوف وحزن وإنكسار وتماس مع أجساد رفاق نحبهم تحولوا إلى هباء، ومجهول ينتظرنا في الساعات القادمة.

ـ هل ما أنتابني من شعور مرير بالعجز والخواء أنتابهم وجعلهم يَدَعونَ الجثة تسقط على المسلك الحصوي، ليقفوا لاهثين متصببن عرقاً كحالي؟!..

لا أدري لكن في اللحظة التي بادت فيها قواي، ففلتت حافة البطانية الملفوفة من بين أصابعي، أفلتت أيديهم البطانية أيضا. فارتطمت  الجثة بطبة مكتومة لا زال وقعها العنيف يرن بصمتي رغم مرور قرابة عشرين عاماً.

عشرة أمتار هدّتْ قوانا:

ـ ما أثقل الجسد الهامد؟!.

رددت مع نفسي بصمت، حينما تهالكنا جالسين، نلقط أنفاسنا بعناء حول الجسد المكشوف الذي تضخمت قسماته، وتورمت حتى تخيلتها ستنفجر بعد لحظات. لم أكن أحس بثقل الجسد في طقوس دفن الأحبة والأقرباء في النجف، فأدركت حكمة تبادل المشيعون حمل جثة الميت الساجي في تابوته الخشبي بعد خطوات قليلة. نهضنا بعد دقيقة. أمسكنا أطراف البطانية. حاولنا رفعه دون جدوى، كان قد تحول إلى كتلةٍ من الرصاص. حاولنا ثانية، فرفعناه بعناء شديد مسافة سنتمرات معدودة وأنحدرنا على المسلك خمسة أمتار، لنسقطه مرة أخرى، ونقف ناضحين لاهثين حائرين، متعبين، عاجزين. لم أجد بدا من القول:

ـ لنسحبه ذلك أسهل!.

لم يجب أحدٌ، تفحصت العيون وجدتها مرتبكة، لكننا أمسكنا أطراف البطانية بصمت وسحبناه سحباً. كنتُ في المقدمة وجواري ـ كامران ـ نسحب من جهة القدمين. كنتُ أتوجع على وقع ما ينتاب الوجة المحتقن المنتفض المتجسد أثناء سحله على مجرى يابس مغطى بالحصى والصخور. مع كل خطوة على المنحدر، يهتز وجه الميت العابس، وكأنه يكاد ينفجر صارخاً كي ندعه وشأنه.. هكذا كنت أحس طوال عملية السحب المضنية حتى قاع الوادي. جلسنا حوله متعبين، نرمقُ السفوح والخريف المشتعل على الأشجار والأرض لوحةً توجع حواسنا. دخّنا في استراحتنا الوجيزة سجائرنا بأنفاس مضطربة، ثم نهضنا بعناء. حملناه ملفوفاً بالبطانية نفسها؛ بيضاء مخططة طوليا بخطوط خضراء ثخينة. كنتُ أقودهم نحو المكان. المسافة لا تتجاوز عشرين متراً لم نسترح خلالها.. وتحت شجرة معمرة هائلة العلو بان الشق الذي أقترحته عميقاً يغور تحت لوح ساحة كرة القدم. حشرناه في التجويف. حشرناه في رحم التراب، بين الجذور المتشعبة العظيمة، ورحنا نرتب الحجر على جسده وحوله. كان الوجه المتورم ينتفض مع كل صخرة تسقط عليه، تخيلته غافياً رُش بحفنة ماء، وسرحتُ.. سرحت غاطاً في بهمة مشاعر متناقضة.. عطف.. شفقة.. رعب.. فقدان.. أهلكني الاحتدام وجعل حركتي بطيئة، فمع كل رمية حجر شرود قصير، أجد نفسي فيه ضائعاً في بهمةِ أوديةٍ باردةٍ خاوية.. مهجورة وطأتها في جوباني مع مفارز الثوار في شعاب ومتاهات الجبال، فأستبهمت عليّ الأحاسيس ملتبسة فارغةً من جوهرها.. الحب.. الحقد.. الغيرة.. الطيب.. الخبث.. البخل والبذل.. الخيانة والوفاء.. الشجاعة والجبن.. التضحية والأنانية.. الشوق.. الغربة.. الأحلام.. النشوة.. الألم.. الحيرة.. الغبطة. عدتُ من شرودي، فشدهتني حيوية الرفاق المنهمكين بتغطية الجسد الساكن منتقين من حجر المجرى أثقله، دون مراعاة لأحزان الراقد الذي كان حميماً ليل البارحة، صاحوا بيّ:

ـ بربك أسرع.. لازم نغطيه زين حتى ما تاكله الحيونات ولاتجرفه سيول الربيع.. أسرع حتى لانرقد جواره.

أسقطنا حجراً كبيراً على الوجه وهو أخر قطعة في الجثة لم تغط. حشونا الفجوات والفراغات بين كدس الصخر إلى أن توارت ملتئمةً بجدار المجرى. قبل أن ننعطف في المنحدر باتجاه ـ الزاب ـ التفت إليه أخر مرةٍ، بدا كصخرة بيضوية بيضاء بحجمه، تركن تحت قامة الشجرة العملاقة، المنتصبة على حافة أخدود المسيل الجاف.

لم نسترخِِ. كنا نوسع الخطى مفكرين بدفن جثة رفيقنا ـ أبو سعد ـ المسفوحة على حافة النهر المقابلة تحت المعبر الأول. ذكرتهم بذلك مما جعل خطونا أقرب إلى الركض منه إلى المشي. بلغنا جرف النهر الهادر فرأينا على الضفة المقابلة مجموعة من الرفاق الذين قدموا من مقر (شيقيا) مستطلعين الأمر. وأول ما وجدوه هي جثة رفيقنا ـ أبو سعد ـ فدفنوه كما عرفنا لاحقا في الساحل الرملي لنهر ـ الزاب الأعلى ـ المنحسر وقت الخريف على أمل هدوء الأوضاع ومرور الأزمة، فنعيد دفنه بما يلق به.

عدنا إلى موقع المكتب السياسي في ـ كاني ساركي ـ بعد الظهر بقليل مستصحبين ـ عمودي ـ و ـ منذر ـ شبه المجنون.

بقينا حتى المساء حائرين إلى أن قرر ـ أبو الجاسم ـ الذي كان مسؤول الموقع الأنسحاب صوب الحدود التركية وحرق كل شيء.

لا أنسى ذلك المشهد أبدا، وكأنه مشهد سبق لي رؤيته حياً. مشهد روائي عشته لغةًًً حينما كنت إبن الخامسة عشر حينما قرأت رواية الحرب والسلام ـ لتولستوي ـ.

كان الموقع مبني على فسحة ضيقة تبرز من سفح حاد قريب من القمة، يشرف على عمق جغرافية الحدود العراقية التركية. تحتنا ـ الزاب الأعلى ـ  والطريق الممهد من ـ كاني ماسي ـ  حتى مجراه. تقرر حرق كل شيء.. نفذنا الأمر حاملين ما هو ضروري لنتسلق القمة بإتجاه الحدود التركية حيث سبقنا سكان القرى الأكراد.

ومن هناك ابتدأت رحلة أخرى سردها يعنى سرد محنة العراق والعراقي بشقه الكردي حيث جربت المقاومة من هناك. سأعود إلى هذي التفاصيل عند سنوح الفرصة.

عدت إلى نفسي، فوجدتني مستلقياً على سريرٍ ناعمٍ  يسع شخصين، في غرفة وثيرة في طابق خامس وسط مدينة ـ لاهاي ـ الهولندية. الفجر تسلل من شباكها العالي المفتوح على سماء مدلهمة بالغيوم. لم أزل مشدوها ملبوكاً ضائعا في ذاكرتي الدامية.

ـ هل غفوت وحلمت بكل هذا أم كنت صاحيا أعيش تلك التجارب الدامية في حلم يقظة؟!.

ـ لا أدري!.

 الفجر نشرَ فضته الفاترة في سماء النافذة العالية. شعرت بإنهاك مباغت وتمنيت لو كنت في بيتي المعزول في الدنمارك أسكر وأنام بعمق غير آبه بالغد مهما تكن ذكريات ليل الشجن والتجربة. همدتُ مغطياً رأسي بالوسادة الناعمة متخيلاً لحظة سقوطي في النوم والأحلام. تأرجحت على حافة الغفوة.. وما أن أطبقتُ أجفاني حتى رنّ التلفون. رفعت السماعة، فجائني من الطرف الآخر صوت صبية، شديد النعومة أخبرتني  بأن التكسي سيصل بعد نصف ساعة. وضعت السماعة وتطلعتُ في ساعتي اليدوية كانت تشير إلى السابعة والنصف.

*          *          *

تركتُ السرير نشيطاً وكأنني نمتُ الليل. أخذت دشاً. ارتديتُ ملابسي. نزلتُ إلى الطابق الأول. تناولت فطوري قطعة جبن وخبز أسود وفنجان قهوة. هبطت بالمصعد إلى  باحة الفندق جلست دقائق معدودة أحملق عبر الواجهة الزجاجية العريضة بزحمة المرور وحركة المارة سمعتُ أحدهم يناديني بأسمي. التفت. وجدتُ رجلاً أسمر متجهم القسمات يدعوني لأصطحابه. أخبرني بأنكليزية متعثرة أنه سائق التاكسي المكلف بإيصالي إلى مبنى المحكمة. جلست على المقعد جواره صامتاً. أرمق عبر زجاج السيارة السوداء الأبنية والبشر. لم أجد إختلافاً يذكر في المسافة بين الفندق وبناية المحكمة والتي لم تأخذ سوى عشر دقائق، لم ألحظ فرقاً بين مركز أي مدينة دنمركية ولاهاي، طراز البناء من الخارج، وصرامة نظام المرور، وإلتزام البشر بتلك القوانين. أوقف السائق السيارة بمحاذاة رصيف عالٍ، وطلب مني التوقيع على فاتورة ظهرت من جهاز ألكتروني جوار المقود. تناولت منه القلم ووقعتُ. أنحنى قليلاً وأشار بيده نحو مدخلٍ طويل عال لا تبان نهايته قائلا:

ـ العنوان!.

ترجلتُ من السيارة. ظللت واقفا على الرصيف أتابع سيارة الأجرة التي غابت في زحمة تقاطع قريب. وقفت مذهولا مثل طفلٍ كما هو شأني حينما أجرد الأحداث من أبعادها. أقفُ وحيداً على رصيف في بلدٍ وصلته البارحة لا أعرف لغته، وترتيب السفر كله جرى عبر الأنترنيت ساعدتني في ترتيب كل شيء بنتي ـ همسة ـ التي تجيد لغات عدة بطلاقة.. فأنا معزول أصلاً رغم عيشي في مجتمع هو القمة في التطور، ليس من ناحية العلم فحسب، بل من الناحية الإجتماعية، فلا يعكر أحدٌ عزلتي قط. نفضت رأسي. وخطوت نحو السلالم الحجرية المؤدية إلى ممر رخامي يمتد طويلا إلى بوابة دوارة تجاوزتها، فصرت في باحة واسعة تنتهي بناصيات مكاتب يجلس خلفها موظفون. طلب مني الموظف الذي توجهت إليه بلغة هولندية لم أفهم منها شيئاً، قدرت معنى السؤال، فأخرجت الكتاب الرسمي الذي وصلني من المحكمة من جيبي ودفعته عبر النافذة الصغيرة. أشار نحو مدخل في طرف الباحة. أعترض طريقي شخصان فارعا القامة مفتولا العضلات. طلب مني أحدهم نزع معطفي والحزام وتفريغ كل ما في جيوبي، ووضعه على شريط يمر عبر غرفة كاشفة، جهاز يشبه بالضبط ما هو موجود في المطارات. فعلتُ ما طُلب مني،  دخلت أنا أيضا من خلال إطار كهرومغناطيسي فاحص. لم أسأل ما سر هذه الأجراءات الشديدة التي ليس لها مثيل في الدنمارك. فأن تذهب إلى المحكمة أو إلى الشرطة أو حتى عندما ذهبت للقاء محامي الدولة حينما حقق معي بقضية الأنفال، لم يكن هنالك حماية أو أي إجراء. أما هنا فوجدت خلف كل مدخل حارس وبوابة مقفلة لا تفتح إلا من قبل غرفة سيطرة يتوجب على الزائر إبراز ورقة تبرر الزيارة، حتى أحسست حينما وصلت إلى المكان المفترض إجراء التحقيق، وجلست على كرسي خشبي في فسحة أنتظار ضيقة؛ أنني دخلت غرفة من غرف حكايات ألف ليلة وليلة المتداخلة حيث كل باب يؤدي إلى غرفة باطنية، فأخرى، وأخرى فقد عددتُ خمسة أبواب دخلتها وأنقفلت من غرف سيطرة. أنتظرت على كرسي أبادل من خلف نافذة زجاجية موظفة الاستعلامات الشابة الشقراء النظرات كشأني، فتبتسم كلما وقعت عيوننا ببعضٍ. لم يستمر أنتظاري طويلاً فبعد عشر دقائق لا غير، أقبل داخلاً من الممر الضيق شاب نحيف يرتدي قاطا أسود مرتباً بشدة، توجه نحوي ماداً يده اليمنى بكفها الناعمة المفتوحة، فنهضت لأطبق على تلك الكف الصغيرة بكفي الضخمة، بادرني قائلاً:
ـ حسين المترجم!.

لحظتها بان لي كل شيء. دقة هذه الأنظمة في ترتيب الأشياء والأحداث والحياة. أول سؤال وجهتهُ إلى ـ حسين ـ هو عن هذه الأبواب المتداخلة والأجراءات الأمنية الشديدة. أخبرني بأختصار بأن السبب هو كثرة الجرائم التي قُتِلَ فيها المتهم في قاعة المحكمة إنتقاما أو قُتِلَ فيها الحاكم أو المدعي، غضباً من أحكام أو قتل مدعية غسلاً للعار، وغير ذلك من جرائم غامضة الدوافع، كانت تقترف لضعف إجراءات الحماية وغالبية مقترفيها من الأجانب المشكلين نسبة عالية في المجتمع الهولندي.

لم يمنحونا وقتا للحوار. نادتنا شقراء الاستعلامات طالبة منا التوجه إلى الباب الذي يفتح أتوماتيكاً. صرنا داخل قسم التحرك فيه حر. نزعت معطفي وعلقته على علاقة دوارة في زواية الممر الطويل. قطعنا ممراً أضيقَ تنفتح على جانبيه أبواب غرف فيها موظفين منكبين على كمبيوتراتهم غير منتبهين لمرورنا. دخلنا غرفة إلى يسار الممر فسيحة فيها امرأتين، واحدة جاوزت الخمسين تجلس خلف مكتب فخم، وجوارها شابة قاربت الخامسة والعشرين تميل إلى السمنة قليلا تجلس أمام جهاز كمبيوتر. قدمهما المترجم فعرفت أن المرأة الكبيرة هي قاضية التحقيق والشابة السكرتيرة وكاتبة المحضر. سألتني عن أسمي وكل ما يتعلق بالمعلومات المتعلقة بيّ والتي فيها تفاصيل دقيقة. أدركت لحظتها بأن المحكمة هنا كاتبت محامي الدولة الدنمركي Erik Hansen الذي حقق معي قبل خمس سنوات، وبأنها تستند في تحقيقها معي على تلك المعلومات لذا كان سير التحقيق مختلفاً. أود هنا الإشارة إلى دقة بحثهم عن تفاصيل تخصنا أو نعتقد أنها تخصنا فحسب دون الآخرين. أول شيء هو تركيزها على تفاصيل ذكرتها عرضاً للمحقق الدنمركي، كنتُ أعلق على فلم ـ الفيديو ـ الذي عرضه القاضي لنشاهده معاً حيث أظهر في لقاء قصير ثلاث دقائق وأنا شبه عاري، مسلوخ الجلد. كنت أعلق شارحاً المشهد ومصائر الرفاق اللاحقة حينما ظهر ـ أبو الوسن ـ و ـ أبو سعد ـ مثلاً فأخبرته أن الأول قضى في قصفٍ لاحق، والثاني أنتحر في نفس القصف فكان يوقف اللقطة على الرفيق الذي أحكي مصيره، فالمحققة الهولندية ركّزت ومنذ بداية الحوار لا على ما أصابني بل على ما شاهدته. لحظتها أدركت عمق وذكاء المحققه التي حاولت استخلاص تيمات التجربة من  ضحية صار شاهدا لاحقاً.

وهذا ما حرضني أصلاً على تحرير هذا النص الذي رويته شفاهيا لها. أستوقفتني عدة مرات أستطيع تسجيلها الآن. أول سؤال سألتني عن الانتماء القومي للمصابين في القصف الكمياوي في 21 ـ 8 ـ 1988. فأجبتها على الفور كونهم غالبيتهم من العرب، ففغرت فاها عجباً، ورمقتني بشرود معلقة:

ـ يعني لستم أكراد!.
قلت:
ـ لا.. الكثير ممن كان في الموقع وأصيبوا هم عرب ومسيحيين ويزيديين وصابئة  وأكراد، فالدكتاتور لم يوفر أحدا بل سحق الكل!. وهذا ما صار معنا وسوف تشاهدونه في فلم الفيديو الذي جلبته معي.
الشيء الثاني الجوهري الذي حاصرتني فيه المحققه الهولندية هو سؤالها عن الكيفية التي أدركت فيها بأن القصف الذي أصابني في 5 ـ 6 ـ 1987 هو بغاز الخردل الحارق، والقصف الذي أصاب رفاقي في 21 ـ 8 ـ 1988 الذين شاركت في إنقاذهم ودفن من إستشهدوا هو قصف بغاز الأعصاب.
أجبت:
ـ لست خبيرا لكن ما أصابني في المرة الأولى، من حرق جسدي وعماء هو غير الأعراض التي أصابت رفاقي في القصف الثاني والذي شرحت تفاصيلها عليكم.. لم أفقد عقلي في القصف الذي أصابني، لكن القصف الذي أصاب رفاقي جعلهم شبه مجانين يفضلون العدم على الدنيا في لحظة الإصابة.. عدا كون القصف الذي طال رفاقي لم يخلف أثارا جسدية مثلما هو الحال معنا، فقد تفحصنا أجسادهم. لم نجد أثراً سوى فقدان السيطرة الذهنية التي وصفتها بالتفصيل، ولهذا قدرنا أن نوعية الغاز مختلفة. وسترون الأمر واضحا عند عرض فلم أصابتي وتشاهدون الحروق التي مازالت أثارها توشم جسدي بعد قرابة عشرين عاما.

المحققة الهولندية دقيقة جداً. حققت مثلاً لساعةٍ كاملةٍ عما ورد  في محضر تحقيق محامي الدولة الدنمركي عن رتبتي في الجيش العراقي، فالمترجمة كانت مغربية أرتكبت خطأ كونها لا تعرف بنية المراتب في المؤسسة العسكرية العراقية، فترجمت رتبة نائب عريف إلى نائب ضابط. أضطررت كي أصحح الأمر إلى رسم بياني على سبورة يبين تسلسل المراتب في هرم الجيش العراقي حتى تتعرف بدقة على الفرق بين نائب الضابط ونائب العريف.

لم أكن سعيدا كما هي شهرزاد وهي تروي حكاياتها لشهريار، بل كنت محاصرا بدقة أسئلة هذه المرأة الحيادية. استغرقت مرحلة الأستجواب الأولى من التاسعة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر، قضيتها في رواية ما كتبته في السطور السابقة. كانت تستوقفني أثناء السرد لتلقى سؤالا عرضياً، فأُجيب مستعجلاً، كي أتابع حكاية مقتل رفاقي الدامي.

ـ هل كانت تريد أختبار مصداقية ما أرويه؟!.
لم أفكر في حومة الروي بهذا الإحتمال، لكن حينما ترويت وهدأت وتأملت القضية وجدت بأسئلتها العرضية محاولة لإكتشاف مدى مصداقيتي، لكنني كنت أسرد كمن يفرغ ما يثقل على وجدانه من عنف تجربة فقد فيها رفاق حميمين ونجا بمحض صدفة تبدو كالقدر.

لزمت الصمت حينما بدأوا يتحاورون مع بعضهم باللغة الهولندية. التفت نحو المترجم فقال:
ـ أستراحة الغداء!.
ـ نصف ساعة!.

أسعدني ذلك، فقد أتعبني سرد تلك التفاصيل الدامية. في الطريق إلى مطعمٍ يقع على شارع عام خلف بناية المحكمة، حدثني المترجم عن الكثير من الشخوص الذين قدموا للشهادة هنا، أكراد، يزيدون، مسيحيون، عرب، ومن كل أطياف المجتمع العراقي.. وهمس لي بأن لم يهتم المحققون الهولنديون بأقوال شاهد مثلما أهتموا بما رويته. سألني:
ـ ماذا تعمل؟!.
ـ قلت له أقرأ وأكتب!.
ـ يعني أنت كاتب؟!.
ـ نعم!.

حدثني المترجم عن جهود رفيقي وصديقي العزيز ـ صباح كنجي ـ الذي فقد عائلته كلها في الأنفال في توفير الوثائق للمحكمة بسفره إلى سوريا وكردستان العراق مرات عدة لغرض تجميعها. في فترة ما بعد الغداء، واصلنا من حيث أنتهينا. كانت تطلب سرد تفاصيل التفاصيل وبأسماء الأمكنة والبشر وكل ما يخطر ببالي. لم أذهب أبعد مما أصابني وما رأيته بالضبط في واقعتي قصف 1987 و1988. ما جرى بعد ذلك من أحداث وتفاصيل تفوق فداحتها فعل القصف المباشر لم تطالبني المحققة به. بعد دقائق معدودة، دخل علينا شاب ثلاثيني فارع القامة بصحبة شابة تمسك بيدها ملفاً. فتوقفت عن الكلام. قدمهما المترجم إلي قائلا:
ـ المدعي العام الهولندي ومستشارته القانونية!.

ظلا واقفين يتابعان مجرى التحقيق دون أن يتدخلا، إلى أن أكملتُ كل التفاصيل التي رويتها، وأجبت على جميع الأسئلة، فطلبت المحققة مشاهدة الفلم الذي حملته معي. أعتمت الغرفة بأسدال الستائر، ورتب جهاز العرض. علقت على المشاهد مشهدا.. مشهدا، شارحا أبعد من الصورة. كان الأربعة يشخصون صوب المشاهد المتتابعة، منصتين بنفس الوقت إلى ـ حسين ـ الذي يترجم ما أقول. كنت أتتبع قسماتهم، فاغري الأفواه يحملقون برفاقي وهم يتلون ألماً محروقي الوجوه والأجساد. يسعلون بشدة واضعين أيديهم على عيونهم غير قادرين على مواجهة ضوء الشمس. ولما كنت أعرف الفلم مشهداً.. مشهداً وبالتفصيل لكثرة ما شاهدته فقد أنصرفت إلى تتبع الألم الذي رسم وجوه الهولنديين الأربعة.. ألم وأستنكار للفظائع التي يرونها، في المشهد الذي يظهر فيه كتفي الأيمن في لقطة كلوز مليئا بالفقاعات محروقا. طلبت إيقاف اللقطة وأردت أن أتعرى كي يرون أثار تلك الفقاعات والحروق على جسدي. قال المدعى العام:

ـ لا داعي لذلك فنحن مصدقيك!.

في نهاية العرض والتحقيق، طلبوا مني إستعارة الفلم، فلم أوافق كون النسخة وحيدة لدي، فأستنسخوها. بعد ذلك أقترب مني المدعي العام بوجهٍ متألمٍ، متعاطف فيه خجل، وقدم لي أعتذاراً باسم المحكمة والعدالة الهولندية والشعب عما أصابني، ووعدني بأنزال أقصى عقوبة يتيحها القانون الهولندي بتاجر الأسلحة الهولندي الذي ساهم بتعويق حياتي، بتزويد الدكتاتور بمواد خام أتاحت له تصنيع الأسلحة الكمياوية. (قبل أن يميز المتهم الهولندي ـ فان فرانس)

.  ـ كان قد حكم بـ 15 عاماً سجناً، وبعد التمييز زيّد الحكم في محكمة التمييز إلى 18 عاماً كما تناقلت الصحافة الهولندية والعربية)

أستيقظ كل صباح باكرا. أعد القهوة منتظراً بدء المحاكمة، مغتبطاً مما سيؤول إليه مصير من عوقني وجعلني أجود بنفسي سعياً للفوز بالهواء منذ تلك اللحظة وحتى مماتي!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رسائل المحكمة الهولندية

Planning for witnesshearing 

التاريخ:   Wed, 29 Nov 2006 08:18:12 +0000 

المرسل:  Korving, C. (Rechtbank 's-Gravenhage) <c.korving@sgrarr.drp.minjus.nl>

إلى:       'salam54@maktoob.com' <salam54@maktoob.com>

Dear mister Ibrahim,

first of all, I would like to thank you for your willingness to come to

Holland in order to testify in a Dutch criminal case against Frans van

Anraat.

I would like to know if it would be possible for you to come to Holland in

the period from 08th untill the 9th of January 2007.

If it will be possible for you to come, than I will make the flight-and

hotelarrangements for you.

Thank you very much in advance for your reaction.

 

Kind regards,

Carola

 

Carola Korving

Rechtbank Den Haag

Kabinet Rechter-commissaris

Internationale Misdrijven

Tel: +31 70 3813419

Fax: +31 70 3813207

***************************************************

Aan dit bericht kunnen geen rechten worden ontleend.

Ministerie van Justitie.

************************************************

 

            Information about meetingpoint at Schiphol 

التاريخ:   Thu, 14 Dec 2006 09:52:36 +0000 

المرسل:  Korving, C. (Rechtbank 's-Gravenhage) <c.korving@rechtspraak.nl>

إلى:       'salam54@maktoob.com' <salam54@maktoob.com>

Dear mr. Ibrahim,

hereby I send you the information about how to find the meetingpoint at

Schiphol.

When you can not find the taxidriver, please call: 0031612997703

<<Schiphol super klein.gif>>

 

Kind regards,

Carola Korving

 

Carola Korving

Rechtbank Den Haag

Kabinet Rechter-commissaris

Internationale Misdrijven

Tel: +31 70 3813419

Fax: +31 70 3813207

 

*********************************************

Aan dit bericht kunnen geen rechten worden ontleend.

Ministerie van Justitie.

*********************************************

 

Ministerie van Justitie

Servicepunt IFAD, H732

Betreft Arrondissement Den Haag (JARHAG)

Consultant Guest Marco Esposito

NL - 2500 EH 'S-GRAVENHAGE

Postbus 20301

Pagina 1

11/12/2006

Reis document 2018939

Datum

Itinerary

::::

Passagier(s): IBRAHIM SMR

SAS SK1549 Klasse S - Economy Class

14:55 COPENHAGEN (CPH), Denemarken Bevestigd

16:20 AMSTERDAM (AMS), Nederland Referentie Q7X8M8

Vlucht

08/01/2007 Status:::

SAS SK 554 Klasse S - Economy Class

20:15 AMSTERDAM (AMS), Nederland Bevestigd

21:35 COPENHAGEN (CPH), Denemarken Referentie Q7X8M8

Vlucht

09/01/2007 Status:::

Hallo Carola,

Hierbij stuur ik je het reisschema voor Dhr Ibrahim

Uw reisschema is ook opvraagbaar via Internet. Ga naar www.atp.nl/reisschema en vul hier het referentienummer van de

reis en de achternaam van de reiziger in.

Het luchtverkeer ondervindt vertragingen als gevolg van aangescherpte veligheidsmaatregelen bij check in en door

strenge controle op de handbagage.

Het is daarom van groot belang dat u ruim op tijd aanwezig bent op de luchthaven. Voor meer informatie, raadpleeg uw

ATP kantoor of de website van de luchtvaartmaatschappij.

De maximale afmeting van handbagage is m.i.v. 6 november 2006 door de EU vastgesteld op 56x45x25 centimeter.

Grotere bagage moet als ruimbagage worden ingecheckt. Vloeistoffen moeten verpakt zijn in plastic flesjes van

maximaal 100 mililiter. Deze flesjes moeten verpakt worden in speciale kleine doorzichtige plastic tasjes. Deze tasjes

zijn vooralsnog alleen op luchthavens verkrijgbaar.

Op al onze diensten zijn de geldende leveringsvoorwaarden van toepassing.

Op verzoek kan een exemplaar van deze leveringsvoorwaarden worden toegestuurd.

Deze leveringsvoorwaarden zijn gedeponeerd bij de kamer van koophandel.

ATP Government Travel, implant Justitie (is a trade name of ATP Business Travel)

Schedeldoekshaven 100 | 2511 EX | Den Haag, The Netherlands

T +31(0)70 3306840 | F +31(0)70 3646881 | www.atp.nl |

Chamber of commerce number

 

القسم الثالث
التشرد ـ ما لم يطلبه المحققون ـ
فتحتُ بريدي الألكتروني في صبيحة يوم ممطر عاصف من شتاء 2004، فوجدت رسالةً مقتضبة من زميلي وصديقي ورفيقي ـ يحيى غازي رمضان ـ  كان طالباً معي في المعهد الزراعي الفني ببغداد 1973ـ 1974 حيث نشطنا وقتها بتنظيمات ـ أتحاد الطلبة العام ـ السرية (وهو واجهة من وجهات ـ الحزب الشيوعي العراقي ـ المتحالف وقتها مع البعث) التي منعتها سلطة البعث بعد سنة 1975. الرسالة تتساءل عن شخصي وهل أكون أنا هو المقصود. فيحيى قرأ نصاً منشوراً أرثي فيه صديقي الشاعر الشعبي ـ عزيز سماوي ـ الذي مات بغتة في منفاه الأنكليزي 2002. النص ذكرتُ فيه حادثة قديمة جدا تعود إلى تلك الفترة؛ عن بكاء عزيز سماوي حينما أضطر النحات ـ منقذ شريدة إلى ضرب شابين كنت قد تعرفت عليهما في ليلة من ليالي تسكعي السابقة، وكنا لتونا قد خرجنا من بار ـ  سرجون ـ في شارع ـ أبو نؤاس ـ وسط ـ بغداد ـ، وذكرت بكاء ـ عزيز ـ الحار جراء فعل الضرب الذي يمقته. ذكر لي ـ يحيى غازي ـ أنه تأكد من شخصي رغم أرباك الاسم فهو يعرفني باسم ـ سلام عبد إبراهيم ـ بينما النص المنشور كان باسم ـ سلام إبراهيم. تأكد من هذه الحادثة من شخصي فقد كان معنا في تلك الجلسة لكن الاسم أربكه، وأنا لم أره منذ أواسط سبعينات القرن العشرين، أي منذ قرابة ثلاثين عاما. 

قفزتُ من كرسيي، وصرخت من هول المفاجأة، حينما مرت عيني على السطور التي يخبرني فيها بأنه جواري في مدينة ـ مالمو ـ السويدية هو وعائلته. رددت عليه فوراً، فردَّ وكأنه كان ينتظر جوار الكمبيوتر. أتفقنا على اللقاء في محطة قطارات كوبنهاجن الرئيسية.

تحممتُ. حلقت ذقني. لبستُ أبهى ما لدي من قميص وكأنني ذاهبٌ للقاء حبيبة.. فهو زميل وصديق تآلفتُ معه في ماضٍ صار بعيداً، وضيعتنا السنون والأحداث في عراق لم يهدئ يوماً، وبعد ثلاثين عاماً ظهر بغتةً قريبا في المنفى. أخذت القطار المتجه نحو كوبنهاجن، خفيفا وكأنني موشك على الطيران. جلست جوار النافذة الزجاجية العريضة، وسرحتُ بعيداً إلى تلك السنين حينما كنا نعتقد بأننا سندير دفة العالم قريباً، وسنحول الكرة الأرضية إلى ـ جنة ـ يطبق فيها مبدأ الحلم الماركسي ـ كلٍ حسب قدرته.. وكلٍ حسب حاجته ـ. تذكرتُ كيف أخذني إلى مدينته ـ العزيزية ـ التابعة لمحافظة الكوت. واللحظة التي دخلت فيها بيتهم مساءً. كنا نجتاز المدخل، فلمحت من باب غرفة الأستقبال النصف مفتوح أباه بلحيته البيضاء الطويلة وثوبه الأبيض الطويل يمارس طقسا غريبا عليّ. عندها فقط عرفت أن يحيى من الطائفة الصابئية. وقتها كنا أقرب للإنسان كمفهوم ووجود من فكرة الطوائف والقوميات. كنا أجمل الناس. أخذته إلى مدينتي ـ الديوانية ـ فأصبح صديقاً لأخي الرسام ـ كفاح عبد إبراهيم ـ الذي قتلوه في أقبيتهم لاحقاً. هاأنذا في طريقي إلى قطعةٍ من ماضٍ يذكرني بأسطع أيام شبابي. 

ترجلتُ من سلالم القطار الثلاثة القصيرة، ونهبت الرصيف واضعاً قدمي على السلم الألكتروني متخيلا شكله القديم قائلاً مع نفسي:
ـ سيطالعني حتما عند حافة السلم الصاعد!.

فقد كان دقيقاً في المواعيد مثل ساعة، عملي، مضوبط، متوقد، يأخذ الدنيا بما فيها، يستطيع التأقلم مع أي ظرفٍ، وهذا حسب تقديري ما أبقاه حياً، ومنحني فرصة رؤيته بعد غبار ثلاثين عاماً مرت مثل حلم. ما أن نقلتُ قدمي اليمنى من السلم المتحرك وصرت في باحة المحطة حتى أقبل نحوي صارخاً بنفس ملامحه القديمة، نفس الحيوية. فتح ذراعيه دامع العينين وأعتنقني صارخاً:
ـ سلام.. سلام.. سلام..

وأجهش!.
تصلب دمعي وأذهبتْ بهجة رؤيته حزني. هدأته قائلاً:
ـ اليوم سنضيع كما كنا شباباً، فلا تفكر في العائلة أو العقل حتى!.

كان يوماً فريداً ماتعاً ضعنا فيه، وكأننا لم نزل طلبة لتونا بلغنا حافة العشرين، متحررين من وطأة العائلة والمدينة وضائعين بدهشة العاصمة ـ بغداد ـ مثقلين بهاجس المساواة والحرية. وعن تفاصيل هذا اليوم قصة أخرى ليس مجالها في هذا الموضع. لكن المهم في ذلك اللقاء أكتشافي أن صديقي ـ يحيى غازي الأميري ـ (هو الآن صحفي وكاتب مقال بارع ونشيط على صفحات الأنترنيت والصحف أتمنى أن  يكتب شهادته عن الأنفال) كان شاهداً على نفس التفاصيل التي أرويها ورويتها عن ـ حملة الأنفال ـ من جانب الجيش العراقي وقتها.

أفضى كل منا للآخر قصته منذُ فراقنا عام 1975. لخصت سيرتي حتى الأنفال وتشردي مع زوجتي في معسكرات اللجوء التركية والإيرانية. بالمقابل سرد لي ما كانه؛ أستقال من وظيفته زمن الحصار، وفتح محلاً لبيع الذهب بالجملة قرب سوق السراي، وأنشغل بأمور الطائفة الصابئية، والوسط الثقافي العراقي، وفجأة سألني:
ـ سلام بيا منطقة كنتم بكردستان!.
ـ في وادي يسمى ـ زيوة ـ على مجرى الزاب الأعلى خلف العمادية!.
صرخ على الفور مدهوشاً:
ـ وحدتي بالأنفال كانت هناك!
راح يروي لي تفاصيل قصته، فقد سِيقَ جندي أحتياط، فخدم في وحدة عسكرية كانت من مهامها الزحف على المناطق التي كنا فيها في ـ بهدينان ـ مع فرق الجيش عقب إيقاف الحرب العراقية الإيرانية في 8 ـ 8 ـ 1988 التي أجتاحت القرى المحررة وقواعد الثوار الذين أنسحبوا إلى الأراضي التركية والإيرانية.
قال:
ـ كنت في قلم الوحدة نتتبع خلف زحفها ونسجل الخسائر والأسرى ونؤمن وصول التموين.

وأفاض في وصف خطوط سيره ذاكرا أمكنة وأرياف كنا فيها أسياداً، طريق زاويته ـ سرسنك ـ، العمادية ـ ديره لوك، الطريق ما بين زاخو ودهوك، بامرني، ذات التضاريس التي كنت أجوب فيها حاملاً بندقيتي في مفارز متنوعة قتالية وأعلامية وتموينية. ذات الأماكن ورفيقي القديم في صفوف اليسار العراقي مع العدو يسجل غنائمهم، ماطورات ماء، مولدات كهرباء، بطانيات، مشاجب أسلحة لم يلحق الثوار في سحبها أو إخفائها. كنت أنصت متأملا ـ عراقيَّ ـ العجيب الذي جعل رفيقين ليس  ذلك فحسب بل حبيبين يتقاتلان.أنصت إلى صديقي وهو يقص عليّ ما كان يجري في الطرف الآخر. كنتُ تواقاً لمعرفة مصائر بشرٍ وحيوات ضاعت إلى الأبد في تلك المذبحة التي لم يحرك العالم وقتها ساكناً. لا أمريكا ولا الإتحاد السوفياتي ولا أوروبا، فالجميع كانت لديه مصالح مع ـ الدكتاتور صدام ـ وقتها. الجيش العراقي بسيطرته المباغتة على سلسلتي جبال گارا ومتين، حاصر مواقع عديدة للثوار وسكان القرى المحيطة بتلك المواقع المنتشرة حتى أطراف دهوك والموصل. فالفوج الأول التابع لبيشمركة الحزب الشيوعي العراقي حُصٍرَ بأكمله، ومعه عشرات القرى من سكانها الفلاحين الأكراد البسطاء، وسكان عوائل من إلتحق بالثوار والذين هجروا لهذا السبب.

تمكن المقاتلون من التسرب نحو دول الجوار، لكن عوائلهم وجّلهم من الأكراد اليزيدية لم يكن أمامهم خياراً سوى التسليم، فهم مثقلون بالأطفال والعجزة والنساء، وجميع من سلّم من تلك القرية التي قامت جوار الفوج القائم في وادٍ يدعى ـ مرّاني ـ ضاعوا إلى الأبد ولم يعثر عليهم حتى في المقابر الجماعية المكتشفة حتى الآن. كان ـ  يحيى ـ يقص عليّ تفاصيل يومه، وهو يجوب في سيارة جيب عسكرية، ملاحقاً خط سير وحدته حتى دخولها مواقعنا على الزاب، فقد وصف جغرافية الوادي والمجرى بدقة وبعينين مدهوشتين من تلك الأمكنة الساحرة، وسماه بالأسم ـ موقع الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكردستاني ـ عندما وصل إلى هذه النقطة قاطعته متسائلا:

ـ ماذا صار بالعوائل والبشر التي لم تتمكن من الوصول إلى الحدود التركية؟!.

 

عائلة النصير ـ صباح كنجي ـ التي حجزت في قلعة دهوك أختفى أثرهم إلى الآن

 

كنا نسير في شارع مكتظ وسط كوبنهاجن في يوم شتوي بارد رطب، والمساء هبط منذ حين معّتماً الوجوه والجدران التي تظللت بمصابيح الطرق والتقاطعات. توقف عن السير وأغتمت قسماته قبل أن يبدأ بسرد ما جرى لأولئك الذين شغلوا بالنا طويلاً، ونحن نتشرد عبر الحدود في معسكرات لجوء سنرى فيها الذل والويل، فرغم عناء التشرد في طريق هروبنا الطويل نحو الحدود كنا نفكر بمصائر كل من قطع الجيش عليه سبيل الحدود. كنتُ أتخيل عنف ما سيواجوهونه وهم يقعون في أسر تلك المؤسسات التي تحولت لفرط عنفها إلى مسالخ بشرية. أتخيل ذلك وفي نفسي يقوم رعب تجارب الأعتقال التي تعرضت لها في حياتي، والتي لم أكن وقتها ناشط سياسياً، بل كنت أرفض الإنتماء إلى حزب السلطة ولدي علاقة بمثقفي اليسار ومثقفين أكراد ناشطين سياسياً. أحرز في نفسي عارفاً مدى قسوة تلك السلطات، فيقشعر جسدي متخيلاً ما سوف يلاقونه على أيدي الأجهزة الأمنية ومنتسيبها الفارغين من الضمير والعاطفة.

لم أخبر ـ يحيى ـ بهذه الأحاسيس الدفينة، لكنني تقت، بعد قرابة أكثر من خمسة عشر عاما على تلك التجربة، إلى معرفة ما صار بتلك الذوات التي أختفت إلى الأبد.

عاود المسير قائلا:
ـ جمّعوهم في قلعة رهيبة، قلعة قديمة لها بوابات هائلة تستوعب دخول دبابة. القلعة تقع في أطراف دهوك قرب المنطقة الصناعية. كانت العديد من وحدات الفرقة 11 تشغل المكان ومن ضمنها وحدتنا ـ كتيبة مدرعات حطين ـ. كانت الوحدات تشغل الطابق الثاني، أما الطابق الأرضي فقد جمعوا في باحة القلعة الشاسعة، الآلاف العوائل المتلاصقة إذ حددوا لها مكاناً مسورا بأسلاك شائكة، تركوهم أياماً دون أغطية ولا طعام. كنا نتمزق ونحن نطل من الطابق الثاني على تفاصيل معاناة النساء والأطفال والعجائز وبعض الشباب حيث لا يسمح الذهاب إلى التواليت فيتغوطون أمام أنظار بعض في وضع مزري. كنا نتمزق كجنود على ما يجري تحتنا في باحة القلعة الشاسعة.

توقف موتراُ قامته القصيرة، ورمقني بنظرة عميقة وقال:
ـ هل تعتقد يا سلام أن الجندي العراقي المساق قسراً لإداء الخدمة العسكرية يقبل مع روحه بما يجري في باحة القلعة؟!.
لزمت الصمت:
ـ لا.. لا.. سوف لا أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي جعلني أنحب بكتمان، وينتحب من حولي الجنود لائذين خلف أعمدة طارمة الطابق الثاني. كنتُ في غرفة القلم أرتب البريد وأرد على الرسائل حينما سمعتُ ضجة وصراخ وشتائم وبكاء أطفال ونساء يأتي من باحة القلعة، فتركت ما بيدي وأسرعت بالخروج من الغرفة. ومن حافة سياج الشرفة الطويلة رأيت رجالً أمنٍ بملابس مدنية يصرخون مطالبين بخروج جماعة ـ خالد ـ لا أعرف ماذا تعني جماعة ـ خالد ـ حتى الآن، كانت الكتلة المحجوزة تتكتل ملتمة فتحولت إلى كتلة واحدة، محاولة حماية المطلوبين. عندها تجنن رجال الأمن، وأنهالوا على الكتلة ضرباً بالكبيلات المحشوة بالحصو، فتفتت الكتلة، وسط صراخ الألم، وسحبوا المطلوبين سحباُ خارج الدائرة. طروحوهم أرضا، ووضعوا على أجسادهم الناحلة إطارات قديمة لمدرعات وجلسوا عليها لدقائق. بعدها راحوا يقفزون ضاغطين على الأجساد المختنقة وسط عويل امهات وزوجات وأطفال من يُعصر ويُخنق تحت الإطارات. توقف ولزم الصمت لدقيقة. تفحصته خلالها بعمق، كان يرتجف وكأنه يرى المشهد الذي يرويه الآن لا قبل قرابة عشرين عام.
ـ يا صديقي قتلوهم خنقاً تحت ضغط الإطارات أمام أعيننا. ولحظة لفظ أنفاسهم الأخيرة ضجت الزوجات والأمهات بالعويل والنحيب، والندب بترديد ما يشبه أشعار الرثاء باللغة الكردية.

 

أطفال الأكراد اليزيديين الذين حجزوا في قلعة دهوك وضاع أثرهم حتى الأن وهم يغنون في موقع  كلي ـ مراني ـ بسلسلة جبال گارا

كنت أستمع لرواية صديقي القديم ـ يحيى غازي الأميري ـ مستعيداً وجوه وقامات العديد من المقاتلين الذين حينما خيروا بين ترك الأهل والأختفاء بأمل التسلل إلى دول الجوار أختاروا البقاء مع زوجاتهم وأطفالهم وهم من واجه عناء القتل والذل المضاعف. أشطح بذاكرتي إلى تلك الوجوه الكردية التي أحببتها والتي ضاع ذكرها إلى الأبد، كما هو الحال مع عوائل اليزيديين الأكراد ممن أسر في حملة الأنفال وأندمل أثره.
طوبى لكل من أختار البقاء والموت بين عائلته دون مرارة المنفى.
طوبى لأخي الشهيد ـ كفاح إبراهيم ـ الذي أدرك باكراً كذبة الدنيا وفنى ذاته لشرف الموقف وصار رمزاً.
طوبى لإلتباس الحال وأنا أنصت لصديق قديم يحدثني عن محنة الدنيا حيث يجد الإنسان نفسه في موقف يرثى له كحاله وهو يطل من حافة سياج طارمة طابق ثاني في قلعة دهوك، على مذبحة لم يدرك أحدٌ وقتها مقدار فداحتها.

بغتة سألني عن مجموعة عُثِرَ عليها مرميةً بالرصاص:
ـ لم قتلتوهم؟
لم أكن أعرف عمن كان يتحدث، يبدو أنهم لم يكونوا من طرف الثوار. أجبت:
ـ لا أعرف عمن تتحدث؟!. وكنت أعرف لكنني لم أشأ أخباره.

بقيتُ أنصت وأتخيل خطاه وهو يمرُّ على نفس الأمكنة التي جبت بنواحيها طوال سنوات، عن سفح سلسلة ـ متين ـ وعن الشارع الرابط بين الفوج الثالث ومقر قاطع بهدينان في وادي ـ زيوه ـ. فعاد بيّ إلى ذلك الغروب الشاحب يوم دفّننا رفاقنا الثلاثة الذين قضوا في قصف زيوة، أبو الوسن ـ أبو سعد ـ أبو جواد.

عدنا متعبين من تلك الظهيرة المهلكة وبصحبتنا كل من ـ عمودي ـ و ـ  منذر ـ وكان الأخير يهذي شاتما كل شيء ويتحدث بكلام غير مترابط، بينما الأول يعيد سرد أحداث تلك الليلة المروعة التي قضوها تحت القصف. في المساء قرر الرفاق الإنسحاب بإتجاه الشريط الحدودي العراقي ـ التركي والتوجه صوب المثلث التركي ـ العراقي ـ الإيراني حيث المقرات الرئيسية. حملنا ما هو مهم من وثائق وحاجيات، سرجنا البغال الثلاثة، وتجمعنا على فسحة ضيقة في السفح. كنت مع رفاق أربعة نرش النفط على الغرف والقاعة الكبيرة والمطبخ. كانت تنتابني مشاعر مختلطة عميقة لا تنسى؛ أسف على أمكنة وجدت فيها حريتي رغم مخاطر الموت وقسوة حياة الجبل البدائية يختلط بمشاعر رسخت في ذاكرتي من رواية ـ الحرب والسلام  لـ ـ تولستوي ـ والروس يحرقون المدن وينسحبون أمام زحف ـ نابليون ـ، يضاف إلى المجهول الذي ينتظرنا خلف القمة التي نقف على سفحها. شعرت بمتعة خفية لما حككتُ عود الثقاب بالكبريت فتوهج. رميت به على القاعة المشبعة بالنفط فشّبت النيران. كنا ثلاثة كلفنا بحرق المقر. صعدنا بعدها خلف الرفاق الذين توقفوا عند منتصف السفح يرمقون النيران تتصاعد من أرجاء مقر ـ فصيل المكتب السياسي ـ للحزب الشيوعي العراقي ـ. كتلة نار هائلة تصاعدت في دقائق متوهجةً أضاءت وجوهنا في ذلك الغروب الحزين المضطرب بأصوات قذائف وانفجارات بعيدة. كان الجميع يحملق مذهولاً غير مصدق ما فعلناه، فقد أحرقنا كل ماكنا نحرص عليه من مستلزمات الحياة. بدأنا بتسلق السفح الحاد والوعر. وقتها كنت نشيطاً قوياً رغم أصابتي السابقة. كنتُ في المقدمة. كلما أرتفعنا يبدو المشهد تحتنا ساحراُ كما في الأفلام والروايات. قافلة غالبيتها رجال كبار السن وشباب مصابين في معارك سابقة؛ أبو نصار ـ جابر هجيل ـ مقطوع الساق يركب بغلاً تقوده زوجته ـ أم نصار ـ. وزوجتي ـ ناهدة ـ (بهار) تحمل طفلتهما ـ لهيب ـ بنت الشهرين وبندقيتها والحقيبة القماشة التي فيها وثائقنا الحقيقية. نصعد بعناء لاهثين وتحتنا في عمق الأودية أنتشر الظلام على إيقاع قصف يتخافت قليلاً.. قليلا.. بينما تتضائل كتلة النار التي كانت مسكننا الليلة الفائتة. ظللنا نمشى طوال الليل في شعاب معتمة وطرقٍ وعره، إلى أن بلغنا سكان القرى الأكراد المتوجهين نحو نقاط معينة من الحدود التركية، تبين لاحقاً أنها نقاط عبور بين البلدين. نضطر للتوقف وقتاً قصيراً لتناول الطعام الذي كان عبارة عن لحوم معلبة وخبز حملناه معنا من المقر، فيفضي لنا سكان القرى الأهوال التي رؤوها. قتلى بالقصف. أعتقالات بالجملة لمن لم يتمكن من الهروب.  شابة كردية جميلة الملامح من القرى المحيطة بالعمادية، لا أنساها ما حييت، تندب مولولة بغناء كردي حزين وتتمايل مثل سكرانة يمينا شمالاً رافضةًً توسلات النسوة المحيطات بها اللواتي يحاولن جعلها تأكل قطعة خبز أو تشرب جرعة ماء. سألت رجلاً من تلك القافلة عنها. فأجابني:
ـ مسكينة.. ضاعت ابنتها أثناء عبورنا نهر ـ الشين ـ!.
ـ كم عمرها؟
ـ خمس سنوات!.
كنا أخف وأسرع من قوافل الفلاحين الأكراد المثقلين بالأطفال والزوجات ربات البيوت المسكينات، وما يتطلب وضعهم من مستلزمات. فهم خبروا مثل هذه المحن، ويعرفون ما ينتظرهم من ظروف فقر مدقع وعناء في معسكرات اللجوء في دول الجوار. عبرنا عشرات القوافل الصاخبة بصراخ الأطفال وقرقعة أواني الطبخ المحملة على ظهور البغال. كانت الرحلة أشبه بحلم وكنت سعيداُ رغم المحنة، فحبيبتي ـ بهار ـ جواري تسير نحو مجهول غامض في عتمة الجبل حاملةً بنت رفيق معوق، متماسكةً، شامخةً تزيدني قوةً وعزماً، وأنا أصلاً أتوق إلى المغامرة منذ صباي وهاهي التجربة تلقي بيّ صوب نهرها الصاخب الذي لا أدري أين سيصبُ؟!.

اللقطة التي حدثت في الظلام في ذلك المسير الوعر والتي لم أنسَها أبداً هي تلك الصرخة المباغتة التي أعقبها صمتٌ. كنا ننحدرُ على سفح في ظلمة تشبه الفراغ حيث لا ترى حتى أصبعك. كنت أتلمس ما حولي باللمس وكان عليّ وقتها حمل ـ لهيب ـ أبنة (جابر) مقطوع الساق الراكب على بغلٍ والمنحدر أمامي مباشرةً. في ذلك الصمت والظلمة ووقع أقدامنا الخافت سمعت صرخة مباغتة مكتومة تصدر من ـ أبو نصار ـ أعقبها ضجة أقدام البغل الذي تعثر في الظلام بصخرة المنحدر. صرخة مكتومة وحيدة وساد صمتٌ، فتوقفت القافلة. جمدتُ مشلولاً والطفلة بين يدي هاتفاً مع نفسي:
ـ راح أبو نصار!.

تخيلته يسقط وهو مقطوع الساق فيرتطم رأسه في صخرة. تخيلته نازفاً، فشددت طفلته ـ لهيب ـ إلى صدري بقوة وكأنني بهذا الشد أحميه. بعد لحظات بدت كدهرٍ سمعت صوته الموجوع ينادي الرفاق كي يساعدوه، فتنفست بعمق. مع إنبلاج الفجر أصبحنا في جوار معبر حدودي. تجمع على بابه سكان القرى الأكراد. عقدت المفرزة  اجتماعاً تقرر فيه أن تنسلخ عوائل الأنصار عن القافلة  لتدخل الأراضي التركية حال السماح لها بذلك مع جموع سكان القرى الأكراد. كنت وقتها مستعداً لكل الأحتمالات، لكن زوجتي ـ بهار ـ رفضت ذلك القرار هي والرفيقة ـ أم نصار ـ وهي غير ـ أم نصار ـ زوجة ـ جابر ـ التي معنا في نفس القافلة،  فهي ـ إبتسام زغير ـ تعيش الآن في كندا. رفضنَّ بدوافع لم يدرك سرّها أحد، لكن دافع ـ ناهدة ـ أدرك سره كان أيديولوجياً يتعلق وقتها بالنضال وطهر المثل التي تحتقر من يترك ساحة النضال. ودّعنا رفاقنا من كبار السن،والعوائل الأنصارية التي قبلت مصيرها في البقاء مع جموع الأكراد على أمل العبور إلى الأراضي التركية.

واصلنا المسير في بقاع خاوية تشبه الأرض قبل خلق الإنسان. بقاع يصفر فيها الصمت والفراغ، شعاب ودروب وطرق جبلية موحشة. مررننا بقرى هرب سكانها. دخلنا بيوت مهجورة غادرها أصحابها على عجل تاركين أشيائهم بمكانها؛ قدرٌ على نار مطفأة، صحون طعام مملوءة بالرز والمرق، ثياب مبعثرة. يبدو أن القصف داهمهم فجأة مضاف إلى الهلع الذي تنشره الأخبار التي ينقلها القادمون من العمق حيث خلفوا قتلاهم في أمكنتها. كنا نبحث عن خبزٍ وكساء. وتحسباً للقادم حملت إبتسام ـ أم نصار ـ  و ـ بهار ـ  أردية  كردية قديمة تركتها العوائل الفارة، قد يحتجن إليها في حالة عبور الحدود. أردية قرويات هربنَ بأرواحهن على إيقاع ذاك الرعب الذي عمّ وقت زحف الجيش العراقي العائد من حربه مع إيران. مشينا يومين وليلة. ومررنا بعشرات الحقول المحروقة، والبغال القتيلة، وجثث الفلاحين التي قضت بالقصف، والمرمية على جانبي المسالك الجبلية وفي فسحات السفوح. لم يكن لدينا وقت للتوقف ودفنها، إذ كنا نسابق الزمن كي لا نحاصر في حالة سيطرة الجيش على القمم الحدودية التي فيها مواقع لربايا قديمة أضطر إلى تركها بسبب الحرب مع إيران. في صبيحةٍ توقفنا للراحة وتناول وجبة الغداء جوار عين ماء دافقة. شوينا ما نحمل من لحم معلب. وبعد مداولات قررت قيادة المفرزة ترك العوائل والرفاق المتعبين مع جموع الأكراد المنتظرين على نقط حدودية قريبة، يعني  أنا و بهار، أم نصار و زوجها، وبصحبتنا ـ أبو حاتم ـ (مناف الأعسم) الذي كان وقتها يعاني من مشكلة بفقرات ظهره. بررت قيادة المفرزة قرارها؛ لصعوبة وخطورة المرحلة الأخرى من الطريق الموصل حتى المثلث الحدودي، فسوف تضطر إلى الدخول مرات عدة عبر الجبال التركية وسط ربايا وقرى كردستان تركيا.  أتذكر مدى حرقة ـ أم نصار ـ أقدم نصيرة في كردستان، إذ ظلت تبكي مفجوعةً وكأن عزيزاً لها مات للتو. بقينا مع شخصين من أكراد تركيا يمتون بصلة قربى لرفاق لنا. سرنا من الساعة الثانية عشر ظهرا وحتى هبوط المساء. عند حافة سفح في الظلام طلبا منا تسليم بنادقنا قائلين:
ـ سنخبأها لحين عودتكم!.
كان قولهم كذبا بيناً!. نزعنا بنادقنا وسلمناها لأحدهم فأختفى بها على الفور، بينما الثاني  أكمل المشوار معنا. في اللحظة التي سلمت فيها بندقيتي والليل يساقط رذاذ عتمته أحسست بعجزي ووحدتي واستسلامي التام لمصيرٍ مجهول. قادانا عبر ممر ضيق على السفح عبر قمة الجبل فأطللننا على مشهدٍ جديرٍ بكاميرا من كاميرات الأفلام الكلاسيكية التي تحكي مأساة جماعية زمن الحروب والتشرد. مشهد جعلنا نتوقف لا شعورياً مبهورين. تحتنا ترامى وادٍ ضيق يعجُ بنيران وضجيج جموع الأكراد النازحة المنتظرة عند بوابة الحدود على امل السماح لها بالدخول.

قال لنا:
ـ تنزلون مع هذه الجموع ومصيركم مصيرهم!.
وغاب هو الآخر في الظلام.
بقينا لحظات مشدوهين قبل أن أتحرك وأقول:
ـ هيا بنا!.
أنحدرنا نتعثر بخطانا المخذولة، فضوء النيران المشتعلة في عمق الوادي تعتم المسلك الضيق النازل. كان ضجيج الحياة يتصاعد صاخباً من الحشود الملتمة حول النيران، قرقعة أواني طبخ، صياح، تنادي، ضجة، دخان يتصاعد. أحسسنا بصخب الحياة الصاعدة من الوادي  يطرد شعور الوحشة لتركنا من قبل الرفاق ونزع سلاحنا، فالمرء دون بندقية يشعر زمن الحرب أنه عارٍ فعلاً. قبل أن نصل عمق الوادي ونخلتط بالحشد، قامت الرفيقتان بتبديل ملابسهما خلف أكمة فألقين عنهن رداء البيشمرگه المكون من شروال وقميص،  ولبسن ثياب القرويات الكرديات الطويلة الفضفاضة الصارخة الألوان. أختلطنا بالحشد، والعوائل تتجمع حول نيران متقدة. تطبخ. تغلى الماء لتخدير الشاي. كان كل شيء مفتوحاً، فالمحنة وحدت الناس وجعلتهم عائلة واحدة تواجه الليل والغد المجهول، وهي محاصرة بين حرس الحدود التركي الذي لم يسمح لهم بالدخول منذ عدة أيام وبين الجيش العراقي المتقدم سريعاً من الشريط الحدودي. جلسنا مع عائلة، فقدمت لنا الطعام والماي والشاي، ووزعت علينا بطانيات خفيفة، فالوقت أواخر الثامن والليل بارد في الجبل.
لا أدري كيف مرت تلك الليلة المضاءة بنيران المواقد حيث يحشر الحطب المجلوب من السفوح القريبة بين حواجز صخرية!.
كنت أعيش جواً أحس أنني عشته سابقاً لكن في باطن روايات تحكي عن حروب أهلية وجوع وتشرد ورعب وحياة فاقه وتضامن ونيران في ليالي مظلمة مثل هذه تضيؤها نيران مثل هذه النيران. أجواء ذكرتني برواية ـ عناقيد الغضب ـ لجون شتينباك، وأجواء ـ مائة عام من العزلة ـ لماركيز.

هاأنذا في خضم رواية حقيقية شخوصها من لحم ودم، زوجتي رفيقتي وزوجها، الرفاق الذين تركونا وضاعوا في الشعاب و لاندري هل يصلون أم لا؟!. وجموع العوائل بأطفالها وأحمالها ورجالها ونسائها الطاعنين في السن الذين يروون لبعضهم على ضوء النيران المتأججة أهوال ما جرى لهم في طريق إنسحابهم الطويل، والحاجز الحدودي التركي القريب حيث يقف الحرس متأهبين شاهرين أسلحتهم على أهبة الأستعداد لأي طارئ قرب بنايات واطئة السقوف مضاءة بمصابيح خافتة الضوء تشرف على طريق عريض يسع لمرور مركبة. سمعتُ قصصاً تبدو مثل خيال، عن أمهات فقدن أطفالهن في القصف، أو أثناء عبور نهر ـ الشين ـ و ـ الزاب ـ أو عن أم كانت تبكي طوال الوقت فزوجها أصابته شظية وأبنها الرضيع أرتطم رأسه بصخور مسلك فمات على الفور عندما تعثر البغل وسقط على ركبتيه، وأبنتها بنت العشر سنوات كانت في زيارة لأختها الساكنة في قرية على السفح المقابل للجبل حُصِرًتْ ولا تعرف مصيرها. قصص تروى وراويها يحكيها أما باكياً أو مذهولاً على إيقاع الوادي الضيق الضاج بأصوات تنادي، وصراخ أطفال، وأقدام بغال تراوح في مكانها. قمت من مكاني فسألتني زوجتي:

ـ إلى أين؟!.
ـ سأقوم بجولة وأعود!.
ـ خاف أتضيع!
علقت ضاحكاً:
ـ كلنا ضايعين!.
وأردفت:
ـ لا تخافين.. سأرجع!.

خطوت بين أكداس البشر المتناثرة كأشلاء على فسحة الوادي الضيق، وعلى ضوء نيران تلقم بالحطب الجاف كلما خفتت رأيت ما لا يحصى من الوجوه والأجساد المنهكة، تروى قصصاً. تعري أجسادها المحروقة، المبقعة بالفقاعات، المسلوخة  بغازات الكيمياء. تسعل سعالاً مخنوقاً. تصرخ بألم. تغفو مجهدة. صخب وصراخ وقصص، وسؤال حاسم يتردد كل لحظة يقول:
ـ هل سيسمح حرس الحدود التركي بدخولنا؟!.

سؤال مؤرق، فإذا كان الجواب بلا معنى ذلك سيمسكنا الجيش العراقي مثل دجاج، ويقودنا إلى جهنم خبّرها الأكراد في أعقاب حرب 1975 حينما خسر ـ ملا مصطفى البرزاني ـ الجولة بسبب ـ كركوك ـ وأتفافية الجزائر بين العراق ونظام الشاه، لا زالوا يتذكرون ظروف تهجريهم إلى مدن صحراوية في قضاء عفك التابع لمدينتي ـ الديوانية ـ التي لا تزال مقابر الأكراد شاخصة فيها، وإلى نواحي الرمادي البعيدة، ونقرة السلمان التابعة لمدينة السماوة في عمق الصحراء الممتدة حتى الحدود السعودية. أذاقوهم الويل في تلك التجربة. وهذا الهلع الباين على الوجوه قادماً من قصص ورعب تلك السنين، لذا كان أمل فتح الحدود حلماً وباب خلاص.. لا عذاباً جديداً حيث معسكرات اللجوء والتشرد والضياع.

جبتُ الوادي من الطرف إلى الطرف متأملاً الوجوه والأجساد والنيران. أستوقفتني وجوه صبايا كرديات القرى البعيدة بجمالها الفتّان النقي. وجوه وذوات برية، شديدة البراءة لم تر شارعاً مبلطاً، جمالها خالص، هاهي تحت ناظري مشردة لكنها مبتسمة وكأن ما يجري هو شيء من اللهو واللعب سرعان ما سينتهى ويعدنَ إلى قراهنّ البعيدة. عكس ما كان يرتسم بوجوه الأمهات والأباء والشيوخ من هَمٍ وتأملٍ وخشيةٍ.

كنت مستسلماً لقدري مثل أستسلام الصبايا الكرديات لمجرى الأمور. اكتشفت ذلك الشعور في جولتي بين مجاميع الأكراد المتحلقين حول دوائر النار.. وبغتة هبَّ الجمع فزعاً صارخاً بصوت تردد صداه بأرجاء الوادي على دربكة أنهيار صخري هبط من أعلى السفح الحاد بأتجاه الفسحة المكتظة. صرخ الحشد بدويٍ لا ينسى مصحوبا بهدير تدحرج صخور عملاقة يتردد صداه في عمق الوادي، ويصم أذان الجموع. أقول عملاقة هكذا أحسسناها في الظلام، وتعجبت وقتها متسائلاً عن تضامن الطبيعة بسفحها الحاد مع الجيش العراقي الزاحف، إذ أفزعت الجمع المرعوب أصلا. لكن الصخور لم تصل الفسحة بل راحت في مسارب أخرى في الوادي.

عدتُ إلى حلقة نيران زوجتي، فوجدتها تدّور عينيها القلقتين باحثةً عني عقب صراخ الحشد، وما أن رأتني حتى هبت نحو وعانقتني بشدة هامسةً:
ـ وين صرت موتت حيلي!.
وبقينا ساهرين حتى إنبلاج الفجر.

دبت الحركة، وبانت الوجوه وتضاريس المكان. كان الإنهيار الصخرى بعيداً عنا لكنه في الظلام والصمت وصدى الوادي جعلنا نشعر أن الحجر سيسقط فوق رؤوسنا. تناولنا الفطور المعتاد في القرى الكردية البعيدة. شاي، وماستاو (لبن) وبقينا ننتظر الحوارات بين ممثل المحاصرين وحرس الحدود الذين أصروا على أن لا أوامر لديهم بالسماح لهذه الجموع عبور الحدود. بقينا هكذا حتى الظهيرة. كانت مشمسة، حارة أعطت للوجوه شكلها الحقيقي، فرأيت قساوة وجوه الرجال وبؤس وجوه الأمهات الممتحنات بكل الواجبات كزوجات فلاحين ووجوه الصبايا المتألقة، الباسمة التي لم تدرك بعد هول المصيبة.

عند منتصف الظهيرة، والشمس وقفت فوق رؤوسنا رغم ضيق الوادي سمعنا صوت قصف يقتربُ سريعا.. سريعاً. وكأن ثمة معركة في وادٍ قريب. مما جعل الجمع المحتشد أمام بوابة الحدود يصاب بالهلع.. هلع غير عقلي.. هلع غريزي ابتدأ لغطاً لكنه سرعان ما تحول إلى صراخ ينبعث من تزاحم كتلة بشرية هائلة تجاوزت العشرين ألف، متلاصقةٌ، مرصوصةٌ، ككتلة من الأسمنت الصلب الجاف، متاهبةٌ لإقتحام لا خط الحدود الوهمي بل حتى خط السماء. كتلةٌ كقلبٍ صلبٍ زلقٍ ذكي يقف حد باب الحدود المسدودة بحاجز خشبي ورجال مدججين بسلاحٍ مشهرٍ صوبها. كنتُ أمسكُ كف زوجتي، مرصوفين ضمن الكتلة الملتحمة الصلبة، المذعورة. ننتظر فرجاً يتيح لنا عبور خط الخلاص من جهنم ـ البعث ـ المشهودة الشبيهة بدرب الصد ما رد في حكايات ألف ليلة وليلة.  كانت الكتلة متراصةً كصخرةً من لحمٍ، حائرة بروحها، تنتظر خلاصاً من هولٍ عظيم شبيه بالقيامة حيث دفنت الناس أحياءً وضُيعَتْ في مقابرٍ ستكتشف بعضها بعد أكثر من خمسة عشر عاماً.

بدات الكتلة بالحراك والتموج، فأحتضنتُ حبيبة عمري ـ ناهدة ـ ملتصقا بجسدها من الخلف كي لا تضيع مني في موج الكتلة الصاخبة. طال الإنتظار وعصفَ بالكتلة غضبٌ جعلها تحتدم، وتندفع نحو الحاجزالخشبي التركي الواهن على وقع قصفٍ بدا قريباً من الوادي. شعر الكل المتراص المذعور أن الجيش العراقي يكاد يطبق علينا، فهبت الكتلة صارخة، وأندفعت مثل إعصار مجنون نحو حرس الحدود التركي. كنا نصرخ معها ونركض، بقيت ممسكاً بكف ـ بهار ـ وعيناي لاتفارقان صف حرس الحدود الأتراك الشاهر سلاحه. كان إندفاع الكتلة الألفية المتراصة خاطفاً. أبهت الأتراك وصارت عملية أطلاق النار بمثابة إنتحار، فخفضوا سلاحهم، وصعدوا على دكك غرفهم الجانبية مبتعدين عن الدرب العريض المبلط. عبرنا مخلفين نقطة الحدود، لم نتوقف عن الركضِ، فكلما أبتعدنا عن نقطة الحدود شعرنا بمزيدٍ من الأمان. كنتُ أركض ورفيقة عمري ـ بهار تركض جواري في الزحمة، وبغتةً حررت كفها من كفي، وخرجت من مسار الكتلة المندفعة لتحمل طفلاً إبن السادسة. خرجت من الحشد إلى جانب الطريق، وصلت جواري قائلة:
ـ أبو الطيب، هذا طفل ضايع!.

كنت أعرف سرّ محنتها، ومحنتي، حيث أضعنا طفلنا ـ كفاح ـ أبن الثلاث سنوات إذ تركناه في الديوانية جنوب العراق وقت إلتحاقنا بالثوار في شباط 1982. وأنا من قررت تركه بعد تجربة إلتحاقي لمدة ستة أشهر بصفوف الثوار قضيتها في أرياف ـ السليمانية ـ شارباجير وشهرزور وقرة داغ، ومعرفتي بالظروف القاسية. كان مصاباً بربو الأطفال الحاد، صار ذكره ينكئ حواسنا المجروحة التي أضناها فراق ضناها. كانت ـ بهار ـ متألقةً وهي تحمل طفلاً كردياً لقطته في السيل البشري المذعور الجارف. ظلتْ ترعاه حتى الغروب إلى أن هجمت عليها امرأة كردية عشرينية، ونهبت الطفل من حضنها مطلقةً آهة ومرددة بصوت مذبوح:
ـ أوي دايكه (أخ يمة)
كانت شبه مجنونة. راحت تشمه وتتلمس كل قطعة من جسده حتى أنها لم تشكرنا، ولم تسأل كيف عثرنا عليه؟!. أبتعدت وهي تحملق في وجهه بصمت تاره وتضمه إلى صدرها وتشمه في أخرى. إلتفتُ نحو ـ بهار ـ فوجدتها تمسّح دموعها متصنعةً التماسك، قلت مع نفسي:
ـ الله يساعدك!.

من المؤكد أنها كانت ترى أبننا ـ كفاح ـ فيه.

لم أنس أبداً مشهد البيشمرگة الأكراد الذي أضطروا للدخول مع أسلحتهم إلى حيث كنا على مبعدة مئات الأمتار من نقطة الحدود جوار قرية تدعى ـ أتروش ـ. كان بعضهم ممن أكله اليأس يلقى سلاحه فوق كدس الكلاشنكوفات المرتفع على جانب الطريق الحصوي الممهد، لكن الغالبية كانت تضرب سلاحها في صخور جانب الطريق تكسّرها قبيل أن تلقي بها على تل البنادق. كنت أتأمل المشهد أنا الحالم أصلاً. أتأمل عزائم البشر ومدى قواهم. أتأمل، شارداً في وقفتي جوار حبيبة عمري تحت ظلال شجرة على جانب الطريق، أتأمل الثوار المنكسرين بحالاتهم المختلفة، الغاضب، المستسلم، الحزين، اليأس، المتوازن السائر نحو مجهول لحظة قادمة. كنت أعيش مثل ممثل في فلمٍ يُصورُ مأساة بشرية. أقول أعيش كممثل لأن هذا الإحساس هو فقط من ساعدني على إحتمال ثقل التجربة وعنفها ومراقبتها أيضاً. بقينا مشردين نتوسد الأرض ليلاً منتشرين حول قرية كردية تركية حديثة فيها بناء وماء وكهرباء. بقينا عدة أيام لا أتذكر عددها الآن بالضبط. كانت العوائل المشردة والتي حملت معها مستلزمات الحياة البدائية توزع علينا الخبر وقت الوجبات. أتذكر أن زوجتي ـ بهار ـ وخوفاً من الأتراك أقترحت عليها العيش مع عائلة أحد رفاقنا من مدينة العمادية والتي تعّرفنا عليها في أجازتنا الوحيدة طوال وجودنا في كردستان، ففعلت. كنت أتفقدها بين ساعة وأخرى فأراها منشغلة بجلب الماء والخبز وتنظيف المكان الذي جعلته العائلة مأوىً. لم أرها مرة واحدة جالسةً. كانت تدورُ حتى وقت النوم. بعد يومين تركتهم عائدةً إلى الرقاد جواري على التراب بين دغلٍ من الشجيرات في عمق وادٍ قائلة:
ـ لا أحتمل حياة القروية الكردية، أنها تفعل كل شيء والرجل لا يفعل أي شيء!.
كنت أضحك، أردفت:
ـ حالي حالكم أنا بيشمرگة مثلكم.

أسعدتني عودتها. فالليلتان اللتان قضتهما بعيداً عني كانتا أكثر عناءً ووحشةً.
في صبيحة مشمسة جلبت السلطات التركية لوريات نقل الحصى والتراب، فتكدسنا في أحواضها العميقة وسط زعيق الأطفال والتدافع. كنا نعتقد أنها ستوصلنا إلى مكان آمن نجد فيه شيئاً أخف مما نحن فيه. مضت بنا العربات نحو المجهول سالكة طرقاً جبلية مبلطة، مارةً بقرى كردية تركية. كان سكانها  يلوحون لنا بأيديهم وينادون بأصوات تضيع بضجيج ماكنة اللوريات الضخمة. كنا نرى في الوجوه الراكضة مشاعر حبٍ وألم لمأساة محنتنا. حللنا بعد مسير ساعات في سهلٍ أجردَ واسعٍ ينبسط بين جبال وقمم بعيدة. أنزلونا داخل منبسطٍ مسيجٍ بأسلاك شائكة. أدركنا أن هذا المكان المعزول أعدته السلطات التركية لتجميع الفارين من أكراد العراق نتيجةً لحملة الأنفال. كان المكان يدعى ـ گفرى ـ.
وجدنا جموع أخرى جُمِعَتْ من أمكنة شريط الحدود التركية العراقية القريبة.

كان الليل باردا في ذلك المنبسط الفسيح، وكنا بلا أفرشة وبدون أردية ثقيلة، فعصف بنا البرد وخصوصا على زوجتي ـ بهار ـ إذ كانت تعاني من أمراض عدة. كانت لتوها عائدةً من فترة علاج قضتها بين ـ لولان ـ و ـ إيران ـ حيث تسللت سراً بمساعدة تنظيمات الأحزاب الكردية كي يعاين وضعها طبيبٌ مختص. في مسير قافلة انسحابنا الطويل ولإنشغالنا برفيقنا ـ أبو نصار ـ المقطوع الساق وطفلته أودعنا قمصلتنا الثقلية لدى رفيق حميم من مدينتنا لصعوبة حملها. ولما جنَّ الليل وأشتدَّ البرد ورأيت زوجتي ترتجف وتصطك أسنانها، ولم يسعفها إلتصاقي بها وفرك يديها. هرعت راكضاً على الفور نحو ذاك الرفيق الحميم الذي حكى لي حينما إلتحقت بالثوار في كردستان عن كيفية إلتحاقه بالثوار. أخبرني بأنه هرب من ـ الديوانية ـ متخفياً في غرفٍ بالحيدر خانة في وسط بغداد شتاء 1979 بمساعدة أخي الذي يصغرني بثلاثة أعوام الشهيد ـ كفاح عبد إبراهيم ـ الذي رتب له كل شيء كي يصل إلى ثوار الجبل في ذلك الوقت الصعب. حكى ليّ كيف أختفى في غرفٍ وفرها له ـ كفاح ـ وكيف رّتَبَ له قضية إلتحاقه بالثوار حيث سلمه لرفيقٍ كردي، وكلفه بإيصاله إلى السليمانية، ليتسرب منها إلى مفارز الثوار الجائبة أريافها. في محطة ـ النهضة ـ  الكائنة في جانب الرصافة التقي بالرفيق الكردي. ركبا سيارة 18 راكب مارسدس. كنت أنصت لحكايته مستعيدا ظروف تلك الأيام فقد كانت سلطة ـ البعث ـ في أوج قوتها تستعد لخوض حربها مع إيران. كنا وقتها في موقع حدودي يدعى ـ بيتوش ـ في خريف 1982 داخل الأراضي الإيرانية المحاذية لشريط الحدود وكنت لتوي ملتحقاً هارباً من عنف معارك شرق البصرة الشهيرة تاركاً زوجتي وابني ـ كفاح ـ إبن الستة أشهر. وقتها كان مصير أخي ـ كفاح ـ مجهولاً فقد  أنقطعت أخباره منذ صيف 1980. كنا نسير على ممرٍ ضيقٍ مذهب بأوراق البلوط المتساقطة وكأنها دموع. كنت أحملق بهيئته المستكينة المسالمة التي تسرد عليّ تلك التجربة العنيفة، مفكراً بأخي الضائع متخيلاً سيارة الركاب المارسديس التي تستوعب 18 راكب والمسافرين المنشغلين بشأنهم الحياتي. أوصاه الدليل بالجلوس على مقعدٍ في صف يبعد عنه كي لا يثيرا الشبهات. توقفت السيارة في محطة إستراحة الطريق جوار مقهى على مشارف  ـ طوز خرماتو ـ المدينة الصغيرة الواقعة في منتصف المسافة بين بغداد وكركوك قائلا:

ـ أبو الطيب نزلت من السيارة، وما أن دخلت مطعم محطة إستراحة.. حتى رأيت ـ كسيتنجر ـ أسم يطلق على مفوض أمن بشع شهير في الديوانية خلال السبعينات مشهور بكرشه ووضعه سيجارة بطرف فمه أعدمه ثوار أنتفاضة أذار 1991.  وـ حمزة عباس ـ (رياضي معروف في الديوانية، لاعب كرة قدم تحول إلى مفوض أمن مسعور) جالسين، معنى ذلك أنها مفرزة من مدينتنا تقبض على من يحاول الهرب إلى ثوار الجبل. كنت أهم برفع أول لقمة حينما لمحتهم بمرآة الحائط. قلت للرفيق الكردي بأنني ذاهب للتواليت، ومنها تسربتُ وأخذت أول سيارة عائدة إلى غرفة ـ كفاح ـ بالحيدر خانة. في المساء دق رفيقنا  الباب ليبلغ رفاقه عن سرّ إختفائي. رتبنا موعداً أخر نجحت فيه بالوصول إلى الرفاق.
كنت موقناً بأنه سينزع حالاً القمصلة العائدة لنا ويقول معتذراً:
ـ خذها رفيق!.
قلت:
ـ  بهار ترتجف ممكن إستعارة القمصلة!
ردَّ ببرود مفجع:
ـ لا رفيق صارت مالتي!.

للمرة التي لا تعد أتذكر حكمة الشيخ ـ عطا الطالباني ـ الذي تسللتُ من بغداد إلى بيته في ـ كفري ـ كمحطة أولى والذي قال ونحن نجلس في حديقة بيته الواسعة في غروب يوم من أيام أب 1982:
ـ دع عنك أحلام الثورة النظيفة ورجالها الأطهار سترى العجب من أقرب صديق في الأوقات الحرجة!.

أول مرة تذكرته فيها عندما خرجت معمفرزة بريد من فصيل ـ المكتب السياسي ـ في موقع ـ زيوة ـ خلف العمادية قاصدين منطقة ـ لولان ـ الواقعة في المثلث الحدودي العراقي ـ الإيراني ـ التركي. وبعد مسير ثلاثة أيام دخلنا أراضٍ تركية، كان الوقت ربيعاً. في بيت راعٍ تركي وحيد يقبع في قعر وادٍ وعر تعشينا، وبعد تناول الشاي بعث بأحد أبنائه كدليل صاحبنا حتى فسحة بين القمم تحاذى مجرى نهر يفصل الحدود. أشار نحو منحدرٍ بالكاد نتبينه قائلا:
ـ هذا الطريق سيوصلكم للجسر!

كان الغروب موحشاً توارى سريعاً. لم نعثر على الجسر قط، فضعنا في ظلمة كالحة لليلةٍ بلا قمر. ظللنا نتخبط ساعات. ندورُ بين المسالك، لنجد أنفسنا في نفس المكان. كان بعض الرفاق يتعثر في متاهة صخربة فقد أضعنا أثر الدروب الجبلية الضيقة. خفنا أن يطلع علينا الفجر فنكون قرب معسكر تركي أو تصيدنا الربايا العراقية المنتشرة على القمم والفسحات العالية في السلسلة الجبلية. كان اضطرابنا مضاعفاً ونحن نحمل بريد المكتب السياسي بكل ما يحتويه من أسرار. أهلكنا الدوران والقلق وأصبح العثور على المسلك الذي يرجعنا إلى بيت الراعي حلماً. لم يبق أمامنا للنجاة سوى هذا الاحتمال والليل يتآكل مقتربا من حافة الضوء. كنا نجلس بين الحين والحين ندّخن ضامين جمر سجائرنا بين أكفنا المكورة. نتحاور بهمس. لم نكن ندري أين أصبحنا في متاهة الظلمة والصخور. كنا حسب ما أتذكر كلٍ من، فرهاد ـ مؤيد كريم ـ إبن مدينتي والذي شاركني لاحقا بدفن الرفاق الذين قضوا في ـ زيوة ـ والذي سردته في القسم السابق، وعلي النجفي، و ـ أبو حسام ـ و ـ بختيار ـ وهو رفيق كردي له زوجة معنا نصيرة ـ مجده ـ، وأبو رائد، وأبو سطيف دليليّ المفرزة. أي كل هذه المجموعة فيها رفيق كردي واحد. وفيما كنا نتأرجح في ضياعنا عند حافات الظلام والضوء همس فرهاد:
ـ رفاق جعت ما واحد شايل شيء يؤكل؟!.

التفت نحو ـ... س ـ  سأحجم عن ذكر أسمه فهو لم يزل حياً، فهو من معارفي منذُ أواسط السبيعنات. تعرفتُ عليه في الوسط الأدبي ببغداد عندما كنت طالباً في المعهد الزراعي الفني. كان صديقاً لصديقي الشاعر المرحوم ـ عزيز سماوي ـ. كان وقتها يشتغل عاملا ومتعصبا لطبقته، يعني شيوعي حنبلي. لديه محاولات شعرية بسيطة، عند إلتحاقي الثاني بالثوار في شباط 1985 وجدته في الفصيل المستقل وهو فصيل مختص بتنظيمات الداخل فأخبرني بأنه جاب طويلا مع مفارز أربيل القتالية. فنشأت بيننا علاقة لها جذور. كنتُ أتوسم في العلاقة به الكثير فيما يخص الموقف والصداقة والثقافة. التفت لأنني لمحته في بيت ذاك الراعي، قبيل خروجنا يخفي رغيف خبزٍ تحت قميصه، أستغربت ذلك فسألته:
ـ لم يا رفيق؟
أجابني:
ـ تحسباً لأسوء احتمال!.

وها نحن نخوض في الأحتمال السيء الذي هجس به. التفتُ نحوه. لم يحرك ساكناً. اقتربتُ منه، وهمست طالباً منه أخراج الرغيف، فأحسست في العتمة بكفه تكمم فمي، وهمس:
ـ إش.. إش ششششش!.
أخذني الفضول رغم إضطراب الموقف وصعوبته، فَصَمتُ منتظراً فهم ما يكمن خلف هذا الوشيش الخافت المنسكب بأذني اليسرى. سكنت مستسلما لضغط كفيه الحاويتين كفيَّ. سحبني في العتمة بعيدا مسافة أمتار وهمس:
ـ أبو الطيب أسكت لا تقول وأعطيك نصفها!.

أخرسني هول الموقف. سكنت بين يديه القويتين متصلب العضلات وكأن كفيَّ صخرتين من الصخور التي نَضيع في متاهتها ونقف عليها. حرر كفيّ ودس يده اليمنى تحت قميصه واخرج الرغيف وقسمه نصفين بدربة لص محترف مخافة سماع رفيقنا الجائع ـ فرهاد ـ (مؤيد كريم). رأيتُ في تلك الحلكة الماحقة وجه الشيخ الكريم ـ عطا الطالباني ـ وهو يحكي لي عن موقفٍ في معركة ـ هندرين ـ الشهيرة في ستينات القرن الماضي، بيشمركه من أشجع المقاتلين كان يقاتل بشراسة، لكنه شعر بالجوع فطلب قطعة خبز. لم تكن متوفرة. هددهم قائلاً:

ـ إذا لم تحضروا لي خبزاً سأسلم فوراً!

لم يتمكنوا من توفير لا رغيف بل كسرة والمعركة محتدمة، فسلم على الفور.

دفعتُ كفه الممدودة بنصف الرغيف بصمتٍ حاساً بشيء من ماضيّ يتشوه ويتكسرّ.

أقصى ما عليَّ في كل تجربةٍ خراب مشروع صداقة أتوسم بها دفئاً من وحشة الدنيا.

دفعت كفيّه مقبلاً طيف شيخي ـ عطا الطالباني ـ الذي جعلني أصمت ولا أفضحه وقتها. دفعت كفه بنصف رغيفه البارد شاعراً بالمرارة والخذلان. حاول سحبي إليه. دفعته بعنف، وعدت إلى الدائرة الضائعة مكسوراً، أردد بصمت أبياتاً شعرية لصديقنا المشترك المرحوم عزيز سماوي:
ـ أگدر أعاند بالمشي وجه الريح
 وأگدر أشوفن بالحچي ألوان تصيح
 وأگدر أسوي الجسر دنبوس
وما أگدر أشيل الراس
                    لو سكة أنكسر ناموس.

نفس الأبيات التي كان  ـ س ـ يرددها ساخراً إذ لم يكن يدرك مغزاها وعمقها.. رددتها فتوازت قليلاً. قبل تباشير الضوء بقليل وجدنا المسلك.. عدنا إلى بيت الراعي الذي قدم لنا سلة من الخبز  وطوساً من اللبن.

لم أخبر بهذه القصة والموقف سوى حبيبتي ـ بهار ـ رفيقة عمري وبعدها تضاءلت علاقتي به قليلا.. قليلا حتى أصبحت نائياً عنه وكأن ما يفصلنا بحور ومحيطات رغم أن فراشي كان يجاور فراشه في قاعة الفصيل.

هاأنذا أقف وسط فسحة سهلٍ عارٍ شاسعٍ مكتظ بالنساء والأطفال وكبار السن والمقاتلين المرضى والمتعبين. سهل وصلنا إليه مكدسين في أحواض شاحنات تراب سارت طويلا، ترجلنا منها لنبيت ليلة في العراء على جانب طريق جبلي في فسحة مرصوفة بالحصو. وعلى كراته الصلبة غفونا منهكين غير آبهين بوجعها المغروز في جنباتنا وظهورنا فقد كان أخف وطأة من البرد الجارح.

هاأنذا أقف مخذولا من إنسان أخر كنت أعتقد به، فهو إبن مدينتي ـ الديوانية ـ ومسار حياته وكفاحه حولّه إلى رمزٍ من رموز المدينة.

*      *      *

لم يستطع أحدٌ النوم تلك الليلة، فالسهل المنبسط مع تقدم ساعات الليل تحّول إلى ما يشبة الثلاجة المفتوحة، ومما زاد الأمر سوءاً هبوب ريح باردة خفيفة، جعلت الجميع يغادرون رقادهم ويدورون طلبا للدفء، بينما قامت مجاميع بجمع الأعشاب وكسر الخشب الجاف من مناحي السهل المسور. فشبت النيران هنا وهناك وسط لغط النساء وأصوات تنادي الرجال، وصراخ الأطفال الباكين. كان الليل دامساً، لا أضواء تنوس حوله، فالمكان معزول وبعيد عن أي قرية أو مدينة. كنا ننتظر الغد المجهول واجبي القلوب. سقطنا في غفوة إنهاك ماسكين أيدي بعضنا جوار موقد نار تحلقت حوله عدة عوائل كردية. لا ندري كم بقينا غافيين؟!، فعندما فتحنا عيوننا رأينا ضوء الفجر الشاحب يلوح في الأفق البعيد،  راح يقوى كاشفاً المشهد برمته. العوائل متناثرة على فسحة السهر كأسمالٍ بالية متروكة في عراء الله بأوانيها وقدورها المعدنية ورزم الأردية وما هو ضروري للعيش. العدد لا يحصى، والشاحنات لم تزل تلقي حمولتها من القرويين الأكراد قادمة من منافذ الحدود القريبة. مع أرتفاع النهار زاد الضجيج والجوع، وصراخ المرضى والأطفال، والمصابين بالقصف الكمياوي الذي مشطَّ كل مناطق القرى التي لم يسيطر عليها الجيش والتي كنا نسميها ـ القرى المحررة ـ. وجوه أطفال محروقة تتلوى ألماً. بشرات مسلوخة عند المناطق الحساسة من الجسم. عيون كأنها قطعة من دم لا يستطيع المصاب فتحها سوى للحظات يضطر بعدها لأطباق أجفانه. أنين وصراخ وألم، وأصوات أحتجاج تطالب بالخبز والأغطية والعلاج. ظللنا ندور بين الجموع نساعد المحتاج ونقدم ما بوسعنا، فقد كنا نحمل ما تبقى من صيدلية الموقع من أدوية، أسبرين، مضادات حيوية، حقن وأبر، حبوب مضادة للاسهال، وما شابه. كان بصحبتنا رفيق طبيب كردي من أهالي ـ أربيل ـ كان في طريقه لإكمال دراسته التخصصية في جامعة من جامعات المنظمومة الإشتراكية المرحومة حينما حاصرته الحملة، لعب دوراً فعالاً في أنقاد العديد من الأطفال المرضى والمصابين بفحصهم ومعالجتهم. كان هو الأخر يحمل حقيبة مليئة بالأدوية، نشيطاً حيوياً.  يتقن الإنكليزية بطلاقة، مما أتاح له شرح أحوال المصابين لجموع الصحفيين الغربيين الذين توافدوا عند الظهيرة على المعسكر. فصوروه وصوروا تلك الحالات وسجلوا أقواله. كان لدينا عدة رفاق يعرفون لغات أوربية منهم ـ أبو ماجد ـ الذي كان يجيد الألمانية، فتحول شبه دليل ومترجم للصحفيين الألمان. جعلهم يفهمون ما يجرى، وما أصاب الأكراد من قصف وتشريد وقتل. كانوا يسجلون باهتمام ما يخبرهم من قصص عما يجرى هنالك في الأمكنة التي خلفتها هذه الجموع الناجية من موتٍ محتوم. صور العديد من الصحفيين جسدي المشوه عند الكتف الأيمن بأثار القصف الكمياوي قبل أكثر من عام، وأجساد الأطفال والشيوخ والنساء المصابة، كما أستمعوا إلى تفاصيل عملية القصف الذي طال زيوة بغازات الأعصاب تكفل ـ عمودي ـ بسرد تلك التفاصيل وكان الدكتور الكردي الذي لا أتذكر أسمه يقوم بالترجمة. كان القرويون الأكراد يتصورون أن ما يقولونه للصحفيين الأجانب سيغير أوضاعهم على الفور، إذ كانوا يتحمسون ويذكرون أدق التفاصيل، عن القتلى من عوائلهم، والمحاصرين في الأودية، وعلى ضفاف الأنهار البعيدة، وعن هول القصف وغازات الموت التي غطت الأودية والسهول وشعاب الجبل. كنت أراهم يبتسمون برضى حالماً يفضون بما رأوه لأولئك الأجانب الأنيقي الملبس الناعمي الأكف والوجوه.

في هذه الأثناء وصلت شاحنات تحمل مساعدات مقدمة من أهالي المنطقة الأكراد، بطانيات، خيم، علب زيتون، وجبن، وحزم من الخبز البارد. هجمت عليها الجموع الجائعة مما جعل الجندرمة الأتراك يقفون حاجزا بشرياً لصدها. تشكلت لجنة من المحجوزين قامت بتنظيم الأمر، فصفت الجموع في طوابير ونظمت سجلات، وتكفلت بتوزيع ما يرد من معونات. وقفت في الصف. تمكنت من الحصول على خيمتين، عشرة بطانيات، علبة زيتون كبيرة، علبة جبن كبيرة، وحزمتين من الخبز. أقتضى ذلك الأمر الأنتظار منذ منتصف الظهيرة وحتى غروب الشمس التي أصلت المشردين بنارٍ حامية حيث لا ظل شجرة ولا خيمة بعد. كنا نستغرب من إختلاف الليل ببرده القارص، والظهيرة بشمسها الحارقة.

مع الغروب أفتقدنا أثنين من رفاقنا، الدكتور الكردي، وأبو ماجد، ظللنا نبحث عنهما في أرجاء المعسكر التي بدأت الخيم تُنصب في أرجائه دون جدوى.
ـ أين صارا؟!.

ظلننا نتسائل مقلبين الأمر من جميع جوانبه، فمن المستحيل أن يكونا قد غادرا المعسكر المحصور بالأسلاك الشائكة وأبراج الحراسة الخشبية التي نصبها الجيش التركي خلال النهار. أختفى أثرهما تماماً والليل حلّ بظلمته الكثيفة. في صبيحة اليوم التالي تكلمنا مع لجنة المعسكر المشكلة من بيشمركة سابقين في الأحزاب الكردية، فتحركت مطالبة الأتراك بالكشف عن مصيرهما. وعند الظهيرة رأيناهما قرب مدخل المعسكر بوجهيين مرعوبين يسيران بصعوبة بالغة، وفي خيمة من الخيم حكوا لنا القصة؛ في المساء قامت المخابرات التركية ـ الميت ـ بإستدراجهما إلى طرف المعسكر بواسطة كردي أخبرهما بحاجة عائلته إلى علاج مما سهل الأنفراد بالطبيب وخطفه. بينما تمكن كردي أخر يتكلم العربية والتركية من استدراج ـ ابوماجد ـ بحجة قدوم وفد صحفي ألماني يبغي كتابة تحقيق عن أوضاع اللاجئين، ومن غرف الحراسة خطفه رجال المخابرات. أخبرونا بأنهم عصبوا عيونهم وكمموا أفواههم وأخذوهم في سيارتين إلى أمكنة لا يدرون أين. أنزولهما وهبطوا بهما على درجات إلى أمكنة خانقة. وفي غرفة حققوا معهم كلٍ عن أنفراد مركزين عن سبب وجودهم بين جموع الفلاحين الأكراد، وعن أنتمائهم السياسي، وحينما لزما الصمت علقوهم بالمقلوب وضربوهما على أخمص قدميهما بالعصي البلاستيكية، مهددينهما بالتسليم إلى السلطات العراقية في حالة لزومهما الصمت، ولما لم ينفع ذلك، ضربوهما في انحاء جسميهما ضرباً مبرحاً. حرموهما من النوم طوال الليل إلى أن صعدوا بهما الدرج وأركبوهما سيارة سارت بهما طويلاً. ظّنا أنهما سيسلما إلى السلطات العراقية، لكنهما وجدا نفسيهما داخل غرفة حرس المعسكر الذين طلبا منهما مغادرة الغرفة. فرأيناهما مقبلين. قدّرنا أن مطالبة لجنة المعسكر بهما فعلت فعلها، لا سيما أنهما كانا وسيطين ومترجمين للصحفيين الأوربيين.

في الصبيحة التالية، الكل حائر ويتنظر مددا من السماء، من الله، من الصحفيين الأجانب المتوافدين بغزارة على المعسكر، من أفواه بعضٍ. كنا ندور وسط الجموع التي تتزايد وشاحنات التراب لا تكف عن نقل المزيد من النساء والأطفال والشيوخ من الشريط الحدودي إلى هذا الموقع. وتأزم الوضع البشري، ومزيداً من الأطفال الرضع يموتون لأبسط العوارض لعدم توفر الأدوية والرعاية الطبية والحليب والدفء والتغذية أضافة لرعب الأمهات في ذلك الوضع المضطرب، فالأطفال الرضع كانوا يموتون بأمراض البرد أو عوارض علاجها سهل في ظرف طبيعي. وحركة المخابرات التركية ـ الميت ـ حدت من تحرك الأطباء والممرضين من رفاقنا ممن لديهم خبرات كانت وقتها تنقذ طفلاً من الموت. فجعلنا نساعد تلك العوائل النادبة موت أولادها في حفر قبور ضحلة نواري فيها تلك الأجساد الغضة بوجوهها الملائكية وكأننا ندفن ملائكة تغفو بين أذرعنا وسط عويل الأمهات المنهارات وتكسر قسمات وجوه الرجال الصخرية في باطن ألمها. كم دفنا من الأطفال الرضع؟!. لا أستطيع العد، كنتُ أغيب منشغلاً بطقوس الدفن عن خيمتي ولا أعود إلا وقت وجبة الطعام المكونة من قطعة خبز وزيتون وجبن أبيض. أتناولها على عجل وأغيب في خضم مأساة تلك الذوات التي وجدت نفسها ترسخ في المجهول على أرض غريبة مسورة بالأسلاك الشائكة، جائعة، تفقد أبنائها، وعبر السلسلة اللائحة إلى الجنوب تركت عمرها، طفولتها، عِزّها، أمكنتها محتلة بطوابير الجند من أبناء جلدتها المسخرين لحروب الدكتاتور.

مرت أيام ونحن في هذه الدوامة. ومع زوال الصدمة، حيث بدأ الهاربون يتأقلمون مع الوضع الجديد. خيم، أرزاق منتظمة الوصول جلّها تبرعات من أثرياء أكراد المنطقة الأتراك، أشتدَّ وضعنا تأزماً، فنحن عرب، وكنت مثلا أحمل كل وثائقي الحقيقية من جنسية وشهادتها وجواز سفر وجنسية زوجتي وشهادتها، هذه الوثائق التي تشبثت بها بشدة رافضاً محاولات التنظيم سحبها للإستفادة منها. كنت مستعداً ليومٍ كهذا رغم أحتمالات قتلي منذ لحظة وصولي إلى ثوار الجبل. فلو نتعرض لتفتيشٍ من قبل القوات التركية ومخابراتها مثلا لدخلنا في دهليز يتعسر فيها تبرير وجودنا وسط هذه البيئة القروية الكردية المحددة الهاربة بروحها تخلصا من تبعات حرب بين ثوار وسلطة، لذا كنا شديدي التوتر، سريعي الغضب، نستقرئ مصيرنا ونترمد، ولم نكن نؤمن بمدٍ من السماء ينقذنا بلمحة، فقد كنا شديدي التعلق بالدنيا وسعينا لجلب الجنة صاغرة إلى الأرض معتقدين حد الموت بجنة ماركس المادية الفاضلة.

لا أتذكر أنني حلمت ليلة في ذلك المعسكر التركي، إذ كنت أسقط في النوم كالميت بعد يوم عملٍ طويل أمارس فيه مع رفاقي تقديم ما نستطيع لعوائل الفلاحين الأكراد الذين كنا نحلّ في بيوتهم في جوبان مفارزنا حيث كانوا يقدمون لنا الطعام والمأوى. كنا نوفي دينا أثقل روحنا طوال التجربة منذ بداية ثمانينات القرن العشرين وحتى الأنفال في 1988. هذا الإنشغال ألهانا قليلا عن فجاعة مصيرنا فيما لو وقعنا بيد المخابرات التركية ـ الميت ـ.

كنت أعود ليلا إلى الخيمة لأتوسد جسد حبيبتي الغض النابض غير آبهاً بالمصير وقادم الأيام. أتجاهل أسئلتها الدقيقة الدائرة حول الغد. كنت مثلها أكثر قلقاً من الغد المجهول، لكنني كنت أقفُ على مسافة من كل القناعات المطلقة بمدن فاضلة، بالعكس منها كانت راسخة وطامسة بمدينة ماركس حد الضياع بفضيلتها الموهومة.
ـ دعينا يا بهار من الأسئلة ولنغور ببعض!.
وكانت تلك أسعد أيام حياتنا الحسية ونتذكرها إلى الآن!.

فيما كنا في ذلك المخاض العسير، سمعت صوتاً يصيح على جادة سيارت تخترق المعسكر من طرفه الشمالي. فهمت خلاصة النداء باللغة الكردية المنطلق من مكبر صوت يدوي، لكنني وددت التأكد فهرعتُ إلى رفيقٍ من أهالي العمادية كان في خيمته مع عائلته. سحبته من مرفقه بهدوء، لكن بعجالة وقلت له:
ـ ماذا يقول المنادي بالضبط.. بالضبط، وما هذه شاحنات التراب العشر المصطفة على الجادة العريضة؟!.
أرهف سمعه للنداء المكرور وألتفت إلى قائلاً:
ـ رفيق هذا رجل دين تركي توسط كي ينقل من يرغب من اللاجئين إلى إيران بهذه الشاحنات!.

لم أصدق ما قاله، فطلبت منه الإنصات وترجمة ما يسمعه. أنصت للنداء المكرور والتفت نحوي مؤكداً ما ذهب إليه. ركضتُ مثل مجنون إلى خيمتنا وطلبت من ـ بهار ـ ضبّ أغراضنا فسوف نذهب إلى إيران !.

صبت الدهشة قسماتها الفاتنة، فخلدتْ إلى الصمت للحظة قبل أن تسألني:
ـ كيف؟!.
لم يكن لدي وقتا للكلام أشرت بيدي نحو صف شاحنات التراب التي يهرع نحوها العديد من اللاجئين العراقيين. لم تتوان جمعت في لحظات الضروري من الأشياء، حزمتها في حقيبتها وأمسكت بيدي قائلة:
ـ يله خلي نلحق!.
حررت يدي وحملت بطانينين من البطانيات التي حصلت عليها بالتوزيع. سوف تقينا من برد الطريق والخريف وأنتظارنا الطويل في نقطة الحدود التركية ـ الإيرانية. كنا وقتها من أسعد كائنات الدنيا نضحك من القلب. كنا ندرك أن مجرد الدخول إلى الأراضي الإيرانية سنكون في منأى من خطر التسليم للسلطات العراقية. كل رفاقنا العرب والأكراد وجدناهم معنا يتنظرون وصول قرار السلطات الإيرانية بالسماح بدخولنا إيران.

في اللحظة التي عبرنا بها نحو التيه ـ الإيراني ـ الجديد في رحلة منفانا المستمرة إلى الآن قررت أن ألقي عني أسمي الحركي وأسجل أسمي الحقيقي وذاك ما أغضب الرفاق، كنت ملتذا بأسمي وأنا أنطقه لرجل أمن إيراني قائلا بدلا عن أسم وهمي كما فعل الجميع:
ـ سلام عبد إبراهيم
ليس الرفاق فحسب بل زوجتي وحبيبتي ـ بهار ـ التي التفتت نحوي قائلة:
ـ ليش تكشف نفسك؟!.
أجبتها على الفور:
ـ أريد أسمي..  كياني..  بلا أسم حركي!.
وفي المعسكرات الإيرانية رأينا ويلاً لا يخلتف عن ويل معسكرت الأتراك إلا بأننا لم نكن مهددين بالتسليم للقوات العراقية
تجربة المعسكرات الإيرانية تحتاج إلى مسرد مستقل سوف أسرده إذا سمح ليَّ العمر والدنيا
 

أكتوبر 2008

 

صدرللكاتب:
1 ـ رؤيا اليقين ـ قصص ـ 1994          دار الكنوز الأدبية ـ بيروت
2 ـ رؤيا الغائب ـ رواية ـ 1996           دار المدى ـ دمشق ـ
3 ـ سرير الرمل ـ قصص ـ 2000         دار ـ حوران ـ دمشق
4 ـ الإرسي ـ رواية ـ 2008               دار ـ الدار ـ القاهرة
5 – الحياة لحظة – رواية – 2010     الدار المصرية اللبنانية – القاهرة -