يكتب القاص المصري عن تلك الشخصية المستغرقة في وحدتها والمتأملة في تاريخ حياتها. وتسعى إلى رد العجز عنها بتشبثها بالحياة. لكن السؤال عن مدى قدرتها على التحمل يظل يلاحقها.

العجز

محمد مصدق زايد

يخرج من بيته بعد أن يصلى الفجر مباشرة، يتجاوز الزقاق المفضى إلى الشارع، والذى يصل اليه عقب شروق الشمس. هناك يجد عبد الفتاح الفوال (بائع الفول والطعمية) أحيانا يجهز له طلبه الذى اعتاد عليه - منذ أكثر من خمسين عاما - بمجرد أن يراه مقتربا من الدكان، ويعطيه له بمجرد وصوله.

فيرده إليه وينهره قائلا:

- لا. اعمل الساندوتشات قدامى علشان أكلها سخنة فى الدكان.

تخرج الكلمات من فمه بطيئة وقوية كحركته ومشيته

يبتسم عبد الفتاح الفوال فى داخله. فهو يعرف أنه لن يصل الى دكانه قبل ثلاثة ساعات على الأقل، فيعيد إعداد الساندوتشات له باسما راضيا. يأخذها منه ثم يبدأ فى قطع ذلك الشارع القصير المفضى إلى دكانه

يرفع قدمه عن الأرض ويقدمها فى الهواء مسافة قصيرة وهو يجول ببصره للأمام وإلى حيث سيضع قدميه.ثم يضرب بها الأرض فى بطء وقوة. ليهتز مع وقعها جسده كله. بعدها يعدل وجهه تجاه الشارع، ثم يكرر الحركة مع القدم الأخرى وهكذا. حتى يصل إلى دكانه فى مدة تتجاوز أربع ساعات

تلك المسافة نفسها التى كان يقطعها من قبل فى عشر دقائق. إنه الزمن اللعين الذى جعله كالحطام البالية، إنه الزمن الذى أبقاه وحيدا، يقاوم الموت، ويصارع المرض، يقاتل التعب والإعياء فى كل لحظة يحياها. إنه الزمن الذى جعل أولاده يتركونه وحيدا. يضنون عليه بالزيارة إلا مرتين فى العام (مرة فى كل عيد ) وهذا بالنسبة لأبرهم به، أما أقساهم عليه فإنه لا يعرف عنه شيئا منذ عشرين عاما. فقد كافح ليعلمه ويربيه من أجل أن يتنكر له فى النهاية ويتركه مهاجرا إلى أمريكا. ليترك بلده ووطنه وأهله ليترك أباه الذى أدى مهمته تجاهه ومع تأديتها انتهى دوره بالنسبة له. عندما احتاج أباه وجده أما عندما احتاج الأب ابنه فلم يجده. إنها الدنيا كلما عمرت أكثر سقطت القيم وانهارت المبادئ وفسدت الأخلاق. تركته زوجته التى لم تكن قوية مثله لتصارع المرض وتقاوم الموت، بل انهارت مقاومتها بسرعة، واستسلمت للموت بهدوء وسكينة

تشتد أشعة الشمس التى تلفح وجهه فيتذكر الساندوتشات التى يحملها فى يده، والتي يشتريها كل يوم لكى يأكلها فى دكانه. ولكنه كل يوم يأتى إلى هذا المكان فيفترش أقرب (مسطبة) ويبدأ يقضم من الساندوتشات فى بطء وتلذذ. يترك بقايا طعامه على (المسطبة)، ثم يضرب يديه فى بعضهما لتسقط بقايا الأكل التى علقت بهما.

يتجدد الأمل لديه فى كل صباح بأن يصل إلى دكانه ويأكل فيه الساندوتشات التى يشتريها من عبد الفتاح الفوال. كل يوم يبدأ رحلته وهو موقن بأنه سيصل إلى هدفه ليأكل هناك طعامه

يقوم ليكمل طريقه الذى لم يسأم من قطعه طوال أكثر من سبعين عاما. لا يوجد شبر من أرض هذا الشارع لم تطأه قدماه من قبل. هذا الشارع الذى قطعه آلاف بل ملايين المرات إما لاعبا فيه أثناء طفولته، أو متجها إلى دكانه فى شبابه وكهولته ثم شيخوخته

هذا الشارع حمل آلامه وأحزانه، حمل أفراحه وحمل ذكرياته التى لم يعد يتذكرها. لم يبق له من ذكريات الشارع إلا هذا الطريق الذى يمشيه حتى يصل إلى دكانه. لم يعد يذكر فى حياته إلا ساندوتشى الفول والطعمية اللذين يشتريهما من عبد الفتاح فى الصباح ليأكلهما على احدى مساطب الشارع. دكانه الذي لا يخطئه أبدا، ولا يمكن أن يتجاوزه وهو غافل عنه. هو لا يصله بتوجيهات من عقله ولكن قدماه هما من يقوداه إليه. لو بترت ساقاه هاتان وتركتهما فى الشارع لذهبتا إلى الدكان دون حاجة إلى توجيهات من عقله. ولا ينس أن يقبض إيجار الشقة التى تعلو شقته والتى يعيش على ريعها. يؤمن بأن الإنسان آخر ما يسقط من ذاكرته ومدركاته هو المال فإن وجدت الإنسان غير متذكر لماله غافلا عنه فاعلم أن كل مدركاته قد أصابها العطب والدمار.

يصل إلى دكانه فيفتح بابه الخشبى العتيق، ويخرج كرسيا يجلس عليه أمام الدكان. حتى تحصره مثانته فيقوم ويستتر خلف باب الدكان الخشبي، ثم يتبول على هذا التل الرملى الذى جلبه للدكان منذ خمس سنوات ليتبول ويتغوط فيه كالقطط متى أحس برغبة فى ذلك.

يجلس فى الدكان الذى يحوى عدة سلال وأقفاص قديمة لم يبع منها شيئا منذ سنوات طوال. تأتيه امرأة قروية لتسأله عن هذا القفص أو ذاك.

فيجيبها بصوته الجهورى المتكاسل. تحاول السيدة أن تفاصله فى الثمن. فيرتفع صوته سابا لاعنا، يصرخ فى وجهها وهو يسب أجداد جدودها ويلعنها هى وأسرتها ومعيشتها حتى تفر من أمامه مسرعة. يجلس على كرسيه الخشبى حتى يسمع آذان العصر، فيبدأ رحلة العودة إلى بيته.

لم يعد يحفل به أحد فقد أصبح مثل أحد التماثيل الموجودة بالشارع، والتى اعتادت الأعين رؤيتها حتى أصبحت الأعين تتغافلها وتتجاهلها. تجد الأطفال يلعبون ويدورون من حوله وكأنه شئ شفاف لا يروه، وهو ينظر نحوهم فى رعب و ذعر. يخشى أن يصدمه أحدهم فيطرحه أرضا.

يكمل طريقه ليصل إلى منزله بعد صلاة العشاء. يأكل من أى شئ موجود بالمنزل. يجلس على سريره تؤنسه وحدته ويحادثه صمته

ينظر إلى الدنيا بعين مستريبة خائفة. فهو لا يرى فى الدنيا إلا وحشا يريد أن يفتك به، لا يرى فيها إلا أعداءا يتربصون به. يريدون أن ينالوا منه، لا يرى فيها إلا بئرا للخيانه ومعينا من الخداع ومنبعا للتلون. فالكل يتحين الفرصة كى يخونه ويخدعه.

يأتيه أحد أولاده فى جنح من الليل. اه إن هذا الولد لم أره منذ عامين ولكنى أغفر له ذلك فالدنيا تلاهى.

لا شك أنه متعب من أجل أبنائه الذين لا أذكرهم. تتهلل أساريره ويبتسم وجهه فى حبور. يرحب به ويجلس معه. يجتر عليه ذكريات لم يعد يذكرها، ومواقف لم تعد تفيده فى شئ. يخرج من حقيبته ورقة، ويطلب منه أن يوقع عليها. هذه الكلمة التى لم يسمعها منذ زمن، حتى أنها أحدثت وقعا غريبا على سمعه وذهنه. لقد نسى شكل القلم كما أنه ولابد وقد نسى مسكته.

يضع ابنه القلم فى يديه، ثم يقبض عليها بقوة وقسوة، ثم يضعها على الورقة ليجبره على التوقيع عليها. ينظر إلى الورقة يحاول أن يجمع ذهنه الحروف التى تلتقطها عينيه.

..ع....ق...د................ب....ى......ع

عققدد بييع. إنه يريد أن يبيعنى آخر ما أملك، يريد أن يبيعنى دنياى وآخرتي. ينظر إليه فيجده يرمقه بنظرة قاسية ملؤها شر وملؤها كراهية. ولكننى لن أستسلم لك ولن أستسلم لك أيتها الحياة. لطالما تمسكت بك وصارعت الموت من أجلك حتى أعييته وأنهكته. يا من تمنعينى من الموت لتأسريننى وتعذبيننى بأحقادك و ظلمك وظلماتك

أهلا بك أيها الموت. ها أنا ذا أقدم نفسى إليك بعد أن قاومتك كثيرا، وبعد أن صارعتك حتى ظننت أن قد صرعتك. هيا تعالى لتأخذ من أعجزك. تعالى لتعيننى على هذه الحياة التى قابلت تمسكى بها بالصفع والضرب. تعالى أيها الموت أدن منى. نعم هكذا فإنى أحس بك تدنو أكثر وأكثر، بل أنى أشعر بك تلامس جسدى الواهن. ها أنت ذا تتخلل جسدي، ولكن لم أنت قاس هكذا فى انتزاع روحي. حنانيك بى حنانيك بمن أرهقك وأتعبك.