يتناول الباحث العراقي هنا الفضاء المعرفي لمجموعة إخوان الصفا وسعة أفقهم الفكري في الممارسة والنظرية، ويربط بين رؤاهم الباكرة وبعض أفكار نيتشة اللاحقة عن السوبرمان القادر على ترويض نفسه والارتقاء بها إلى مراتب أسمى. في نوع من تتبع جنيولوجيا الفكر وأحافيره من ناحية وإبراز جانب مشرق في فكرنا العربي من ناحية أخرى.

إكتشاف الحفيرة.. في الفضاء الأبستمولوجي

عند أخوان الصفاء وخلان الوفاء

محمد علي النصراوي

إنَّ الفضاء الأبستمولوجي في القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية قد أحتوى على ممارسات خطابية معرفية، ومن بين تلك الممارسات كانت رسائل أخوان الصفاء وخلان الوفاء بكونها لوغوساً أو خطاباً مدوناً يقدم نفسه إلى الآخر بصفته ممارسات خطابية معرفية، وإذا ما كانت ثمة ممارسات خطابية معينة لها لحظات هيمنة مثل رسائل أخوان الصفاء تسود في هذه الفترة، نجد مجموعة جديدة من تلك الرسائل تحتوي على ممارسات معرفية ظهرت في الفترة نفسها. وإذا ما عددنا مفهوم (النفس الإنسانية) هي أحدى طروحاتهم المهمة لأن أهتمامهم كان منصباً على إيجاد مرتبة النفس القدسية، وهي مرتبة النبوة عندهم، فإنَّ هذه النفس تعدُّ (مثيراً معرفياً) بكونها البؤرة المركزية التي تتمحور حولها ممارساتهم المعرفية، وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ظهرت تلك الرسـائل إلى الوجود، فإنَّ هذه الأخوية رفعت النفس إلى مرتبة الألوهية. والإنسـان عندهم – هو المسؤول الأول عن أفعاله – أي ذلك الإنسان ذو النظرة الخارقة، القادر على حل مشاكله بنفسه والقادر أيضاً على تمييز الشر من الخير والحق من الباطل، وبهذا المعنى كانت الحقيقة في فلسفتهم ذات استقلال ذاتي لأن الإنسان هو الوحيد الذي يميز تلك التناقضـات في مسار حياته. فكان منهجهم هذا هو تحرير الإنسان من تقليد السلف.

وعليه فان العقل عندهم يتجلى لنا واضحاً ذا صفاء خالص يمتلك حريته وعدم تقيده بأي مقولات سلفية أو مقولات ثابتة لا تتزحزح في عقولهم، كما هم السلفيون أو ما نسميهم الآن بالأصوليين. إذ نلاحظ هذا الاختيار في نظرتهم إلى العالم تكمن فيه آلية التطـور والتجدد نحو المعرفة. وعلى أساس هذا المنهج رفعوا من قيمة الإنسان «عن مستوى الشيئية الآلية الجبرية الذي كان المحافظون (الأشاعرة) يريدون له أن يبقى في حضيضه، حتى إنهم قد فتحوا باب الفكر الحر على مصراعيه ولاسيما عندما طرحوا (النفس الإنسانية) كمعيار جوهري في حسم الأمور الفلسفية، خاصة عندما أبرزوا العالم المادي الموضوعي في قدمه وحركته الداخلية وقالوا إن الأجسام تتضمن شكلين وجوديين هما (الكوني والعياني) وإن الانتقال من شكل لآخر يتم من خلال تدخل الله. وإن الوجود التحولي لا ينفصل عن الوجود الإلهي»(1) – أي بمعنى إن الله لا يخلق شيئاً من (عدم محض). إن هذا الخطاب نجده متأثراً بالموضــوعية الأرســطية عــن (التحقق بالقوة والتحقق بالفعل)، بحيث إنهم صاغوا هذه المفاهيم في خطابهم الذي راح يتواءم والفكر الإسلامي وهذا ما نجــده في أهدافهم التي وضعوها لأنفسهم ومنها:-

1. خروج الفرد من (الأنا) الذاتية الضيقة التي تحتويه، وانصهارها مع الذات العامة التي تمثل الجماعة أو الأمة، أي بعبارة أخرى إن هذه الذات تحمل الفكر الذي تنادي به الجماعة نفسها متمسكة بالأهداف التي وضعوها لأنفسهم.

2. اسعاد (الأنا) الذاتية وجعلها على السبيل السوي الذي يحقق لها سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، لذا فإنَّ هذا الهدف يعدُّ السؤال الأنطولوجي الأول الذي يطرحه أخوان الصفاء وخلان الوفاء على أنفسهم باستمرار، وهو ما يشكل لهم الشغل الشاغل في تكوين هذه الجماعة، فعن طريق هذا السؤال يمكن للفرد منهم أن يحقق كينونته المتشكلة من كينونة الجماعة.

3. تقويم سلوك المجتمع، عن طريق تسخير كامل طاقاتهم العقلية والبدنية من أجل تحقيق وتطبيق الاعتقاد الذي توصلوا إليه، فهم يرفضون أخذ الأمور كما هي عليه، أي إنهم لن يلتجئوا إلى ما يقوله السلف والركون إليه، بل أخذ تلك المعتقدات والتفسيرات والتأويلات بواسطة دراستهم للعلوم الرياضية والفلكية والطبية إلى جانب علوم النحو وعلم الكلام، وتشخيص نقاط الضعف من خلال ما توصلوا إليه من علوم تطبيقة في رسائلهم التي طرحوها.

4. الابتعاد عن مهاوي الفتن والإنقسامات المعجلة في هلاك الأمة، تلك الإنقسامات التي تؤدي إلى التناحر وسفك الدماء بواسطة الحروب أو الغزوات فيما بينهم، والإبتعاد عن القذف والشـتم وأبراز مساوئ الاخرين. وذلك لتطبيق ماجاء في كلامه جل وعلا (خير أمة أخرجت للناس).

5. وعندما يتخلص الأنسان من شرور الدنيا ومساوئها، ويهيئ نفسه كي يمتلك العقل القدسي، يجد نفسه مكلفاً بأن يلتمس السبيل إلى خلاص الأمة من مساوئها ونقاط الضعف التي تحتويها وما وصلت إليه من تردٍ وأسـتكانة، ومن أنتشار الفساد والطغيان، ورفع الظلم عن المظلومين، وأعطاء لكل حق حقه.

6. عدم جمع الأموال، أو اكتناز الذهب والفضة وبكل السبل الممكنة، حتى وأن كانت هذه السبل منسجمة مع الشريعة السمحاء، فإنَّ ذلك يؤدي إلى أتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، ولتكن النفس الإنسانية عزيزة، يجب أن تكون قوية الإرادة أمام إغراءات المجتمع أو تلك الوافدة إليهم من الأمم الأخرى، بدافع الغريزة أو الشهوة.

7. تشييد دولة أهل الخير ذات النظام الاجتماعي الروحاني السليم، وهذا ما يؤكد لنا أن مذهب جماعة أخوان الصفاء وخلان الوفاء هو مذهب اجتماعي بالدرجة الأولى، وذلك عن طريق معاشرة الآخرين وكسبهم إلى جانبهم. كي يكونوا أخوية فلسفية خاصة بهم، أخوية تضم كل المذاهب والطوائف ومن ملل مختلفة وكل على طريقته الخاصة يجمعهم التوحيد الإيماني في الاعتقاد، في كتلة إسلامية قوية موحدة الأهـداف والكلمة.

8. تقوم هذه الأخوية بنشر أفكارها ومبادئها وأهدافها، على شكل رسائل تخاطب فيها وجدان الإنسان، وتذكره بما كانت عليه أمته من مجد وعز وكرامة ومن هداية إلى الله جل وعلا، وما آلت عليه هذه الأمة من ابتعادها عن السراط المستقيم، فأبتعدت السعادة وحل الشقاء ينخر في جسم المجتمع.

9. التستر عن أسماء الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الأخوية، وعدم الإفصاح عن أشخاصها، لذا أصبحت اللغز الذي حير المعاصرين لها. وظل الشغل الشاغل لكل المفكرين حتى يومنا هذا.

10. إشاعة العدالة الاجتماعية، ورص الصفوف، وجمع الكلمة، على أسس من الأخوة الروحية المبنية على وحدة الشعور والمثل والمنهاج السليم والأهداف السامية.

11. تنطلق هذه الأخوية من تفسيرها إلى الموُجِد الذي يعدُّ أقدم من المُوجَد بالضروة، ولأنه يعدُّ علة كل الموجودات المستحدثة بالنسبة إليه، إي لابد من أن تكون هناك علة أوجدتها وهي أصل خلقها وإبداعها وتنظيمها، في حركة مستمرة إلى ما لانهاية، وعليه فإنَّ تلك العلة يمثلها الخالق المبدع سبحانه وتعالى هو الله القوي الجبار الحكيم العليم الباقي، ذلك الذي ابتدأت منه الأشياء جميعها، وإليه تنتهي. ولما كانت نظرة هذه الأخوية وتفسيرها إلى (الموجِد) الذي هو المبتدأ الأول والنهائي، فأن هذا الهدف يعدُّ احد المنطلقات الأساسية لأخوان الصفاء وخلان الوفاء في جمع مختلف الطوائف والملل والمذاهب تحت راية التوحيد الإيماني في الاعتقاد التي توحدها كلمة الله الواحد الأحد.

ولما كانت هذه الأخوية ترمي إلى أقامة مجتمع روحاني ذو توجهات فلسفية، فقد قام منظرو هذه الحركة «على صياغة مجموعة من الأوامر الأخلاقية والوصايا التوجيهية صياغة نظرية، أفاد منها الأنصار والمريدون فائدة جلى، وألتمسوا تطبيقها في الواقع العملي»(2). وهذا ما أدى بأخوان الصفاء وخلان الوفاء إلى أن يتعمقوا في طروحاتهم الفلسفية صوب النفس الإنسانية، إذ أنَّ معرفة هذه النفس وسبر غورها يعدُّ المنطلق الأول والشغل الشاغل في تكوين نظريتهم. فانطلقوا من مفهومين أساسيين هما (الطبع) و(الإعتقاد)، فمقولة (الطبع) شغلت حيزاً كبيراً في ممارساتهم الخطابية، فهي في نظرهم «مجموع طباع الإنسان في مأكله ومشربه وسهولة أخلاقه وحزونتها وعسرها ويسرها وشدته ورخائه وبخله وسخائه.. والطباع ما ركب في الإنسان من جميع الإخلاق»(3). وقد عرف (لوسين) الطبع بقوله: هو مجموعة الإستعدادات النظرية التي تؤلف الهيكل النفسي للإنسان. ويتضمن هذا التعريف ثلاثة أمور هي:-

1. أنَّ الطبع ليس كل الفرد، وأنما هو ما يملكه الفرد حصيلة للوراثات التي تصالبت عليه، من أبويه وأجداده القريبين والبعيدين، وعلى هذا يكون كل ما في الطبع فطرياً ولد مع الفرد.

2. أنَّ هذا الطبع وحيد ثابت، فهو الذي يضمن للفرد وحدة بنيته، ذلك الذي يحدد التطور النفسي.

3. أنَّ هذا الهيكل النفسي، - أي أنَّ الطبع يقع على الحدود بين ما هو عضوي وما هو نفسي – أي بمعنى أن الطبع يكمل الجسم ويحدد الروح(4).

ولكننا نتساءل هل هذا الطبع الذي هو مجموع السجايا التي تتحلى بها النفس الإنسانية تكون ثابتة في خلقه مع تطوره ونموه في بيئة اجتماعية معينة؟ وإذا ما كانت هذه الطباع ثابتة في نظرهم ألا تشكل (الهُوية) الذاتية للشخص المريد عند أخوية أخوان الصفاء؟ وإذا ما كانت هذه الطباع قد وجدت بالفطرة كما يدعون ذلك.. هل تبقى ثابتة منذ ولادة الإنسان إلى يوم مماته؟ ولكن هذه الجبلة التي خلق عليها الإنسان تكون في رأينا عرضة للتغيرات المفاجئة التي تصادف المرء في تطور نمو شخصيته، فأن المرء الذي يعيش حياة المدينة يكون قليل العزيمة والصـبر، تغريه لذائذ العيش، وقليل التأمل، سريع الغضب، يحب المال والجاه، تختلف فيما لو عاش الشخص نفسه حياة البداوة في الصحراء سوف يتطبع على القساوة والصبر وجلد الروح، والتأمل العميق في حل مشاكله، أي أنه سوف يكتسب هذه الصفات الفزيولوجية الجسمانية والروحية بتطبعه أو تكيفه بتغيير بيئته كما تكونت نفسية النبي محمد (ص) حينما أرسله عمه إلى الصحراء كي يشتد عوده، ولكي يروض نفسه على الجلد الروحي والتأمل في اشياء هذه الدنيا، ومثل هذه النفس هي ما تطمح إليه أخوية أخوان الصفاء وخلان الوفاء، وذلك للوصول إلى الإنسان الخارق، والذي يذكرني بإنسان نيتشه الذي يدير ظهره إلى الجموع الغفيرة لأنها لم تستمع إليه وراحت تلهو بغرائزها وبشهواتها وهي تعبد الأوثان، لهذا التجأ إنسان نيتشه إلى غاره وصعد قمة جبله ومن هناك راح يتأمل الجمـوع الغفيرة. ألا يمكننا أن نقول الآن أن الإنسان في نظرية أخوان الصفاء وخلان الوفاء هو أقرب إلى سوبرمان نيتشه في ترويض نفسه وتطبيعها للوصول إلى هذه المرتبة الروحية.

إلاّ أن مفهوم (الهُوية) الذاتية لم يكن ثابتاً متوارثاً عن طريق انتقال هذه الطبائع التي تشكل سجايا النفس الإنسانية عن أبويه أو أجداده المقربين، كما هو الأمر عند السلفيين أو ما نسميهم اليوم بالأصوليين، إلاّ أن حركة الزمن، وهي أحدى مقولاتهم الفلسفية يؤكدون فيها على حركة الأشياء وتغييرها من نقطة إلى أخرى. وفي أحدى رسائلهم أكد أخوان الصفاء وخلان الوفاء على موضوعة النفس ومراتبها كما جاء في قولهم:-

«أعلم يا أخي ... بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة النفس الإنسانية. ومنها: ما هي دونها. فالتي هي بدونها سبع مراتب، والتي هي فوقها سبع مراتب أيضاً. وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أنْ يعرفها ويحس بها هي خمس، منها: أثنتان فوق رتبة الإنسانية، وهي رتبة الملكية القدسية. ورتبة الملكية، هي رتبة الحكمة، ورتبة القدسية، هي رتبة النبوة والناموسية واثنتان دونها. وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية»(5). وهذا عكس ما ذهب إليه (لوسين) في تفسير (الهُوية) في مقولة (الطباع)، إذ نرى أن النفس تمر بمراحل عدة للوصول إلى المرتبة القدسية التي هي مرتبة النبوة. وإذا ما حاولنا التعمق في طرح مقولاتهم الفلسفية التي شكلت انعطافاً حاداً في تاريخ الفكر العربي والتي شكلت الأبستيم المعرفي لديهم، هو ما طرحوه في نظريتهم (الأخلاط الأربعة) التي بينوا من خلالها على كيفية تشكل تلك الطباع الإنسانية «فالله حين خلق آدم وكوّن جسده قال: إني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء ثم جعلتها وراثة في ولده وفي ذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: ركبت جسده من رطب ويابس وحار وبارد»(6). هذا ما وجدته في موسوعة بطرس البستاني لأخوان الصفاء.

 وعليه فقد بلور أخوان الصفاء وخلان الوفاء أفكارهم نتيجة التلاقحهم مع الحضــارة اليونانية، واسـتيعابهم للأفــكار الغنوصية، خاصة عندما ترجموا الكتب الهرمسية، فبوساطتها تبين لهم اكتناه أسرار الطبيعة ومعرفة العلل وكيفية نشوء الأشياء. وكان هذا التأثير متأت من إن (هرمس) يعدّ في الكتب العربية النبي (إدريس)، وهذا ما يؤكد أن مفهوم (الطباع) التي تتحلى بها النفس الإنسانية عند أخوان الصفاء وخلان الوفاء تنطبق على (هرمس الحكيم) كما بينت التقاليد الغنوصية ذلك، ويبدو هذا واضحاً لدينا إن الروح العربية تميل دائماً «إلى الخوارق والمعجزات وهي لا تسـتطيع أن تتصور العمل العلمي إلاّ مشفوعاً وممهداً بالنظرية الروحانية»(7). فتبين لهذه الأخوية من خــلال ترجمــة الكتب الهرمسية إن (هرمس الحكيم) هو صورة أخرى لصورة النبي (إدريس) وكان تعليلهم في ذلك إن النبي إدريس ذُكر في القرآن الكريم _ إنه كان ورعاً، تقياً، صالحاً بحيث إن الله جلّ جلاله قد رفعه أليه، كما ورد في الآيتين الكريمتين: «واذكر في الكتاب إدريــس إنه كان صــديقاً نبياً، ورفعنـاه مكاناً عليا»(8)، «وإسـماعيل وإدريـس وذا الكفل كل من الصـابرين، وأدخلنـاهم في رحمتنا إنهم من الصالحين»(9).

أما في الأسطورة اليونانية فيقترن (هرمس الحكيم) بالإله المصري (تحوت)، والإله (تحوت) عند المصريين كان من مناقبه إنه يحسب عدد السنين والزمان، ويقدر لكل إنسان مقدار أجله، ولذا كان سـيد المصير، وهو الذي أخترع الكتابة، فتميز بصناعة السحر والطب والفلك والتنجيم والصنعة، حتى صار له شأن عظيم في الكونيات التي أنشأها كهنة (هرموبولس)التي عُدّ ربها. وعليه فان هرمس الحكيم أصبح أحد الآلهة لدى اليونان – مصدر الخير. وفي أحدى الرسائل اليونانية المنسوبة إلى (هرمس الحكيم) حيث نرى دلالة الطباع التام وكيفية اخذها عن طريق الترجمة لتصبح أحدى طروحاتهم المهمة في تكوين النفس الإنسانية ووصولها إلى مرحلة النفس القدسية التي هي مرتبة النبوة جاء في كتاب (الأسطماخس) لأرسطاطاليس:-

«وقد ذكر هرمس قال: إني {لمّا} أردت استخراج علم العلل الحقيقية وكيفيتها، وقعت على سَرَب مملوء ظلمة ورياحاً، فلم ابصر فيه شيئاً لظلمته، ولم يضيء لي فيه سراج لكثرة رياحه. فأتاني آتٍ في منامي بأحسن صورة فقال لي: خذ نوراً فضعه في زجاجة تقيه من الأرياح وتنير لك، وادخل إلى السَرَب واحفر وسطه، واستخرج منه تمثالاً بالطلسم معمولا، فأنك إذا استخرجت ذلك التمثال ذهب رياح السَرَب وأضاء لك. ثم احتفر في أربعة أركانه، واستخرج علم سرائر الخليقة وعلل الطبيعة وبدء الأشياء وكيفيتها. قلت له: ومَنْ أنت؟ قال: طباعك التام. فان أردت أن تراني فادعني باسمي»(10).

إنَّ التفعيل الاستقرائي يؤكد لنا إنَّ (الطباع التام) قد شكل (مثيراً معرفياً) في نص (الأسطماخس) – يدعم المثيرات المعرفية الأخرى على تشكيل كون صغير يمثله جوف (السَرَب)، إذ من خصائص هذا المثير – الطباع التام يصل الحكيم بقوة علوية بطريقة مباشـرة، تستبعد معها أية واسطة، فهي قوة طبيعية تدخل في مزاج الحكيم لتكوين روحانيته وتعدّ بمثابة النموذج الأعلى لأخوان الصفاء وخلان الوفاء.

وخلاصة القول إذن نحن أمام طروحات فلسفية تمثل التراث الإنساني لأخوان الصفاء وخلان الوفاء، ولا يمكننا أنكار هذا التراث الذي ولد في القرن الرابع الهجري أو نغض الطرف عنه، إلاّ إننا نتعامل معه كإشكالية مستقلة عن باقي الطروحات التي ظهرت في الفضاء الأبستمولوجي، والهدف من دراسة هذه الطروحات هو كيفية معرفة ذواتنا - أي بالتعرف على آليات العقل العربي التي شكلت لنا الثقافة العربية الإسلامية، والدراسات التي تتناول هذا الفضاء المعرفي غالباً ما تقع في سوء الفهم في كيفية تناول هذا التراث الشامخ بقيمه الإنسانية والروحانية لذلك فان هذه الدراسات تفلسف ضمن الهيمنة السلفية الطاغية، فهي لم تدرسه على أساس تاريخ أفكار يتطور بالتعاقب التدريجي مع طروحات أخرى كطروحات الغزالي أو الكندي أو أبن الرشد أو أبن سينا أو الفارابي ولم تدخله في صراع من أجل نمو الأفكار العربية الإسلامية التي ظهرت في القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية - أي بعبارة أخرى أن مشروعنا الثقافي العربي أن صح ذلك في تشكيله كخطاب معرفي، يدرس التراث كأفكار مجردة عن سياق فضائه المعرفي وأتجاهاته الفلسفية، أي نحن دائماً في دراساتنا تهيمن علينا النزعة السلفية ونبحث في هذا التراث عن ركيزة في الماضي نتحصن بها أمام مشروع الآخر، الذي عرف كيف يمنهج مشروعه الثقافي. لماذا إذن هذا التخبط في البحث عن الماضي كي يكون لنا ركيزة نتكئ عليها في حاضرنا..؟ لأن السلفية الدينية، والإستشراقية، والماركسية تقوم جميعها على آلية واحدة وهي (قياس الغائب على الشاهد) كما طرح ذلك الباحث العربي محمد عابد الجابري في تناوله لدراسة التراث العربي – أي ان آلية القياس قد سيطرت على العقل العربي فصارت هي الفعل العقلي الوحيد الذي يعتمد عليه في الإنتاج المعرفي، أن أستخدام آلية القياس من قبل الباحثين هي طريقة لا شعورية في تناولهم لطروحات العرب الفلسـفية. إذن علينا إيجاد قطيعة أبستمولوجية (معرفية) من خلالها نستطيع فهم التراث، أي لابد من قراءة موضوعية معقلنة في أيجاد تاريخ للأفكار العربية، تاريخ تعاقبي وليس تزامني، والسبب في ذلك أن الدراسة التزامنية تقوم على تناول الأفكار في ضوء حاضر الأمة لذا فهم يقيمون هذا الحاضر من خلال آليات الماضي التي تعدُّ قانوناً حتمياً لديهم لا يمكن التلاعب به على الإطلاق.

بينما التناول التعاقبي لدراسة تاريخ الأفكار، هي دراسة تراكمية تكميلية اللاحق منها يكمل السابق،كما في دراسة المشروع الثقافي الغربي، هذا المنظور يساعدنا على صياغة نظرية ثقافية قومية، أو نشوء مشروع ثقافي عربي نستطيع من خلاله صياغة نظرية معرفية لدراسة التراث العربي الإسلامي على العموم.

إذن المنهج الأبستمولوجي يساعدنا في كيفية قراءة الطروحات الفلسفية لأخوان الصفاء وخلان الوفاء مع غيرها من الطروحات أو الممارسات الخطابية المعرفية في الفضاء الأبستمولوجي نفسه.

فإذا ما اخذنا الفضاء الأبستمولوجي للقرن الرابع الهجري الذي ظهرت فيه طروحات أخوان الصفاء وخلان الوفاء نلاحظ أن الآلية العقلية لديهم مشابهة للآلية العقلية في طروحات المفكرين العرب الذين ظهروا في الحقبة نفسها، فمفهوم العقل لهذا الفضاء قد اعتمد على ثلاث آليات تمحورت حولها بنية التفكير العربي وهي (الإنسان، والله، والطبيعة)، وأخوان الصفاء وخلان الوفاء فلسفوا مفهوم النفس الإنسانية لتدرك الله بواسطة الطبيعة، فكان تركيزهم على العناصر الأربعة في الطبيعة وهي النار والهواء والماء والأرض لإظهار خواص النفس الإنسانية وتشبهها بالبرودة والرطوبة والحرارة واليبوسة طريقاً لمعرفة الله وهذا ما وجدته في موضوعة النفس الأنسانية في موسوعة أخوان الصفاء الصادرة عن الدار الإسلامية الذي جاء في الرسالة السابعة، فصل في الصفات المختصة بالجسد والنفس ما يأتي: «واعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده هي أنَّ الجسد جوهر جسماني طبيعي ذو طعم ولون ورائحة وثقل وخفة وسكون ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، وهو متكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرَّتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة»(11).

وأعتقد ان ما قمت به في هذا المبحث حولت رسالة النفس إلى عملية أكتشاف الحفيرة وهو ما يسمى في المنهج الأبستمولوجي بالتحفير الأركيولوجي، أي إننا قمنا بإبراز هذه الحفيرة والكشف عن أسرارها الباطنية التي عدّت الطريقة المثلى لأخوان الصفاء وخلان الوفاء، وفي الحقيقة إذا ما أردنا أن نتتبع هذا المنهج الجينولوجيا – الأركيولوجيا، فإننا سنلحظ بعدين مزدوجين في عملية التحفير نفسها، فإنَّ عملية البحث في رسائل اخوان الصفاء من حيث هي عملية جينولوجيا، فالمبحث لا يهمل عامل الزمن في ذلك الفضاء الأبستمولوجي الذي ظهرت فيه إلى الوجود بل يلتقيه مع رسائل اخرى مجاورة في فعل التكوين المعرفي، وذلك نتيجة للتلاقح الحضاري المتأتي عن طريق ترجمة الكتب اليونانية وما دعت إليه الفلسفة الغنوصية من افكار في آلية التوحيد الإلهي، ففي العصر العباسي حيث احتضنت الدولة رسمياً حركة التعريب في عهد أبي جعفر المنصور، ونشطت في عهد هارون الرشيد، وبلغت حركة التعريب ذروتها في عهد الخليفة المأمون. حيث أجزل العـطاء للمترجمين الذين عربوا كل ما وصل إليهم من كتب اليونان والهند والفرس، وقد عرب السريان أكثر من (200) مئتي كتاب عن اليونان. وهذه الكتب هي كتب أبقراط وجالينوس الطبية، وفيثاغورس واقليدس وارخميدس في علمي الرياضيات والفلك. وسقراط وأفلاطون وأرسطو في الفلسفة هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإنَّ هذا المنهج من حيث هو أركيولوجيا يستكشف الطبقة الحفرية وهي موضوعة (النفس الإنسانية) وما تحمله من طباع التي يتشكل منها مزاج الحكيم وغايتها هي الوصول إلى مرتبة الملكية القدسية التي يصل إليها الأنبياء التي تقوم عليها هذه المعرفة في موضعها التحفيري من ذلك الفضاء الزمني.

 

المراجع والإحالات:
(1) تاريخية المعرفة، منذ الإغريق حتى ابن رشد/ مجيد محمود مطلب – الموسوعة الصغيرة –العدد – 72، بغداد 198.م.
(2) ضمن مقدمة كتاب – الأخلاق عند أخوان الصفاء وخلان الوفاء – ص 7 – تأليف غسان علاء ادين / دار الحوار سنة 2..3م.
(3) أبن منظور، لسان العرب ج8، ص 233 نقلاً عن المصدر السابق نفسه، ص 53
(4) الدروبي، سامي، علم الطباع ص 122، نقلاً عن المصدر السابق الذكر، ص 54
(5) الموسوعة الفلسفية – تأليف ياس خضير الربيعي - الجزء الثاني / مكتبة دار الحكمة، ص 1.9
(6)  رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء – تحقق بطرس البستاني – بيروت – دار صادر – ص 3..
(7) عبد الرحمن بدوي / (الإنسان والوجودية في الفكر العربي) – دار القلم / بيروت – لبنان سنة 1982م.
(8) القرآن الكريم – سورة مريم.
(9) القرآن الكريم – سورة الأنبياء.
(10) المخطوطة رقم / 4291 – تصوف بدار الكتب المصرية، وهي رسالة أرسطاطاليس إلى الإسكندر _ من ص/ 136، نقلاً من كتاب (الإنسان والوجودية في الفكر العربي) السالف الذكر.
(11) رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء –ج1 – الدار الإسلامية – ص 26.