إلى أي حد يمكن اعتبار الرواية سيرة ذاتية لإنسان محدّد ولآخرين قاسموه التجربة، ولو بمقدار؟ هذا السؤال المهم يطرحه الناقد على رواية «مديح الهرب» للكاتب السوري خليل النعيمي في تناول نقدي للرواية.

الحرية الروائية وتكسير الأحلام

خليل النعيمي في «مديح الهرب»

فيصل درّاج

 

إلى أي حد يمكن اعتبار الرواية سيرة ذاتية لإنسان محدّد ولآخرين قاسموه التجربة، ولو بمقدار؟ وهل يقبل النص الروائي، الذي لا يبدو رواية تاريخية، أن يتحوّل إلى وثيقة تاريخية؟ وهل تعتمد الرواية على مرجع فلسفي محدد أم أنها تنتج، وهي تنتج عفوياً، قولاً فلسفياً خاصاً بها يأتلف في النهاية مع بعض المقولات الفلسفية؟ هذه الأسئلة تثيرها رواية خادعة البساطة عنوانها «مديح الهرب»، لسوري استوطن المنفى هو خليل النعيمي. وهذا الروائي الذي انتقل من شمال شرقي سورية إلى باريس هو طبيب جرّاح، درس الفلسفة وواجه المنفى بروايات كثيرة مثل: «تفريغ الكائن» و «دمشق 67»، كما لو كانت الرواية جسراً إلى زمن أصلي، سبق المنفى والكتابة الروائية.

تتعامل «مديح الهرب»، كغيرها من روايات كثيرة، مع «الفرد المغترب»، الذي أراد شيئاً ووصل إلى غيره، بسب شرط خارجي قامع. تسرد الرواية سيرة جيل حالم، عاش هزيمة الـ 1967 وما بعدها، وعاش أكثر حلماً عاثراً، انتهى إلى متحف الكوابيس. وإذا كان في الرواية سيرة جيل محدّد اللغة والشعارات والمقاصد والأحلام والأوهام، انتشر وتمدّد في مدينة دمشق ذات مرة، فإن فيها ما يحدّد الزمن والمكان و «البيئة اللغوية» تحديداً واضحاً، لا نقصان فيه. فالزمن هو ما تلى الهزيمة وهو الزمن الذي يستعدّ للرد عليها، وهو أيضاً حيّز الأحلام النضرة التي استقرت في لغة من خشب، وفترة توطيد العادات التي اتخذّت من «تفريغ الكائن» مهنة مستديمة. والمكان هو سورية، حيث «الجزيرة» التي تمزج الفقر بالطموح والبراءة، ودمشق التي كانت ذات مرة حلم الذين يساوون بين المدينة والجنة، وحوران حيث الصخور اللامعة والخضرة والفقر المتوارث وجمع من المنسيين، والجولان التي تطل عالية ومهزومة، تغسلها أمطار شتائية غزيرة، ويغشاها الضباب في معظم الفصول. كل شيء كما يريده قسط من السيرة الذاتية أن يكون، وإنْ كان في السيرة التي دفعت طبيباً إلى الهرب سير كثيرة، لم يهجس أصحابها بالهرب، قبل الهزيمة الواسعة المتمادية. ولأنَّ في زمن «المفرد المغترب» زمناً تاريخياً بامتياز، فلا يعادل هزيمة الـ 1967 العربية إلا هزيمة محمد علي باشا في مصر القرن التاسع عشر، فان في صناعة «الكائن المفرغ» السلطوية ما يشرح أسباب الهزيمة وتوالدها الذي لا ينتهي.

صاحب السيرة شاب قوميّ الطموح إنساني الأحلام، تخرّج في الجامعة طبيباً، يمضي فترة تجنيده الإجباري في الجيش بصفته صاحب اختصاص. إنه الضابط - الطبيب الذي يجمع بين الكفاءة وحب الوطن. تتكوّن السيرة فنياً في مسار السارد المستقيم، الذي يطل من الجانبين على نوعين من البشر: المثقفون الحالمون داخل «الجيش» وخارجه، الذين هم «الموضوع» الذي تصوغه السلطة، ورموز السلطة الذين هم «الذات» التي تحقق التصنيع البشري. يتراءى من بعيد نثار بشري، يتفرّج على سلطة لا تراه، يمثله «فقراء حوران» الذي يموتون قبل وصولهم إلى «الطبيب الأعزل»، الذي لا سلطة لديه ولا دواء، وفلسطيني فقير يشعل أحلامه في نهاية الليل. تتعيّن الشخصيات فنياً بمقولة «الحضور»، حيث الطبيب لا حضور له في حضور المسؤول، الذي له كل الحضور، غائباً كان أم حاضراً، وحيث ما هو خارج السلطة الحاضرة لا حضور له على الإطلاق.

لن تكون السيرة الذاتية، بالمعنى الرمزي، إلا مرآة الحضور الطاغي الذي يجبر من لا حضور له على الانتحار أو الموت أو الهرب. ولعل جدل الحضور والغياب هو الذي يرفع الفعل الروائي إلى مستوى المجاز.

في مساره المستقيم يطل السارد على «الكائنات المنتصرة»، وعلى شخصيات حالمة متلاشية، أفقها الموت والتداعي. واقع الأمر أن رواية «مديح الهرب» ترصد الواقع كما هو، وترى إليه كما يجب أن يكون، مفترضة «حرية اختيار الموت» أفقاً لكل من خسر حريته. ولعل هذا المنظور الذي يواجه السجن بالهرب، والقبيح بالجميل، والشرير بالخير، هو ما يعطي الطبيعة مكاناً واسعاً، في الرواية. ففي مقابل تكامل القبح والشر، تبدو الطبيعة جميلة رحيمة وادعة ووديعة، يأوي إليها المفرد المغترب الذي التهم غيره حضوره. فنقاء الطبيعة هو الوطن، و «مصنع البشر» السلطوي وطن لا علاقة له بالوطن. تصبح الكتابة الروائية، بهذا المعنى، امتداداً لطبيعة لا عنف فيها، وتغدو الطبيعة فناً سامياً غير مكتوب، وتكون الطبيعة والكتابة الروائية حديثاً عن الوطن ومرآة له. ينتهي الروائي إلى معنى «الذات الإنسانية»، التي لا تتعرّف بنهوض الأحلام وأفولها، فكل الناس يحلمون وكل الناس تغادرهم أحلامهم في شكل أو في آخر، إنما تتعرف بقدرتها المتصاعدة على تمييز الطبيعي من غير الطبيعي والشائه من السويّ، وتميز تمرد الأرواح العاجزة عن تمرد الأرواح الطليقة. ولهذا تستدعي المواجهة بين القبح والجمال، في نهاية الرواية، «الأمثولة»، التي تعيد إضاءة الفعل الروائي: جندي يحتقر رؤساءه ورؤساء يكرهون جنودهم يشتركون جميعاً في وليمة كبيرة من «لحم حمار». كل شيء في غير مكانه وغياب المعايير المعقولة هو المعيار الوحيد، وعلى الجندي الأعزل أن ينتحر قبل أن يموت «حماراً» وعلى المتسلّط أن يطلق النار على الطبيب - الضابط، الذي يرفض أن يكون حماراً. بعض يستعجل الموت، وبعض هو الموت يمشي على قدمين، وبعض يضع تجارب الحياة في شكل روائي، يدافع عن الحياة.

«مديح الهرب» رواية في شكل سيرة ذاتية، وسيرة محتشدة بسير أخرى، ونص عن تاريخ مهزلة وعن مهزلة تاريخية - مأساة، وشهادة صافية على مكر تاريخ رث يرحّب بالحالمين ويطلق النار على أرواحهم قبل الزحف الجليل إلى الحلم. صاغ خليل النعيمي مقطعاً تاريخياً في شكل سيرة ذاتية، تتحدث عن الدنس والبراءة والكذب والحقيقة وعن الموت وأحلام الكتابة.