يسعى الباحث السعودي في هذه المقالة إلى تقديم فنٍّ من فنون الإنشاء في أزهى عصور الرسالة وأكملها نضجاً، وأعلاها مكاناً، وأسماها بياناً، ألا وهو فن الكتابة والرسالة في الأدب العربي القديم، وفي فترة زاهية من تاريخ هذا الفن وهي القرن الرابع الهجري. فيتعرف على دلالات هذا الفن ومرامية، ويصنف لنا أنواعه المختلفة.

الكتابة والرسالة في الأدب القديم

قراءة في المفاهيم والأنواع والشخصيات الكاتبة: القرن الرابع الهجري نموذجاً

فهد إبراهيم البكر

بسم الله والحمدلله وبعد:

المراسلات فن نثري كتابي، نشأ منذ أن عرف الإنسان الكتابة وتطور معها، وارتقى بها إلى أن أصبحت مذهباً كتابيا، يلتزم فيه الكاتب أسلوباً معيناً في الشكل، واتجاهاً مخصوصاً في المضمون والطرق والأدوات، وتتنوع تسميات هذا الفن قديماً وحديثاً، ففي العصور القديمة كان يطلق عليه المكاتبات، وكتب النقد والأدب يكثر فيها مثل هذه المسميات، لكنها بعد ذلك سميت بالرسائل أو المراسلات أو الترسل والترسيل، أو المكاتبات الرسائلية أو الترسلية، وأصبحت بعد ذلك فناً نثرياً قائماً بذاته، له أصحابه وأربابه، وكتابه ودواوينه، وأدواته وطرقه وأنواعه، وقد واكب عصور المدنية وازدهار الكتابة. والرسالة فن قديم، وأصل من فنون النثر لا يقل أهمية وشهرة عن غيره من الفنون الأخرى، وهو ينقسم إلى أقسام عديدة بحسب الموضوعات التي يتناولها ويعالجها، فهنالك الرسائل الأدبية، والرسائل العلمية، والرسائل الدينية، والرسائل التاريخية، والرسائل الفلسفية، والرسائل السياسية(1).

وحين نعرض للحد اللغوي والاشتقاقي لمادة (رسل) فإننا بصدد مادةٍ أجمعت أكثر معاجم اللغة على توحد دلالتها، ففي اللسان: الرّسل: القطيع من كل شيء، والقطيع بعد القطيع، والتّرَسُّل: من الرسل في الأمور والمنطق، كالتمهل والتوقر والتثبت، وجمع الرسالة الرسائل، والإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه، والاسم الرِّسالة والرَّسالة والرّسُول والرّسِيل.(2) وفي القاموس المحيط: تراسلوا: أرسل بعضهم إلى بعض، وترسل في قراءته: اتّأد.(3) وفي أساس البلاغة: رَسَل: راسله في كذا، وبينهما مكاتبات ومراسلات، وتراسلوا وأرسلته برسالة وبرسول، وأرسلت إليه أن افعل كذا، وأرسل الله في الأمم رُسُلاً.(4) والرسالة بمدلولها العام تعني: الإيصال والتبليغ، والإنباء والإخبار، وتتجلى هذه المعاني في آيات كثيرةٍ من كتاب الله جل وعلا مثل قوله تعالى:«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ»(5) وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(6) وقوله تعالى: «إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ»(7) وقوله تعالى: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وأَنصَحُ لَكُمْ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ».(8)

ويعدّ ابن وهب الكاتب من أوائل الذين ترسموا منهجاً فنياً للترسل، فكتب عنه وعن أدواته وطرقه وأشكاله، ومع هذا فقد كان جهده محدوداً لا يلغي جهود السابقين حول الفن الترسلي، فقد وردت في كتب النقد والأدب نصوص كثيرة تشير إلى هذا الفن، وتحث عليه وعلى تعلمه وتعليمه والاهتمام به، وهو الأمر الذي يدل على وضوح فكرة الرسالة والمراسلات والترسل آنذاك، والتزامها طريقة فنية في أشكالها وألوانها، ومضامينها وأهدافها. من هنا يمكننا القول إنه منذ العصر الجاهلي وما بعده من العصور الإسلامية حتى القرن الثالث الهجري، لم يكن لمصطلح الترسل ذلك الظهور الجلي في كتب النقد وأدب الكتاب وكل ما وجد إنما هو من قبيل الإشارات والتلميحات التي لم تستند إلى التفصيل والتحليل، فقد كانت دائرة التعميم تكتنف كل فن كتابي كالوصايا، والتوقيعات والجوابات والمناشير، والعهود ونحوها، تحت ما يسمى بالكتب أو المكاتبات.

حول الكتابة: -

إذا كانت تسمية المكاتبات أعم من المراسلات، فإن هناك من المتأخرين من جعلهما بمعنى واحد، حيث قال في تعريفه للمكاتبات والمراسلات: " المكاتبة وتعرف أيضاً بالمراسلة هي: مخاطبة الغائب بلسان القلم، وفائدتها أحسن من أن تحصر من حيث أنها ترجمان الجنان ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد. وطريقة المكاتبة هي طريقة المخاطبة البليغة مع مراعاة أحوال الكاتب والمكتوب إليه والنسبة بينهما ".(9) ويبدو لي أن المكاتبات أو الكتابة، أعم وأشمل من الرسائل وإن كانت هي نواتها الأولى وبدايتها الممهدة لها، إلا أن الرسائل والمراسلات تعبر عن نمط خاص من أنماط الكتابة الأدبية، اكتسبت طابعها الفني المميز في عصر عبد الحميد الكاتب ومن ساروا على نهجه ممن أتوا بعده، إلى أن وصلت ذروة السنام في القرن الرابع الهجري على يد ابن العميد والصاحب بن عباد، والخوارزمي، والهمذاني، والإسكافي، وعبد العزيز بن يوسف وأضرابهم من أصحاب المذهب التصنيعي المزخرف. ولهذا فالكتابة إنما تعني تلك الحرفة أو الصناعة التي يقوم بها الكاتب في أي مجال وفي أي غرض، بينما الرسالة الأدبية تأخذ منحى خاصاً ومنعطفاً مستقلا عن الكتابة العامة، فهي تتكئ على أصول فنيةٍ، وطرقٍ منهجيةٍ منذ بدايتها حتى تنتهي.

والرسالة من رؤيةٍ فنية إنما تعني المراسلة بين طرفين في موضوع ما، سواء أكان ذلك الموضوع وجدانياً، أم ديوانيا (سلطانياً سياسياً)، أم دينياً أم غير ذلك، ولا بد أن تكون تلك الرسالة خاضعة لأصول فنيةٍ، وقواعد أساسيةٍ، وأسس سليمة، حتى تؤدي المهمة المنوطة بها رؤية وفناً. وحين ننظر إليها من منظور أدبي عام، فإننا لا نشترط فيها تلك الازدواجية الثنائية المقتصرة على المرسل والمرسل إليه، وإنما نجعل حيز التعميم فيها أرحب، وهدف الرسالة أوسع كأن تكون صادرة من شخص إلى جماعة، أو العكس، أو من جماعة إلى جماعة، أو على ألسنة الحال، ونحو ذلك، ولهذا فإن الفن رسالة، والرسالة فن. وخلاصة القول في مفهوم الرسالة: أنها الكلام المرسل من بعد، ولذا كان لابد فيها من وجود طرف منتج لهذا الكلام بمستوى من المستويات الفنية وهو (المرسل) وطرف متلقٍ لهذا الإنتاج وهو (المرسل إليه) وطرف ناقل له هو (المرسل) أو (الرسول).(10)

فالترسل إنما هو: " فن إنشاء الكلام المنثور، وحسن صياغته وتأليفه للوفاء بأغراض المراسلة المختلفة، وليس يعد في نظر النقاد نوعاً أدبياً إلا إذا كانت الغاية الفنية أو البلاغية ظاهرةً فيه ومقصودة، واتجه إلى الجمهور، ولم يكن مقصوراً على المخاطب بالرسالة فحسب، كما لا تعد الرسائل الشعرية أو الأدبية أو العلمية التي لم يؤلفها أصحابها بقصد المراسلة من هذا الفن أيضاً".(11) إنّ هذا يؤكد ضرورة التبادلية والتوجيه في صوغ الرسالة، وتوفر العنصر البلاغي والجمالي فيها. فالرسالة لون من ألوان النثر الفني الجميل، وضرب من ضروبه التي تنهال على القريحة انهيالاً وهي باب من أبواب النثر الفني الجميل الذي يعد نداً للشعر وكفؤاً له.(12)

والرسالة مجال رحب للسردية والحوار وإيراد القصص، واستخدام التراث حسب ما تمليه طبيعة الرسالة ومضمونها الذي يرومه الكاتب، وحسب ما يتطلبه المقام الخطابي ومراتبه بين المرسل والمرسل إليه، ولهذا يعرّف القلقشندي الرسائل بأنها: " جمع رسالة والمراد فيها: أمور يرتبها الكاتب من حكاية حالٍ من عدو أو صيد، أو مدح وتقريض أو مفاخرة بين شيئين، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وسميت رسائل من حيث أن الأديب المنشيء لها ربما كتب بها إلى غيره مخبراً فيها بصورة الحال، مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات، ثم توسع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها ".(13)

أنواع الرسالة وعناصرها:
والرسائل أنواع منها: الرسائل الديوانية، ويسميها بعضهم السلطانية أو السياسية " ويراد بالرسائل السياسية: الكتب التي تكون بين الملوك والحكام والأمراء والولاة والقواد، وبمعنى آخر الرسائل ذات الطابع الرسمي التي دعيت في العصور المتأخرة بالسلطانيات ".(14) وبعضهم يسميها الرسائل الدبلوماسية(15)، ويندرج تحت لوائها: " المخاطبات الإعلامية كالمنشورات والمبايعات، والمخالعات، والأمانات، والبشارات، والتوقيعات والتنظيمات الإدارية، والعلاقات الخارجية "(16)، وهذه الرسائل معنية بأمور السلطة، وتنظيم أحوالها الإدارية، وشؤونها السياسية وغالباً ما تتسم بالصبغة الرسمية والطابع الحكومي.

ومن بين أنواع الرسائل: الرسائل الإخوانية، ويمكن الاصطلاح على تسميتها بالرسائل الوجدانية ؛ لأنها تنبع من الوجدان، وتصب فيه. ويسميها بعضهم الأهلية(17): وهي تلك التي تدور بين الأقارب والأصدقاء، وتتسم بالطابع الرسمي، وتفسح المجال للأحاسيس والمشاعر المتبادلة، ويدخل ضمن إطارها مثلاً: التهاني والتعازي، والمدح والذم، والمراثي، والشكر، والشكوى، والعتاب، والاشتياق والاستعطاف، والاستمناح، والاعتذار ونحوها.

وهنالك أيضاً الرسائل الأدبية كرسائل الجاحظ مثلاً، وهي أشبه ما تكون بالمقالات في عصرنا الحاضر، وفيها يتناول الأديب موضوعاً ما: فردياً، أو اجتماعياً، تناولاً أدبياً مبنياً على إثارة عواطف القارئ ومشاعره، وهذه الرسائل غالباً ما تبدأ بالحديث إلى المخاطب والدعاء له، ثم تدخل في الموضوع الذي أنشئت له الرسالة، وإذا أنت حذفت هذا البدء بدت الرسالة مقالاً سوياً، ولم يعرض نقاد العرب لهذه الرسائل يتبينون منهجها، أو يتحدثون عما ينبغي أن يكون فيها، أو يستخلصون العناصر الجوهرية التي تفرق هذه الرسائل الأدبية عن غيرها من ألوان الرسائل.(18) وتتسم تلك الرسائل بطابع فني، وعناصر شكلية تجعل منها نمطا نثرياً مميزاً فهي غالباً ما تفتتح بالبسملة أو الدعاء أو نحو ذلك، ثم الإشارة إلى العنوان الذي صيغت من أجله، مع ما يصاحب ذلك من تحميدات أو تحية أو نحوها. ثم يواجهنا شكل آخر وهو ما يعرف بفن التخلص، والانتقال من غرض إلى آخر، وتقديم المتن أو القالب الرئيس للرسالة، وهكذا حتى نصل إلى الاختتام، وما يصاحبه من عناصر شكلية تميزه كالدعاء، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيجاز مضمون الرسالة، وطلب الجواب ونحو ذلك.

تصنيف رسائل ذلك العصر:
حظي القرن الرابع الهجري بتدفق هائل لمضامين الرسائل الأدبية؛ وهذا عائد إلى الاهتمام البالغ بهذا الفن من جهة، ولكثرة المؤلفات والمصنفات العلمية والمعرفية من جهة أخرى، ومن هنا فقد تعددت أنواع المضامين الترسلية وأشكالها ما بين رسائل فلسفية، ونقدية وطبية، ووصفية، وغيرها، وسوف يكون عرضنا لتلك التي رأينا فيها إضافة للفكر والثقافة والمعرفة بشكلٍ يمتع القارئ ويفيده.

أ - الرسائل الفلسفية:
لعل مما يلفت الانتباه في ذلك العصر هو رسائل الفلاسفة الذين نقلوا لنا فلسفتهم وأفكارهم من خلال أسلوب جميل، ولفظ بديع كما نلحظ مثلاً عند ابن شهيد، أحمد بن عبد الملك بن أحمد الأشجعي (ت: 426هـ) ورسالته التوابع والزوابع مرتبطة باسمه حينما يذكر، وقد صاغ هذه الرسالة حينما شعر بالانتقاص والازدراء من قبل معاصريه " وإذا كان الدافع وراء قصص بديع الزمان هدفاً اجتماعياً ينحصر أساساً في تصوير البيئة الاجتماعية لعصره؛ فإن الدافع عند ابن شهيد في كتابة قصة التوابع والزوابع نابع من إحساسه بأن معاصريه من الأدباء والنقاد لم يعطوه حقه من التكريم، ولم ينزلوه المنزلة الأدبية التي رأى نفسه أهلاً لها"(19). وقد اعتمد ابن شهيد في رسالته هذه منهجاً فلسفياً اتكئ على الخيال الأسطوري حيث لم يجد من ينصفه ويعرف قدره إلا توابع الشعراء والكتاب الأوائل والمبرزين ونقاد الجن وحيواناتهم، كل هذا بأسلوب يلفه الخيال الغريب، واللفظ المريب.(20) والرسالة تفيض بروح الفكاهة، ومن يرجع إليها يجد ابن شهيد لا يستخدم فيها دائماً أسلوب السجع بل تارة يسجع وتارة لا يسجع.(21)

وعلى هذا النحو من الفكر الفلسفي يطالعنا: أبو العلاء المعري، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي (ت: 449 هـ) وتبرز أفكاره ورؤاه الفلسفية في رسالة الغفران التي كتبها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح، وهذه الرسالة جعلت الناس على طرفي نقيض في مذهبه ومعتقده؛ لأنه أقامها على أساس فكري غريب صور فيها الحشر، ويوم الحساب، والجنة والنار بصورة عبثية لم يرعو فيها، " فالغفران كلها غمز ولمز وتعريض بالعقيدة الإسلامية بل وببعض العقائد السماوية الأخرى التي تشارك العقيدة الإسلامية اعتقاداتها فيما يتصل باليوم الآخر"(22). وقد تأثر نثر أبي العلاء بما تأثر به شعره، حيث تلمح فيه الغموض، وكثرة الغريب وإيراد الأمثال، وهذا ما نلحظه في مجمل رسائله إضافة إلى السجع.(23)

ومن الرسائل التي تمثل التيار الفلسفي في رسائل ذلك العصر رسائل إخوان الصفا، وهي رسائل لمجموعة من الكتاب المتميزين، والمترسلين البارعين، حجبوا أسماءهم وراء ستار يختبئون فيه؛ ليبثوا أفكارهم وهمومهم ومعتقداتهم تحت إطار ذلك اللقب، ومن يقرأ رسائلهم يلمس آثاراً عدة تنبئ عن المحتوى الثقافي والديني والسياسي لعقولهم. ولقد ترك لنا إخوان الصفا اثنتين وخمسين رسالة حوت الكثير من العلم النفيس وضمت الكثير من الخلط الرخيص، وقد ذاعت هذه الرسائل في أيامهم، وأقبل على تلقفها الناس ليس لقيمتها، ولكن لأنها لذيذة التناول مجهولة المصدر، وكان المحور الذي تقوم عليه الرسائل هو الأصل السماوي للأنفس وعودتها إلى اللـه، وكانوا يؤمنون في النهاية بوجود الخالق الواحد، وكانوا بارعين في البرهنة على وحدانيته بوسائل عديدة وبخاصة عن طريق فلسفتهم الرياضية.(24) وجملة القول أننا نلحظ في رسائلهم والرسائل الفلسفية على وجه العموم قلة البديع وندرة الأسجاع، والاعتماد على البنية القصصية، وتوافر عناصرها التي أسهمت في بث أفكارهم ومعتقداتهم بشكل جذاب.

ب - الرسائل النقدية:
تعد الرسائل النقدية سمة مستحدثة في هذا العصر، وقد أسهمت تلك الرسائل بحث الخطى، وتحفيز الرؤى النقدية فكـان أن ظهرت المؤلفات النقدية في هذا العصر بثوب جديد، وبلغت أوج الرقي النقدي فقد " كان النقد في القرن الرابع خصباً جداً، كان متسع الآفاق، متنوع النظرات، معتمداً على الذوق الأدبي السليم"(25). ورسالة الصاحب بن عباد (مساوئ شعر المتنبي) خير من يمثل تلك الرسائل النقدية وهي تكشف عن مساوئ شعر المتنبي، حيث كان تأليفه لها عندما ادعى أحد المعجبين بشعر المتنبي بأن شعره مستمر النظام متناسب الأقسام، وكان الصاحب قد غاضه إعراض المتنبي عنه عندما استلطفه لزياراته فلم يجبه المتنبي فكان أن تتبع سقطاته، وتصيد هفواته، وقد ناقش الصاحب في رسالته هذه نقاطاً نقدية عديدة تدل على ضلوعه في المجال النقدي، فتحدث عن الألفاظ من حيث الغرابة والتعقيد، والمعاني من حيث الغموض والوضوح، والتكرار والتكلف.

ج ـ الرسائل الوصفية:
ونعني بها تلك الرسائل التي يدونها أربابها واصفين الأماكن والبلدان التي يزورونها مسجلين في ذلك مشاهداتهم ورحلاتهم وما يلقونه في أسفارهم، ويعتبر مسعر بن المهلهل الخزرجي الينبوعي الرائد في هذا المجال، وهو المعروف بأبي دلف الخزرجي (ت: 390 هـ) ورسالته التي سنورد طرفاً منها تعد من المصادر العربية القيمة التي تتعرف من خلالها على البلاد، وأسلوبها جميل لطيف. يقول في فاتحتها: " أَمّا بَعدَ حَمْدِ اللـهِ والثنـاءِ عَلَى أُولى مقاماته في أرضه وسمائه، وَمَسألة العون في الخير كله، فإني جَرّدَتُ لكما يا من أنا عَبدُكم، أدام َ الله لكما العِزَّ والتأييــدَ والقدرةَ والتمكين، جملة من سَفري كان مِنْ بُخَارَى إلى الصين، على خط الوتر، ورجوعي منها على الهند، وهو سمت قوسه، وذكرتُ أعاجيب ما دَخَلتُه من بلَدانِها وَسَلَكْته مِنْ قَبائِلها "(26) ويصف ما شاهده من المعادن الطبيعية فيها بدقة متناهية، ويحدد معالم المدن ويوضح أوصافها فيقول: " ووصلت إلى قلعة الديلم المعروفة بــ (سميران) فرأيت في أبنيتها، وأعمال فيها ما لم أشاهده في غيرها من مواطن الملوك، وذلك أن فيها ألفين وثمانمائة ونيفاً وخمسين داراً كباراً وصغاراً ".(27)

وَعُدّتْ هذه الرسالة بهذا من الأعمال الفنية المفيدة، ولقد كان من سماتها اللغة السلسة القوية، والأسلوب الأدبي البسيط، ولم يلجأ إلى الزخرف اللفظي الذي كان عادة كتاب ذلك العصر بل لاحظنا تجنبه له، ويكفي لهذا الكاتب أن يسجل له استحداثه لهذا النوع من الرسائل في عهد دولة بني بويه.

وإن كان أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت: 346هـ) قد سبق الينبوعي في فكرته لا في طريقة عرضه وذلك في كتابه: (مروج الذهب ومعادن الجوهر) حيث تحدث المسعودي في الجزء الأول منه عن الأرض والجبال والبحار والأنهار وتقسيم الأقاليم والكواكب، والحديث عن الأمم الغابرة والملوك القدماء(28)، وإن كان أسلوبه هنا واضح متنوع، يقوده الطبع حيناً، ويشده الصنيع أحياناً(29).

هذا ما استطعنا إليه سبيلا، حيث ألمحنا إلى فنٍّ من فنون الإنشاء في أزهى عصور الرسالة وأكملها نضجاً، وأعلاها مكاناً، وأسماها بياناً، وقد حاولنا جاهدين، فإن أصبنا فما التوفيق إلا من العزيز الحكيم، وإن أخطأنا فربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

السعودية

 

هوامش
(1) د. حسين بيوض، الرسائل السياسية في العصر العباسي الأول، د. ط، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1996م ص: 5.
(2) ابن منظور، لسان العرب، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان 1424 هـ 11/335.
(3) الفيروز آبادي، القاموس المحيط , ط/2، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان 1424 هـ ص: 925.
(4) أبو القاسم الزمخشري، أساس البلاغة، د.ط، دار الفكر، بيروت ـ لبنان 1424 هـ، ص: 231.
(5) الأعراف:79.
(6) المائدة:67.
(7) الجن:28.
(8) الأعراف:62.
(9) أحمد بن إبراهيم الهاشمي، جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، اعتناء: ريما شجاع ط/1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ـ لبنان د. ت،،ص: 35.
(10) د. محمود المقداد، تاريخ الترسل النثري عند العرب في الجاهلية، ط/1، دار الفكر، دمشق 1413 هـ، ص: 119
(11) محمد خير شيخ موسى، النثر الفني في النقد الأدبي، ط/1، مكتبة ابن كثير، الكويت 1997 م، ص:74.
(12) فايز عبد النبي القيسي، أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، ط /1، دار البشير للنشر والتوزيع، عمان ـ الأردن 1409 هـ، ص: 85.
(13) أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تعليق: محمد حسين شمس الدين د.ط، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 14 /157.
(14) د. حسين بيوض، الرسائل السياسية في العصر العباسي الأول، 5.
(15) ينظر مثلا محمد المكي إبراهيم، الرسائل الدبلوماسية في التراث العربي، مجلة الفيصل، العدد 223، السعودية محرم 1416 هـ، ص: 74 وتبدو تسمية الباحث هنا غير اصطلاحية في مجال الأدب.
(16) د. محمد الدروبي، الرسائل الفنية في العصر العباسي حتى نهاية القرن الثالث الهجري، ط/1، دار الفكر للطباعة والنشر، الأردن 1420 هـ , ص: 13.
(17) أحمد بن إبراهيم الهاشمي، جواهر الأدب، 35.
(18) د. أحمد أحمد بدوي، أسس النقد الأدبي عند العرب، ط/6، نهضة مصر للطباعة والنشر 2004م، ص: 581.
(19) د. مصطفى الشكعة، الأدب في موكب الحضارة الإسلامية، ط/3، الدار المصرية اللبنانية القاهرة 1414هـ، ص: 600.
(20) انظر: ابن شهيد، رسالة التوابع والزوابع، تحقيق: بطرس البستاني، د. ط , دار صادر، بيروت 1400 هـ، ص: 87.
(21) د. شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، ط/ 8، دار المعارف، مصر د.ت، ص: 323.
(22) د. مصطفى الشكعة، الأدب في موكب الحضارة الإسلامية , 678.
(23) انظر: طه حسين، تجديد ذكرى أبي العلاء، ط/ 7، دار المعارف، مصر د.ت. ص: 224.
(24) د. مصطفى الشكعة، الأدب في موكب الحضارة الإسلامية، 684.
(25) طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ط/ 2، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان د. ت , 135.
(26) فاطمة الزهراء عبد الغفار الموافي , الحياة الأدبية في بلاط البويهيين , 255.
(27) نفسه , 257.
(28) انظر المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى به: محمد هشام النعسان وعبد المجيد طعمه حلبي، ط / 1، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان 1426هـ. ولعلك تلاحظ في مقدمة هذا الكتاب أسلوب أدباء القرن الرابع الهجري دونما تصنيع ؛ لأن المقام هنا لايسمح وإن كان يلجأ إليه عند الانبهار والدهشة.
(29) انظر: جورج غريب، أدب الرحلة، ط/ 3، دار الثقافة، بيروت 1979م، ص: 35.