يكشف لنا القاص الجزائري تفاصيل من عالم المهابيل وطقوسهم والمفارقات التي تكثر في حياتهم وفي علاقاتهم ببعضهم البعض و بساكني القرى. والكيفية التي يتحولون بها إلى مصدر كرامات وقبلة المحتاجين.

هبال مـن طـرف واحــد

قادري عبدالخالق

في اليوم الموالي لدفنه ظهر بمقبرة الحاجة مغنية  بلخير العقون حاملا معولا وفأسا، حفر حوله أخدودا، جمع  حجارة وأحاط قبره بحائط واطئ، قويرة. في أربعينيته تفتق تراب حوضه عن سدر ظليل. صار مرقده مزارا لطالبات النسل. على حجارة حائطه، يوميا، تسفك دماء القرابين وعلى مدار العام  ترفرف بلايز وبدعيات وخمارات وألبسة داخلية عالقة بأشواك السدر. وأفشت  بعض النسوة  في حمام الموسوسة سره الباتع، وقلن أن المواضبة على نبق السدر ترد الغائب، وتنقذ من براثين العنوسة وتشفي البرود الجنسي. وفي رواية أخرى قيل حتى الأوراق والأشواك والعيدان والجذور تنفع.

****

حقا، لقد حل الحسن بالحاجة مغنية أهلا نازحا من الثلاثا دي ودَّان،  بعد أن صعد نجمه عاليا في قرى ومداشر مسيردة بشقيها، التحاتة والفواقة، وذاع صيته بين الحدادين والغربالين والقصدارين والحجامين واكتسب شهرة واسعة لدى باعة الدواب والمواشي والبيض والدجاج  والتوابل والسواك والكحل والنُّوغة في السوق الأسبوعي للقرية، وسالت الوديان بأخبار مواهبه المتفجرة من وَدَّانْ إلى آحْفير وأخذتها الريح إلى بَرْكان.

وخلت طرقات وممرات الثلاثا دي ودان  ذات صباح من الحسن وكأنما لم يتبول على جدرانها  أبدا، وتنفست نساؤها الصعداء وكأنما لم تهده أجمل البلايز أبدا. غاب ونزل سهلا بحاضرة بني واسين ذلك المخلوق الذي لم يكن عزيزا على أحد ولا شيقا بالنسبة لأحد. أعزل من البيسطون، أجرد من المعرفة، ليفتق عوالم أرحب لم يكن  بالغها إلا بشق الأنفس.  ويجرب حظه بلا أكتاف مع ذلك الرعيل الأول والعقد الفريد  من النجوم الساطعة، قل ما جاد الدهر بمثلها من المهابيل والمهبولات، التي كانت ترصع  الفضاء المغناوي وتزين شوارع المدينة ؛ الطيب حليلو، نعيجة، الواسيني، بوطونا، ماريشان، الشيخ موح.. وأميرهم الجوهرة السوداء، صاحب القامة الطويلة والصدر العريض المكشوف دوما للشمس، فلتة زمانه بلخير العقون المشهور بـ: " قالت لك بختة قووول "، ورقصه على أنغام القصبة، كدت اقول الصامبا،  الشيخة الجنية وحبيبة وبوطايبة والشيخ يوسف في باحة مقهى الغري

 

كانت الحاجة مغنية الولية الصالحة، في تلك الحقبة، ملاذ كل مهابيل الجهة الغربية للبلاد، وكأنهم كانوا يجدون في مقاهيها الهدوء المفقود وفي دروبها سكينة البال والراحة اللازمين للحالات العسيرة للهبال. كل يوم كان يتمخض عن نزوح مهبول جديد راجل، حاف، رث، حارق الحدود المغربية مهرب مع "التُّوِيس والورانغلار"، أو هابط  من الحافلات الآتية من تلمسان ووهران متنكر  مع البزناسى والمتسكعين. تفتقت عبقرية مسؤولي تلك المدن لتنظيف  حضائرهم  العريقة من مهابيلها عن ابتكارات خارقة وحيلة جهنمية. كانوا يدفعون تذاكر ذهاب فقط، عن طيب خاطر وكرم جم من خزينة البلدية في حملات شهرية ذات منفعة عامة، ويحشرونهم في الحافلات قائلين لهم: اذهبوا إلى مغنية إن بها ولية لا يظلم عندها مهبول.

بعض العائلات، كانت تفضل السلوك المنمق، كأن تأتي بمهبولها لتطهيره بضريح الولية وأثناء تسكعهم  بسوق المدينة وفي زحمة "الجوطية" المستعرة بأصوات الباعة، يفرون منهم تاركينهم تحت الرعاية السامية للأحوال الجوية القاسية ولظى حجارة أطفال الشوارع.  ما كانوا ليعمروا بها طويلا، بعضهم كنا نخشاهم من نظراتهم الثاقبة وملامح وجوههم الصارمة، ظنا منا أنهم جواسيس أو مخبرين، لمكوثهم المستمر بمقاه  بعينها لا يبرحونها إلا قليلا. فلم نكن نجرؤ على تبادل أخبار السي أحمد بن بلا  بجوارهم إلا همسا.  لكن المدينة لم تكن نائمة عن نواطيرها، كانت الجماعة الحرشة  لمهابيل مدينتنا تتكفل بطردهم من محيطها إلى شعاب الجبال وخلجان الوديان دون رحمة ولا شفقة، فلا يجدون بدا من مغادرتها وهم صاغرون.

لاقتناعه بأن العصمة أصبحت بيد النساء أبدع في عرض الأزياء النسوية وعرف بين الناس، في إقامته الجديدة، بالحسن بوعباية. كل يوم كان يخرج  متمقننا عليهم في بلوزة أو بدعية جديدة من آخر صيحات الموضة، لذا سبق زمانه بعقود طويلة. خرق طابوهات، كسر أغلالا، فتح آفاق ركوب المغامرات، حقق قفزة نوعية وأصبح ملهم النماذج الجديدة من المهابيل، الذين صاروا يتكاثرون بالانشطار المنووي على أرصفة المدينة، معبدا لهم طريقا  لم يجرؤ أحد على طرقه من قبل ولا من بعد. وسرعان ما واتته الفرصة تلوى الأخرى لمغادرة المدينة والحرقة إلى الخارج، لكنه فضل أن يوظف موهبته حصريا في خدمة مهابيل بلده على أن يأكله الحوت. الشيء الذي لم تهضمه النخبة من منافسيه الشرسين، المتمرسين في فنون هبال المدن، والذين لم يضعهم في الحسبان. تربصوا به الدوائر واستهزؤوا به وآذوه مرارا، حقروه وهمشوه ولم يبادلوه الهبال ردحا طويلا، حتى إذا كره اليوم الذي هبل فيه وأصبحت الحياة بينهم  خطيرة وأشبه بالعيش على فوهة بركان.   أصيب بإحباط شديد، أدى به إلى أزمة نفسية حادة  أوشكت أن ترد عليه عقله المفقود وتضع مستقبله الزاهر على محك المجهول من جهة، وتدمر مسيرته عن بكرة أمها وتودي بكل إنجازاته المهبولة إلى "زوبية الحلوف " من جهة ثانية. أفل نجمه وخبا بريقه بسرعة، فاسحا المجال لتجارب أخرى فرضت نفسها بعد أن تماهت وهبلت مع النخبة. وبعبارة أدق، لم تَصِحَّ له بين النجوم المجنحة التي كانت تمور بها الساحة آنئذ. عزز ذلك طبعه المسالم، أسلوبه السلس في ابتزاز البلايز  من فوق جلد النساء، فنه وابتكاره الذي أبهر الملاحظين وجلب له من المعجبات الكثير، وعدَّه خصومه قلة حياء ومنكرا من المنكرات التي تلهي عن التمهبيل ورجسا من عمل العاقلين. لهذا أصبح يفطر القلوب، ويُسْقِطُ الدموع  من أعين كل من وقف على حاضره، وعرفه حينما  كان على ديدنه  متألقا في الثلاثا دي وَدَّانْ مسقط هباله. ورغم كل ذلك، لم يبك  ماض تولى أو قال أن اختياراته كانت غير صائبة. ابتلع خيبته على مضض في هدوء العاصفة ولم يقو على العودة من حيث أتى بنعلي مهبول.

وعندما طاحت به الأيام الهبلة قَدْ قَدْ، خرج من بين صفوفهم بلخير العقون، فحل المهابيل ‏، رجل نذرته الأقدار لمرحلة حاسمة في  مسيرته القادمة، فكر مليا وقدر  أن  موهبة مهبولة وعلامة فارقة من عيار بوعباية حرام تقبر حية. لم يستسغ المناوئون هذه اللفتة وانتقدوه بشدة في كل وعدة وموسم، وفرقعت بعض الأصوات النشاز من الوسط المهبول هنا وهناك تحاول ثنيه عن قراره، بدافع ما تكنه له من مشاعر احترام ومودة. إلاّ أنه لم يكترث ولم يطرف له جفن وكان رده لإخماد تلك الأصوات حاسما ومفحما: "قالت لك بختة قووول !".

مد له يده والتقطه من القاع، ضمد جراحه  ووفّر له الحماية.  لارتدائه البلوزة ضمه إلى محظياته، رقية ميميس والغالية والموسوسة وبه كان تمام الشرع. وقد أنجب من كل منهن ولدا، عدا بوعباية الذي لم يعقب لأسباب ظلت مكشوفة للخاص والعام ولا داعي لسردها الآن. أصبح ملازما له في حله، مرافقا له في سعيه وترحاله مثل ظله، مصاحبا له في صولاته وجولاته، يتقاسمان الرغيف  في السراء والضراء و يتناوبان في الحر والقر على السيجارة. وبدل الإنجاب علمه شيخه مهارات أخرى، كتعويض عن ذلك، ليقذف به عميقا في بحر الهبال،  على سبيل الحصر ؛  الرقص في باحة مقهى الغري وفي المواسم والأعياد أمام عربة تيراج الطومبولا، التدخين بشراهة وإدمان شرب الكحول ماركة "الزمبريطو" في الليالي الكحلة، السهر حول  رماد نار خابية اللهب تارة   وعنيفة  دخان العجلات المطاطية تارة أخرى، وإذا ما آنس أحد المهابيل نارهما قال للحسن بُلْ على النار. وقليلا قليلا أخذ يستعيد شيئا من هباله، وبعضا من مجد ضاع منه لسنوات  فكان ختام قرن ارْبَعْتَاشْ بالنسبة له عسلا.

ولا أظن أنك كنت بمحطة الحافلات ولا أظن أنك كنت من المتفججين. كل شيء كان عاديا  في ذلك اليوم المشهود، السماء كانت صافية، الدنيا بنت الكلبة هابلة، الجوطية زاهية، الغفلة بين البائع والشاري حاضرة والمهابيل متوارية لاهية، وبغتة سخن قرن بطن بلخير العقون، تأبطه وراح يذرع  به دروب المدينة صائحا مثل الثور الجسور، " قالت لك بختة قووول.. قالت لك بختة قووول "، باحثا له عن مورد مقتديا بروائح  محضياته، ولولا لطف الله الخافي وتضافر عوامل شتى، لوقعت كارثة شنيعة. منخريه العريضين، حدس قرنه المهبول، الذي لا يخيب أبدا، وساقه الطويلة التي أرشدته إلى رقية ميميس، المسيردية البيضاء، زرقاء العينين عريضة الردفين، التي كانت هناك، يا ربي ساهلة ماهلة، تستجدي المسافرين. وإذ تجلت له من بعيد،  هطل عليها من عل على مرأى من ربي والعابرين متأججا مثل  شهاب ثاقب. لم تمانع أو تقل من بعد إني أعمل الآن، انساقت هشة طيعة مثل شمعة أصابها الحر. انتبذا مكانا قريبا، انزوى بها بين حافلتين وبطحها أرضا ناسفا منشآتها القاعدية من أساساتها. لكن الحضور الغفير، الغير مهذب، المنتعض بارتباك، الذي عانى كثيرا من رذاذ الرعشة وضوع اللذة، حينما شعر أنهما بلغا حافة الذروة وأطلا على هوة الفناء، ارتفعت عقيرته بنعيق جارح ليداري الخيم المنتصبة تحت الأحزمة، ومن الغيرة همّ أن يفرق بين اللحم الأبيض والأسود ويقطع حبل الوصل بزمان ازدهار الجوطية، ورواج "الفريشكو والدقداقو"، وخاطر كل واحد يهجس يا ليتني كنت مهبولا !

أشرقت رقية مِيمِّيس من تحت عشب صدره المدلهم، مثل الشمس في يوم غائم وبمقولتها الشهيرة انبرت ـ " فعندما تتضبب الرؤية تنقشع العبارة " ـ عرقانة، لاهثة: ""دعوا  خيكم يكمل.. دعوه يكمل "" ! أخرست نهيق الغاشي وألجمت لسان كل واعظ متفوه. وانتزع  الحايك من على ظهر  حرمه شيخ طاعن  الخبرة في النزوات العابرة للمهابيل ودثرهما به. باتت الحادثة محفورة في الذاكرة الجمعية للمدينة يرويها، على مر السنين، سلف صالح لخير خلف.

عاد الحسن بوعباية لارتداء الزي الرجالي في خريف أيامه المثيرة للجدل، ولم يشفع له ذلك تغيير كنيته. ظل وفيا لطقوسه إلى أرذل العمر، مدمنا باستمرار على الكحول، وحيدا يستجدي السيجارة من رواد مقاهي لالة مغنية، بعد أن تشرب آخر قطرة هبل من شيخه بلخير العقون الذي استدعي لمهام أخرى.  وفي ليلة طويلة شديدة البرودة وافته المنية بجرعة زائدة من "الزمبريطو"، ولم يبكه أحد.

 

مغنية - الجزائر  08 /2010

*********

الثلاثا دي وَدَّانْ: قرية في سفح جبل زنضل بأقصى غرب الجزائر.

ودَّان: نهر بمسيردة التحاتة بلدية سوق الثلاثا.

آحفير وبركان: مدينتان مغربيتان.

 البيسطون:  المكبس = المحسوبية

"التويس والورانغلار":  ماركاتا  سراويل الدجينز.

"الزمبريطو": كحول الإيثانول.

"الفريشكو والدقداقو": نوعان من قماش بلايز النساء.

"الجوطية": سوق يومي عشوائي يباع فيه كل شيء.

 زوبية الحلوف: المفرغة العمومية للمدينة.