يقربنا محرر الكلمة من كتاب صدر حديثا يتناول شاعرا سال الكثير من المداد حول شعره وشخصيته، كتاب يكشف أسرار من شغل النقد قديما وحديثا. غير أن كتاب الناقد المغربي باختياره لمنهج وصفي تحليلي انتقائي يسعى الى إضاءة الكثير من العتمة حول تجربته الشعرية وخصوصيتها ومن خلالها التساؤل حول طبيعة الأدب..

المتنبي: الروح القلقة والترحال الأبدي

في نقد «نقد الظاهرة الشعرية عند المتنبي»

عبدالحق ميفراني

عندما تساءل يوما ما، أحمد آمين "هل كان المتنبي فيلسوفا؟" فإنه ضمنيا أراد أن يصف سر هذا الاهتمام الباذخ بظاهرة شعرية شغلت النقد العربي قديمه وحديثه. الشاعر المتنبي، الذي خلده شعره وقدرته البيانية، بشكل جعل منجزه الشعري مثنا مفتوحا على التأويل. متجددا ومتعددا برؤى سرمدية حولته الى نص شعري يختبر الظاهرة النقدية بكل حمولاتها ومرجعياتها لا العكس. نص يروض الخطاب النقدي على ترك مسلماته جانبا وإعادة صياغة مقولاته من داخله. لذلك ظل شعري المتنبي "ظاهرة إبداعية" قوية لافتة بزخم ما تطرحه من إشكالات تسعف القراءة، أي قراءة، على إعادة بناء تصورتنا حول الشعر كظاهرة تسمو بالنص الشعري الى متعة القراءة.

كتاب الناقد محمد آيت لعميم الصادر حديثا {2010} عن المطبعة والوراقة الوطنية "المتنبي: الروح القلقة والترحال الأبدي" {388صفحة} محاولة للإجابة عن أسرار الاهتمام بشعر المتنبي، وضمنيا نتساءل مع الناقد، كيف يمكننا الإجابة على هذا السؤال في ظل محاولة الإجابة عن سر اهتمام الناقد محمد آيت لعميم بالمتنبي؟ لا كظاهرة شعرية أفضت بمثن نقدي مهم، بل كخطاب يفكر في ذاته وسط هالة من "الإعجاب" والقلق الذي تحكم في انشغالات النقاد قديما وحديثا.

لقد خصص الناقد محمد آيت لعميم كتابه لدراسة المتنبي، بفحص السبل التي تمثلت هبها المناهج النقدية الحديثة عند العرب. ولو أن الجوهري في الموضوع، يظل يصب في عمق الإشكالية المنهجية التي تتعلق بطبيعة الصورة التي كونها الناقد حول الموضوع المدروس، وهذه المرة ليست صورة من صنع القارئ المفرد بل بصيغة الجمع!!، إذ يستقصي الناقد آراء النقاد الى جانب رؤيته الخاصة التي تحكمت في القراءة ككل. وهو ما يفضي في النهاية الى سؤال شبيه بالأسئلة التي تحكمت في مقولات النقاد الذين قاربوا عوالم المتنبي الشعرية كل من زاويته النظرية. زد على هذا، أن الناقد محمد آيت لعميم اختار منهجا وصفيا تحليليا انتقائيا والأكيد أن مسوغاته لن تخرج عن نتائج ستشكك وتعدل من التصور النقدي الأساس.

وهكذا يعيدنا الناقد محمد آيت لعميم لمفهوم "المتاهة"، وبذلك يكشف عن جزء من تصوره للأدب. فبعد تقديمه لكتاب حول "بورخيس" قام بترجمة مقالاته وفصوله وأبحاثه وحواراته ينتقل الى المتنبي. بورخيس ظاهرة أدبية كونية انشغل بها الخطاب النقدي العربي والكوني الى حد التخمة، بموازاة المتنبي الظاهرة الشعرية التي أفضت الى تشكيل خطاب نقدي جديد حول شعر المتنبي عموما، والنص الشعري على الخصوص.

هذا التدرج محسوب بعناية، ويعبر عن انشغالات محمد آيت لعميم النقدية التي تعمق في المشهد النقدي بالمغرب، من سؤال مركزي ثاوي داخل هذه الممارسة. هو كيف يمكن رصد تطور التفكير في الأدب المغربي الحديث؟ ناهيك على القيمة المضافة التي يكشف عنها كتاب "المتنبي: الروح القلقة والترحال الأدبي" عن ولع خاص بالشعر، علما أن الناقد محمد آيت لعميم منشغل بأطروحته حول قصيدة النثر، هو القادم من عوالم السرد الروائي والقصصي والذي قدم فيه أعمالا إبداعية مغربية وعربية. وهذا الترحال الشبيه ب"المتنبي" موضوع الكتاب يعمق من الدعوة الى جعل خطابنا النقدي يروم تعميق انشغالاته والمغامرة في الطرح.

كتاب الناقد محمد آيت لعميم "المتنبي: الروح القلقة والترحال الأبدي" لا ينشغل فقط بشعر المتنبي، بل بسؤال المنهج الملائم لاستخلاص المكونات المنهجية التي توصل بها النقد ليضيء الجوانب المعتمة في شعر المتنبي وشخصه، وهو هنا ينتقي عينات تتمثل في:

·        منهج تاريخ الأدب: طه حسين "مع المتنبي".

·        منهج التحليل النفسي: يوسف سامي يوسف "لماذا صمد المتنبي؟"

·        المنهج البنيوي: جمال الدين بن الشيخ "تحليل بنيوي تعريفي لقصائد المتنبي"

·        نظرية التلقي: حسين الواد "المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب"

فأمام هذا الاستئثار الكبير بالمتنبي تشكلت حركة نقدية أثمرت جملة من الدراسات ذات أهمية في نقد الشعر عند العرب، وهي جزء من تاريخ النقد الأدبي في العصر الحديث. إن كل دراسة تمثل منهجا نقديا مستقلا برؤيته وأدواته ومفاهيمه كما أن النماذج المختارة جامعها توحدهم في الاهتمام بالمسألة المنهجية. طه حسين ركز في مشروعه النقدي بإثارة مسألة المنهج وإشكاليته كتجاوز للمناهج السائدة في عصره، ومرورا باليوسف الذي اختار المنهج النفسي محاولا تطبيقه على الشعر الجاهلي، وجمال الدين بن الشيخ الذي تبنى المنهج البنيوي وصولا الى حسين الواد. رغم أن الناقد محمد آيت لعميم يشير الى أن النصيب الأوفر للدراسات التي أنجزت حول المتنبي كان من نصيب منهج تاريخ الأدب، حيث انصب الاهتمام على توثيق شعره، وتصحيح نسبه واستخلاص مذهبه العقائدي.

استقر الناقد محمد آيت لعميم على تقسيم بحثه الى أربعة أبواب، الباب الأول وسمه ب"المتنبي من منظور منهج تاريخ الأدب: نموذج طه حسين" قسمه الى فصلين: الأول تناول مكونات المشروع النقدي عند طه حسين والثاني حلل فيه كتاب "مع المتنبي" مركزا على إبراز المفاهيم الأساسية عند طه حسين كمفهوم الجبرية التاريخية والتطور والمسار التقدمي للتاريخ ومفهوم الشخصية والنص/الوثيقة والقراءة المزدوجة، وانتهى الناقد محمد آيت لعميم الى أن قراءة طه حسين اتسمت بالانطباعية والتجاوب التأثري بحكم أن طه حسين صادف في هذا النوع من الشعر متنفسا لمحنته.

الباب الثاني حمل عنوان "المتنبي من منظور التحليل النفسي" اشتمل على فصلين الأول الأدب والتحليل النفسي أما الثاني فيعرض فيه الناقد مقالتين أحدهما ليوسف سامي يوسف والأخرى لعلي كامل ، لقد خلص محمد آيت لعميم الى أن أسباب صمود المتنبي تكمن في أن هذا الأخير قد تجذر في عصره وتجذر العصر فيه، فعبر عن رؤية للعالم تشكلت لدى العرب في عصره، وهي رؤية السقوط والانهيار هذا الى جانب ارتباط المتنبي بأسئلة الوجود وبالقلق الوجودي/ الأنطولوجي.

في الباب الثالث "المتنبي في المنهج البنيوي" يتوقف الناقد آيت لعميم عند مستويات التحليل التي خطها جمال الدين بن الشيخ في دراسته لنص شعري للمتنبي ينتمي الى مرحلة الصبا، ليخلص الى مناقشة نتائج التحليل مبرزا طبيعة الإضافات التي أضافها هذا المنهج للدراسات المتنبئية. والتي عكست أن المتنبي شاعر مجدد في العلاقات داخل النص الشعري إذ أن مسار حياة المتنبي سيتشكل منذ طفولته لنجد أن شعره هو توسيع لهذه البنية وللموضوعات التي ألحت عليه في حياته، فحضور الأنا والقيم والمثل {الشهامة والمروءة والفتوة والجود} ستتركز في شعره بأساليب مختلفة.

يخلص الناقد محمد آيت لعميم الى نظرية التلقي في الفصل الرابع، من خلال دراسة حسين الواد للمتنبي، وقد انقسمت هذه التمثلات بين معارض للمتنبي ومعاضد، وهو دليل على أن المتنبي شاعر كبير، إذ الفكر القوي والعميق غالبا ما يولد قراءات قد تكون متضاربة أحيانا، وهذا هو حال الناس مع الشاعر المتنبي الذي جاء فملأ الدنيا وشغل الناس...ولا يزال.

يصل الناقد محمد آيت لعميم الى فكرة أساسية، محاولة في فهم سر الاهتمام بالمتنبي قديما وحديثا، إذ يشير الى النقاد الذين تناولوا المتنبي بمناهج غربية، محاولة منهم التوفيق بين المنجز النقدي العربي القديم والمنجز النقدي الغربي. رغم أن النصيب الأوفر لهذه الدراسات كان لمنهج تاريخ الأدب. ويستأثر الاهتمام هذه "الفردانية" المتفردة الذي حاول الكتاب أن يشكلها حول صورة المتنبي، والتي انمحت لظروف سياسية من جهة، وسوسيوثقافية من جهة ثانية. إلا أن هذه التصورات المختلفة، بما فيها تصور الناقد محمد آيت لعميم، يعكس طبيعة الخطاب النقدي "حديثه وقديمه" حول الأدب عموما لا "الأدب القديم" ولعل هذا الحوار النقدي المفتوح كفيل بصياغة تمثلات جديدة للأدب والشعر خصوصا.

 

المتنبي: الروح القلقة والترحال الأبدي

محمد آيت لعميم

المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش

الطبعة الأولى/ 2010