كل من في البيت يترقبون لحظة موت الأب الذي أعد نفسه بدوره لاستقبالها، لكن القاص الفلسطيني يرينا أن الأشياء المعدة ليوم العزاء كانت هي من خلال تعلق الأب بها سبيله لإطالة الحياة واشتداد تمسكه بها.

الميت يتذوق قهوة وتمر أجره

نبيل عودة

النظرات في عيني الطبيب لا تكذب، رغم أن كلماته لم تنقل ما ينعكس في عينيه. لو قال بوضوح إن الحالة ميئوس منها، لما فاجأ أحد من أهل البيت، كان واضحا أن مرض أب البيت في مراحله الأخيرة.. و رفض أن يموت في المستشفى..وأصر أن يموت في بيته.

كان   يفلسف اقتراب موته  بقوله إن الموت يشكل أحد أهم تحديات الحياة، وانه لا يختلف عن تحديات الولادة.وهو يريد أن يواجه هذه التجربة في بيته، هناك ولد وهناك سيسلم روحه..

وقال ربما لو قيل لي قبل سنوات، وأنا في نشاطي وحيويتي إن موتي قد حان، لشعرت بالرعب،أما اليوم، وأنا أرى نفسي جسدا مشلولا موجوعا، فاني أرى الموت مكسبا. لا أريد أن أرى حزنا حولي. اتركوني أغمض عيني الإغماضة الأخيرة وأنا وسط أبنائي وأحفادي.. هذا هو ما كسبته من حياتي، وهو لا يقدر بثمن. الحياة ليست بدون نهاية، وما يريحني اني أنجزت حيوات كثيرة، تحيطني اليوم بالحب.

كان يعرف حالته، ويعرف أن حياته على الأرض وبين أهله، هي لحظات قد تقصر وقد تطول بعض الشيء، ولكنها لن تتجاوز الأيام القليلة ما دون الأسبوع أو أكثر قليلا.

وضعوا سريره أمام التلفاز لعل ذلك يسري عنه بعض الشيء.ولكن ضجيج التلفاز كان يزعجه حين يواجه آلامه الحادة. كانت غفواته أكثر من صحواته، وطلباته تستجاب، ودائما يجد حوله أهل البيت.. زوجته، أولاده وزوجاتهم، بناته وأزواجهن، أحفاده.. هذا ما أراده بالضبط، أن يموت بين أحب الناس إلى قلبه. كان يشعر بالراحة انه وسط من أحبهم وأحبوه، رغم يقينه أن حياته بيولوجيا قد انتهت. ويسعده ضجيج أحفاده حوله، وطالبا من زوجته ألا تزجرهم وتتركهم على طبيعتهم يمرحون ويضجون، وان تصور لهم غياب جدهم القريب كانتقال من حالة المرض الشديد والآلام القاسية، التي كانوا شهودا لها إلى حالة الراحة.. وترتفع الابتسامة على شفتيه وهو يسمع أصواتهم ويشاهد ألعابهم، لدرجة أنه ينسى آلام جسده

لم تعد نفسه ترغب بشيء خاص، لذا قليلة هي طلباته،على الأغلب بعض الماء ليرطب حلقه الجاف، ولكن زوجته لا تكف عن الإلحاح عليه، تخيره بين عشرات الاقتراحات عن الطعام والحلويات والشراب  لتعدها له، وكان يكتفي بهز رأسه رافضا وهامسا أن لا شيء في نفسه كان الحزن يتغلغل ولا يفارق قسمات وجه زوجته، ولكنها تكابر على نفسها حتى لا يرى ما بها.. ودائما تقول له:"غدا ستتحسن"، وكان وقع هذه الجملة في أذنه لا يختلف عن وقع:" غدا ستموت ونتخلص من تعبك"، ولكن الحق يقال، كان يسمع نشيجها ليلا، تبكي بصمت، كان متأكدا من ذلك، وآثار الدموع لا تُخفى.. وأشد ما يؤلمه شعوره انه أصبح عالة مرهقة على أهل بيته وأولاده.. ينتظرون بصبر أن يسلم وديعته لربه، ليعودوا إلى حياتهم التي توقفت في مكان ما، منذ صار واضحا أن مرضه العضال لا شفاء منه.

زوجته تجلس قرب سريره كل ساعة تقريبا، متوقعة أن يطلب شيئا ما أو خدمة ما، ويكتفي بأن يبتسم لها رغم آلامه الشديدة،ويشكرها على ما تقوم به لخدمته، وأنه يشعر بصعوبة حملها وما يمر عليها، ويردد  بصوت يكاد لا يسمع:" لا شيء في نفسي  إلا الراحة الأبدية".فتغادره مسرعة حتى لا يرى دموعها.

بعد زيارة الطبيب الأخيرة شعر أن الحركة في البيت ازدادت، كثر الزوار من الأقارب والأصحاب والجيران، هل جاؤوا لوداعه؟ وانتبه أن وعاء كبير وضع على الغاز لإعداد كمية كبيرة من القهوة. لا شك أنها قهوة سادة، ليوم أجره وأيام التعزية بوفاته. كانت رائحة القهوة تملأ البيت. إذن لا بد أن الطبيب أخبرهم أن أجلي قد حان.. وإنهم باتوا على علم أكيد بأن ما يفصله عن تسليم الروح، صار يعد بالساعات.

رائحة القهوة السادة تفتح النفس. حتى الميت يعود إلى الحياة إذا تنشق هذه الرائحة الطيبة المليئة بالهيل.. أراد أن يتذوقها، ولكن صوته كان أضعف من أن يسمع في هذه الجلبة التي دبت في البيت. انتظر أن تمر به زوجته ليطلب أن منها أن يتذوق القهوة. وربما يكون قد غاب في غفوة.. لا يعرف، استيقظ، أو كان مستيقظا، لم يعد يميز غفواته من صحواته، أحفاده يحيطون به، واجمين وكأنهم يدرون ما سيحدث بعد ساعات.. ربما بعد يوم على أكثر تقدير..  ورائحة القهوة تعبق بجو البيت. و يتمنى ان يتذوقها.

شعر بآلام حادة اضطرته إلى التركز بنفسه والأنين بصمت من الألم. حاولت زوجته ان تحركه لعل الألم يخف.أحفاده وقفوا متأهبين للمساعدة.. ابنه سارع يستدعي الطبيب تلفونيا، كان واضحا، كما قال الطبيب انه عدا أدوية التخدير لا شيء يساعده إلا قرار ربه.

حضر الطبيب على عجل وحقنه وجبة مضاعفة، وقال إن هذا الحل الأفضل لما تبقى له من وقت، سمع هذا بوضوح، ويبدو أن الطبيب كان على ثقة أن مريضه غائب عن الوعي.. وشيئا فشيئا غاب عن الوعي ورائحة القهوة تستفزه برغبة مجنونة لتذوقها.

فتح عينيه شاعرا بإرهاق شديد، وعدم وضوح في الرؤية. يبدو انه تأثير المخدر.. ولكن رائحة القهوة تشتد وتشتد ويتمنى لو يقدر ان يقول إن  له رغبة بتذوقها. يشعر أن لسانه قد تيبس. أحضرت له زوجته كوب ماء، رطب لسانه وحلقه، وتمتم بضعف وبصوت يسمع بصعوبة متمنيا الموت السريع خلاصا من عذابه وعذاب أهل بيته معه.

في داخله كان يعرف أن أمنية الموت ليست خياره، إنما خيار واقعه الذي لم يعد فيه إلا العذاب. خيار الخلاص من الألم والغيبوبة المتواصلة.. وهمس:"هل لي بتذوق القهوة؟"

أصيبت زوجته بمفاجأة.. لم تتوقع أنه متنبه لما تعده. شعرت بألم أن تكون قد سببت له الإزعاج في آخر ساعات حياته. قالت:" الآن سأعد لك أحسن فنجان قهوة". رد بضعف:"أريد مما أعددتيه"

رطبت القهوة سقف حلقه، وانتشر سحرها في أنفاسه متنشقا رائحة الهيل الطيبة وطعمه الساحركان الوجوم يخيم على زوجته، لشعورها أنها ارتكبت خطأ بإعداد القهوة  في البيت، كان عليها ان تكلف إحدى بناتها ان تعدها بعيدا عن أنف زوجها. هل فهم أنها ليوم أجره؟

شكرها على القهوة. وأغمض عينيه على رائحة الهيل

عندما استيقظ لمح زوجته ترتب فواكه مجففة على الصواني، ولاحظ كيف ارتبكت وسارعت تغطيها بشرشف أبيض، اقتربت منه بوضعية الاستعداد لأي خدمة، وسألته:" هل احضر لك شيئا تأكله؟". قال:" نفسي بحبة تمر، لعلها تزيل مرارة فمي وحلقي". وأضاف:"لا تقلقي واصلي تحضير ما ترينه مناسبا، أرجو من الله أن لا أعذبكم أكثر"

نظرت إليه حائرة، ويبدو أن إبليس قد لخبط عقلها:" ولكن يا زوجي هل نفسك أن تأكل منه.. نعده ليوم...؟"

ولم تكمل جملتها.

nabiloudeh@gmail.com