يتأمل القاص الأردن، من خلال حكايته عن هذا الكائن الخرافي، علاقة الإنسان بالزمن ومحاولته أن يظل شابا وخالدا لا تؤثر فيه مرور السنوات. ما بين الحكاية والأسئلة الوجودية تتعدد دلالات هذا الكائن الذي وإن طمست ملامحه فانه يظل مبينا عما يعتمل داخل الإنسان من مبهمات وصراعات.

كائن خرافي

حكاية من التراث العربي

رامي أبوشهاب

قضى حلمه سريعا.. لم يعد يساوره القلق، إذ تخففت روحه من الأثقال التي طالما بددت مساعيه نحو فرح مشروع، لم يكن السبب الذي أحدث هذه التغير في روحه سوى نتيجة حتمية لواقع، يبدو أنه أقوى مما يحتمل، مع أنه كائن قادر على أن يكون متعاليا على الزمن..

 تعود أحداث القصة إلى الكائن الخرافي البسيط الذي حار في تعريف نفسه، ومن هنا بالتحديد بدأت الأزمة أو المشكلة..فقد  وجد هذا الكائن نفسه في يوم ما، على حافة نهر ما، في بلد ما، ولكن يقال أنه بلد يقع في منطقة الجبل الأوسط...  واجه نفسه هكذا بلا مقدمات، أو حتى مرجعيات منطقية.. انبثق فجأة، كما انبثق أيضا في وعيه تساؤل مدمر.. ما أنا؟ وكيف أنا؟ وأين أنا  ؟

لم يهمل نفسه الكثير من الوقت، إذ توجه إلى صفحة الماء الساكنة الصافية محاولا استطلاع ماهيته عبر انعكاس صورته على الماء، ولكن الصورة التي طالعته كانت كافية بأن تبدد التساؤل وتحوله إلى معضلة عقلية قاسية كالصخر، ولا سيما أن الصورة الناشئة لم تكن مفهومة، ولم تكن حتى قادرة على أن تشي بفكرة عن الماهية أو النوع أو حتى التصنيف البيولوجي، ولا حتى بأي حال من الأحوال أن تشي بحالة من القبح والجمال مبدئيا، بمقدار ما هي غير محددة، و كونها عكست شكلا صاحبها من منطلق تجريدي بحت.

حار في تحديد ماهية نفسه، ولكن الشيء الغريب والطريف في الأمر، أنه كان مدركا أن له عقلا، ولكن هذا العقل بدا في بعض الأحيان انعكاساً للصورة، أو الشكل غير المحدد الملامح. عاد مرة أخرى لمعاودة النظر في صفحة الماء التي بدأت ترتعش من جراء الريح الباردة، والتي تبدو دائما قادمة من الشرق، حيث تهب على تلك البقعة الرمادية اللون، إذ بدت ثقيلة وقاسية- في غابة لا متناهية المساحة..... تململ حوله باحثا عن مأوى يركن إليه، كي يقي نفسه ذاك الإحساس الذي انبثق فجأة، وهو إحساس بالخواء العميق. وبغريزته الفطرية  اتجه صوب عمق الغابة، وتحديدا غرب النهر، كان سيره غير باقي الكائنات، فلم يكن يسير على قدمين، ولم يكن يزحف، ولم يكن يطير، ولا حتى يسبح، هو نفسه لم يدرك كيف يتحرك؟ لأنه لم يكن قادرا على أن يعرف نفسه، ولكنه كان يشعر أن هناك في داخله عقل أولي، جعله ببساطة يعي شيئا واحدا ألا، وهو أنه فقط كائن على قيد الحياة...

اشتدت لسعات الباردة الجافة كسعال مزمن، أصبحت أكثر مما يحتمل غطاؤه الخارجي، ولاسيما أنه لم يكن جلداً ولا ريشاً ولا صوفاً، ولكنه  كان  كافيا أن يغطي اللحم والعظم، الذي تكون منه جسده، واصل السير مجازا، أو لنقل التحرك صوب عمق الغابة،  إلى أن وصل إلى كوخ خشبي غريب، كان الكوخ صغيراً وأنيقا، سقفه الأعلى من القرميد الأحمر المبتل، توجه إلى الكوخ حيث فتح الباب، ودلف إلى الداخل،  كان الكوخ معتما إلا من ضوء المدفأة الحطبية التي كانت مشتعلة، أحس بدفء و خدر لذيذ، عمل على حلحة تعب شديد و عتيق، أدرك فطرياً أن هذا الجسد لا بد له أن يحصل على شيء ما من الراحة، ولكنه لم يتعلم النوم بعد، أو لنقل لم يدرك ما معنى النوم، إلا أن النوم هو سلطان يأتي بلا استئذان، تشكل في وضعية وحالة النوم، التي لم يعرف كيف بدأت، أو كيف انتهت، إلا أنه ذهب بعيدا نحو أزمنة سحيقة متعددة الألوان.

 في لا وعيه الأولي انبثق حلم بطريقة ما؛ كان يا كان.. أميرا وسيما وجميلا، لديه مملكة كبيرة يحدها جانبان من الماء الأزرق الصافي، وبينهما خطوط من الشجر الأخضر، رأى الأمير نفسه يقف في شرفة قصره العالية مستطلعا مدينته، و قبابها الملونة الجميلة، كانت تعلوها سماء صافية لا يعكر صفو نقائها أي شيء، اشتم رائحة زكية في يوم ما، كانت رائحة جسد مضمخ برائحة البخور والمسك، كانت فاتنة حسناء سرقت لباب الأمير الوسيم، لم تكن هذه الفتاة سوى وردة جورية سحرية زرعها تاجر يُقال أنه قادم من الشرق، حملها بمثابة هدية للأمير، أنجبت الزوجة طفلا زكيا، كبر الطفل، ونما كأشجار القصر حتى بدا قويا، وفي يوم من الأيام، ورد للقصر تاجر قادم من خلف البحر، وكان يحمل شرابا سحريا، عرض التاجر عينة منه على الأمير، وكم كانت المفاجأة كبيرة حين أخبره التاجر العجوز بأن هذا الشراب له قدرة سحرية عجيبة على إبقاء الإنسان شابا وفتيا، ولا سيما إذا ما تناول مقدارا صغيرا منه، فإنه لن يكبر لعشر سنوات قادمة، طمع الأمير بأن يبقى شابا كي يحكم مملكته أطول مدة ممكنة، اشترى الأمير هذا الشراب من التاجر القادم من خلف البحر بمبلغ مالي كبير حصل عليه من الضرائب التي فرضها على سكان المملكة.

 وفي يوم من الأيام، قرر الأمير أن يجرب هذا الشراب السحري، شرب جرعة صغيرة من الشراب، فمضت عشر سنوات دون أن يكبر، مرت عشر سنين ولم يلحظ أحد أن الملك لم يكبر، ولكن في المرة الثانية بدأت ملامح السنين تظهر على من حوله زوجته وحاشيته وشعبه، وتمر السنون والملك ما زال شابا حتى أن ابنه أصبح مساويا له في العمر، ومضت السنون  ولا أحد يعرف سر بقاء الملك شابا، ماتت زوجته وابنه وحاشيته وشعبه و وجاء جيل تلو الجيل والملك ما زال شابا يحكم مملكته.

 وفي يوم من الأيام- لم يكن بالحسبان-  اكتشف الأمير أن الشراب السحري قد نفذ، فما كان منه إلا أن شعر بالغضب والخوف وجن جنونه،  طلب من حراسه أن يحضروا التاجر، فأخبر أنه مات منذ قرون طويلة، بدأ الأمير يكبر شيئا فشيئا، وبدن السنون تخط على الوجه الشاب ملامحها، هرم الجسد، و أوشك الملك على الموت، فما كان منه إلا أن ركب قاربا محاولا الوصول إلى تلك البلاد التي جاء منها التاجر، لم يصحب معه أحدا خوفا من مشاركته بذلك الشراب السحري، عند وصوله إلى تلك البلاد توجه إلى حكيمها كي يسأله عن الشراب، فأشار له الحكيم بأن هذا الشراب يستخلص من لعاب تنين عملاق يعيش على بحيرة خلف النهر الكبير،  قطع  الأمير النهر غرباً إلى مملكة التنين، وحين وصل إلى ضفة النهر، صاح بالتين طالبا منه الخروج،  كي يقتله ويستل من  لعابه شراب الشباب، ولكن الأمير ارتعد خوفا حين واجه تنينا كبيرا وعملاقا، يقذف النار من فمه وهو قادر على تحويل الأمير إلى لحم مشوي........... في لحظات

 صاح التنين:

-ماذا تريد أيها الإنسان البائس؟

أجابه الأمير بصوت خائف:

-أريد شراب الشباب

ضحك التنين، وقال:

-أعطيك شرابي، ولكن اعلم أنه كلما شربت من هذا الشراب سو ف يطول عمرك، ولكن ستتناقص إنسانيتك حتى تفقد ملامحك البشرية شيئا فشيئا بعد سنوات طويلة حتى تصبح ديناصورا، فهل تقبل بذلك ؟

عجب الأمير من ذلك، و صاح قائلا:

-ولكن شراب التاجر العجوز كان يجعلني شابا دون أن أتغير!!

قال التنين:

-لقد كان التاجر يعالجه حتى يمنع لعنتي، و الآن مات الرجل ومعه سره !

وافق الأمير طمعا في الشباب والخلود.... والحكم المديد، وحكم مملكته إلى أن جاء يوم استيقظ الأمير فيه، وقد لاحظ أن السماء تحتشد بغيوم رمادية، وأناس حوله يصرخون اطردوا المسخ... اطردوا الذي جلب الفقر والجوع والخراب والموت

 وهكذا وجد نفسه في الغابة  راكضا على شيء يشبه القدمين، سار آلاف السنين إلى أن نام قرب شجرة، نام وحلم، بأنه أمير وسيم يحكم بلاد شاسعة............. إلى الأبد.

 

rami-shehab@hotmail.com