تكشف الأشياء حياة صاحبتها وتظهر حالاتها المتباينة والمراحل التي مرت بها. الأشياء هنا لدى القاصة المصرية تتجاوز حدودها المادية لتصير رفيقة يباح لها بالمشاعر والأحاسيس ويزيدها مرور الزمن قدرة على إجلاء الحقائق.

ثلاث قـصص

سماح تمّام

تشابه

مسمار
أنا مثلُكَ: الطَّرْقَاتُ فوق رأسي كثيرة، لا يحصي أحدٌ عددها ولا يعنيهم سوى أن أؤدي مهمتي على أكمل وجه.

وردة
أنا مثلُكِ: يتمتعون بي ويعشقونَ رائحتي، ولا يتكبد أحدٌ عناءَ منحي قطرة ماء كي أحيا، أو يضعني في مزهرية كي يصونني، وجميعُهم يرحلون ولا يرونني وأنا أموتُ ورقةً.. ورقةً.

حبة لب
أنا مثلُكِ: للتسلية في أوقاتِ الفراغ ليس إلا، وعندما تنتهي مهمتي يتساقطُ ما تبقى مني على الأرض تطأه الأقدام المنصرفة بعدما زهدوا.

حمار
أنا مثلُكَ: السياطُ تجلد جسدَك وروحي، كلانا ينوءُ بحمْله، وحيدان نحنُ، وكلٌّ منا منفرد بعربته.

المهرِّج
أنا مثلُكَ: يأتي إليَّ الجميع حتى أرفِّهَ عنهم، ينسون همومَهم، يضحكون ثم ينصرفون، ولا ينظرون خلف الوجه الملطخ بالألوان والباحث دائماً عمَّنْ يجعله يضحك فيزيل أوجاعَه وأصباغَه.

الإطار
أنا مثلُكَ: لا يظهرُ منِّي سوى صورةٍ مبتسمة وعيونٍ ضاحكة، فالكاميرا لا تلتقط الخلفياتِ الحزينة.

التلفزيون
أنا مثلُكَ: أحملُ داخلي كلَّ شيء.. رقصات.. برامج أطفال.. مأساة موجعة.. وملهاة ساخرة.

سماعةُ الهاتف
أنا مثلُكِ: لا يهتمُّ بي سوى مَنْ يريدُ الحديثَ فقط، أما باقي الوقت فالجميع يتركونني مكاني صامتةً.. ووحيدةً.

 

 

سِهَامُها
السهامُ في جعبتها والقوسُ بين يديها. حاولتْ وفي كل مرة كان السهمُ يعودُ لها دون أن يصيبَ الهدف.. يعودُ حاملاً جزءاً منها. طاشتْ سهامُها وجعبتُها خاوية، ومشدودةٌ هي كوتر قوسها.

داخِلُهَا مزدحمٌ والسهامُ عادتْ محملةً بالكثير، يحمل أحدها صورتها، ابتسامةٌ بها ملامح وجه لن يتكرر، والأخر به حُلمٌ بأنه قد يأتي غدٌ يمسح الحزن عنها.

في كل مرةٍ تجمعُ قواها وتحاولُ الإمساكَ بعمرها لكنه كالفرس الجامح. لم تستطع يوماً أن تمسك بلجامه، ففرَّ رغماً عنها كما فرت سهامُها الخمسة والأربعون من جعبتها.

تتطلعُ إلى سهمٍ آخر عاد حاملاً ذكرى خطٍ طفولي مرتبك وكلماتٍ ساذجة المعاني وأحلامٍ لم تنكسرْ بعد. هل تستطيعُ المحاولة مرةً أخرى علَّها تنجح في إيقاف عجلة الأيام حتى تلتقطَ أنفاسَها؟

لا يزالُ القوس بين يديها والسهامُ عادت إليها، صورة قديمة لها، خصلات شعرها تتدلى، عيناها تلمعان ببريقٍ تتمنى لو يعود لتدفئ به لحظاتها الحاضرة.

سهمٌ عاد حاملاً لحظات فرح من الماضي، تريدُ أن تأخذها لتدسَّها خلسةً بين أيامها الحالية.

طاشتْ سهامُها، أي امرأة ستفعلُ أضعاف ما فعلتْ، تشعرُ طوال الوقت أنها سجينةٌ ضاقت عليها قضبانُ سجنها ولا تستطيعُ الفرارَ كما فرَّت منها السهامُ دون أن يصيبَ أحدُها الهدف.

قابلتْه وهي تهمُّ بالرمية الأخيرة، هذا زمنٌ لا يعطي القلوب حقَّها ولا يعطي العيونَ العاشقة الفرصةَ لكي تنظر في حنانٍ إلى من تحبْ.

يتساقط فرعٌ من شجرة العمر. الفرعُ الجافُ يتهاوى مسرعاً كما تهاوت قواها وهي تحاول الشدَّ على قوسها.

- جئتُ إليك لعلَّك تمنحني الثقةَ في أن يدي المهتزة هذه والتي فقدت دون إرادة منها خمسةً وأربعين سهماً طاشوا جميعاً، يدي هذه قد تصيبُ ولو مرة واحدة حتى وإن خلت جعبتها.

تنظر للدوائر المرتسمة على الحائط وتبتسمْ بعد أخذتْ وعداً بأن السهمَ القادمَ ربما يحقق لها ما عجزت عنه في خمسٍ وأربعين رمية سابقة.

 

 

صوان ملابس
طقسٌ تلقائي اعتادتْ القيامَ به عندما تتبدل أحوال الجو من حرارة لبرودة أو العكس، ففتحتْ صوانَ ملابسها...

قميصٌ له كم أحبتْه، مازال يحملُ بداخله رائحةَ عطرِه المفضَّل. لم تنتصرْ مساحيقُ الغسيلِ عليه فظلَّ العطرُ بداخله. تدسُّ أنفَها وتشعرُ كأنه يحتويها بين أحضانه.

في الركنِ أولُ رداءٍ أحضرَه لها، وكان العيدُ يدقُّ الأبواب. تتذكرُ كم كانتْ سعادتُها حينها وكم أصبحْ حزنُها الآن.

رداءُ نوم أبيض صار مائلاً للاصفرار، كان جوازَ مرورها الأول لكي تُمنح لقباً آخر أكثر نضجاً من لقب آنسة.

فستانُ حمل، مقاسه يصغرُ مقاسَها الحالي كثيراً، اشترياه معاً في أول عام ولم يُمس أعواماً عدَّة فباتَ لا يصلح، ولكنها احتفظتْ به، فهو يُجسِّدُ لها حلماً لم يكتمل.

كيسٌ يحتوي على جلبابٍ لأمها، مازال يحملُ رائحةَ جسدها. أعطتْه لها المرأةُ التي قامت بغُسلها، واحتفظتْ هي به كما هو.

فستانٌ صغير لطفلتها به رائحةُ حليبها، وأحلامٌ كثيرة لها بنياها معاً، ثم تركهما فأصبح عليها أن تواصل الحلمَ وحدها.

وهذا أول زي مدرسي ارتدته طفلتُها. كانت صغيرةً، أما الآن فقد قاربتْ كتفيها وسوف تفوقُها طولاً، وليتها تفوقُها حظاً.

زي رقص أخفتْهُ بحرص خشية أن يراهُ أحدٌ فتُضبط متلبسةً بأنها تمارسُ شيئاً من حريتها... وأنوثتها.

وهذا رداءٌ قطني خفيف يحملُ رائحةَ البحر وهديرَ الموج ولونَ سماء كانت صافيةً لم تلبدها الغيوم بعد.

معطفٌ ثقيل مازال يحمل أثار قطع قطنية من الثلج وبصمات أصابعه فوقه تحاول أن تمنحها الدفء، وهما يلهوان معاً غير عابئين بالبرد من حولهما.

لفافةٌ عندما فتحتها هبَّتْ منها رائحةُ دواء نفاذ. كان بها آخرُ ما ارتداه قبل أن ينتقلَ لغرفة الرعاية المركزة ومنها صعدَ إلى السماء.

يا إلهي.. صوانُ ملابس هذا أم بقايا عمر؟