هنا تتداعى حفنة من الانطباعات والمشهديات السردية التي دونها كافكا في يومياته متلاعباً على ضمير السارد. كما وتتبدى من مجمل شذرات النصوص اليومية حفريات بعيدة للكتابة الكافكوية.

كافكا يبوح: يوميات ورسائل!

فرانز كافكا

ترجمة هاني حجاج

 

"ذلك الوميض الخافت"
"لن أدع دفتر اليوميات أكثر من ذلك، ففيه أسجل ملاحظاتي، وهي ميزة لا أجدها في سواه. أود البوح بشعور النشوة الذي ينتابني من حين إلى آخر مثلما هو حالي الآن. فكم هو رائع حقا أن يملكني ذلك البريق الخافت الممتع والذي يوهمني بقدرات أنا على يقين تام ودائم باستحالة وجودها".

 16ديسمبر 1910

* * *

"تفاهة الكتابة تدرك بعد فوات الأوان"
"لم أكتب كثيراً عني اليوم، لعله الكسل (فكثيراً ما أمُضّي النهار كله في نوم عميق، فضلاً عن إحساسي بثقل كبير بعدها)، أو هو الخوف من خداع الذات. ولهذا الخوف ما يبرره. إذ لن تغدو الكتابة معرفة صادقة لقدر النفس إلا بأقصى درجات الكمال والإخلاص الشامل.. ولأن هذا لا يحدث، ولأنني لا أمتلك المقدرة عليه بأي حال من الأحوال، فإن الكتابة تتحول إلى وجهة نظر ويجنح الحرص الشديد إلى مشاعر عارمة عارية على نحو تتلاشى فيه المشاعر الصادقة، في حين أن تفاهة الكتابة تدرك بعد فوات الأوان".

12 يناير 1911

* * *

"خوفي لا يجود عليّ إلا بسعادة ناقصة"
"فكرت ذات مرة أن أكتب رواية عن صراع بين أخَّين، رحل أحدهما إلى أمريكا بينما قبع الآخر في سجن أوروبي، كنت أبدأ من حين لآخر في كتابة بضعة سطور قليلة منها ثم سرعان ما يتملّكني الفتور والإنهاك. وحدث في ظهيرة أحد أيام الآحاد حين كنا في زيارة إلى جدينا، وقد اعتدنا أن نلتهم لديهما خبزا شعبياً طرياً من الذي تغطيه بالزبد، حدث أنني دونت شيئا عن سجني، وتمكنت أيضاً من خلال طريقة فرد الورق على مفرش الطاولة والطرق بالقلم الرصاص والنظر أسفل المصباح وخلاله من أن ألفت انتباه الجميع، رغبة مني في حث أي منهم علي انتزاع ما أكتبه عنوة رغماً عني والتدقيق فيه ومدحي. وكان مهما جداً وصف ردهة السجن في بضعة سطور، خاصة سكونها وبرودتها. كما كتبت كلمة تعاطف مع الأخ القابع هناك لأنه الأخ الطيب. وربما اعتدت في السابق أن يتملكني شعور عام بتفاهة وصفي إلا أنني لم أرع اهتماماً لتلك المشاعر قبيل هذه الظهيرة، وذلك لأنني بين أقاربي، كنت أخشى ألا يجود عليّ خوفي إلا بسعادة ناقصة. جلست على طاولة مستديرة في حجرة ألفها، ولم أنس أن سكوني هذا هو من صنع مني رجلاً كبيراً رغم صغري. وأخيراً، أحد أعمامي والذي كان يضحك بشدة أخذ تلك الأوراق التي أمسكتها بشيء من الشك، ألقى عليها نظرة قصيرة ثم أعادها إليٌ ثانية وقد زال الضحك من وجهه، وجه كلامه لأولئك الذين كانوا يتبعونه بنظراتهم قائلاً (مجرد كلام عادي) بينما لم ينبس ببنت شفة معي. ظللت جالساً مكاني، وانحنيت على أوراقي الفاسدة مثلما كان الأمر في السابق. إلا أنني قد أقصيت من الصحبة المتواجدة بلطمة، وأخذ رأي عمي يتردد داخلي حاملاً معنى حقيقياً لا جدال فيه، إذ أن تلك المشاعر الأسرية قد أطلعتني على خواء بارد لعالمنا يجب أن نمنحه الدفء بالحماسة، وهو الأمر الذي بدأت أهتم به فيما بعد".

 19يناير 1911

* * *

"يقرأ الصحيفة لزوجته في المقهى"
"جلست بصحبة بعض المعارف إلى طاولة مقهى في مكان مهجور، كنا ننظر إلى امرأة وصلت لتوها وتجلس على الطاولة المجاورة لنا. كانت تتنفس من تحت وطأة ثدييها الكبيرين بصعوبة وبدا وجهها المائل إلى الحمرة محموماً لامعاً. أزاحت رأسها إلى الخلف فلاح في ذقنها أثر لحية خفيفة جداً، ثم حولت نظرها لأعلى وكأنها ترقب زوجها الذي يقرأ بجوارها صحيفة مصورة. آه لو يعلم المرء أنه سيقرأ إلى جوار زوجته في المقهى صحيفة وليس مجلة!! بعد لحظات استعادة وعي جسدها السمين فتزحزحت قليلاً عن الطاولة".

 24أغسطس 1911

* * *

"وكأنها تصرخ في حارة باريسية"
"سوف أكتب ومايزال جبيني يرتعش حيث أجلس في حجرتي أكثر أجزاء الشقة صخباً وضجيجاً على الإطلاق. أسمع طرقاً لا ينقطع على جميع الأبواب، واستشعر خطي العابرين بينها، كما يصلني صوت موقد الغاز في المطبخ. يقتحم أبي حجرتي مرتدياً بيجامة نوم لها ذيل طويل في حين يخربش رماد الموقد في الحجرة المجاورة. عبر حجرة المكتب تتساءل (فالي) بدهشة وكأنها تصرخ في حارة باريسية.. إذا كان أحدهم قد قام بتلميع قبعة أبي؟! بعدها تعلو نبرة حذرة مبحوحة بالإيجاب. يبدو صوت أكرة باب الشقة كالتهاب في الزور، باب الشقة لا يسكت أبداً، يفتح فتسمع ترنيمة نسائية قصيرة ويغلق فتشعر بهزة ذكورية عميقة. خرج أبي الآن وبدأ ضجيج رقيق شارد، ضجيج بلا أمل يقوده طائراً كنارياً عبر إلى الشقة من شق صغير بالباب. أخوتي وصديقاتهن لا يتوقفن عن الثرثرة".

5 نوفمبر 1911

* * *

"ماكس العجيب"
"عنفني أبي ظهراً لأنني لا أولي اهتماماً بالمصنع، وقد أوضحت أنه كان بإمكاني المساهمة في ذلك لو أنني أنتظر ربحاً معقولاً، لكنني لا أستطيع.. وحين واصل أبي تعنيفه، وقفت في الشباك ملتزماً الصمت. في المساء وجدتني أتفكر في حديث الظهيرة وكنت سعيداً جداً بوضعي الحالي، وشعرت أنه من الضروري أن أحرص على تخصيص وقتي كله للكتابة وحسب. ورغم أنني لم أتعرض لتلك الأفكار من قبل إلا أنها بدت مألوفة، فضلاً عن اتفاقها وقدرتي على تسخير وقتي بأكمله للأدب. وارد أن يكون هذا الاقتناع نابعاً من تفكير لحظي لكنه قوي جداً. كذلك فقد اعتدت التفكير في "ماكس" باعتباره شخصاً عجيباً رغم ما يحييه من قراءات أدبية وأمسيات موسيقية في برلين. ويستلفت الانتباه أيضاً أنني لا أفكر في ماكس إلا عندما أقترب من مسكن الآنسة "تاوسيش" أثناء نزهة المساء".

14 ديسمبر 1911

* * *

"فمها الواسع يتحرك"
'للأسف تلعب السيدة (تشيسيك) أدواراً لا تبرز غير طبيعتها الحقيقية، فدائماً ما تجسد أدوار النساء والفتيات، اللاتي تحولن إلى بائسات ومفضوحات، يصبن بالأمراض ويبخلن على أنفسهم بالوقت فلا يتطورن على نحو طبيعي. ويمكن للمرء أن يفطن مسبقاً إلى الدور المناسب لـ(تشيسيك)، وذلك من خلال الطاقة الطبيعية المتفجرة بداخلها والتي تظهر في كافة أدوارها ولا تصل إلى ذروتها، إلا أثناء التمثيل، بينما يكتفي - استناداً إلى ثرائها المنشود - بالإشارة إليها فقط في النص المسرحي المكتوب (إحدى أهم حركاتها على الإطلاق يبرزها تبختر عجيزتها المهتزة والتي قد تتصلب أحياناً)، وتمتلك ابنتها الصغيرة خاصرة جامدة لأقصى حد.. عندما يتعانق الممثلون فإن كل منهم يتشبث بالشعر المستعار للآخر بعنف!!

حين صعدت مؤخراً بصحبة (لوفي) إلى حجرته ليقرأ علي الرسالة التي كتبها إلى مؤلف من وارسو يدعى (نومبورج)، قابلنا على العتبة الزوجين (تشيسيك). كانا صاعدين إلى حجرتيهما ومعهما ملابس تنكرية من أجل (كول نيدري)، وقد لف الملابس في ورق ناعم كأنها طبق حلوى. توقفنا برهة من الزمن، واستندت إلى درابزين السلم. كان فمها الواسع يتحرك مقترباً بشدة وقد اتخذ أشكالاً مدهشة، ولكنها غير مألوفة. وحدث أنني أكسبت الحوار طابعاً كئيباً، فرغبتي في الانتهاء بسرعة من عبارات الحب والإطراء دفعتني للتأكيد فقط على أن الجماهير الغفيرة خرجت من المسرح متكدرة، وأن برنامج المسرح منهك للغاية، ويعجز معظم الحاضرين عن إكماله، وأنه من الأخلق أن تهدأ نبرة النفور من يهود (براغ) بينهم. يجدر بك – (هكذا قالت لي) - أن تحضر يوم الاثنين (ليلة سايدر) رغم أنني شاهدتها من قبل. بعد قليل سمعتها تردد تلك الأغنية (بوري يزرويل) والتي أيقظت داخلي - مثلها تماما - ذكريات قديمة، وخصوصاً الحب".

7 يناير 1912

* * *

"صعد ليستعيد عافيته.. وغرر بالبنت!"
"لقد غرر ببنت من قرية صغيرة تقبع في جبال إيزر كان قد نزل بها صيفاً كاملاً ليستعيد عافية رئته التي أنهكها الدخان. وبلا مبرر - كحال مريض الدرن أحياناً - أوقع البنت على الأرض، وهي ابنة صاحب المسكن الذي ينزل فيه، وقد اعتادت على الخروج معه للتنزه في مساء كل يوم بعد العمل، وبعد محاولة إقناع قصيرة في العشب على ضفة النهر صارت البنت، والتي أغشي عليها من الفزع ملك يمينه. بعد قليل أخذ يملأ كفيه بمياه النهر ويفرغها على وجهها لعلها تعود للحياة مرة أخرى. ناداها "بوشين، بوشين" ثم انحنى عليها مرات لا حصر لها. كان على أتم الاستعداد لتحمل مسئولية هتك عرض البنت، واجتهد بشدة لكي تسترد وعيها.. كان مخلصاً وجاداً للغاية.. لكن وبلا تفكير تمنى لو أنه لم يعرفها مطلقاً. أما البنت الراقدة أمامه والتي وإن عاودت التنفس بانتظام لكنها ظلت مغمضة العينين خوفاً وخجلاً، فلم تستطع أن تساعده في شيء. ولأنه رجل كبير قوي أزاحها عن طريقه بطرف حذائه. كانت البنت ضعيفة ورقيقة هشة، فهل احتفظ ما حدث لها بأي معنى مؤثر حتى الصباح؟ ألم يكن من الأجدر به وبها ألا يسيء إليها مرتين؟.. انطلق النهر بين المروج والحقول حتى شق الجبال البعيدة، وما تزال الشمس المشرقة في المنحدر على الضفة الأخرى، بينما تستعد آخر السحب للانسحاب خلف سماء المساء الصافية.

لا شيء، لا شيء، إنني واهم على هذا النحو كنت ضعيفا لأقصي حد، خاصة في موضع "فيما بعد..." وبالذات في "يفرغها"، أما في وصف الطبيعة فقد حاولت أن أرى شيئاً صحيحاً. هكذا، الانسحاب من الذات، من كل شيء. ضجيج في الغرفة المجاورة".

 10مارس 1912

* * *

"أحاول الاطمئنان على إحساسي بالمسئولية"!!
رسالة إلى روفولت:

'السيد روفولت المحترم!

أقدم لسيادتكم عملاً نثرياً قصيراً أرجو من سيادتكم النظر في أمره والاعتناء به، فيمكن أن يصبح كتيباً صغيراً. والحق أنني احترت أثناء الإعداد لهذا الغرض بين الانتظار للاطمئنان إلى إحساسي بالمسئولية وبين الرغبة في أن يصبح لي كتاب بين كتبكم الرائعة، وفي الواقع لم أصل إلى رأي صائب للغاية في هذا الشأن، لذا سأغدو سعيداً حتماً إذا أعجبكم العمل وقمتم بطباعته، وأخيراً ففي الأعمال التجريبية لا تدرك النواقص من أول نظرة كما أن الفردية المتزايدة للكاتب تستر بطريقتها الخاصة كافة النواقص.

لكم، بإخلاص".

14 أغسطس 1912

* * *

"أمتع من السير في شارع باريس"
رأيت فيما يرى النائم: أنني فوق لسان حجري ضيق مربع ممتد إلى بعيد في البحر. غريب بين نفر من البشر، بدوا لا يعرفونني لذا لم أتحدث إليهم. وأتذكر ركبتي ذلك الرجل الذي كان يجلس بجواري.. لم أكن أعرف في بداية الأمر أين أنا؟ فقط حين نهضت رأيت مصادفة من جهة اليسار، وخلفي من جهة اليمين، البحر الواسع الصافي وقد اصطفت فيه سفن حربية كثيرة راسية. ويميناً كانت نيويورك، وكنا في مينائها. السماء رمادية وصافية بنفس الدرجة. استدرت في مكاني بحرية، ناحية اليمين وناحية اليسار، معرضاً للهواء من كل اتجاه. وألحظ الآن البحر بجواري يموج عالياً، وحركة مرور هائلة لسفن من دول أخرى. ولا يحضرني الآن غير أننا استخدمنا في الانتقال بالبحر بدلاً من قواربنا الصغيرة، جذوع شجر ضخمة وطويلة، ربطت بإحكام فكونت حزماً دائرية عملاقة، أخذت تظهر قليلاً أو كثيرة مع مستوى طفوها حسب ارتفاع الموج، وقد راحت تتقلب في الماء طوال الوقت. جلست في إحداها ضاماً قدميٌ إلى صدري، وكنت أهتز من فرط المتعة، ثم انبطحت أرضاً مسروراً، ورددت: إن هذا لأمتع من السير في شارع باريس".

11 سبتمبر 1912

* * *

"روحي تضيق بمصائب وأفراح أقاربنا"
لائحة بالمبررات المؤيدة أو المعارضة لزواجي:
1- عدم القدرة على تحمل الحياة وحدي.. ليست القدرة على الحياة في حد ذاتها، بل على العكس من ذلك تماماً، فمن غير المحتمل أنني سأتفهم مجرد الحياة مع شخص آخر، ولكن لن أقوى بمفردي على مواجهة شراسة حياتي الخاصة ومتطلباتي الشخصية وضياع الوقت وفقدان العمر، والاحتقان الدائم لمزاج الكتابة والأرق ومشارفتي للجنون، لا لن أحتمل كل هذا وحدي، بالطبع يمكن الإشارة إلى أن الزواج من (ف) سيمنحني مقدرة أكبر على الاحتمال.

2- كل شيء يبعث على التفكير، كل نكتة في جريدة هزلية، ذكرياتي مع فلاوبرت وجريلبارتسير، منظر قمصان النوم على أسرة والديٌ المعدة للنوم، زواج ماكسين. بالأمس أخبرتني شقيقتي: "كل المتزوجين (بين معارفنا) سعداء، لكني لا أشعر بهذا" هذه العبارة تدعو إلى التأمل أيضاً، لقد عاودني الخوف.

3- من الأحرى أن أخلو لنفسي أكثر، فكل الذي أنجزته كان توفيقاً للعزلة وللانفراد بالنفس ليس إلا.

4- إنني أبغض كل ما لا يمت بصلة إلى الأدب، لا أحب خوض الأحاديث (حتى وإن كان لها صلة بالأدب) وأمقت الزيارات. كذلك تضيق روحي بمصائب وأفراح أقاربنا. إن الأحاديث تلتهم ما أتدبره، تلتهم الأهمية، تلتهم الجدية، تلتهم الحقيقة.

5- الخوف من الزواج وما يترتب عليه من إنجاب أطفال فلا أغدو بمفردي أبداً.

6- كنت أمام شقيقاتي، وكان يحدث ذلك في السابق، شخصاً مختلفاً غير الذي يراه الآخرون. لا يهاب، مكشوف، معروف، مفضوح، مدهش، مندهش، لا يتأثر – كعادته - إلا أثناء الكتابة، فلو تمكنت من إظهار هذا التأثر لزوجتي أمامهم فهل سأعجز عن حرمان الكتابة منه؟! كله إلا هذا! إلا هذا!

7- بمفردي قد أتخلي عن مسئولياتي، لكن هذا الأمر مستحيل وأنا متزوج".

21 يوليو 1913

 

Hany_haggag@hotmail.com