هذه الشهادة الطازجة الطالعة من جحيم قمع الثورة الروسية تؤكد أن النظام المستبد في نهاية أيامه، وأنه يتصرف بغباء سياسي سيعجل بالقطع من نهايته المحتومة. لكن أهم ما فيها هي إيمانها بهذا الجيل الجديد من الشباب الذي سد الفساد والاستبداد في وجهه الأفق، وقرر أن يفتح هذا الأفق المسدود مهما كان الثمن.

الثورة ستنتصر والأسد سيسقط

سلامة كيلة

حاوره في عمان محمد النجار

 

قال المفكر اليساري العربي سلامة كيلة (57 سنة) إن النظام بشار الأسد سيسقط وإن الثورة الشعبية عليه ستنتصر، واصفا نظام الأسد بأنه "أكبر مافيا في المنطقة". وروى كيلة -وهو فلسطيني الأصل، في حوار مع الجزيرة نت- تفاصيل اعتقاله وتعرضه لتعذيب وصفه بالوحشي من قبل المخابرات الجوية السورية التي اتهمها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقال إنه اعتقل لاتهامه بأنه مسؤول عن نشرة يسارية صدر منها ثلاثة أعداد وضعت في عددها الثاني شعار "من أجل تحرير فلسطين.. نريد إسقاط النظام".

- نريد أن نعرف ما الذي حدث معك في الاعتقال الأخير والذي انتهى بإبعادك للأردن؟

فوجئت مساء يوم 23/ 4/ 2012 بدورية من المخابرات الجوية حضرت إلى منزلي ودخلت بشكل طبيعي ولم تتعامل بوحشية كشأن الاعتقالات السابقة، وبدأ عناصرها في تفتيش البيت وصادروا ثلاثة أجهزة حاسوب تعود لي ولزوجتي، وهواتف وفلاشات تخزين وطابعة وسكانر، والعديد من الأوراق التي لم أعرف محتواها. طلب مني عناصر الدورية التوجه معهم لمدة يوم، وقلت لهم - وأنا أضحك - إن هذا الكلام غير صحيح، فقد اعتقلت ثماني سنوات في السجن بعد استدعائي للتحقيق لمدة نصف ساعة.

نقلت إلى مكان عرفت فيما بعد أنه آمرية الطيران في ساحة الأمويين، وأن هناك فرع أمن تحتها افتتح من وقت قريب، ونقلت للسجن في غرفة مكتظة بالشبان. اكتشفت بعد لحظات من الاعتقال أنني في سوريا كلها من إدلب إلى حلب إلى حوران، بسبب تنوع السجناء وانتمائهم إلى شتى مناطق سوريا، فبعضهم عسكريون متهمون بالانشقاق، وهناك متهمون بالتفكير في الانشقاق، ومن بينهم أربعة ضباط وعدد من العناصر من حلب، ومن بينهم كادر في حزب البعث، وكانوا قد تلقوا تعذيبا شديدا في فرع المخابرات الجوية بالمزة، ولم ينته التعذيب إلا بعد أن وقعوا على اعترافات يلقنها لهم ضباط بأنهم سرقوا ونهبوا وقتلوا.

استمعت إلى روايات تعذيب مرعبة، والهدف منه تأكيد النظام روايته المسبقة بأن هناك عصابات مسلحة تقتل وتغتصب وتنهب، وعندما تصبح كل الاعترافات نفس النص فهذا يعني أن هناك ملقنا. غرفة الاعتقال تتسع لعشرين، كنا فيها 36، ولا يوجد فيها أي فرشة، البعض وجد مكانا للنوم والبعض الآخر فضل الجلوس لعدم وجود مكان.

في الصباح نقلت للتحقيق الذي بدأ باتهامي بأنني طبعت نشرة يصدرها "الائتلاف اليساري السوري" صدر منها ثلاثة أعداد، وهو من التجمعات الجديدة التي تشكلت أخيرا، وفي النشرة شعار "من أجل تحرير فلسطين.. نريد إسقاط النظام"، وهو الشعار الذي ضربت عليه طويلا حتى من العناصر، ووجدت أنهم مرعوبون منه. وكان الضابط يريد مني الاعتراف بأنني من يصدر النشرة، نفيت ذلك وأخبرته أن هناك من تواصل معي عبر الإنترنت عن النشرة، وطلبت إيصالها لي وهو ما حدث، وأنني لست مسؤولا عنها.

قابل الضابط أجوبتي بشتائم قاسية، ووصفني بالكلب والحقير، وضربني ضربا مبرحا بكيبل عريض ظهرت آثاره على جسدي بوضوح، وتعرضت لنفس الشيء عدة مرات على مدار يومين دون أن أغير روايتي، وخلال ذلك كان المحققون يشتمون الشعب الفلسطيني بأنهم باعوا وطنهم وخانوا سوريا التي قدمت لهم الكثير.

- هل كان التعذيب في هذا المكان فقط؟

نعم بقيت على هذا الحال حتى يوم الخميس 3/5 /2012 حيث نقلت لمكان آخر وأنا مغمض العينين، وعرفت فيما بعد أنه مطار المزة وفيه المقر المركزي للمخابرات الجوية، وعندما شاهدني المسؤول وشاهد آثار التعذيب فوجئ وطلب مني أن أذهب للاستحمام. عندما خرجت وجدت طبيبا ينتظرني لفحصي، وعرفت أن هذا الفعل حدث عندما ثارت ضجة على أنني قد أموت، الطبيب فحصني وذهل مما شاهد من تعذيب، ونقلت إلى بناية أخرى وأنا مغمض العينيين، وقابلت ضابطا كبيرا لا أعرف من هو، وتوسع التحقيق معي حول النشرة وغيرها من الأمور. ثم جاء طبيب واضح أنه أعلى من الأول وقام بكتابة تقرير عن الوضع معي بالتفصيل، وكان يصف آثار التعذيب، وكان الدكتور يشك في أنني أعاني من اليرقان، ثم قرروا أخذي للمستشفى وعرفت فيما بعد أنه مستشفى بالمزة، وأجريت لي صور شعاعية وفحوص دم وغيرها، وقال إن فحص اليرقان غير ممكن إلا صباحا، واقترح بقائي في المستشفى حتى يوم السبت، وهنا كانت الكارثة.

- كيف؟

اكتشفت أنني دخلت في جحيم حقيقي أسوأ من كل ما مررت به، الغرفة فيها أمن للمخابرات الجوية، وفيها ستة أسرّة عليها 11 مريضا مقيدين بالسلاسل، حيث وضعت في زاوية وربطوا رجلي ويدي بالجنازير، وكان هناك غطاء على عيوني. المشكلة بدأت عندما أردت الذهاب إلى الحمام للتبول فسمح لي أول مرة، وفي المرة الثانية رفض وطلب مني التبول في كيس قذر، ولأنني كنت أخذت جليكوز فصرت بحاجة للتبول كثيراً، فرفض بعد ذلك أن أذهب للتبول، وطلب مني التبول على نفسي وهو ما حدث للأسف، وتكرر الأمر في كل مرة بعد ذلك، كنت أبول على نفسي لأيام، لذا قمت بتقليل حجم الماء والطعام الذي أتناوله.

وكانت التعليمات على ما يبدو ألا يتم ضربي، فلم أضرب إلا قليلاً قياساً بالآخرين الذين كانوا يتعرضون لضرب يومي بلا رحمة، وخلال أسبوع من إقامتي في هذه الغرفة مات اثنان ممن كانوا معنا.

كان معنا مريض نفسي في الغرفة اسمه لؤي يوسف الخطيب، كان يتكلم مع نفسه من شدة التعذيب الذي تعرض له، وكان يتلقى الضرب والتعذيب لأنه يصرخ، وهذا تكرر مع الجميع في الغرفة القذرة التي كنا فيها. بقيت على هذا الوضع حتى يوم الثلاثاء 8/ 5/ 2012 حيث أجريت لي فحوص، وعندما عدت للسرير جرى ضربي عدة مرات. يوم الخميس 10/ 5/ 2012 جاءت دورية وأخذتني وفوجئت بأنني في قسم الهجرة والجوازات في المزة وسلموني هناك، وكان الضابط مستعجلا ويقول إن وزير الداخلية يتابع ترحيلي، واستعجل نقلي للقصر العدلي حتى يوقع النائب العام على قرار ترحيلي، حيث نقلت في حافلة، وعندما وصلت للقصر العدلي نزل الضابط وعاد بتوقيع النائب العام، ثم نقلت لمنطقة باب المصلى التي يوجد فيها مكان لاحتجاز المبعدين.

- يعني لم تعلم بقرار ترحيلك من قبل؟

لا طبعا فوجئت بالأمر، وعندما وصلت لمكان الاحتجاز وجدت شبانا عربا من كل الجنسيات، غالبيتهم من الفلسطينيين ينتظرون دولا لتستقبلهم، وهناك تمكنت من الاستحمام وتم الاتصال بزوجتي لتشتري تذكرة لي، وقبل أن تحضر أخبرت بأنني مطلوب للجنائية ليتبين أنني مطلوب للأمن السياسي.

- أعادوك للأمن السياسي؟

نعم تمت إعادتي للأمن السياسي، واكتشفت أن أساس اعتقالي يعود لطلب منهم، وهناك وجدت شبانا من كل سوريا أيضا، واحتجزت في غرفة وكانت ظروف الاعتقال أفضل، وفي التحقيق وجدت أن سبب الطلب هو نقاش عبر فيسبوك مع شاب حول الهيئة العامة للثورة السورية التي لي رأي سلبي فيها أصلا. عدت للهجرة والجوازات، وحضرت زوجتي واشترت لي تذكرة بمعية محامية، وتم ترتيب أمور ترحيلي للأردن، وفي صباح يوم 14/ 5/ 2012 دخلت الطائرة ووصلت لعمان.

- قلت إنك شاهدت سوريا كلها داخل السجن من ناحية، كما قلت إنك أصبحت تدرك دور الأجهزة الأمنية في قمع الثورة قبل وبعد دخولك السجن، حدثنا عن ذلك.

من التقيته من الشباب في السجن بسيط وطيب جدا، لا توجد لديه ثقافة سياسية، لكنه يعرف أن الأفق مسدود ويجب أن يتكسر، وأن الصراع مع هذه السلطة لا بد منه، وأن المسألة لا طائفية ولا غيرها، هؤلاء شباب من جيل التسعينيات الذي أعتقد أنه سيغير الشرق الأوسط خلال عشر سنوات. التعذيب الذي تعرض له هؤلاء الشبان وخاصة في المزة كان مرعبا لدرجة لا توصف، لكنه زادهم إصرارا على السير للأمام، ولم يؤد لخوفهم أو دفعهم نحو التراجع، وهذا ما أذهلني حقيقة. وما لفت نظري أيضا هو أن هذا الشباب من كل سوريا وعيه واندفاعه وطموحاته متشابهة، ولديه إصرار موحد على تغيير النظام.

- ماذا بالنسبة للأجهزة الأمنية السورية، من الذي يمسك بالأمور أكثر من غيره اليوم برأيك؟

واضح أنه بعد تصاعد الأزمة في سوريا وشعور النظام بالضعف، ارتد النظام إلى بنيته الأكثر صلابة وهي المخابرات الجوية، بعد أن اعتمد على أمن الدولة في بداية الثورة، والتي تحول دورها اليوم إلى الفوتوشوب وتركيب الصور وتلفيق وتزوير الفيديوهات

جهاز المخابرات الجوية أبشع جهاز يعمل في سوريا اليوم، وممارساته تصل حد الجرائم ضد الإنسانية، وداخل هذا الجهاز فرع المهمات، وهذا أسوأ فرع فيه، وهؤلاء لديهم صلاحيات القتل والاعتقال والتعذيب بلا حساب. وأصبح واضحاً أن المخابرات الجوية والفرقة الرابعة هما اللذان يعتمد عليهما النظام بشكل أساس، وهذا يدل على ضعف ولا يدل على قوة لأن النظام ارتد إلى الدائرة الأكثر ضيقا.

- اعتقلت على شعار "من أجل تحرير فلسطين .. نريد إسقاط النظام السوري"، هل تؤمن به وهل يؤمن به الفلسطينيون في سوريا؟

أغلبية الشباب الفلسطيني مع الشارع السوري، والشباب السوري يؤمن بهذا الشعار لأن النظام يتاجر بالقضية الفلسطينية، وهو لا يجرؤ على الاقتراب من الجولان ولا يحضّر لأي حرب، والنظام تحول إلى عائق في المواجهة مع إسرائيل.

- ولكن هناك أطراف فلسطينية لا تزال تراهن على النظام، بل وانحازت له ضد الثورة.

هذا صحيح، وهذه تضر الشعب الفلسطيني، خاصة جماعة القيادة العامة وياسر قشلق، وفصائل أخرى تسلحت في المخيمات لضبطها، وهؤلاء سيزولون مع النظام لأنهم أدوات عنده.

- وأنت خارج من سوريا للتو، هل ترى أن النظام السوري سيسقط أم إن لديه وقتا للمناورة أو حتى البقاء؟

النظام وصل للحلقة الأكثر ضيقا وهي الأخيرة، وبتنا أقرب للتغيير من أي وقت مضى، منذ البداية أنا مؤمن بأن هذه الثورة ستغير النظام، والمشكلة ما زالت أنه لا توجد قوى سياسية تنظم الشارع بشكل صحيح، وهناك شعور يتنامى داخل الطائفة العلوية نفسها بأن النظام زائل لا محالة، وأن ما يجري من تدمير وانهيار سيعود على الجميع، وهؤلاء يعتبرون أن الثورة هي ضد عائلات الأسد ومخلوف وشاليش وغيرها وليست ضد العلويين.

- هناك تخويفات من الحرب الطائفية في سوريا، هل ترى لها أي أفق؟

لا يوجد أي أفق لحرب طائفية في سوريا، وكل محاولات النظام خلال السنة الأخيرة لجر البلاد لهذه الحرب فشلت، أنا قابلت شبابا متدينا في السجن لكن لا توجد لديه أي طائفية.

- هل يعيش أهل دمشق بصورة طبيعية .. وأنت القادم منها لتوك؟

في الفترة الأخيرة الوضع توتر، وهناك ركود اقتصادي واضح، والوضع الأمني أشبه بالاحتلال، والناس لا تتحرك كثيرا في الليل، وهذا يدل على حالة رعب شديدة لدى النظام، وأعتقد أن الضغط الاجتماعي على الناس سيسرع الحسم، وآخره زيادة أسعار المازوت والغاز.

- أنت مفكر يساري معروف، وهناك جزء غير بسيط من اليسار والقوميين العرب منحازون للنظام السوري ويقفون معه ضد الثورة، ماذا تقول لهم؟

أقول لهؤلاء أن يترووا قليلا، وأن يعودوا لعقلهم وأن يفكروا بموضوعية لا بسطحية عالية. نحن ضد الإمبريالية ويجب أن نكون ضدها، لكن الوضع في سوريا كان تكيفا مع الإمبريالية، الاقتصاد الذي صنعه النظام السوري كان يطلب رضا الأمريكان. القصة في سوريا أن هناك شعبا، سوريا تتعرض لجريمة قتل كبرى يمارسها النظام من القتل إلى الصراعات الطائفية إلى التعذيب. سيكتشف هؤلاء أنهم دافعوا عن أكبر مافيا في المنطقة، أتمنى عليهم ألا يعتقدوا أن الأمور هي إمبريالية فقط، لأن الإمبريالية تتجسد في تكوينات محلية، والشعب السوري هو الذي ضحى من أجل فلسطين وضد إسرائيل وأميركا، وليس النظام، والشعب يقاتل اليوم من أجل فلسطين وليس فقط من أجل تغيير النظام.

هناك سطحية سياسية لدى أحزاب شكلية ونخب تبلورت في الخمسينيات والستينيات ستسقط مع هذه النظم، واليسار معاد للإمبريالية وللقمع والنهب والاستغلال، روسيا اليوم إمبريالية صاعدة ولم تعد اشتراكية كما يظن أصدقاؤنا، فلماذا نحن مع إمبريالية ضد إمبريالية؟