يكشف لنا الناقد الفلسطيني عن أهم عوالم رواية الكاتبة الأردنية المرموقة، وهي الرواية التي تبدأ بنكبة فلسطين وتنتهي بنكبة عمان راصدة تغريبة وطن/ وأوطان وآلاما إنسانية وشقاء بانجراحات مكشوفة.

رغبات مكبوتة وأحلام قتيلة في واقع مرير

فراس حج محمد

لم أقاوم نعاسا جريئا صادما بعد انتهائي من قراءة رواية الكاتبة الأردنية ليلى الأطرش "رغبات ذاك الخريف"، تلك الرواية التي لامست الأعصاب، فسرى فيها الخدر، فنفثت الوجع صارخا بكل ذرة من ذرات جسمي المنهك المكدود بتعب الحياة وأحزانها، استسلمت للنوم لعلي أتخلص من تلك المشاعر الفادحة، وصحوت وأنا أهجس بالألم، فما زلت مسكونا بمس فني روائي جميل على الرغم من فظاعة الحدث الروائي، الذي خلف وجعه سكاكين مغروسة في خاصرة الذكرى، من تولهات "رغبات ذاك الخريف".

لم أُخْفِ أن "رغبات ذاك الخريف" تمازجت مع آلامي التي أعيشها بكل ما حملت الحياة من شقاء وتعاسة ممتدة عبر زمن روائي سبق عام 1948 بسنوات، وحتى عام 2005، لتبدأ الرواية بنكبة فلسطين، وتنتهي بنكبة عمان وتفجيرات الفنادق الثلاث "راديسون ساس" و"جراند حياة" و"ديزْ إنْ" على أيدي عصابات لم تفصح الرواية عن انتمائهم وأيديولوجيتهم.

لم أستطع إلا أن أرى آمالي وأحلامي مقتولة كلها ككل أحلام وآمال هؤلاء الشخوص الذين تحركوا في فضاء روائي مفتوح على وجع إنساني ووجودي قاتل وأليم، شخوص روائية وحقيقية، وحيوات كثيرة هدها البؤس والتعب، أسر فلسطينية تغربت عن الوطن لتعيش مأساة اللجوء، وما عانته تلك الأسر في متاهات الغربة، وتحطم أحلامها على صخرة الواقع السياسي الذي خذلها، فلم تعد تحلم بالعودة إلى فلسطين الوطن والأمنية، بل زاد تشردها وابتعادها أكثر لتنسى الوطن في غمرة الحياة ومصاعبها.

يتناثر اليقين، ويغدو القلق والتلاشي سمة بارزة تقتل النفس وتعشش فيها الأفكار الهروبية أو الاستسلامية الماجنة، فمن هارب إلى فضاء إلكتروني موهوم ليصنع حلما متخيلا عبر محادثات التشات، إلى آخر منغمس في المباريات الرياضية أو الأغاني الماجنة والمسلسلات، وإما أن ترميه الآمال في أحضان الأحزاب الإسلامية التي تدغدغ المشاعر والعواطف عبر نصوص مؤولة، لتحقيق رغبات مكتومة في نفوس من يحرك وقودها من الشباب الباحث عن قطعة أمل يتمسك بها، وإما أن تجد ملجأها في ترهات السحرة والمشعوذين عربا وغير عرب، لنكتشف في النهاية أنها لم تكن إلا مجرد حلقات متسلسلة مفضية لانعدام الأفق لصناعة جيل قادر على التغيير.

وتلامس الرواية كذلك أحلام شباب ضائعين في أوطانهم، يحلمون بتحقيق أماني بسيطة وأحلام متواضعة، فيهجرون الوطن على أمل أن يجدوا في بلاد الغربة منافذ لتحقيق تلك الرغبات الخريفية، فيسافر أحدهم إلى فرنسا والآخر إلى أمريكا، وإذا بالواقع قد تغير، فتنتكس الآمال وتتبعثر الأحلام، فتغير حياة الغربة وأسبابها الموضوعية المستجدة مسار حياتهم، فغيث الصيدلاني الذي حلم بأن يكون عالم جينات وراثية مشهورا ينتهي تاجر عقارات، فيغنى وينسى طموحاته العلمية، فلا مكان لها في عالم تغيرت معادلاته.

وأما موسى عبد الحميد، فإنه لم يكمل حلمه بأن يصبح كوافيرا مرموقا في باريس عاصمة الأناقة والجمال، فتنتهي به الآمال إلى التجارة كذلك، بعد أن عانى الأمرين من مرارة التشرد والاختباء كالجرذان خوفا من الشرطة التي تلاحق العمال غير الشرعيين المقيمين في فرنسا، وليرتمي أخيرا في أحضان سيدة فرنسية خمسينية ذات الأربعة أبناء فيحصل على الإقامة، ويظهر للعلن، وقد دفع ثمنا باهظا أحلامه وأمانيه!!

وتتابع الرواية خيبات الأمل مع محاسن الطيرواي وزوجها الذي تزوج عليها سكرتيرته، فتبوء أحلام محاسن بالفشل الذريع تجاه رجل أحبته وباعت أهلها من أجله، ووقفت بجانبه وجعلت منه رجلا كما تقول الرواية، لتكون النهاية الطلاق البائن بينونة كبرى وكراهية مطلقة، ويزداد شقاء زوجها سامي محمود أيضا عندما تموت زوجته الثانية "عطاف"، فيعود مرغما من أجل أن يكمل مشوار الحياة ليتابع ولده وابنته، ولكن بعد أن خسر علاقته وحميميته مع زوجة أحبته حتى النخاع.

وترسم الرواية فصلا آخر للشقاء الإنساني وهذه المرة مع رجاء وزياد البستاني اللذين انتظرا يوم عيد الحب ليحتفلا معا في أجواء بيروت الرومانسية، حيث الموت لهم بالمرصاد، فيكون عبث تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري قاطعا وحاسما في القضاء على أن يتبادل المحبون الهدايا، تلك الهدايا التي ظلت محبوسة في الأدراج تنتظر وقتا أجمل لترى النور، ولم يستسلما لما حدث فيقرر زياد التوجه إلى عمان لاحقا برجاء ليخطبها، فيكون نزيل فندق "غراند حياة" الذي يترنح تحت وقع تفجير آثم، فينتهي الحلم ويتبعثر مع أشلاء البشر الذين قتلوا بلا ذنب في تفجير لا يرحم.

ولعل من أكثر الحيوات شقاء إنسانيا حكاية عثمان وخديجة الزوجين السودانيين اللذين جاءا إلى عمان ليبحثا عن تحقيق حلم أن يكون لهما طفل، فتنهي الحياة وشقاؤها مسيرة الحلم على وقع التفجيرات الآثمة، فيطمعان بعد كل المعاناة من الغنيمة بالإياب، لتنتهي الرواية بجملة على لسان عثمان "كيف يمكن لطفل نحلم به أن يعيش في عالم مجنون كهذا؟"

نهاية طبيعية تنتهي بها رواية صورت بؤسا وتعاسة بشرية، متلونة الحكايات والأشخاص، ممتدة في المكان والزمان؛ ماضيا وحاضرا ومستقبلا في ظروف مختلفة، لتلتقي كلها عند نقطة ارتكاز واحدة هي: أن لا مكان لأحلام كبيرة أو صغيرة في هذا الواقع الكارثي، فالكل يفقد أحلامه وينأى عنها، وتزداد المسافة يوميا بين الشخص والحلم لينغرس أكثر في واقع أسود.

هذه هي "رغبات ذاك الخريف"، صورت الحياة بكل رغباتها، ولم تكن تلك الرغبات لتزهر، وكيف لها ذلك، وقد نبتت في صحراء الواقع في خريف ليس له آخر؟ رواية تفتش عن أمل فلا تجد له أي بارقة تلوح في الأفق، لم تجد سوى الموت لتنتهي به، فيكون الموت العبثي الكارثي الأعمى خاتمة فصول الرواية تلخيصا لحياة البشر الذين يسيرون في دهاليزها منتظرين موتهم، وقد ماتت أحلامهم وجفت خضرة أمانيهم، لا فرق عندهم إن ماتوا بمرض السرطان، أو قضوا نحبهم بالجوع أو بسبب تفجير، فلا مفر من أن يحيوا حياتهم، وليكن ما يكون!!

أبدعت ليلى الأطرش في تصوير حيوات متعددة مرتكزة على بؤرة الفكرة الواحدة، وإن تعددت ألوان المصائب وأشكالها، ولكن يا ترى هل ستكون "رغبات ذاك الخريف" عاملا مثبطا في معابثة الأمل والبحث عنه؟ فعلى الرغم من قوة الحقنة إلا أن نفوسنا ستنهض من كبوتها لتبحث عن أمل جديد نتنفسه كل صباح، فالحياة بلا أمل، وإن كان مصنوعا بالوهم والتصور والخيال، حياة لا طعم لها فعلا، فحياة مشدودة بحبل أوهام الأمل أفضل مليون مرة من حياة نستسلم فيها لواقع أمر من العلقم، فلم نخلق في هذه الحياة إلا لنهزم اليأس، ولو دفعنا أعمارنا ثمنا لذلك.

وعلى الرغم من "رغبات ذاك الخريف" القاسية المؤلمة، إلا أن الأمل يتسلل من بين ركام الموت، لتقرأ في الرواية هذه الفقرة: "في لحظات الكارثة أو الفاجعة يمسح العقل المحب كل احتمال ويبقي الحياة، لا يقبل بغير الأمل، ونجاة الأحبة، ويرفض القلب إلا الرجاء بالحياة، فينكر ويقصي غيرها في مواقف الموت".