تقدم الكاتبة الأردنية قراءة في أحدث أعمال حوراني والتي تتجاور فيها تصميمات الحلي مع الحس الفني واستيحاء للرموز المرتبطة بالحضارات القديمة التي تستعير ثقافات الشعوب من مختلف الإثنيات.

موروث الشعوب وتراثها

هيا صالح

قدمت لمى حوراني، عبر مسيرة زادت على السنوات العشر في عالم تصميم الحلي والمجوهرات، قطعاً مبتكرة، أسست من خلالها لبصمتها الفريدة التي تقوم على استيحاء الرموز المرتبطة بالحضارات القديمة، أو الدالّة على ثقافات الشعوب المعاصرة. وجميع هذه الرموز تُحاط بفضاءات وأشكال ومجسمات ثلاثية الأبعاد، تؤكد فكرة حوراني ورؤيتها لما تقدمه من حلي؛ إنها ليست مجرد قطع للزينة حسْب، بل هي أعمال فنية يمكن تأطيرها أو تعليقها على جدار، ويمكن –أيضاً- ارتداؤها بوصفها أيقونات تحيط العنق أو الرسغ أو الإصبع، أو تتدلى من الأذن على شكل قرط، لتمنح مرتديها إحساساً بالجمال والتفرد والأصالة.

حوراني، التي جابت مشارق الأرض ومغاربها نابشةً في موروث الشعوب وتراثها، كانت قد تخرجت في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك الأردنية عام 2000، وحصلت لاحقاً على دبلومات عدة في الحجارة الكريمة وتصميم المجوهرات من معهد (GIA Vicenza) في إيطاليا، ثم بدأت تشق طريقها في التصميم من خلال تشكيل قطع مستوحاة من الحضارات القديمة كالنقوش المكتشفة على جدران الكهوف أو المعابد الأثرية، أو من مستحثات الأسماك المتجمدة داخل الصخور المترامية حول ضفاف البحر الميت في الأردن.

وقد استثمرت حوراني هذه النقوش والأيقونات في معارضها "ذاكرة الصحراء" (2009) و"حجوم أكبر" (2008) و"غجرية" (2007)، بوعيٍ يرى أن الإرث العربي الثقافي والحضاري لم ينحصر في منطقة بعينها، بل هو في حقيقته إنساني كوني، وإلا ما الذي يفسر تكرار النقوش والرموز نفسها في حضاراتٍ استقرت في بلدان من مثل المكسيك وفرنسا وإسبانيا والصين ودول شرق أوروبا وشرق آسيا.

كذلك، لم تستنسخ حوراني هذه الرموز والنقوش والمستحثات، أو تنقلها بالهيئة التي وُجدت عليها، بل اشتغلت على بثّ رؤيتها وطريقتها التعبيرية في ثنايا كل قطعة من صياغتها، مانحةً النقش القديم روح العصر والحداثة.

تلك الروح مرتبطةٌ لا بشكل القطعة الخارجي حسْب، وإنما أيضاً في المواد المستخدمة في إنجازها، حيث تتحاور الفضّة داخل التصميم مع الأحجار الكريمة أو غير الكريمة، ضمن تركيب فني له دلالة ترتبط غالباً بقيم إنسانية لا خلاف عليها، كالمحبة والإخاء والسلام. إنها أعمال تسعى إلى إيجاد تآلف بين أناس ينتمون إلى خلفيات ثقافية وعرقية ودينية وأيديولوجية متعددة، تجمعهم معاً الجوانب المشرقة في الحضارة الإنسانية وقيمها النبيلة.

ومثما ظلت تلك "الموتيفات" القديمة حاضرةً في أعمال حوراني التي أقامت المعرض الأول لتصاميمها من الحليّ في العام 2000 في مؤسسة نهر الأردن بعمّان، كذلك ظلت الفضّة معدَنها الأثير، الذي يدخل في جميع التصاميم تقريباً، وهذا مرتبطٌ كما ترى الفنانة بكون الفضّة المعدنَ الأكثر التصاقاً وتعبيراً عن "تاريخنا وحضارتنا في المشرق العربي والجزيرة العربية منذ مئات السنين".

أما الأحجار التي تستخدمها حوراني، فهي، والكلام لها: "ألوان أو جزء من العمل الفني، لذلك فإن المعدن في معظم أعمالي هو الطاغي، وهو الذي يحدد التفاصيل الداخلية الأخرى لكل قطعة على حدة. مع هذا فأنا أفضّل الفيروز واللؤلؤ على سواهما، فالفيروز يملك لوناً جميلاً جداً وقوياً ويرتبط بتراثنا العربي ارتباطاً كبيراً، كما أنه يمثّل تناقضاً جذاباً حين يتم وضعه الى جانب أحجار أخرى. أما اللؤلؤ فهو حجر حيادي ويتناسب مع الأذواق كافة، وله قدرة خارقة على الاندماج مع أحجار أخرى وألوان متدرّجة".

شُغلت تصاميم لمى حوراني بحرفية عالية، وهي تضيف إليها في كل مرة جديداً مستقىً من رحلاتها عبر بلدان العالم ومعايشتها أقواماً مختلفين، وتجوالها بين ثقافات متنوعة، واطّلاعها على حضارات متعددة.

فمن الأعمال التي عرضتها حوراني في العام 2010، سبع مجموعات، حملت الأولى اسم "ماساي"، وهي قبيلة إفريقية دائمة الترحال بين كينيا وتنزانيا، ويحتفي أفرادها بالحلي التي يرتديها الرجال والنساء على حد سواء، وفيها ركزت حوراني على النقوش والأشكال التي تُستخدم كتعاويذ منها ما يجلب السعادة والمال، ومنها ما يحفظ الإنسان من الشرور.

وجاءت المجموعة الثانية بعنوان "العشرية الأولى"، وهي عبارة عن قطع تدمج فيها الفنانة الأحجار الكريمة وغير الكريمة بالرموز والأشكال والنقوش التي اكتُشفت على جدارن الكهوف الأثرية، وبعضها يشير إلى حروف الكتابة التي كانت شائعة في تلك العصور.

وفي مجموعتها "الثلاثة كواحد" ثلاثية الأبعاد، استخدمت حوراني أيقونات تؤشر على روح الأخوّة والصداقة والتعاون بين الشقيقات، وقد أهدتها لشقيقتيها (ريم وفرح). كما قدمت مجموعة "مصمّمة وفق الطلب"، وتتكون من قطع دائرية وبَكَرات يمكن فكّها وإعادة تركيبها وفق ذوق مقتنيها، وتتميز بتداخل الفضّي والذهبي معاً.

وفي إطار اعتمادها تقنيةَ أكسدة المعدن من الفضة والذهب، أنجزت حوراني التي أقامت ما يزيد على ثلاثين معرضاً شخصياً، مجموعتها الخامسة "مفاتيح"، التي استوحت تصميمها من أشكال المفتاح ودلالاته التي تحيل إلى الفرَج والحرية واستعادة البيت الذي صادره المستعمِر.. بعض القطع في هذه المجموعة قاربَ شكلَ المفتاح القديم ذي المسنّنات البارزة، وبعضها مستمَدّ من شكل المفتاح الحديث رقيق المسنّنات، ومنها أيضاً ما دَمج بين شكل المفتاح قديماً وحديثاً، مع التركيز على المقبض الدائري وفتحة القفل التي كانت في عدد من التصميمات مركزية وأساسية.

ومن شكل الأوسمة العسكرية، استوحت حوراني تصاميم مجموعة "القلادات" التي اشتملت على شَبَر مطرَّز، ومُوشّى بالرموز والأحجار الكريمة. أما مجموعة "جرافيتي" فتضم حلياً مستمَدة من رسوم سياسية أو فطْرية تزين جدران البيوت والشوارع في عدد من المدن التي زارتها الفنانة، من مثل: نيويورك، ميلانو، لندن وبرشلونة.

وتقوم رؤية الفنانة في إنجاز هذه المجموعة على موضوعة اللغة، التي كانت تُكتَب بالرموز والإشارات قبل آلاف السنين، إذ تستحضرها حوراني على شكل رسومات معاصرة ضمن ما يُسمّى "فن الجرافيتي" أو "فن الشوارع". إنها كما تقول الفنانة: "الصرخة نفسها للإنسان منذ الخليقة وإلى اليوم. إنها (اللغة) التي تصقلها الحضارة والتقدم".

واصلت لمى حوراني تقديم جديدها عبر معرضها الذي أقيم على جاليري "رؤى" بعمّان (2011)، وفيه حضور كبير لمدينة "سان سبستيان" في إسبانيا، إلى جانب الطقوس اليابانية المقدَّمة بألوان الربيع المبهجة وتشكيلات قوس قزح.. كما اختارت من الربيع الأردني ورد الدحنون الأحمر (شقائق النعمان)، واستوحت في بعض تصاميمها أوراق شجر الزيتون.

وقد ضم معرضها هذا ست مجموعات. ففي "حنين" تَظهر الأشكال داخل التصميم متلاصقة ومتقاربة بشكل حميم مدهش، وفيها تعيد المصممة قولبة أعمالها الكلاسيكية بروح حداثية معاصرة، حيث تبدو الرموز ثلاثية الأبعاد واضحة، كما تنطوي التصاميم على تفاصيل غاية في الدقة والتشابك، خصوصاً مع تداخل المعدن بالأحجار الملونة، كأن القطعة منحوتة فنية تجريدية.

وفي مجموعة "وابي-سابي" المستوحاة من المناخات اليابانية، تَظهر الألوان على استحياء وخجل، إذ تعبّر القطع عن طقس ثقافي خاص باليابانيين، يتمثل في تسجيل المصلّين أمنياتهم على أوراق مطوية بعناية، ثم وضعها داخل تعليقات وربطها بأغصان الشجر المحيط بالمعابد، لذا اعتمدت المجموعة على أحجار اللؤلؤ الأبيض، في إشارة إلى النقاء والصفاء، إضافة إلى استخدام الخيوط الملونة المصنوعة من الحرير.

ومن المَشاهد الطبيعية التي تنتشر على الطريق المؤدية إلى مدينة "سان سبستيان" الإسبانية، قدمت لمى حوراني مجموعة من التصاميم التي تقارب الأعمال الإنشائية، وجاءت من وحي الطواحين الهوائية المزروعة بين الحقول الخضراء، و"توربينات" الرياح، وجميعها منفَّذة بالاعتماد على معدن الفضّة.

وبالفضّة الإسترلينية أيضاً، جاءت مجموعة "الدحنون". وتوسطت كل تصميم من هذه المجموعة لؤلؤة بيضاء تحيطها أحجار شبه كريمة ذات ألوان متنوعة وغنية.

أما "مجموعة الطفل" فتضمنت تشكيلاتها ما يخص هذا العالم البريء والجميل، وما يثيره في النفس من معاني الحب غير المشروط، وهي تضم "خشخيشات" وملاعق ودبابيس وأساور من الفضة الإسترلينية. بينما ضمتّ مجموعة "الشجرة المباركة" تشكيلات حلي ومجوهرات تتّخذ من شكل ورقة الزيتون أساساً لها.

لقد أكدت أعمال حوراني أن تصميم الحلي يدخل في باب الفن، ويمكنه توثيق العلاقات بين البشر وتقريب المسافة بينهم عل اختلاف ثقافاتهم وتنوع حضاراتهم.. لذا كرّمها المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس (سويسرا، 2011)، من ضمن خمسين قائداً شاباً تم اختيارهم على المستور العالمي، لما أظهروه من قيادة مميزة، وإنجازات مهنية والتزام عميق تجاه مجتمعاتهم والبشرية.

نظمت حوراني معارض في الأردن، وفي عدد كبير من مدن المنطقة العربية، منها: حلب، دمشق، الكويت، القاهرة، البحرين، بيروت ودبي.. إضافة إلى عروضها في جاليريهات ومتاحف وضمن تظاهرات فنية عالمية، وشاركت في الأسبوع الثقافي الأردني "اكتشف الأردن" الذي أقيم في ميلانو الإيطالية عام 2009. وتقتني أعمالَها العديدُ من المتاحف، مثل المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي، ومتحف الفن الحديث في "سنسناتي" بالولايات المتحدة، ومتحف الحضارات الإنسانية في "آتاوا" بكندا، ومتحف "هناو" في ألمانيا الاتحادية.

 

كاتبة من الأردن haya saleh <hayasaleh@gmail.com>