يمثل هذا الديوان الصغير مختارات من قصائد خطها الشاعر الفلسطيني المغترب في "المنفى" حيث يبدو الوطن بعيدا في الأقاصي، فيبحث الشاعر عن الأمكنة والدروب والناس فلا يجد أمامه الى وجوه "استبداد" تقتلع أوجه الجمال من كل شيء وكأننا أمام مقبرة كبيرة تسجى الأجساد داخلها وينمحي حينها كل شيء..

قصائد المنفى (ديوان العدد)

حسن العاصي

وجه الأضرحة
خلف الأضرحة المتهالكة ترتعش الدروب
فتضيع الأغصان والأسماء
والأحزان البيضاء
تنوح الأرض وتلوك الحزن يدثٌرها
كجرح العيون وصرخات القبور
مخاض يمزٌق رحم السماء
يا أحمد
كيف نقبض  بمسلك الطٌيف المتعرج
على نافذة الموت ونحن عراة ؟
وهم ينازلون طعم البارود
ووحشة الريح البارد
 
القتل كثير
والجثث تستجدي كفناً
وحفنة تراب
تتراكم العيون المالحة على الطرقات
والموت يزيٌن الأرض ولا يموت
ترتدي النساء السواد
وتغرق النوارس في غفلة البحر
لا تخطئ الشظايا ذبحها نحو الصدور
أطفال ذابت أكفٌهم الصغيرة
أقتل ما شئت
فالدم على الحمم انتصر
واللهب للنور تالد


يتناسل اللٌيل شهيد عن شهيد
وأنتَ مدينة الموت
تفر الدروب إلى الملاجئ
الموت في تيه
والمقابر تبحث عن الموتى
أين المفر
الوجوه ينابيع الطفولة
والجدران أضحت كوة للذبح
يبكيني سحر القبور فأتوسٌدها
يا الله
إرفع عنٌا هذا الضيم الحاصد


شوارع المدينة حزمة من نار
أبوابها ممزٌقة تستجدي إبتهالاً
أنا وظلٌي في هذا اللٌيل
نستمطر الموت
حيث حمم الخطايا
تغتسل بالأسماء
يتمدٌد ظلي فوق رماد المدينة
ليس في صدري سوى حفنة أوجاع
يمضغني الجفاف بين فكٌي الركام
حين تعوي الرٌيح
يبكيني الذي هام بحزني
ونام غيمة على عشب قلبي
تبكيني تلك الوجوه الزرقاء
مقهورة بلا مأوى بلا عاضد

 

استفحلت الخطايا
قد أغشى السلطان جشع مستطر
غيلان بليدة في هزع اللٌيل
ترسم نقوشها الدٌامية
على الستائر الآدمية
بالقتل يأمر السلطان
فيحبس الله المطر
تتعرٌى المدينة قسراً
لفيالق الجيوش المنهزمة
وتلملم جسدها المستباح
ودروبها المنكوبة وزهر الياسمين
ظمأ المدينة لربيعها
يسيل على جدران الرعب
يحزم الجلٌاد قبضته
حول عنق الوطن المضمٌخ بالعتمة
يكتب موت الرعية
ويسقط في الخراب الخالد

 

وحدنا في التأويل نجثو في الحطام
نرابض في جوف النار
سفحنا العمر سراباً
كشجر الزقٌوم طعام الأثيم
نقيم للموت كرنفالاً
في السٌواقي المهجورة
أضعنا فهرس العدل
وسياط الظلم فينا تمخر
صباحاتنا مأدنة وألف مدفع
وليلنا أضيق من القيور
يارب
ها نحن في بابك نحمدك نتوسل
قد أسرى حزننا وضاقت حياتنا
نستجيرك فأنت المجيب لكل حامد..

 

الصراخ المشنوق
أيٌها المتدثٌر باللٌيالي النديٌة

باق أنت كنخل متمرد
فأنت الموشوم في طهر العيون
أيٌها النور الرٌاقد في جوف الحرقة
إمسك يدي كي نتوحٌد
في الاحتضار

أيٌها المولود من الرؤيا
هذا الماء يبكي
يسترق شهقة الولادة
...

والمواسم لا تعبر إلٌا بماء المقل
أنت وحدك أرحب من مسافة الموت
كما الأساطير أنت تهطل ماء
حين تغرق البحار

أيٌها الآتي من سماء النذر
قادماً من إنشطار الصرخة
بعد تسعون طعنة
تستجير بالتهجّد
ففيه مأوى القانطين
وملاذ المظلومين
للغرباء والدراويش
وعشٌاق المشوار

أيٌها المبعوث موجاً
من رحم السوسنة
نبت من ألم
تنسدل سعف الغيث
تتدلٌى
والجذر ظلال شائخ
لكنٌك تنتصر على الحمم
يغسٌلك اللٌيل مرتين
وتغادرك الأنهار

أيٌها الرٌاسخ كالرمل
الثابت كالنخل
تعرٌي الريح عظامك
وبحرك على الأرصفة
يتيم لامولى له
تتصفٌح خرابك دمعة فدمعة
وصراخك مشنوق كالهمس
المبتل بالألم
وحدك تلتحف اللحد
وتصلٌي قبل التراب
ثم تغفو على خدٌ الأزهار

تحنٌط وجه الصمت
أسدل الرصاص ستائر الأشلاء
الأرض مازالت ظمأى للحمم
ليس سواك
تتلوٌى في حمٌى الألواح المقفلة
ليس إلٌا أنت
والفجر أمامك جلال مسجٌى
لو أن الوقت ينكفئ
لو أن الفجر نبتاً يتناسل
أو يموت
لو أن العشب العاري يرتدي العتمة الأخيرة
وينكئ زلال الأثمار

يعربد الجند سكارى
فوق رؤوس الأطفال
والمشانق تتلوى ساحات إنكسار
والوجع ليف كبريتيٌ
يمتد حول أعناق النساء
مابين الشهقة والطلقة ألف موت
ربٌاه
هذا الدمس
والجراد يتربٌص الدروب الضيٌقة
هناك دمي يتلو فاتحة الأسفار

 

زهرة غجرية
لاحت من بين تماثيل الرومان

كالصبح ينسدل على سفح القلوب
تتمختر بجنون ألوانها
على قراطيس الرخام
مليحة على قدر إشتهاء الصوم
ياعذب الأنوثة تعاصفني
والقدٌ تراقصه الأرض الثملى
تأسرني الرموش الظمأى
حلاوة كطعم الكوثر عذوب

 

كنت أنقٌب عنها في وادي الكروم
تعلٌمت أسرار النحت على حقول الضوء
أدوٌن على الجسد المرمري فتوحاتي
بمداد العظام قبل  الشهقة الأخيرة
كي أنفطر زهرتين وماء على طرف الغيبوبة
أتلظٌى بهيامي وإن هدٌني الشوق لا أتوب

 

لها نذرت ضفاف البرق
ثلاثون صلاة تزهر إن أغشاها الهيام
تنام في مقلتي وتشدو بين الماء والفطرة الأولى
كعصافير أشجار التين
عند حافة المنبت تزرع أنفاسي
أتضوٌر ولهاً فيستوي الثدي ويثمر
تشدٌ لي بالأنوثة وثاقاً
وماكنت خبير في ميادين الحروب

 

ترمي ببعض مايقيٌدها وتستتر بلهاثي
تمدٌني بعقد من ريق الغواية
وتفٌاحتها مدلٌاة تتأرجح
قاب رشف يشبٌ محموماً
تتمدٌد رائحة النهم المرشوش
شوقاً يتطاير عبقاً
المدى منٌي لهيب فلاصبر لي
وإن نشدت النفس الهروب

 

متٌقدة بالظمأ والنهدين فرس صهٌال
يغويني غنج العيون تسائلني وصال
تفترش بذر قلبي وتتوسٌد الزفرات
تختمر حمٌى الرعش كؤوس غيث تنهمر
همساً يمتدٌ منسكباً نشوة متفردٌة
على نجوى الأطياف الخمس
أجذبها جرعة جرعة بين الضلوع
فمن أي نبض يبدأ ليلنا الرضوب

 

أرابط غصٌة الأغصان السكرى في عطرها
تستعذبني بيارق الوجد والهوى
تعاصف ولعي فأيهما أهوى
فعلى أيٌ شاطئ نبلٌل كحلنا
يا مُدامي في اللٌيل البارد
أيتها الموشومة لهباً على زندي
رفقاً قد أضناني رجف الثغر
يذيب شهقتي مرة
ومرة يذوب

 

كانت زهرة غجرية تنتفض في عرى الحواشي
كمزارع التوت الشامي تبسط ألوانها على ظلالي
تتناثر أشلاء المخاض شهداً وشمساً
وتنساب أقواساً وهمساً في اللٌيل الطائش
يسري الرعش في الجوانب يسامر صهد التوحٌد
يثمل خمر الإلتحام عند حدود الإنتشاء
والشعر الفضٌي مواسم الدهشة
تستجدي الآهات استرخاء
سبات يشرٌع للشوق دروب

 

مفتاح الأسفار
توسٌدتُ أعتاب الأزقة
النوافذ يتيمة تغفو على أزهارها
قد رحل المكتوبون في آخر الطريق
وعادوا ورقاً أخضر
فأمهلوني أودٌع القلوب الصغيرة
أنثر مابقي من مواعيد
أيٌها الساقط تحت الإنشطار
من تراتيل التيه
طلاسم تختم سفر التكوين
يلعنها رعش الإنبعاث الأول
هل لي بصلاة على جبينك ؟
بقبلة أخيرة على خدٌ الوجد
قدرك أن تمضي بلا عنوان

 

ترتديني السحب وتطوف على النوافذ
تظلٌل العتبات
 
وتنسدل على المرابطون
نوراً من مطر يحرسها الشوك
لم أفقد المطر بعد
لكنٌي أين أضعت الريح ؟
باطل هذا الوهم
كما أنت باطل
أيٌها المجهول
متى يُغرق البحر هذا الطوفان
اللٌيلة أكسر سيفي
وأمحو آخر بيعة
وأتشظٌى شمعاً أخضراً
فوق الأكفان

 

أقايض خطايا قلبي بظمأ الطفولة
أرتشف ندى الهذيان
حتٌى الطقوس الأخيرة
تعبرني من المسامات
أرفع جرحي لحواف الوجع
أقرأ طقوس الجفاف
قد بلغ الدمع الحقول
وعاثت في الدماء السيوف
وأزهرت التوابيت بالنرجس الحزين
 
الدم موشوم على نحر الطين
طوفان هو لايُبقي ولايذر
يلطمني كفٌ العجز
وبلفظني الحزن حمماً من بركان

 

بعض الوقت يأتي عارياً
كما الجراح براعم للغرباء
يقرع الدراويش طبول التعاويذ
يرسمون الرحمة بدم شاهق
تكايا الصعاليك تأسر ذات كشف
أنٌ الذبح منتصف اللٌعنة
يتلو  الرهبان ترانيمهم
 
خلف صلاة الدراويش
لكنٌ الموت يحلٌق فوق الزيزفون
وتُساق الرجال
للنحر في يوم السبات كالحملان

 

ما لايراه سواد البارود
قلب حيٌ ينبض بعد الموت
يسقطون مضرٌجون بأحلامهم
في بهجة البياض
يشهقون حمماً
فتحترق قسمات أصواتهم
يجمعون دمهم
مابين موت وموت
يراوغون الأفخاخ في اللٌيل المرتبك
فليس في قبضاتهم
سوى حفنة من أوجاع قديمة
كالصلاة
يبتلعهم الرصيف ويلسعهم الهوان

 

في البدء كان البحر
كان الرمل بطعم البارود
وكان صراخ اللٌيل مطرزاً بالشجن
شوقاً يطير عبقاً ويمطر ندى
لاتقتل هي الصرخة الأولى
قالوا
تعانقت الحجارة باكية
ومازالت شقيقاته عند قبره
طيور صحراوية
شاهدة على رحلة القتل
فكيف تضنو المواجع
والكلوم في اشتداد واحتداد
والمطر ظمآن

 

كم موبوء هذا البر
مدن مكتظة بالنعيق والمخاط
المدن أشباح
وحزن الأسوار موشوم دمعاً
حصاد المدينة حدٌ الرمق الأخير
طيور الغراب وسنابل الفجيعة
والدروب تشتعل بأصفادها
فمن يتلو تراتيل الملح
على الأجساد المسجٌاة
كيف السبيل
والحزن بات أكبر من الدموع
لكٌن الذاكرة جاثمة شاهدة كالبيان

 

الأسفار هنا والمفتاح يستجديه الظمأ
الوقت نزف من خاصرة السبيل
أمطر قاماتنا دمعاً
وتلاشى في جوف العجز
صبراً مولاي قد ترقد العتمة
فالجراح لاتدمن ملحها
منذ أن أسقيت لون الرٌيح
أطعمت الأحجار أضلعنا
وسرقت ضفائر النٌور من أعيادنا
فرش البياض موته والباب كفيف
هذا الدم بوابة العبور
هي الأوجاع يتداولها الناس
إذبح ماشئت قد حان ختام البتر
قد زيٌن لك أيٌها الشقي الشيطان..

 

كاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك