يتكئ الكاتب المصري على معنى اللون، والتشكيل السوريالي، ومفهوم العبث في تكوين نصه-السؤال؛ فيؤسس الكلمات والجمل على السطور كعلامات غروتسكية ساخرة من لعبة المصالح السياسية، ومن كيفية استغلال ثورات الشعوب المطالبة بالحرية والانعتاق من بحر الظلمات للإبقاء على الشعوب في وضعها السوريالي الغريب.

لوحات سيريالية

عيد اسطفانوس

لو حاول أعظم السرياليين أن يرسم لوحة بها كل أفكار العبث واللامعقول في الدنيا سيعجز عن محاكاة تلك المرسومة والمعروضة الآن على هذه البقعة المنكوبة من هذا الكوكب المنكوب، لوحات مرسومة بكل الألوان المعبرة عن الحالة العبثية السائدة، من القاني الفائر الساخن، إلى القرمزي المتجلط على الاسفلت والتراب، إلى الأسود الظلامي الدامس لون رايات العنف المرفوعة الآن، لوحات يعجز عن تفسيرها أي بشر حتى من رسموها أنفسهم، لوحات إطارها موت وخلفيتها عدم، ومكوناتها دماء منبثقة وأطراف مقطوعة للتو ونفوس هلعة وأطفال مذعورين، وثكالى دموعهن متحجرة، ودخان أسود يغطي الأفق، ولا نعرف أو بالأحرى ندعي بأننا لانعرف من يقتل من؟ ولحساب من؟ ومن يمول من؟ ومن يقود من؟ دماء غزيرة أهرقت وأرواح كثيرة أزهقت بالباطل، أرواح من كل الأعراق، حرمت من الحياه في أجسادها، بتفسيرات السياسة والدين والمصالح والزعامات، والإرث المهين لعداوات القبائل التاريخية التي لم تخمد ولم يتآكل منها شيئ رغم القرون الطويلة بل هو العكس نمت لها أطراف واستطالت كأذرع ألأخطبوط.

اللوحة الأولى بها من العبث المبتكر ما يميزها عن غيرها، فخلفيتها متفردة وهي مقولات خبيثة يطلقها خبثاء، يطلقونها موجهة بدقة لهدف أشد خبثاً وهو إيقاف أي حراك إنساني يتجه نحو الخروج من بحر الظلمات الذي أغلق على هؤلاء البؤساء من قرون طويلة، الخروج إلى فضاء التحرر والعتق، التحرر من أنظمة نشبت مخالبها وأنيابها في رقاب شعوب مقهورة مصممة على امتصاص دمائها حتى آخر قطرة، والعتق من نطاقات العبودية والمهانة ولا سيما تلك التي فرضت على هذه الشعوب باسم الدين، فعندما انتفضت هذه الشعوب مطالبة بحريتها صدرت الأوامر على الفور من (القيادة المركزية) إلى (القيادات القطرية) بضم القاف (وفي روايات أخرى قوية بفتحها أيضاً) صدرت الأوامر بخروج الفرق المختصة بوأد (تلك البدع والضلالات) وبالفعل خرجت (الفرق) مسلحة وممولة، مسلحة بأسلحة فتاكة وممولة بتمويل مفتوح بغرض واحد لاشريك له وهو إبقاء هذه الشعوب تحت السيطرة، إبقائها مغلولة الفكر والإرادة مغلولة بسلاسل نصوص مبتسرة من سياقاتها، نصوص فسرها مفسرون بمفردات عصور ظلامية غابرة ولم يرد في أذهانهم أن تغييراً سيطرأ على فكر وسلوك ونوعية وثقافة البشر، هذا التغيير الذي حولهم من رعية تساق بعصا ولاة أمور من القرن السادس إلى بشر من الالفية الثالثة، مواطنين كاملي الأهلية يقررون ويختارون مصائرهم وسلوكهم وأنظمتهم وحكامهم بارادتهم الحرة ، إرادتهم الحرة التي جبلهم عليها خالقهم حتى يتمكن من حسابهم (يوم الدين)، حسابهم على ما فعلوه بإرادتهم الحرة وليس على ما قرره الله عليهم سلفاً وهنا ننوه بأنه لا يجب الخلط المتعمد بين سابق علم الخالق بسلوك خلقه وبين إيهام البسطاء والعوام بأن مصائرهم مكتوبة على جباههم، وأن الثورات عمل (فوقي) لا دخل لبشر فيه أي أن الله يغير حياة الناس (قسراً) دون أن يكون لهم رغبة وإرادة في تغيير أنفسهم، وأن الممارسات العقيمة من دعاية وانتخابات وطوابير وحملات كل تلك الممارسات هي إجراءات شكلية لا تقدم ولا تؤخر، فاسم الرئيس مدون سلفاً في (اللوح)، هذا هو السائد الآن على الساحة: الثورة من السماء والرئيس مدون في اللوح، نعم تلك هي الثقافات الخبيثة التي تبث على مدار الساعة حتى يعود الناس إلى قواعدهم مستلقين في المستنقع الآسن يشربون بول الابل لعلاج أكبادهم المهترئة ويلوكون سيرة زواج الجن بالانس تاركين مصائرهم لغيبيات قدرية ما أنزل الله بها من سلطان.

اللوحة الثانية لوحة لمنظر غريب لوحة بها كائنات مقلوبة على ظهورها تضرب الهواء بأطرافها وهي تنتظر نهايتها المحتومة بعضها تستغرق نهايته سويعات وبعضها ربما أيام وفي هذه الأثناء لا تملك تلك الكائنات البائسة إلا الصراخ والعويل كرد فعل هو الوحيد المتاح بعد أن أصبح مركز ثقلها مقلوباً، بالاضافة بالطبع إلى الاستنجاد بفصائلها التي لا تملك لها شيئاً، ويبدأ أعدائها في التحلق حولها استعداداً لالتهامها بعد أن تلفظ أنفاسها وربما قبل ذلك. ذاك هو الواقع المؤلم لشعوب هذه المنطقة المنكوبة من هذا الكوكب فكلها دون استثناء مجتمعات مقلوبة على ظهورها مغلوبة على أمورها اختلت مراكز ثقلها من زمن وانقلبت نتيجة لعوامل كثيرة أغلبه تصنعه بنفسها وبعضها يصنعه لها أعداؤها بتسهيلات تقدمه هذه المجتمعات طائعة مختارة ، وعندما يختل مركز ثقل الكتلة الأم تختل معها كل مراكز الثقل المصاحبة الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي ويصبح البحث عن نموذج قياسي صالح للتعامل مع بقية المجتمعات الطبيعية هو وهم كبير فقط نماذج صالحة للتعامل مع المجتمعات التي على نفس الشاكلة المقلوبة مثلها، لذا تتكلم هذه مع تلك لغة واحدة لها نفس المفردات رغم ما قد يكون بينها من فوارق ومسافات أما الحوار مع مجتمعات أخرى طبيعية فهو حوار طرشان لا يرجى منه نتائج على الإطلاق.

لوحة أخرى عبثيتها تكمن في بشاعتها صورة لشاة جريحة سقطت واجتمعت عليها قطعان الذئاب المتربصين لها من زمن وبدأوا في العراك، وكان الخلاف على من ينهش الجسد ومن يلعق الدماء، ثم تجمعت بقية الذئاب من كل الصحارى المحيطة ثم جاءت الجوارح حائمة مترقبة في السماء ثم خرجت الثعالب من الجحور تطلب نصيبها من الغنيمة ومخلوقات غريبة وجوهها مكفهرة جاءت بسرعة من تحت الارض وبالطبع جاء الأعداء وحتى من كانوا أصدقاء، وبدأ الجميع في التفاوض ثم بدأوا في العراك. وطال العراك ثم بدأت الروائح النتنة تتصاعد فقد تحولت الضحية إلى جيفة عندئذ انتهى العراك وبدأ الجميع في التهام الضحية متلذذين الذئاب والكلاب والثعالب والجوارح والاعداء والأصدقاء، تلك هي العراق وربما هي مصر وربما هي سوريا وربما هي المنطقة كلها التي تحولت إلى هذه الصورة البشعة جيفة نتنة ينهشها الجميع حتى يتأكدوا بأن قائمة لن تقوم لشعوبها بعد اليوم ويدفعوا ثمن الخروج عن الخط المرسوم ثمن المناداه بالحرية والكرامة الانسانية ثمن الخروج على مبارك والقذافي وبن علي ويذرفون دموع الندم على هؤلاء الحكام المتجبرين ويترحمون على أيامهم فهم كانوا يملكون من الموهبة الخارقة التي منعت هؤلاء القوم من قتل أوطانهم وأنفسهم وأشقائهم طيلة هذه السنين؟ وفي هذا السياق يحضرنا تساؤل مشروع أليس غريباً أن يبدأ الناس في قتل بعضهم البعض بمجرد أن يختفي (الديكتاتور)؟  في العراق أو في مصر وفي سوريا أو اليمن او ليبيا في الصومال أو غيره، وإذا كان ضمن وظائف الديكتاتورية هي منع قتل الناس لأنفسهم والآخرين بهذه الوحشية البشعة، إذن فهناك وظيفة سامية للديكتاتورية لم نكن نعرفها من قبل. وهنا تبرز مصداقية المقولة التي طالما نشكك فيها، وهي أن كل شعب يستحق حكامه فقد استبدلنا ديكتاتورية فردية مستبدة بديكتاتورية جمعية أشد وأقسى استبدادا ديكتاتورية الرعاع ولم يعد القهر لأشخاص أو مجموعات بسبب مواقفهم السياسية بل أصبح القهر ومعه الابادة لأعراق وشعوب بكاملها بسبب أديانها وثقافتها ومذاهبها.

والخاتمة المؤلمة تتجلى في لوحة وهذه المرة هي لوحة شديدة الواقعية ولا تحتاج الى جهد يذكر في تفسيرها وهو إن قضايانا قد أصبحت مجالاً مستباحاً لكل من أراد اللعب لمصلحته. يستغلنا الاتراك للي ذراع الأوربيين وتهديدهم لقبول صفقة لم يتأهلوا لها بعد بالإضافة لأهداف فرعية ملتوية منها شراء سكوت العرب عن ضرب الأكراد ومنها خدمة أهداف حزب العدالة في مواجهة الجيش والعلمانيين، ويستغلنا الصينيون كسوق نهمة لمنتج ردئ تعافه كل الأسواق بالإضافة للعبة الصراع الجغرافي مع حليفها (اللدود) أمريكا، ويستغلنا الفرس بالمزايدة على القضية الفلسطينية لمساومة أمريكا والمجتمع الدولي على صفقة مشبوهة النوايا، ويستغلنا الروس في محاولة البحث عن المجد القديم الذي انحسر وهم يعلمون أن زمانهم قد مضى كما مضى ماركس وإنجلز، وأعتقد جاذماً أن كل سيقضي وتره من هذه الأمة المنكوبة وسيدير لها ظهره وسنظل نحن مستلقون على ظهورنا في مستنقع السذاجة عيوننا شاخصة في أسقف الغيبيات ننتظر حلولاً تهبط من السماء وهي لا تجئ لأن الخالق لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.