يتكئ الكاتب التونسي على حدث شراء خبز يومه، ليؤسس قوله حول العنف وأشكاله المتعددة. ويرى أن منسوباً معيناً من العنف يجد تبريره في تجربة الثورة، إلا أن وصوله لحدّ يطال حتى الفضاء الافتراضي أضحى أمراً مقلقاً يتطلب تحليلاً لتهديده السلم الأهلي.

احتجاز الثورة التونسية في صفحة الحوادث

سعيف علي

كنت نهاية الأسبوع الفارط ككل المواطنين الطيبين، انتظر دوري في صف مزدحم من أجل شراء الخبز. ففي ساعة متأخرة يكون الحصول على بعض زنات الخبز أمراً صعباً. تبدو الحكاية عادية جداً لكن التدافع جعلني كتفاً بكتف مع رجل ستيني أراد أن يبلغ البائع قبلي ولأني تمتمت وغمغمت بما لا أدري، ولعلها فقط طلبي الهداية على طريقة كل المواطنين الطيبين. فإني تلقيت لكمة يبدو أن الحظ فقط جعلها تكون تحت الأذن اليسرى.

لن أغالي إن قلت أنني للحظة كدت أن أفقد اتزاني لولا أن حركات لا إرادية من المواطنين الطيبين أبعدتنا عن بعضنا البعض وصدت بطريقة تلقائية معركة كان يمكن أن تنشب في المخبزة، خاصة وأن الرجل الستيني كان قوي البنية، متحفزاً للانقضاض على صفة الملاكم. ولأني مواطن طيب فإنني اكتفيت بالانسحاب وكفا زوجتي طهي الطعام لأنني اشتريت العشاء من مطعم قريب وأكلت بتأفف وأنا أتحسس مكان اللكمة.

حين فتحت الجرائد بعد أن خفت جلبة الصغار في جلستي المسائية التي أمارس فيها ترشف القهوة والأخبار معاً. ودخول بوابات الافتراض والتواصل الاجتماعي على الشابكة. بدت لي الأمور مختلفة جداً عما اعتدت أن أراه. كنت كمن يضع مكبرة على شاكلة الرسوم الكاريكاتورية للباحثين عن الحروف الصعبة. بدا لي أن ما اقرأه عن منسوب العنف الذي بدا يعود سمة من سمات التونسي. لم يعد معرضاً لهزة تبرم من رأسي ومن استغراب لكل تلك الأخبار التي تأتي كريح الصيف القائضة.

لا يكاد يخلو موضوع من إشارات حافة عن العنف الرياضي، والعنف السياسي، والعنف القبلي، والعنف السلفي، والعنف الثقافي، وغيره، لكن أخطر ما شد انتباهي كل ذلك العنف الافتراضي الذي غزا الصفحات. والذي يجعلك في حساب اليقين أن كل هذه الأمور يمكن فعلاً أن تتطور إلى انفلات غير محسوب، وغير معتمد على قياس واضح لحجم خسائره. أحب أن أتوج هذه المقدمة الحقيقية عن تفكير لا يحاول الإحاطة بالأمر. لكن يحاول أن يجد إشارة جادة وفعالة. فمحاولة إجراء جرد مجدول لكل ذلك الملفوظ وتقنيات التراشق لن تكون مجدية هنا. إلا أنها تعطي إشارات دالة على انسياب مرتب ومحسوب وكذلك تلقائي وأن انتشاره على المساحات والشابكة الاجتماعية يجمع بين كل هذه الأمور في إطار التجاذب السياسي، والاجتماعي الذي تعيشه تونس والذي يبدو أن درجته ستحتد كثيراً مع اقتراب المواعيد السياسية ورجوع الطلبة إلى الجامعات.

لم تعد المساحة الافتراضية معركة خلفية، أو مجرد أداة للحشد والتعبير، بل أصبحت علامة واقعيّة عن حدة ما يجري من تقاطب سياسي، وحراك اجتماعي يبدو أنها الساحة الأكثر لهباً واشتعالاً.

تؤكد تجربة الثورة التونسية الجديدة، بطريقة واضحة أن الانفلات المفاجئ والتدحرج نحو منسوب معين من العنف يمكن أن يكون أمراً واقعياً جداً. وأن الإحاطة بهذه الأسئلة والتأكيد على توافق حول مسائل الضرورة والحادث والمتأكد والواجب والرئيسي والثانوي؛ يبدو أمراً ملحاً وأن وضوح الأشياء فقط جعل الأمور قادرة على دخول إطار الإحاطة والانضباط.

حيازة وتداول الطّاقة الافتراضية
اعترف أننا أمام تداخل مفهومي مع تأكيدات غرينبات حول تداول الطاقة المجتمعية عبر الثقافة ولعلنا لن نكون بعيدين عن هذا الأمر إذا اعتبرنا الفضاء الافتراضي مظهراً ثقافياً. وهو مدار جدّي لما أصبح عليه المجتمع من تخلي عن رقابة السّلطة العظمى واشتماله على قوى متنافسة استكملت بعد هويتها. أو هي بصدد تشكيلها عبر الصراع.

بات واضحاً أن تملك الفضاء الحقيقي بدأ ينحو في جانب غير يسير منه لملئ الفضاء الافتراضي بالإعلانات الواضحة. أو المبطنة عن الشكل السّياسي للثقافة والانتماء لكن الأمر يختلف في بعض وجوهه على ما كان عليه في الماضي من وسائل النشر الشفوي أو الكتابة أو عبر وسائط البث المتلفظ لأنه ينتظر عودة الحشد إلى الفضاء الحقيقي بزخم الشرعية والجماهرية والتفاعل. فنحن بمجاز ما أمام فعل تاريخي سقط فيه جدار برلين مرة أخرى. ليفتح المتناقضات أمام توجب واقع زادت فواعله. وتناقضت بصورة متوترة جداً لتفتح القدرة على سلخ الآخر بطريقة غير مسبوقة وعلنيّة. يقع هذا الأمر في مجال "المقبول" لأن الجميع اشتراك وانخراطهم في ذات اللّعب.

ولا يبدو الكذب الواضح والافتراء إلا موضوعاً مقبولاً في أخلاق افتراضية، قابلاً للكرّ والفرّ، والرّدود المكذبة، والّنافية، والمستغربة. تنتهي قصة ثلب وإدعاء وعنف صارخ وصورة مركبة لتبدأ أخرى كأننا أمام مسلسلة تتخذ من هذا الجانب دفعاً لدرامتها ونجاحها في خلق الحدث.

ما يجعل هذه التداوليّة الافتراضيّة أكثر حرصاً على الثبات أمام اندفاعات الجمل والصور والإعلانات والبيانات السياسيّة هي القدرة على ممارسة الإرباك بطريقة غير متوقعة وحتى محاولة المرور إلى أفعال الشغب الحقيقية، والتحريض عليها ورفع اللافتات واختيار الزّوايا الحادة من مربع المشكلات الطارئة. واستنفار الجهد في دكّ الحصون وهدمها. ولعلنا لا نخطئ أبداً إذا راهنا على أن نموذجاً واحداً يأخذ في هذا السياق يحقق راهنيَّته، وقدرته على تفسير كل هذه الأمور. فقضية الفتاة المغتصبة لا تخرج عن هذا الإطار، لأن القضية وقعت مصادرتها عن سياقها القانوني وحجزها في الجانب المجتمعي والسياسي وتحركت التدافعات لجعلها قضية تستعاد فيها صورة الأمن الوحشية ويستعاد فيها التصاقها بالدولة والحزب الحاكم وهي هنا الترويكا الحاكمة والتي في خضم ارتباكها اكدّت بصورة غريبة التصاق الإدارة الأمنية بجوهر الدولة ووقعت في شباك مقولة رجل الدولة الذي يغلب المصلحة العليا للوطن وهو المماهات مع الذرائعية والتبرير حتى في فعل إجرامي واضح الشبهة ولا يحتاج لكثير من التأويل، حركات الاحتجاج كذلك المتفرقة والتي غالباً ما تصطف في مطلبية اجتماعية أصبحت كذلك عملاً تحشده الطاقة الافتراضية وتسوقه إلى إشكالات الواقع الصدامية والأمثلة هنا كثيرة وتعدادها يجاوز حتى تقسيمات البلاد التونسية بعشرات الأضعاف خاصة مع بداية اشتعال المعارك حول المذهبية ولعل التعدد المذهبي الذي بدأ يأخذ مساحة داخل السّاحة الدينية التي اعتادت على الانسجام المرتب والمراقب للأقليات التي كانت موجودة دائماً لكنها تمارس وجودها بعيداً عن حقها الطبيعي في التعبير في إطار الخضوع للأكثرية والتوائم غير المقنن مع الخطوط السياسية والإدارية الحمراء.

هل يمكن أن تكون الأمور خطرة؟ لعلها كذلك حقاً. فقد أعطت الثورة التونسية صورة مشوشة قليلاً لمسألة انحدار الممارسة الافتراضية إلى عنف الشارع. وجعلت الإشارة إليه أمراً غير الذي كان من قبل أي قبل ثورة جانفي، أي الدخول به إلى مجال المشروع والممكن والجائز في مجتمع احتكرت فيه الدولة مجال فهمه واحتكاره منذ الاستقلال.

يصطف الإسلاميون وراء واجهة اصطلاحية معدلة قليلاً بالأطر السياسيّة غير أنها تتركز كثيراً على الجانب الأخلاقي والديني واتهامات العمالة والتآمر مع الأزلام والصهيونيّة العالميّة ويبدو واضحاً جداً أن تركيزهم كثيراً على تمييز النفس بتشنيع الأخر والتمترس في البياض الناصعة والنقاء.

يصطف الجانب المقابل حول مصطلحات الرجعيّة والماضوية. وعلى قدرته الكبيرة على استغلال العثرات والذكاء الشديد في تحويل الأمور عن غير ما هي عليه فعلاً وهي مزدحمة بتلقف الإرباكات الشديدة التي يقع فيها الخصوم الإسلاميون والترويكا عموماً مشبعة بالسّخرية وبالآمال الثورية أن يتطور الحراك والمطلبية الاجتماعية إلى حراك ثوري.

احتجاز الثورة التونسيّة في صفحة الحوادث
تطورت الأمور بصفة حادة، وتواصل الاهتزاز في جسد الثورة التونسية، وأصبحت مآلات التعبير تتجه إلى ملاعب الصراع السّياسي فقط. أصبح فعلاً من المفزع جداً أن أخبار الثورة قد حجزت لها خطاً عريضاً في صفحات الحوادث وعوارض المخالفات وصفحات العدالة، وهو منسوب خطير من درجات العنف وصلته الأمور. فتحول وقفة من أجل التعبير السلمي إلى حادث عنف ومسيرة سلمية إلى صراع فئوي ورفع مظلمة إلى الدخول في مواجهات أمنية عنيفة تتبادل فيها الدولة العنف مع متظاهرين وتحول وقفة نقابية في مؤسسة إعلاميّة إلى قضيّة محاولة قتل يدلل على هذا المنسوب العالي للعنف.

تصدرت قصة فتاة الاغتصاب كل صفحات الصحف العالميّة، وبدا أنّ التونسيين غير قادرين على تحويل الأنظار إلى المنجز بل إلى الأخطار التي تسكنها، نحن نعترف أنّ النظر إلى السّلبي لا يحتاج إلى جهد فكري والى تحليل عكس الايجابي الذي يكون عادة في حاجة إلى أدوات للفهم، لكن الإسلاميين وحلفائهم من الترويكا الحاكمة أثبتوا عجزاً مدوياً في مخاطبة أطياف الشعب وخللاً في تنسيق الوعود وإنجازها، ووعدم وضوح في المسار رغم علم الجميع أن أخطر ما في السياسة عدم وضوحها. زيادة إلى دور التنكيل والشّماتة الذي أصبحت تتوخاه المعارضة رغم علمها بهشاشة الوضع ومسؤوليتها المباشرة في الحفاظ على السلم الاجتماعي نحو صراع بعض ملامحه العصيان، والعنف الجارف أمام الجميع موعد آخر هذا الشهر ستكون حدته أمراً غير مبالغ فيه وانزلاقاته أمراً غير محسوب إن لم تتدرج الأمور نحو المعقولية والحسابات التي يكون فيها الوطن والثورة محرارها وقياسها.

ثمة أمر ملح لإعادة تحليل كل الممكنات الافتراضية لاستباق شديد الدقة لفيوض المواطنة الافتراضية على المحلات الواقعيّة للصراع السياسي والاجتماعي في تونس. وهو أمر تستطيع الجامعة التونسية التي تدخل رفوفها كل سنة مئات الدراسات والأطروحات العلمية أن تنظر فيه ولعلها تكون قادرة على تحديد ثبت مفصل للمصطلحات ودوالها وسياقاتها. وتحليل ممارسة العنف والإشارة إلى الأخطار المحدقة بالثورة التي صنعها أبناء الشعب الطيبين.

 

(تونس الحرة 2012)