هل تسعفنا المداخل النقدية والمعرفية في تلمس مضمرات المنجز الشعري، خصوصا إذا كانت التجربة لازالت خصبة وشابة في بدايتها؟ في هذا المقال بحث عن أسئلة أنطولوجية من داخل استراتيجية نقدية وتمرينها المهم، وهو ما يقدم لنا مشروع قراءة فاحصة للشعري وتجلياته وسماته الخطابية.

التجربة الوجودية

محمد الشاوي

قبل الغوص في ثنايا التجربة الشعرية للمبدع " أنس الفيلالي"، كان لزاما علينا أن نبدأ بتوطئة بسيطة لربط السابق باللاحق، فشاعرنا يكتب شعراً هذا الجنس الأدبي "Le genre littéraire " الذي على مر العصور وبتعاقب الفكر البشري، وخصوصا منه المرتبط بتاريخ الفلسفة ، فقد تم طرده من أكاديمية أفلاطون حينما أعلن شعارها وقانونها الأساسي الذي كتب على بابها بحروف واضحة:
"لا يدخلُ علينا أكاديميتنا هاته، إلامن كان رياضياً أو مهندسا". لكن على العكس تماماً نجد الفيلسوف أرسطو قد أعاد الإعتبار للشعر و الشعراء خصوصاً في كتابه " بُوِيتِيقَا " الذي عمل على رصد هذا الفن الجميل الذي لا يمكن أن نجده آنداك إلا في ساحة " الأغورا "(
agora ) التي كان يؤتى إليها من كل حدب وطرف ، كان يتجمع فيها الفلاسفة والشعراء والفنانون والمفكرون، الموسيقيون ... كل يدلو منهم بدلوه ويعرض أفكاره وتجاربه... (القرن الرابع قبل الميلاد).

وإذا ما عدنا إلى التاريخ الفلسفي خصوصا بعد موجة الحداثة وما أعقبها من تحول في المعارف و العلوم بمختلف فروعها وتخصصاتها، الشيء الذي إنعكس أيضاً على الشعر فتغيرت طرق كتاباته وموضوعاته، وفي فترة معاصرة نجد الفيلسوف الفرنسي " جون بول سارتر" sartre.j.p في كتابه: " ما الأدب؟ 1948 qu'est -ce que la ؟littérature sartre الذي لم يتحدث عن الشعر ولم يجعل له فصلاً من فصول كتابه ، كجنس من أجناس الأدب ، كونه تجربة ذاتية ترتبط بالشاعر .

إن الوظيفة الحقيقية للأدب لا تظهر في جمالية اللغة وإستعاراتها الجميلة المفعمة بعمق مشاعر العاطفة حسب تصور "أندري جيد" "André Gide"، بل في وظيفة النقد وخصوصاً حينما ينتقد الأديب و الشاعر واقعه ومعاناة مجتمعه داخل قالب أدبي يوحي للمتلقي بصرامة الموقف وعمق التجربة.

فمن هذه النافذة يطل علينا الشاعر المغربي،  قَصْرِّيُ المولد ومسقط الرأس،[1] "أنس الفيلالي" بقريضه الذي يجسد عمق تجربته الوجودية، سواء في شخصه أو في شخص غيره من الذين يعشون معه داخل العالم الرمادي الممزوج بالأبيض و الأسود ، هذا العالم الذي إختاره كوسيط بين ذاته الشاعرة والعالم الخارجي وفي إطار علاقة بين ذاتية  "Intersubjectivité " يغلب عليها الطابع الفينومينولوجي حسب  الفيلسوف الألماني "إدموند هوسرل " Edmund Husserl سواء في ديوانه: " مرثية البوح الأخير" ، أو في" مديح الرماد"، إذ يتمرد على وجوده وينتقده من خلال " هوية ضائعة"، "مدارات الأموات"، "الجنون"، "عتمة الصباح"... لكنه لا يأبى إلا أن يدافع عن حريته في وسط الطريق المزدحمة والممتلئة، التي رغم إكتظاظ الأقدام ، وطول المسافة ، فإنك تجده بجوارك يمد لك يد المساعدة ليخرجك من زحام مشاكل المجتمع وهمومه بأنشودته الشعرية التي تحمل:"أشياء جميلة"، و " أنشودة قديمة"، رغم " خريطة الجمر" فإنك تجد "مديح الرماد" :

ضوءٌ ثقيلٌ
يندلقُ كاللَّيلِ
خانقًا طيفَه
فِي سدولِ شدوهِ الدَّافئِ[2]

(...)هذَا السِّحرُ المرتابُ

منْ جليدِ الصَّمتِ
يشرحُ جراحَ الخلوِ
وقبوِ الماءِ
منْ أَرقةِ الأَوراقِ
حفيفًا عنْ آخرهِ
لكلِّ العابرينَ
أَو الغرباءِ[3]

هكذا هو قريضه لكل العابرين و الغرباء الذين لاموطن لهم سوى موطن الفكر ودروبه التي يسير عليها الشعراء و المفكرين، نحو طريق قد لا ندري إلى أين يفضي بنا حسب تصور الفيلسوف الأونطولوجي " مارتن هايرغر" Heidegger .m (chemin qui ne mène nulle part )

( ...) وَحدها الرِّيحُ
تجيءُ منَ اللَّيلِ
لاَ عقاربُ الوقتِ
ليكونَ الموتُ رجفةً
ولتكونَ المقابرُ دمًا
بعطشِ الفقراءِ
بينَ
الرِّيحِ
والنَّهارِ.[4] 
قد تجده هنا يطرق باب عالم الميتافيزيقا "La métaphysique "بعجائبها وغرائبها وعمق دلالاتها و مفاهيمها، كالموت والحياة وما بينهما من تناقض ، الظاهر و الباطن ، الروح و الجسد ،...لكن رغم ذلك فهو مؤمن بتجربته الوجودية مدافع عنها بكل حرية ووعي وحب للمسؤولية، بواقعية شاعرية ترتبط بالقضايا و التيمات والأيقونات التي يوظفها من جهة ، وبأسلوب فريد يستحضر به الخيال ويجعله نبراسا يستنير به قريضه من جهة أخرى ، إذ يجعل المتلقي يرافقه إلى عالمه الرماضي الذي خطه بأبياته الشعرية في إنسجام وارتباط للنبرة اللغوية. 

(...) وراء الإستعارات ..
أنين لبسمة حرف
ملتقى لنافذة
من أي الأنهار إنبثق ؟
وأي الأرصفة ستعشعه
كل الزهور ؟[5]
(...) تحت مشارق السور الأبجدي
تغيب الأمواج، وتعود
تحاصرها الرياح،

وأخاديد الرمال

في وهج السماء الممطرة.[6]
إن شاعرنا ماينفك إلا أن يغازلنا بعذب كلمات
قريضه و ب " لُوَيْغَةٍ " خاصة به ، تجعله يقتفي أثر " مارسيل بروستprost.M "الذي قال : " إن الكتب الجميلة هي التي كتبت بلغة خاصة داخل اللغة " "les beaux livres sont écrits dans une sorte de langue étrangère"
M.prost ومعنى هذا أن الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن يبدع لغة خاصة به من داخل اللغة العامة ، وهذا ما إصطلح عليه الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوزdeleuze.g " باللغة الصغيرة أو "اللُويْغَة" une langue mineur à "
l'intérieur de la langue " ولعل هذا ما نلمسه في قريض شاعرنا ، الذي إستطاع أن ينتصر للغته الخاصة به.

 ختاما يمكن القول إن ديواني الشاعر " أنس الفيلالي" يبقيا عملا له بصمته الإبداعية وتجربته الخاصة والفريدة ، بعمق دلالة قريضه ومعانيه ، سواء منها الصريحة أو الضمنية ، وكذلك باتقانه فن العبارة ونغمتها واللهجة من داخل اللسان العربي ، كما أنه يَرْشُقُنَا بمقلاع النبرة التي تضفي على عمله بلاغة وحسن الخطاب. وكما قال الشاعر الفرنسي " سان جون بيرس " في قريضه " رياح":
وعلى العبارة البشرية المثقلة ،المجبولة بكثير من الألسن واللهجات ، هم وحدهم يحسنون
مقلاع النبرة"
"( ...)
et sur la lourde phrase humaine , pétrie de tant d'idiomes,
Ils sont seul à manier le fronde de l'accent ."
saint-John perse,"vents".

 

كاتب مغربي

 

[1] - نسبة إلى مدينة القصر الكبير ، الواقعة بشمال المغرب.  

[2] - أنس الفيلالي، مديح الرماد، منشورات جمعية تطاون أسمير بتطوان، مطبعة الخليج العربي، تطوان، 2012، ص 11 .

[3] - نفسه، ص13.

[4] - نفسه، ص30.

[5]- أنس الفيلالي، مرثية البوح الأخير، منشورات وزارة الثقافة المغربية، مطبعة المناهل، الرباط، 2012، ص 29. 

[6] - نفسه، ص32.