هذه قراءة مغربية في الجزء الثاني من السيرة الذاتية لكاتب جنوب أفريقيا الكبير جون ماكسويل كوتسيّا وليس (كوتزي أو كوتسي كما هة شائع في الترجمات العربية) نقدمها هنا احتفاءا بإبداع هذا الكاتب الكبير.

عندما تتحدى الصفحة البيضاء

«شباب» لجون كويتزي

محمد أنقار

هل ينتمي كتاب" الشباب " (2003) إلى السيرة الذاتية أم إلى الرواية؟. هذا سؤال مفتعل قد يكون سببه لفظة "رواية" التي وضعت قبل لفظة "الشباب" في الترجمة العربية لمؤلَّف جون ماكسويل كويتزي الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت في أكتوبر 2005 . وإذا كنت لا أعرف اللغة الإنكليزية لكي أعقد مقارنة بين الأصل والترجمة؛ يكفيني الآن القول إن لغة الترجمة العربية التي أنجزها شعبان عبد العزيز عفيفي جذابة سلسة، تغري بالمتابعة، وتشجع على السياحة اللذيذة في عوالم كويتزي الساحرة، وإن كان بعض العارفين بأمور الترجمة قد لاحظ بتراً غير مبرّر في النسخة العربية (2).

كتاب "الشباب" ـ في الأصل بالتنكير Youth ـ يشكل الجزء الثاني من سيرة حياة كويتزي بعد الجزء الأول المعنون بـ "طفولة" ( 1997 ). ويغطي الكتاب "شباب" كويتزي من السنة التاسعة عشرة إلى الرابعة والعشرين. والواقع أن قراءة الكتاب منفصلا عن جزئه السابق، وأجزائه المحتملة لاحقاً لابد أن تشعرك بالثغرة وعدم اكتمال المغامرة الإبداعية لدى الكاتب الشاب. ومع ذلك فإن الاكتفاء بهذا الجزء يعد تجربة قرائية لا تخلوهي الأخرى من قدر من المتعة. ولعل سر تلك المتعة يكمن حسب رأيي في استطرادات كويتزي وراء المنغصات والعراقيل التي تحول دون تحقق فعل الكتابة. إن هذا الجزء قلما يعرض إلى عملية الكتابة الأدبية في حد ذاتها أي بلاغتها وصورها وجُملها؛ لكنه يعمد بدلا من ذلك إلى الإسهاب في وصف مشاغل الدنيا التي ستستحوذ على هذا الشاب الطامح إلى أن يغدوكـاتباً.

"جون" طالب من جنوب إفريقيا، يعيش في "كيب تاون" حياة مستقلة عن أسرته، وفي سبيل ذلك لا يستنكف من ممارسة أي عمل، ومن الحياة بأية صورة متقشفة كانت. وهوينطلق في ذلك من المبدإ الذي يرى " أن كل رجل عبارة عن جـزيرة منعزلة، لا يحتاج إلى والدين" ( ص 19). وهويشبه نفسه في ذلك بإيزرا باوند وت.س. إليوت، ونشبهه من ناحيتنا بكولن ويلسون الذي عارك في وقت واحد مصاعب الدنيا والكتابة من دون مساعدة الوالدين.

وسينتقل جون من جنوب إفريقيا إلى لندن من أجل إنجاز رسالته الجامعية وكذا من أجل العمل. هكذا سيمارس أشغالاً عدة أبرزها مبرمجا حاسوبياً في شركة IBM الأمريكية. إن مبلغ المنحة صغير لن يكفيه للعيش وإشباع الهوايات الفنية . أما موضوع رسالته للماجستير فكان حول روايات "فورد مادوكس فورد" المنقسمة حسب رأيه إلى نصوص جيدة وأخرى رديئة.

حُلْم جون أن يغدوشاعراً قبل أن يموت. لكن ثمة شعوره الدائم بالتعب والخوف والاكتئاب. إن الرغبة في الإبداع قوية، عارمة، بيد أن الجسد لا يطاوع، أوعلى الأصح رُكن ما من ذلك الجسد. وعلى الرغم من أن جون يتميز بمخ جبار شغوف بالرياضيات والبرمجة والقراءة وتعلم اللغات ودراسة حضارات مختلف الشعوب؛ إلا أن الإنجاز الإبداعي لا يكاد يتحقق. والواقع أن جون "مرهق على الدوام، وهويجلس أمام مكتبه الرمادي اللون، وتنتابه نوبة قوية من التثاؤب يحاول إخفاءها. وفي المتحف البريطاني تتراقص الكلمات أمام عينيه، وكل ما يريده هوأن يضع رأسه بين ذراعيه ويستسلم للنوم" ( ص 75). الإرهاق والتعاسة إذن هما سبيلا إحساس جون بالفشل. ولكن ثمة كذلك عنصر آخر أكثر شفافية وأشد إبهاماً. إنه عذاب الانتقال من الشعر إلى النثر، أوعلى الأصح الخوف من أن ينسخ لديه النثرُ الشعر.

فعندما تسوء الحالة النفسية لجون " يتساءل عما إذا كانت انفعالاته المملة والرتيبة يمكن أن يتولد عنها شعر عظيم؟ والنزعة الموسيقية القوية التي كانت بداخله بدأت تخفت، فهل النزعة الشعرية لديه هي أيضا في طريقها إلى التلاشي؟. وهل سيضطر إلى التحول من الشعر إلى النثر؟ وهل حقيقة النثر التي يحاول أن يخفيها الكاتب هي أنها من مستوى الدرجة الثانية، الذي يلجأ إليه كُتاب يفتقرون إلى الإبداع؟" (ص 77). هكذا ستعرف حياة جون عذاباً جديداً يحول بينه وبين الكتابة، أوعلى الأصح يربكه ويجعله ينظر نظرة عدم القيمة إلى ما يكتبه من أعمال قليلة، ولا يرى بعد ذلك جدوى من محاولة نشرها. وستكون روايات هنري جيمس وأفكاره أول أستاذ لجون في مجال الكتابة النثرية. لكنه لن ينسى في هذا المجال كذلك جيمس جويس ود.هـ.لورنس.

ويستقيل جون من الوظيفة ليبدأ حياة الحرية والفقر والإحساس الحاد بالتعاسة. كما أن موضوع رسالته الجامعية حول الروائي فورد يزيده شعوراً بحدة تلك التعاسة. بيد أن جون يصمد ويأبى أن ينهزم بسهولة. بل إنه ينتهي ذات يوم إلى الإقرار بأنه "لوأُلغيت التـعاسة من الوجود، فلن يعرف ما هوفاعل بنفسه" ( ص 82 ) . وعلى الرغم من أنه يقترب من الانتهاء من كتابة رسالته عن فورد "فإن هناك شيئاً واحداً ينغص عليه حياته، فقد مضى عام دون أن يكتب شطراً واحداً من الشعر، فما الذي حدث له؟ وهل صحيح أن الفن لا يولد إلا من رحم البؤس؟ وهل عليه أن يعود بائساً لكي يتمكن من نظم الشعر؟" (ص 189). هكذا سيعيش جون فترة جديدة من حياته تتسم بالخوف من أوقات الفراغ حيث إن مثل تلك الأوقات تضطره إلى مواجهة نفسه وإخضاعها للامتحان العسير. وهومن أجل ذلك سيضطر إلى قبول وظيفة جديدة مملة وصعبة. لكن ثمة باستمرار يوم الأحد. وجون "يقتل الوقت بالفعل، ويحاول قتل يوم الأحد؛ حتى يأتي الإثنين مسرعا، حيث يجد في العمل الراحة والسلوى" (ص 195-196).

يسمي جون الإلهام "النصيب الموعود" الذي قد يتّخذ هيئة عرو . هذا النصيب الموعود لن يمكن أن يأتيه إلاّ في المدن الأوربية العظيمة مثل لندن وباريس أو فيينا. "لكنه انتظر قرابة عامين في لندن وعانى فيها الكثير من دون أن يأتيه نصيبه الموعود" (ص 196). ومع ذلك فقد أدرك جون جيداً الدرس الذي يدركه الكُتاب الكبار على الرغم من أنه لم يزل بعد في فترة الشباب. وخلاصة ذلك الدرس ترى أن النصيب الموعود لن يزور كاتبا ما إذا لم يوفر شروط تلك الزيارة وظروفها. ولعل أبرز تلك الشروط "الجلوس والكتابة"، بل لعلها الطريقة الوحيدة. بيد أن ثمة شيئاً ما يحول دون تحقق عملية الإنجاز. إن تهيئة النفس للكتابة عن طريق تنظيف المائدة ووضع الأباجورة عليها وتخطيط هامش على الورقة البيضاء، والجلوس مغمض العينين وبذهن صاف؛ كل ذلك لن يضمن القدرة على الكتابة. إن جون "يكره هذه المواجهات مع الصفحة البيضاء ويحاول تجنّبها، وهولا يطيق ثقل اليأس الذي يحل به في نهاية كل دورة فاشلة، مما يجعله يدرك أنه فشل من جديد. والأفضل ألا يداوي الإنسان جراحه بهذه الطريقة باستمرار، وأن يمتنع عن الاستجابة للنداء [ نداء الكتابة] حينما يأتي، وعندما يكون الإنسان ضعيفاً وذليلا" ( ص 196-197).

والحق أن جون كويتزي يدعونا بهذه الكلمات إلى أن نقبض بأصابعنا على الجمرة المتّقدة ونواجه بشجاعة معضلة الكتابة، بل معضلة الخلق الفني قاطبة. هل صحيح أننا مطالبون بالانصراف عن الكتابة حينما ينتابنا شعور اليأس أوعندما تتمكن منّا مواقف الضعف والذلّ؟ ما من شك في أن كل كاتب لا بد أن يكون قد عاش مثل هذا الشعور الأسود الذي يُحبط ويوتِّّر. ولكن على الرغم من ذلك هل يكون الانصراف عن الكتابة هوالحل المطلوب؟. لقد قال غابرييل غارثيا ماركيث ذات مرة إن من شروط الكتابة عافية البدن والبطن الممتلئة. لكن مثل هذين الشرطين قلما يتحققان خلال شباب الكُتاب. لذا لن يكون الضعف أوالعلة سبباً حقيقيا لعزوف الكاتب الشاب عن الكتابة، بل من الراجح أن تكون تلك العلة حافزاً عملياً على الإبداع. ولقد سبق لجون نفسه أن لمّح إلى أن كتابة الشعر والبؤس متلازمان لديه. إن القبض على الجمرة شر لا بدّ منه. وحيث إن كويتزي في كتابه هذا مطالب بعرض كل أصناف المنغصات التي واجهت الكاتب الشاب؛ فقد لزم أن يُشرِّح بعمق الآلام المترتبة عن القبض على الجمرة المتّقدة. وفي مضمار ذلك العرض يعترف المؤلف بأن حتى الإرادة نفسها لا تغدو كافية. يقول كويتزي عن كاتبه الشاب: "وما لم تكن لديه الإرادة، فلن يتحقق له شئ سواء في الفن أو في الحب. ولكنه لا يثق في الإرادة، فهولا يستطيع أن يرغم نفسه على الكتابة، ولكنه ينتظر العون والمساعدة من قوة خارجية يطلق عليها عادة "عروس الشعر" ، و"مصدر الوحي والإلهام"، لذلك لا يستطيع أن يرغم نفسه على إقامة علاقة عاطفية مع أي امرأة دون التلميح والإشارة ( من أين؟ ... منها؟ ... منه؟ ... من أعلى؟) ، وقد تكون هذه المرأة نصيبه الموعود" (ص 197).

إن كويتزي يعرض ويفصّل ويعدّد الأسباب التي تنفّر الكاتب من مواجهة الصفحة البيضاء. إنه مطالب بألاّ يسبق الأحداث بل بذكر الأسباب والطرق التي كان الكاتب الشاب يبتكرها من أجل الابتعاد عن عذاب المواجهة. ثمة مئات الطرق . "ولكن أقسى طريقة للتعبير عن ذلك هي القول بأنه خائف ، خائف من الكتابة، وخائف من النساء" (ص 197). هكذا يفلح كِتاب "شباب" في أن يعدّد أصناف المعاناة التي تحول دون تحقق فعل الكتابة لدى الشاعر الطموح. صحيح أنه يلمّح بين الحين والحين إلى الحلول الكفيلة بتجاوز تلك المعاناة؛ لكنه لا يمضي بعيدا في ذلك، أوقل إنه يشير إلى الحل ثم يورد بعده مباشرة ما يحول دونه. فإذا كان جون يدرك جيدا أن الطريقة الوحيدة لتحقق فعل الكتابة تكمن في الجلوس والكتابة؛ فإنه سرعان ما يبادر إلى القول إن اللحظة المناسبة لإنجاز ذلك لا تأتي. وإذا كان جون يدرك، من ناحية ثانية، أن الإرادة شرط أساس لتحقق الفن؛ فإنه يعود من جديد ليعترف بعدم ثقته في الإرادة. وهكذا دواليك مع باقي الحلول ومع ما يمنع تحققها. ومن البيّن جيدا أن مهمة كتاب "شباب" محصورة في تشريح الأسباب والموانع وتعدادها من دون تجاوزها إلى مرحلة اقتراح الحلول. فالكتاب جزء من سيرة لا تزال طويلة. ومن هنا عدم اكتمال المغامرة كما أسلفنا. ومن أجل سد الثغرة وتقرّي الحلول يلزم انتظار الجزء الثالث من السيرة الذاتية، وفي انتظار ذلك يلزم تتبع حياة كويتزي نفسه الذي أفلح في تجاوز العقبات ليغدوفيما بعد واحدا من أشهر كتاب الرواية في العالم. بذلك يكون كتاب "شباب" قد التزم التزاماً صارماً بالحدود المرسومة له سلفا: التشريح المتأني والعميق لمواجهة الكاتب الصفحة البيضاء .

كتاب "شباب" دافئ ممتع، يتحدث فيه كويتزي بصيغ حضارية مفتوحة، كاشفاً عيوبه وأخطاءه وعلله، مراوحاً فيه الكتابة عن تجارب العمل وضنك الإبداع. وبين الحين والحين يقدّم الكاتب إشارات دقيقة لا يمكن أن يستشعر خطورتها إلاّ من كان ذا حساسية مرهفة، ومَن كان يستمد قوته من العلة ذاتها وليس من الجبروت. ولقد سبق أن علقنا على مثل هذه السمة حين تقديمنا لرواية "خزي" للكاتب نفسه (القدس العربي 24/3/2006). إن كلمة واحدة مبهمة وغير محددّة يمكن أن تظل عالقة في ذهن جون أسابيع، وربما إلى آخر العمر ( ص 137). وحتى الكتابة نفسها مبهمة وغامضة هي الأخرى شأنها شأن المرأة. لذلك يستعرض كويتزي عددا من تجارب جون الفاشلة مع النساء. فالمرأة والكتابة لديه سيان. لكن صفحات أخرى من حياة كويتزي ستكشف لنا أن الرجل خارج هذا الكتاب سيعرف لاحقاً كيف يعتصر المبهم ليستخلص منه إبداعاً ساحراً مفعما بالعمق الإنساني.

mohamedanakar@yahoo.es


1- شاع في اللغة العربية كتابة اسم هذا الكاتب الكبير بتلك الصورة المغلوطة، وصحة كتابة اسمه هي كوتسيا، هكذا يلفظ بسبب هجائه المتميز في لغته الأصلية، ولكننا ابقينا على الخطأ الشائع لأن الكتاب المطبوع ـ وكتب أخرى للكاتب ـ تبقي عليه بنفس الصورة (التحرير)
2- انظر في ذلك مقال عبد الوهاب أبوزيد ضمن جريدة اليوم الإلكتروني. ع 11927، س 40، بتاريخ 9/2/2006، في الموقع : www.alyaum.com