تصور القاصة العراقية شخصية متمردة أرادت تمييز ذاتها في مجتمع صارم التقاليد فازدادت عزلة إلى حدود السحق بعد أن خسرت العائلة وتشردت على دراجة وقنينة خمر وأحلام طفولة

حياة على دراجة

محاسن عبدالقادر

أمام الباب الحديدي الأخضر، ثقلت يداه، ولكن شمس حزيران اللاهبة دفعته ليرفعها ويقرع الجرس. التفت إلى الشجرة البعيدة، هناك كان يضع دراجته في ظلها. استمر يقرع حتى شعر بالخجل، فتباعدت المرات، ثم أخذ يطرق الباب طرقا خفيفا لا يكاد يخترق المرآب . ومن جديد أمده لهيب الشمس بجرأة فطرق بقوة مرة واثنين وثلاث ولم يخرج أحد.

كان يلف بدراجته المدينة، يطير بها بجوار النهر ليتلقى النسمات على وجهه.

يعرف أنهم هناك، في الداخل، وربما، ينظرون إليه من وراء الستارة وينتظرون مغادرته، ويعرف أنه أضحى ضيفا ثقيلا، وأن هذا المشهد قد تكرر سابقا، منذ أوضح له الخال انه غير مرحب فيه ببيته منذ زمن بعيد.

أطرق رأسه، و تلقفه صمت الظهيرة المطبق، تخترقه من فوق لسعات شمس لا ترحم وحرارة أسفلت من تحت تحرق قدميه، و شارع طويل أمتد أمامه .. طويل و كأن لا نهاية له.

سار بخطى بطيئة، يحلم بحجرة الاستقبال وهواء المروحة البارد والتكييف المنعش، يتوق الآن لبرودة البلاط الأبيض اللامع، ولأمه و هي تدخل عليه بصينية الطعام ولأصوات البنات الهادئة والتلفاز في حجرة المعيشة المجاورة. صور وأصوات تحولت إلى أصداء خافتة.

من خلف الستارة، كن يراقبنه، وهن اللاتي كن يفرحن بصوت الدراجة الهادر التي تقف فجأة أمام الباب. تعاطفت معه وقالت لهن: " انظرن إليه، كم هو مسكين لندعه يدخل، انتن والزمن عليه"  فتعالى صوتهن حتى أخرسن تعاطفها: "كفى فلسفة، لا نريد هماً، أنسيت، ماذا كان يفعل!".

وتفوح باللحظة هذه، رائحة تعبق بها حجرة الاستقبال كلما دخلها وتأبى أن تغادرها إلا بعد رحيله بأيام. كان يأتي إلى هنا وقت الظهيرة دائما ورائحة الدخان والخمر تنضح من مسامه، فتسرع عمتي إلى إدخاله في هذه الحجرة المنعزلة لئلا يراه خاله في هذه الحالة وتغلق الباب عليه.

يرمي بجسده فوق البلاط البارد ويفتح ذراعيه مسلما نفسه لهواء المروحة التي فوقه.

-          " ابني، لم لا تنام فوق الأريكة ؟

-          " مرتاح هكذا، اتركيني لحالي". و لا تتركه وتظل تتكلم وتسأل، ولا يرد فتقوم زهقة منه.

تدور المروحة فوق رأسه، ويدور حاضره وماضيه مع ريشها ، ويلعن دوران رأسه الذي لا ينسيه شيئا.

بين فكي الشمس والإسفلت، و ماضيه وحاضره، يتجرد من أي شيء في هذه اللحظة، لا فكرة، لا ذكرى، لا ظل . لا شيء يحتمي فيه، غير أمنية الدخول إلى البيت ذي الباب الحديدي الأخضر الذي لفظه.

صوت دراجته النارية يتناهى إليه من البعيد. كان ينطلق فوقها بسرعة لاشيء يريحه مثلها. تركض الأماكن، البيوت والبنايات والمحال والشخوص، وتنأى وراءه ولا يبقى غيره وصوت الريح يعصف في أذنيه.

كل شيء حصل بسرعة تفوق سرعة دراجته. الآخرون كانوا يرونه متمردا، هائجا، وهو يعد نفسه وحيدا، تائها. هجره الأب ولم يسأل عنه، وهي تزوجت وانشغلت بحياتها والخال الذي رباه لم يقصر معه ولكن أراده مثله وهو يختلف عنه. رآها أمام بيتها المقابل لبيته، طويلة، و نحيفة، و خصلات الشعر الأصفر تظهر من تحت عباءتها السوداء، ووجهها كان يشبه الحياة حين تقسو. لم يحتمل أن ينتبه أحد له، فأحبها و صار المتمرد عليهم بحق وتزوجا وهو المراهق.

و يزداد هروبه على دراجته، كلما أسرع، خفتت الأصوات وابتعدت، صوتها العالي وهو يطالب بالنقود والطعام وصراخ أولاده الخمسة الذي لا يهدأ، و أصوات الملامة التي تلاحقه ولم تسكت.

قاد دراجته وهو ثمل.. اصطدمت دراجته بعربة كبيرة.

يتماوج سراب لبركة مياه في الشارع الممتد أمامه. لقد غاب كل ما كان يهرب منه و نسي كل ما حوله وسكتت الأصوات كلها، إلا الحنين لبلاط الحجرة البارد ولصوت أمه الراحلة.

 

القاهرة - 2012