تغور الكاتبة العراقية مقلبة شؤون المرأة وعالمها الداخلي وخلجات نفسها في التجارب القاسية كموضوع فقدان شريك العمر كاشفةً عما تشعر به من هجران وإهمال من شريك تركها جائعة إلى حنانه وجسده، والنص هنا يلقط لحظة مهمة يكون فيها الإنسان قد نهض من جديدة لينهل من نبع الحياة ومباهجها.

الأرملة

ناهدة جابر جاسم

كان يوم نهاية الأسبوع شتويًا قارصاً. استيقظتُ صباحاً لأجد نفسي ممتلئة بغبطةٍ مجهولةٍ ورغبةٍ في الحياةِ وبنوع من الحنين لأحبة أفتقدهم.

عبر النافذةِ، تأملت الأشجارَ العاريةَ وهي تمتد حتى البحر البعيد مستعيدة حياتي مع شريك عمرٍ كان عاشقاً للكأس وعلاقاتٍ عابرة مع نساء الوهم!

 ثلاثةُ أعوام مضت على رحيله وأنا أقضي جّلَ وقتي مع ذكريات وسفر في وجوه أحبةٍ، منهم مَنْ هاجرَ وضاعَ في أرض الله الواسعة أو رحلَ إلى السماء ونامَ بهدوء.

أفقتُ من أحلام يقظتي وفي روحي نشوة وشوق إلى وجوه أصدقاء أحبهم قلبي، كانوا قريبين جدا من عذابي حين اخترت العيش مع حبيب أدمن الخمر. عدت أسأل حالي:

- لماذا سمحتُ له إن يستهين بموهبتي كرسامة وقبلت العيش خانعة معه؟

كان يعنفني في سكره ويتهمني بقسوة قبل أن ينهال عليّ ضرباً بكفيه حتى النزف. خائفةُ، مكسورة الخاطرِ أذهبُ إلى سريري محاولةً النوم الذي باتَ شبه مستحيل دونَ حبوب منومة.

 - صار عندي قَطعْ

يقول ذلك حين أعاتبهَ في اليوم التالي، وقتها لم أحس بحالة الرعب التي أعيشها، وهو يكيل لي كلمات الحب والوله صباحاً ليعود في الليل إلى شتائمهِ  وتهمه البذيئة:

-هل هذا يسمى حُباً؟

بدأتُ أشك بكل قصتي معهُ وأنا أخرج من أوهام حياتي وحبي له شاعرةً بنشوةٍ غريبة في هذا الصباح الشتوي المشرق وشوق بلغ ذروته حينما بزغ وجه أقربهم إلى روحي!.

 كان طيب القلب. لا يشبه مَن كنتُ أعرفهم. يكنُ محبةً واحتراماً لشخصي، ويجهد في مساعدتي للحصول على قاعة لعرض لوحاتي. بالعكس من زوجي الذي حاولَ أن يقنعني بأني رسامه فاشلة!. كان يشجعني ويطري موهبتي. كان ذواقاً للرسم وعازف ناي جميل وممتع. كنت أفكر باهتمامه بي خلسة وأخاف، إذ أصبحَ قريبا على روحي. شعرتُ به مختلفا عن الجميع! ولكنني تجاهلته متوجسةً مما في عينيه وقلبه من مشاعر ساخنة تكويني كلما التقينا!

ها أنذا أسمع رنينُ جملته في كل لقاء

- ماذا بكِ يا صاحبتي؟!.

حينما يرى التعبَ والهالات السمراء تحيط عينيّ، وأطالعه بوجهي المثقل بآثار الليلة الماضية يكمل:

- هل كسر خاطرك  مرة أخرى؟

أجيبه بنظرة فيتمتم:

- اللعنة علينا نحنُ جنس آدم!

  خاطر ذكراه اليوم وإحساسي أنه قريب جدا مني منحاني بهجةً ونَشوة حُب للحياة!

قلت لنفسي:

- كوني جريئة واتصلي به!.

- ماذا سيقول عني.. لا.. لا!.

- أتصلي.. أتصلي يا مسكينة فأنتِ اليوم حرة وهو الأقرب إلى الروح !.

قلت لنفسي ذلك بصوتٍ عالٍ ونهضت من سريري لأفتح بريدي الالكتروني فقد بعث لي رسالةً قبل فترة ولم أرد عليه. كنتُ أبركُ في أوهام قصتي مع شريك العمر.

تمعنتُ بحروفِ رسالته وسؤاله عن حالي وتمنياته لي بالسعادةِ وأعدتُ قراءة هذا المقطع مرات ومرات

(حينَ تشفين من ألمِ فقدكِ أتمنى أن تعثري على إنسانٍ يليق بقلبكِ لأنكِ تستحقين السعادة.)

كتبتُ له  شيئاً، وأعدتُ قراءةَ رسالته الأخيرة مرة أخرى فتجرأت وأضفت إن كان لديه الوقت والرغبة في مشاركتي وجبة عشاءٍ خارجَ البيت.

مرَّ أسبوع، اثنان، ثلاثة ولم انعم بردٍ. حزنتُ ولبستني الوحشةَ بَعدما أملتُ روحي في لقائه!

بعد مرور أكثرَ من شهر أجابني معتذراً عن التأخر لأنهُ كانَ في سفر، وأضافَ بأن لديه كلام وروحه مليانة سوالف وحكايات وأقترح موعداً للقاء. وافقتُ وبدون تردد كتبتُ لهُ:

- لا زلتُ متشبثةً بحلمي في حياةٍ بلا ألمٍ ومؤمنة بفلسفتي بأن الحياة تعاش مرة واحدة وكذبة الحياة الأخرى هراء!

فرد:

-  يعني على عهدي بكِ لا زلتي تلكَ الملحدة الجميلة! لا يهمكِ يا صديقتي، كوني على يقين سأوقظ النارَ في روحكِ هذا المساء.

جاء غير مصدقٍ، أحسستُ قلبهُ المحب حين لامست أصابعهُ، فرحتُ به وانتابتني مشاعر و أحاسيسَ هجرتني منذ رحيلَ حبيب عمري.

وبارتباك واضح قلت له:

-  تفضل.. أدخل!

أراح جسده على الأريكة

-  قهوة لو شاي؟

-  قهوة سادة!

كان مرتبكاً بدوره وهو يتأملني ويتفحص ماسحاً أرجاء الصالة بعينيه، بدا وكأنه نالَ حلماً المستحيل أخيراً!.

لم يقل شيئاً تناول قهوته بصمتٍ ووجهٍ منتشي ثم قال:

-  تعالي! سآخذك إلى أماكن حلمت وتمنيت أن تكوني برفقتي حين أزورها!.

أذعنت مستسلمة، فقد كنت أرغب في نزهة معه بكل حواسي، فنهضتُ نافضةً غبارَ الحزن من روحي! كافرةً بكل القيود والحواجز التي كانت تمنعني من رفقته!.

كان رائقاً و لا يشبه إي رجل يدعي اللطف، لم ينظر لي نظرات إشفاق تشعرني بترّملي. ضحكنا من الأعماقِ فرحينَ واحتسينا نخب لقاءنا من كأس أبو نؤاس، فانتابتني رغبة في الغناء وعشق عارم للحياة وكأنني صبية في العشرين. وانتشيت بأحاسيس افتقدتها منذ وفاة شريك عمري.

                                *      *      *

كنتُ بين الحلمِ واليقظةِ حين اتصلوا بي من المستشفى:

-  أنتِ جنان؟

-  نعم

-  زوجك...

صُعِقت!.

 ماذا؟ متى؟ كيف؟

حبيبي كان في زيارة صديق له بالأمس وكان يوم عطلة نهاية الأسبوع. اتفقنا، هو يسهر في بيت صديق يعيشُ وحيدا بعدَ ما خسرَ عائلته بسبب عشقه للخمر وأنا سأقضي ليلتي مع صديقة لي تعيشُ وحيدة بعد ما انفصلت عن زوجها. وان نلتقي نهار اليوم بعد الساعة الثالثة لكي نذهب إلى بيتنا الواقع في قرية صغيرة في إطراف مدينة Roskilde

أسودت الدنيا في عيني، غيرَ مصدقةٍ ما تخبرني به الممرضة. ساد صمت قاتم أخرس. هذا الصلاح جعلني أرى الدنيا من خلال عينيه برغم أنه لم يكن متصالحا لا مع نفسه ولا معي، كنت متعلقةً به وكان مشغولاً بكأسه في نهاية تسعينات القرن الماضي حينما حللنا في عمّان نتأمل الوصول إلى إحدى دول اللجوء، خائفا من إعادته إلى العراق بعد قضاء فترة أقامته القانونية، اتركه  في البيت الذي استأجرناه ينام ليستيقظ ويشرب وينام ويستيقظ ليعب المزيد باكياً شاعرا بتأنيب ضمير لم يفصح عنه أبداً بينما أقضي جلَّ يومي أخيط ملابس في محل خياطة. أصبر نفسي على إهماله علنا ننجح في الوصول إلى دولة لجوء، فيعتدل حالنا.

ذهبت إليه فوراً وتأملت وجهه وجسده المحفوظ في ثلاجة الموتى، تأملته طويلا ثم رحت أعاتبه:

 - لماذا حرمتني منك ومن التمتع بجسدك ولذة ملامستك؟.

-  لماذا تركته يبرد ويغيب لماذا.. لماذا.. لماذا؟!.

صرخت وسقطت على الأرض مغمياً عليّ!.

 بقيت دائخة، حائرة! فماذا افعل بالمصيبة التي حلت على رأسي؟!. وجدتني شبه وحيدة بعدما قطع هو أواصر علاقتي بكل أصدقائي ولم يبق غير أصدقائه الذين لم أطق وجودهم حين يزوروننا في البيت فقد كان يجمعهم الكأس والثرثرة.

دأبت طيلة الأيام الثمانية، الفترة المسموح بها لحفظ الجثة قبل الدفن على زيارته قبيل نقله إلى العراق. كدتُ أجن وأنا أتأمله وكأنه نائم! احتوي وجهه بين يدي واضعة شفتيّ على أذنه معاتبة:

-  لماذا يا حبيبي؟  لماذا يا من منحتك كل مابي من حنان ودفء؟ لماذا تخليت عني وتركتني وحيدة في منفاي؟ يا من كنت أهلي ووطني! يا من هجرتهما من أجلك, لماذا يا روحي؟ لماذا كنت أنانيا واخترت الخمر؟!.

صرختُ بحرقة

-  لالالالالالالالالالالالالالالالالا يا روحي أنتَ حي! أحسُكَ! اسمعُ صوتكَ وأنتَ تناديني جنان تعالي, أطربيني بصوتك

(يا حبيبي يا حبيبي أني سهرانه الليالي والقمر يعرف بحالي

أنت تدري وهو يدري أنت مرسوم بخيالي

 على باليعلى بالي يا حبيبي(

-  يا حبيبي يلي سمارك حلورد علي!.. أجبني!.. أنهض!.. وتعال معي!.. مو أنت تدري أنت دنيتي في غربتي.. يا ربي ماذا فعلت بي؟ ماذا جنيت لكي تعاقبني بهذه الطريقة الوحشية؟ يا رب الكون كنتُ أصبرُ حالي وحرماني من نشوة ملامسة جسدهحالمة بيوم صحوته كي نقضي بقية العمر معا لماذا يا رب الكون لماذا؟ أي عدالة هذه؟ وأين حكمتك؟!.

                                *      *      *

بدأت خيوط الشمس تذبل وظفائر القمر تنور سماء Boserup Skov أكبر وادفأ غابة في مدينة Roskilde

كان يعرف عشقي للنار وغرامي بها فجمع فروع أشجار يابسة وأضرمها فدارت روحي مع روحه حول الموقد في ليل الغابة الموحشة. كُنا نتأمل بوجهي بعضٍ على ضوء ألسنة النار وهي تلتهم قطع الخشب اليابس العاري راحلة به نحو السماء!

تحول لهيب النار إلى جمرات حمراء تبعث الدفء في روحينا التي بعثرتهما الخسارات والفقد،.. هو أيضا فقد شريكته والتي هاجرت مع رجل أخر أخبرني حال وصولنا إلى الغابة.

تعانقت روحانا ولم نعرف من كنا وما سنكون! أصابعنا تشابكت وراحت تحكي وتروي لبعضها وتهمس بالأمان. أصابعنا تعلن للنجوم والقمر، سوية تراخت أصوات قلبينا الطفلين! كنت طفلة! كان صبيا يداعبني! يشاكسني بعيونه! بالقبل والشم والعناق، كان يرتجف على صدري! طريا، لينا، ذائباً بالمحبة!

لَم يبق لي ما أقوله بعد إن التصق جسده بجسدي وهو يمعن في شمي وحضني ومنحي دفء الكون النهائي.

استلقى بجانبي على مصطبة خشبية مصنوعة من خشب البلوط! أمسكت بروحه ودفئه, معانقة, خائفة ومتوجسة من فقدانه.

اختلطت عليه غبطة مشاعر رجل بصدود جسدي كنت أحاول البقاء بعيدا عن الفعل الشهواني بلمسات حنو دافئة.

سألته بشكلٍ مباغت:

-  ماذا يفعل الرجل حينما يجد نفسه وجها لوجه مع امرأة راغبة وتتمنع؟!.

لم يكن يعرف بمَ يجيب. عمَّ الصمت وبدت على وجهه لمسة حزن تدل على إن وقت صحبتنا ومتعتنا شارفت على النهاية.

همسَ لي:

-  كيف سنصل؟ أنا السكران وأنت المجنونة!

 

كوبنهاجن  7 / أذار / 2013