يتناول الباحث المغربي التردي في فضاء الثقافة العربية بفعل المنجز الفني الإستهلاكي، الذي يبتعد بالتعبيرات الفنيّة عن مشروعها القيمي والتحرري، إلى سرديات السوق ومفاهيم الربح، وصناعة الفنان بين ليلة بترودولار وضحاها، إلى أن يطغى برنامج الضجيج على محرقة الشعب السوري، وعلى أي وعي عقلي نقدي.

هي فوضى: «الكل، بدُّو يغني»

سعيد بوخليط

هذا العنوان، تعبير ساخر باللهجة المحلية اللبنانية، بلد الرحابنة وفيروز ومارسيل خليفة وماجدة الرومي ووديع الصافي وجوليا بطرس، حيال الموجة العارمة التي أغرقت العرب في ضوضاء غنائي، منطلقه تجاري ربحي مالي، ومنتهاه تنميطي تضليلي تسطيحي، يتوخى خلق جيل فارغ ورخو، يدرك سريعاً كما ينتهي أسرع من السابق.

إنه، زمن الاستسهال، والجاهز، والأوهام الشبيهة بأحلام اليقظة. الكل، يسخر من هذا الكل، بأن ينتخبه "فناناً" باسمه. حكم، يختم بالشمع الأحمر، خلال جلسة استعراضيّة تحوي كثيراً من التبسيط والاختزاليّة إن لم نقل التفاهة، وقليلاً جداً من التقييم الفني المؤسس على قواعد.

ارتسامات مسائيّة عابرة، يصدرها أعضاء لجان تحكيم، أضحت قبلة وشغلاً لكل من غنى ذات مرة، مطرب أو مطربة، قد تهتز على إيقاعاتهما البطون والأرداف في المراقص والملاهي الليلية، سيرتقيان بجرة دافع مالي لشركة من الشركات، إلى "عبقريين موسيقيين"، يمتلكان حق تصنيف جحافل هائلة من الشباب إلى أصحاب موهبة.

الشباب العربي نفسه، لم يعد له من وظيفة ثانية، غير ملاحقة سحرة هذه الكنوز المالية. طريقه الأسهل، نحو تحقيق الشهرة والمال والحياة الرغدة، وسط عالم عربي صار جحيماً، ستبدو فيه مثل محارب دونكيشوتي يصارع طواحين الهواء، إن اخترت سبيلاً آخر!!

طبعاً، من حق كل واحد أن يرسم لنفسه المنحى الذي يريد، ويتبنى بمطلق الاختيار نوعية مساره، ولكن أيضاً، ليس من حق هذا الفرد، اغتيال الموضوعي لصالح الذاتي بأي طريقة من الطرق، فيشوه ويقزم الحقائق الأنطولوجية الكبرى والمشروع الفني ضمنها، إلى مجرد رهان تجاري ووسيلة سريعة للربح والاغتناء، تحكمها اعتبارات السوق مثل أي بضاعة مشيأة. ثم من جهة، قصديات مضللة لسياق سياسي، ينغمس حتى أخمص قدميه في دوامة الترهل والانحطاط، بالتالي، فالغناء هو الملجأ الميسر والممكن بأقل الخسائر، ومرآتنا لكل العالم أننا "سعداء"، بل حداثة القشور لمن لاحداثة له.

أولى مفارقة سوريالية، تحضرني بهذا الخصوص: تتمثل في كون المصدر الأول لثقافة الماكدونالد والفاست فود الغنائيين، تعود إلى تدفق أموال أنظمة البيترودولار، المشهورة أصلاً بمنظوماتها القروسطية.

فأن تكون مغنياً، تلك قضية شخصية. تغني أو لا تغني، شأن خاص، لا تتجاوز أبعاده القيمية دائرة الذات الواحدة، أما الارتقاء نحو مرتبة فنان، فبالمطلق تظل خاصية وجودية، ومخاض عسير وشاق ثم جدلية بين التجربة والنظرية.

إذن، وأنت تنتقل عبر الفضائيات العربية، سيبدو لك الزمن قد توقف تماماً، واحتشدت الشعوب مسحورة أمام الأجهزة التلفزيونيّة، ولم يعد لها من صنيع آخر في الحياة، غير ملاحقة هذا السيل العرمرم، العجيب الغريب، من مسابقات الفوز بلقب أفضل مغن أو مغنية.

هكذا، تدحرجت مجموعتنا العربية، من آفاق ورؤى قيم الاشتراكيّة والديمقراطيّة والتحرر، التي توخت اجتثاث الرجعيات المحليّة، وبناء الدولة الوطنيّة، إلى مجرد أصابع تلوح بأعلام مزركشة وحناجر تهتف احتفالاً بـ"قنبلة العصر الغنائيّة" غير المتوقعة، الذي أتى بالعز والنصر لأهله. وبما أن الانجاز قد شبه مجازا بقنبلة، فما أحوج العرب حقيقة وواقعاً، وليس غنائياً إلى قنبلة نووية تنتشلنا من دور الكومبارس وتدخلنا إلى نادي الكبار.

فما جدوى كل هذه الأسواق من البرامج؟ ماهو الهدف، المتوخى من طرف مروجي الفكرة، وهم يراكمون مغني "شُبّيكْ لُبّيكْ" كما يكدسون الأمول في الأبناك؟ ماهي الأولويات، التي يقتضيها الوضع الحالي للواقع العربي؟ المفارقة العجائبيّة الثانية، التي تحضرني: تشير، بالتأكيد أن هذا العربي، لازال يصارع كل لحظة، كي يتم الاعتراف به أولاً، ككائن يمشي فوق الكرة الأرضية، له حقوق بيولوجية لم يتمتع بها بعد، قبل أن يهتموا بإشباعه غنائياً حد التخمة.

الجميع يعلم، بأن آخر الأشياء، التي قد تخطر ببال الرسميين العرب، مفاهيم من قبيل الفن والموسيقى والثقافة عموماً، لأنها ضرب من الهرطقة وضياع للوقت، وأن هاجسهم الأساس يكمن في تعضيد مساحات كراسيهم بالجلد والسياط. بالتالي، إذا جابهوا باستمرار، منظورات التحديث السياسي بالسيف والقرطاس، وهي المنبت الطبيعي للثراء الفني والجمالي، فكيف، بالشعوب أن تشرئب توهما نحو اكتمال العقل الفني؟ المساران متلازمان، وكل اختلال في بنية أحدهما يؤثر سلباً على الثاني.

يبنى المجتمع أولاً سياسياً على لبنات مؤسساتية متينة، ثم يتم الارتقاء به فنياً. لذلك، ماسياق هاته البرامج قياساً للحلقة المفقودة بين السياسي والفني؟ المفارقة الخارقة الثالثة التي تحضرني، على ضوء القوالب التي تكد شركات الإنتاج من أجل تكريسها، ومن تم التسويق لوعي مأزوم: أنه بقدر، مايزداد الصبيب السخي والعشوائي لهذه البرامج، الفائضة عن الحاجة، المتوخى منها أصلاً تهذيب الحس الإنساني لدينا-الدور المفترض للموسيقى-، بقدر ما نلاحظ استفحال أشكال وتمظهرات العنف والهمجية، على امتداد الوطن العربي. وإذا، كانت دول قد التهمها الإكراه العسكري الدموي، فإن الأخرى التي تظن ناجية، ينخرها بدورها عنف رمزي لايقل ضراوة عن الأول.

الفن، تهذيب وارتقاء بسلوكيات وحواس وأذواق، الشعوب. سعي، يحتم تدبيرياً، توفير هياكل وأجهزة مادية، تفعّل واقعياً الروافد العملية لتربية الشخص جمالياً وإنضاج ملكته الاستيتيقية. بمعنى آخر، كم هي الأكاديميات الفنية الموجودة لدينا في الساحة العربية؟ ماهو، حضور الدراسات الموسيقية، بين طيات مناهجنا التربوية؟ ماحدود سخاء الأرصدة المالية والعوامل اللوجيستيكية، المخصصة للتأصيل الفني؟ هل من تراكمات جدية، قد خلقت لدى الأجيال المتعاقبة إشعاعاً فكرياً وروحياً؟ ثم، أي وضع اعتباري، يحظى به الفنان في مجتمعاتنا؟ ولماذا فقط الغناء، وليس مثلاً الفيزياء والرياضيات والاكتشاف العلمي والفلسفة وأوراش الكتابة والتأطير السياسي وغيرها من الحاجات الملحة للالتحاق بالعالم المتحضر؟

ينبغي أيضاً، خلق نماذج أخرى عتيدة لدى هذا الشاب العربي، غير فقط المغنين. أعتقد، أننا راكمنا ما يكفي من العينة الأخيرة، وعلينا الالتفات إلى مسالك أكثر جدية وتأسيسية، استفسارات وغيرها ، يختزل الجواب عنها، في انتفاء منعدم للمشاريع الفنية الصميمية، التي تتوخى بناء مواطنة المواطن.

لنأخذ كمثال بهذا الخصوص، البرنامج المغربي "ستوديودوزيم"، الذي تواتر إنتاجه كل سنة لمدة عقد من الزمان، ولنسقط على مساره، الأسئلة الواردة أعلاه. برنامج، يتحول معه المغاربة لاسيما الشباب، كل ليلة سبت طيلة أسابيع، إلى مسرنمين محلقين نحو عوالم ألف ليلة وليلة، حيث الجميع سعيد بالجميع. أقول، بأنه جاء مباشرة بعد الأحداث الدموية لـ16 ماي 2003، حينما تبين للمسؤولين، أن الفكر الديني المتطرف، بدأ للأسف يجد أعشاشاً له في عقول الشباب المغربي الحالي. كذلك، ارتفعت أصوات الرأي العام، محذرة من المآل المجهول، وبأن التحصين الأول والأخير، يتمثل في ضرورة تحديث العقول والأبنية ككل، بمنظومة تصب في العلم والفن بمفهومه الشامل ثم الحرية والعدالة؟ أما دون ذلك، فهو مجرد إكليشيهات واهية، لاأقل ولا أكثر.

أما آخر، تناقض سوريالي، يتحتم علي الإشارة إليه: أظن أنه من واجب منظمي هاته الكرنفالات التوقف للحظة، إجلالاً للشعب السوري الذي يتعرض للإبادة بكل المعايير، وهو من أهم الشعوب التي راكمت تراثاً فنياً كمياً ونوعياً.

 

boukhlet10@gmail.com

المغرب