تفتتح محررة (الكلمة) هذا العدد بكتابة طباقية مغايرة تنحو للكشف عن تعقيدات الثورة السورية وما أسفرت عنه من مطمورات الواقع وتحولاته. تمزج بين المشاهدة اليومية والتأملات المعرفية والقراءات، بين جغرافيا المدينة وشواهد التاريخ، كي يتجلى فيها اليومي عن أجمل ما في الإنسان، وتكشف ملاعبة الموت عن مكنون الروح.

حديث الرحلة الشاميّة أو فترة من الزمن

(منمنمات دمشقيّة)

أثير محمد على

في الخارج كاميون أصفر صغير، يضجّ مكبر صوته وينادي أهل البقاع المتناثرة على ضفتي "الوادي الكبير"، يدعوهم لعيد الربيع في اشبيليا. الصوت يعد بالشراب والحلوى وتعرق الأجساد في نهارات الرقص والليالي الملاح!! يعد بالغرام وغيبوبة الزمان والمكان!!

ارتعشتُ ارتعاشة عصفور علق على غصن الدبق، أرسلت ثوبي الفلامنكا للمكوى، وقلت للحبيب على باب منفاه: لا قارئ لي للأكتب.

أجابني من خلف ستره والحجاب .. فأطبقت بأسناني على شفتي حتى كدت أدميها. قلت: يا ابن المنفى لا قارئ لي لأكتب!! الطريق وطني، ودمشق الطريق كتبتني بأهلها في رحلتي الأخيرة إليها، ولم أستطع لكتابتها سبيلا!!!

وقال: أبهجني صوتك بعد الرحلة الشاميّة، اكتبي عاصف بهجتي. اقتنصيني، صيّريني قارئك، سطريني بين ناسك ناسي، أهلك أهلي، أدخليني إلى ضمير الجمع حتى لا تفرديني بنصل العزلة!! تذكري رفاة منفاي المرمّدة التي نذرتها ووزعتِها خبز صباح للأيتام والأرامل، والمهجّرين، والنازحين عابري السبيل عند فرن يقارب مثوى "سلطان العارفين" الشيخ محي الدين في "حي المدارس".. حلّي شعرك يا امرأة، تسلي بنشري على سطورك بين حبائل الكلمات، اتكئي على الماضي وأنت تترصدين، بلا شكوك مريضة، دفة السفينة وسط أعتى الأمواج في دمشق الفيحاء، توسدي حضوري الشاخص في معيش الدور والأزقة الشعبيّة، تملصي من عمرك وتخيّلي، كما تشتهي، أنك أكبر منك بسنوات مديدة. اكتبي تفاصيل الشبق وتلمظ الشهوة لحماماتك البريّة، وصعق قوانين الجدل ليومياتك المخطوطة بقلم الرصاص وأنت تقطيعن الزمن مع أهل الشام!! اكتبي خبرتي بمخدعك وتضاريس أحيائك .. انهضي مسرعة الخطى صوب مسكنك في الطابق السادس قبالة "جبل الرزّ" فوق ريح قاسيون .. واكتبيني!!

* * *

(1)

وأفضى بي البحث عن قارئ، لتسجيل ذاكرتي في دمشق المدينة، آن تشابك خطواتي بمعيشها، في رابع عودة لها منذ بداية الثورة، عودة امتدت من ثلجة كانون الثاني إلى أزاهير نيسان 2013.

في حقيقة الأمر، لم أنشغف في يوم من الأيام بالتمكّن من حبكة متقنة الصنع، تميل للتشدد والاقتصاد البيوريتاني في التراكيب والمفردات، لأنسجها على مدّ نصوصي. غالباً ما أقول لروحي: اتركي غمغمات الكلمات، دعيها تجيد لكنتك المتواضعة على وكفها وصعلوكها، وكوني أنت ودفق تشرّدك وغاب النص.

وصلت مطار بيروت الواحدة والنصف ليلاً، عن طريق القاهرة، قادمة من مدريد. أخبرني ابراهيم سائق التكسي أنه يفضّل التمهل إلى وجه الصبح للسفر بي إلى دمشق، وتحجج بانتظار فتح الطريق، بسبب ثلوج تراكمت على كاهل ضهر البيدر. حدّست، بيني وبين نفسي، أن تلكأه جاء لتمسكه بذلك الأمان الذي يخلفه تعقّب شقوق الضوء في النفس، وأعتقد أنه لم يكن يجافي الصواب!!

حسناً، لا أخفي أنني امتعضت من سيارة الدفع الرباعي المركونة على رصيف الواصلين لمطار بيروت، وأنا أتخيل أنها من تلك المستهدفة في الأجواء السوريّة، ولأقطع  التداعيات على لجّة هواجسي اتكلت على الله وأنا أتلفع قبعتي الصوفيّة، أتخيلها خوذة مضادة للرصاص. وأخذت طريق بيروت-دمشق مع سطوع الشمس الأول على "سلام الشرق".

انشغل ابراهيم بوضع إسطوانة السيارة على فيروز، وكأنه خمّن هشاشتنا المشتركة على الطريق الخاوي إزاء البرد. انهمرت ذكرياتي مع أخي إياد الذي توفاه الله قبل حين من رحلتي. فتحت كمبيوتري، وأخذت أبحث في رحمه عن صورة أخي الضاحكة: الخبز.. والله الخبز!!

في دمشق سيواجهني السؤال عن الكيفية التي قضى بها أخي، وكأن القتل هو الوارد البدئي في ذهن كل سوري أمام معضلة الموات، وانخفاض نسبة الإحساس بــ"الموت الرباني". وكان علي باستمرار شرح الطقس غير الرحيم، وكيفيّة وفاة أخي وحيداً بأزمة قلبيّة على درج الشغل .. وانقطاع الكهرباء في المشفى .. و.. و.. وأبو شادي يعطر جثمانه قبل أن  يرتحل لداره السموات.

أمسح بكفي على شعره الأسود الغزير فوق الشاشة .. تنزلق عجلات السيارة بفعل الجليد على مرآة الاسفلت، أتمسك بي، وأرى عيون ابراهيم تبتسم دون أن أراها، وهو يعدّل المقود فالعجلات.

أنزلت زجاج نافذتي، تشوّفت إلى المشهد المجلو. بياض على بياض يفعم الجرود ويفعمني بتجربة الأبيض. تنشّقت فيوض الثلج، ولم أجتهد في البحث عن التلوين، لمعرفتي أن كل ألوان الطيف تتناهى لرحمانيّة الأبيض الجليل. وأخذت أمارس عادة النبش في قيعاني، وفتح مغاليق ناصع يساكنني: فستان عرسي، روب صلاة أمي، الكفن، موبي ديك، بياض كازيمير ماليفيتش، العمى برؤية جوزيه ساراماغو، وطبشورة لوح طفولتي الأسود.

تبدّت تدرّجات البياض الطفيفة ومرتسمات ظلّها كرعشات فوق الأديم الثلجي، كما لو أن الأبيض يفرط بالشهوة. يتمرغ الأبيض على الأبيض، يبدد ذاته بالأبيض الآخر، فيصعب عليه الثبات عند مطلقه، ويبقى عالقاً على اللوعة واحتمال اكتماله بالحياة الدنيا، ولن يكتمل.

زرقة السماء جعلتني انكفئ راجعة إلى عجلات السيارة وهي تعاود الانزلاق بفعل الجليد على مرآة الاسفلت، يشدني حزام الأمان للمقعد، أرى عيون ابراهيم تبتسم دون أن أراها، وهو يعدل المقود فالعجلات، نتابع بين الثلوج المتضيّقة التي طمّت الطريق حتى حافة السيارة، ونقترب من الحدود السوريّة.

أمليت على السائق رقم حقيبة سفري السري، ليفتحها لعسكري طويل القامة، هزيل متهدل الكتفين. وتركت أشيائي وثيابي على مرمى بصريهما تمحصان في حميمياتي وداخلياتي. تراجع ابراهيم خطوة للوراء أمام حقيبتي المفتوحة، ولأكون صادقة، لا بد أن أبوح أن كشف الخصوصيّة ما انفك يهبني قوة غريبة لم أعرف لها تبريراً قط، ولكني لا أخفي أنني في سياق تهتك وجه الجندي، وسحنته المزرقّة الشفتين، لم أجد أمامي إلا الشفقة على روح لم أستطع تحديد هويتها: الشفقة عليه!! أم على أشيائي في حضرة حواسه!!

زوى العسكري بين عينيه، دسّ يده المعروقة متمهلاً، جسّ قمصاني، وبتردد زحزحها، توقف عند حنجور شفيف يحتوي حبوب بيضا متل التلج. أزحت غرتي إلى ماوراء أذني، وأضفت: حبوب للإمساك.. وابتسم.

ترك ابراهيم الحقيبة مفتوحة. قللي: لشو تسكيرها، والحواجز مليانة ع الطريق!!

* * *

(2)

"إن الكلام لا يكون موثوقاً، إلا حين تكون ثمة قناعة أن غايته الكشف لا الإخفاء" (حنة أرندت)

غالباً، أفكر أننا حين نقوم بشيئ أو بفعل ما، فإننا نساهم بخلق الظروف المحيطة والمحايثة لفعلنا (بما فيها من عاطفة وانفعال). وأن ما نعرفه هو ما نفعله. فالفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو معيار "الحقيقة". وشعرياً أفكر مع من يفكر أن الشيئ الذي لا نتحدث عنه لم يحدث البتة، وأن الحكي الكلام (بما فيه من عاطفة وانفعال) هو الذي يمنح الأشياء سمة "الحقيقة"!!

حكياتي تشيح الوجه عمن يعيث فساداً وقهراً وذبحاً وحرقاً في الأرض، ويعامل البشر معاملة الدواب السائمة، يعفر الكرامة ويقيم المآتم قبل الموت القتل، ويستبيح الحق بالحرية والتاريخ فهي معروفة للقاصي والداني.

حكياتي ليست أكثر من محاولة قول فعل تشابكي برشيم الضوء، وبحركة نماء عشتها على منسرح أرض مدينتي، الأمر الذي أجّج شعوري بوجودٍ منفتح ومنكشف يولد فيه إنساننا الجديد، رغماً عن الذئبيّة المترصدة، ومقاولي الحروب والتوسّع التجاري والطائفي، وخطاب التردّي والوعيد بكارثة حرب أهليّة محيقة تنزلنا لدركات عالم سفلي الظلام.

أقول أن لثورتنا السوريّة، على فرادتها، أعراض ومسببات وتداعيات تشابه ما لثورات الدنيا، "الشعبيّة" أو "الديموقراطيّة"، التي تحققت باسم "الحرية" ضد أقليّة سياسيّة تحتكر الامتيازات. تداعيات يستعرّ العنف في سقفها، ويرسب طين المزاودة وطمي تسلّق السموات الواعدة فيها من قبل البعض، إلا أن نسغها لا يفارق، ولن يفارق، نبالة المرام، والحق العادل فيه.

إضافة للالتزام الأخلاقي "الواجب الوجود"، مع القرابين الشهداء والحقوق الإنسانيّة والسياسيّة في سوريا، والذي يبرر بداهةً الدافع لإسقاط "النظام القديم"، أرى أيضاً أن التاريخ لزام علينا، ذلك أن تغييب الجدل السياسي والفكري طوال عقود، بما يعنيه من كرور الأوقات واستنقاع الزمان، وإعدام إمكانيّة التطور والتغيير السلمي المتدرّج المنظم، يشير إلى أن طي صفحة المافيا الحاكمة ومعها شيخوخة معارضاتها، هو ضرورة وحاجة لتجديد التاريخ ودفقه وتناقضاته وصراعاته. ولا أعني هنا وصفة تتحقق بعصا سحرية تقلب الأمور بين ليلة انهيار طغمة فاسدة وضحاها، فمجريات الانتفاضة وجبروت تشعباتها السياسيّة والميدانيّة يشير لمسار قد يطول حتى تخرج بلدنا سليمة معافاة، وبكيفيّة أخلاقيّة سياسيّة جديرة بالفعل الثوري الذي انطلقت منه، وقادرة على توطين الحرية، ومتابعة الحراك الشعبي، حتى تتخلص ممن ينهش بها من جهات الأرض السلفيّة والإقليميّة والدوليّة. ولا أنكر مخاوفي من استمرار فوارات الدماء السوريّة في القادم من الأيام، وأنا أفكر بفرضيّة المؤرخ كرين برينتن في دراسته "تشريح الثورة"، آن يستبين من "علم الأمراض" (ما لم يتبدى لـ"الحكيم-الرئيس") كيفيّة تماثل مسار العمليّة الثوريّة مع الخط البياني لـ"الحمى المرضيّة"، حتى أنه يرى أن "بُحران الثورة" قد يصل بعد سقوط السلطة الحاكمة لأزمة مصحوبة بهذيان وهياج مصدره وصول الأكثر تشدداً لإدارة البلاد، ويكون عهد تطرف، ومن ثم تنتاب "حمى الثورة" انتكاسات (وانقلابات سياسيّة) عدة، إلى أن تصل أخيراً لمرحلة النقاهة والتعافي من العهد البائد (النظام القديم) وأعراضه المستفحلة.

إلى جانب ذلك، أحاول أن أستدل من كتابات ايرك هوبزباوم عن الكيفية التي انتهت فيها تواريخ القمع والفقر والإذلال .. أقلب صفحات وجهة نظر حنة أرندت "في الثورة" و"في العنف"، وأتوقف عند مقاربتها النقدية لآراء جورج سوريل وفرانز فانون حول ممارسة "العنف"، من حيث علاقته بالتحرر وخلق الحياة الجديدة.

أترك الكتب جانباً، وأرجو أن تكون للسوريّة فينا مؤثرها المفرد في صيرورة التغيير وفعل الحرية، كي نتوصل إلى ذاكرة عادلة، غير مثقلة برغائب النقمة والانتقام، ذاكرة يخرج بها جمع السوريين من التاريخ الاستبدادي الشقي إلى أفق جديد يؤرشف عقود الطغيان ويوثقها، كي لا يتم نسيانها والتلاعب بها، وقطع الطريق بذلك على كتابة سردية تسلطيّة أخرى.

قبل أن آتي على ذكر بعض مما صادفني على الطريق، أشير إلى أن "السوقة الرثة" من شبيحة ولجان شعبيّة وميليشيات طائفيّة، ومن لفّ لفّهما من "الأوباش الخارجين عن دائرة الحدّ والقياس"، هي المنتج التاريخي لأكثر مراحل الاستبداد تفسخاً وشراسة. يوظّف رعاع "السوقة الرثة" ضد أهل وطنهم وأبناء جلدتهم من بسطاء الناس، وهم على أهبة الاستعداد للانقضاض التمساحي المنظّم والممنهج من قبل أعنف جماعة حاكمة ضد شعبها. ويسعى جهّال مسوخهم إلى تحويل الحراك الثوري إلى صراع غوغائي طائفي، والانقياد لسلوك فاشي هوجائي، واختلاق "الفرهود" السوري الذي يطال الأخضر واليابس. كما أن "السوقة الرثة"، بالمنطق الفرانكينشتايني، قابلة للخروج عن المرمى التي خُلِقت لأجله، والإيغال في القرصنة والسحل والذبح الجماعي لحسابها الخاص، إلى جانب أنها عامل مهم من عوامل تأجيج الثورة المضادة لاحقاً.

* * *

(3)

"لم نصنع الثورة، ولكن الثورة صنعتنا" (جورج بوشنر)

في كل مرة أصل دمشق أعيد برمجة تحركاتي بناء على طبائع الانحصار ومصارع الأخطار.

في بحر الأسبوعين الأولين من وصولي إلى بيت أمي في مساكن برزة، تعتمت عيناي لتهافت أخبار الأسى من الحارة مكفّنة بأسماء ووجوه مألوفة المرتسمات: خطف وائل السمّان، وياسين صاحب المحمصة، وابنه غسان بائع الموالح لاحقاً، وانفجرت عدة عبوات ناسفة في سلات القمامة المعلقة على أعمدة كهرباء بين الشارع الفوقاني والتحتاني، وتفجّرت بلهيبها واحترقت قبالتي سيارة يقودها ابن الجيران في البناية الثانية، بينما كنت أنزّه الأحداق بين نجوم سارية في سماء الاحتضار من شباك المطبخ.

تعوّدت عند الصباح، ملاحظة حركة السرفيس من النافذة، أقرأ سريانها كشريط إخباري، ذلك أنني حدست أن مرورها يشكّل وشيجة توثّق صيرورة الحارات ومصيرها، ومؤشر دال على ما يمكن تسميته، تجاوزاً، "الأمان" في الشارع، وذلك بغية تحقيق مواعيد اللقاء مع الأهل والصحاب، وأماكنها، التي تتحكم بها مستجدات الحالة الأمنيّة، الأمر الذي يجعلها عرضة للتعديل والتغيير أو الإلغاء باستمرار.

لم يتبق إلاي وشابة في مقتبل العمر، والشوفير طبعاً، مع دنو السرفيس من برزة البلد قادمين من حاميش، حين هرع ثلاثة شبان لقطع الطريق أمامنا، وأُمِرنا بالعودة من حيث أتينا.

السائق: بس الآنسة لازم توصل ع دوامها بالمدرسة!!

- ارجاع!! ما فيه دوام ولا فيه مدرسة اليوم.

صرخ أولهم، وفي عينيه الجاحظتين إزماع، قرأت فيه تصميم على التحطم لا على التحطيم. وهرول موتوراً وغاب بين البيوت.

خمّنت أن الصبية الجالسة في المقعد الأول هي المقصودة بالآنسة-المدرّسة. وبقوى واهية سألت نفسي: يا رب وين اختفو العالم؟ وين راحو؟!

لم يجادل الشوفير، ومع دوران العربة شيّعت بعيني في جادة فرعيّة جثة عسكري مربوطة كجنين وشابين يدوسانها ويركلانها بأرجلهم، يستنزفان بقاياها فوق تربة مطيرة. تمشّت قشعريرة باردة في جسدي، ولم يتبق في ذاكرتي من تلك الصورة، إلا صوت أحدهم من أول الجادة إياها يبتدر بصرخة مذبوحة تستمطر الرحمة:

- والله ما بتجوز عليه إلا الرحمة!!

وتأكدت حينها أن الجسد الهامد المطروح أرضاً لا حياة فيه.

انصبّت رشّات رصاص عنيفة في عمق بعيد. أخذ السرفيس ينهب طريق الرجعة، وران صمت مجهض بيننا: الشوفير، المدرّسة، وأنا. تجاوزنا حاجز "ديب زيتون" مع غيرنا من السيارات والشاحنات والحافلات، ودون أن نتفوه ببنت شفة مع الركاب الآخرين الذين انضموا الينا تباعاً على طول الخط.

* * *

التيار الكهربائي مقطوع.

مع أول شحوب الشعلان، قفلت عائدة إلى سوق الحمرا. كان الرصيف يرتجف على وقع المولدات الكهربائيّة، والباعة على عتبات المحلات تتلامح اكتظاظ الشارع بالحركة المشحونة بالقلق، بينما الغبشة تلّف المشخصات، تتفرس فيها كما لو أنها كائنات راحلة.

انصبت خطواتي في ساحة يوسف العظمة، وكالمعتاد ناداني رجل أمن وفتش حقيبتي اليدوية. تجاوزت سوق البحصة للالكترونيّات والرقميّات إلى جامع الورد، وأوغلت بحارة ساروجة باتجاه جسر الثورة حيث تتجمع تحته بضعة سرفيسات لشرق، وشمال شرق المدينة.

وأضحى زمن الضوء زفرات تتصاعد كحشرجات من مصابيح سيارات تشقّ الشارع.

وبينما أنا بانتظار سرفيس يقلني إلى أوتستراد ثاني-حاميش، أخذت أستقري وجوه الراجعين إلى بيوتهم في شارع بغداد، العباسيين، زملكا، جوبر، القابون، برزة البلد. وفكرت: تتكدس السرفيسات بنا، وباحتمال نعينا، وتفرقنا للقدر المسائي بعد استنفاذنا لحدود الممكن النهاري ونحن على قيد الحياة.

أقلعت من أمامي عدة سرفيسات، ولم أقدر على الانضمام إلى ركاب أية واحدة منها، لفشلي بفكّ سرّ المطاحشة والمزاحمة رغم إيقاعها المتمهل نسبياً هذه الأيام. خفّ الزحام وقلّت المركبات تباعاً، وأسدل باعة البسطات الستار على مسرح بضاعتهم ورحلوا.

بدأت أجترّ مخاوفي مع اقتراب الثامنة، الثامنة والنصف، فالتاسعة مساء.

- وما أدراك ما التاسعة مساء بالتوقيت الشتوي في "دمشق الحرائق"؟!!

شرعت أقبر في ذهني فكرة العودة لبيت أمي بالسرفيس، وأقنع النفس بالسير على الأقدام، أو بالإسراء وحتى بالمعراج.. (طبعاً التكسي غير وارد على الإطلاق في تلك الساعة).

- اللهم سترك وبك المستعان!!

وصل تفكيري بطرائق العودة إلى غيابة "أهل الخطوة" آن انقذف سوزوكيان في دائرة بصري، وغيّرا مجرى حديثي بيني وبين نفسي تغيراً جذرياً، خاصة أن صندوق إحدهما حاذاني تماماً وحدق بأفكاري المرتقبة.

تعالى صوت الشبح الشوفير من العتمة يقرع قلبي بمطرقة صدأة:

- يا جماعة عم بينزلوا الناس عند حاميش، وما عم يخلّوا حدا يكمّل. وما عاد يجي ولا سرفيس. وعم بيقولوا إنوا فيه مداهمات ورا المشفى على أبو جنب. يللي بدو يوصل ع حاميش هي السوزوكي تحت أمروه وأجرته بأجرة السرفيس فرد شكل.

أطبق ثقل الكون فوق كتفي دفعة واحدة، وشعرت بالشلل في أطرافي:

- بالسوزوكي!!! والله ما خطرت ع فهلوية تلافيف دماغي قط!!

وعلى حين غرة، شعرت بذراع قوية تلفّ خصري، تنتشلني من ثقلي، وتصيرني بخفة ريشة وتطيّرني معها ومع الجموع إلى صندوق الشاحنة الصغيرة.

انعجقت بعزيمتي الجديدة بين الحشد، التفتت وأخذت من امرأة بدينة صغيرها المعروك الشعر، بينما أذرع الرجال تشدّها لفوق إلى جواري، انزلق الوشاح الأسود عن رأسها وسقط على الأرض، وبالكاد انحشرت معي وظهرها لي، شعرت أوصالها تتحشرج ذعراً على صغيرها، ومع عدم تمكنها من الاستدارة نحوي لاسترداده، ملت نحو أذنها والسرفيس يتحرك بنا:

- يا اختي رح احمل لّك ياه، ما تاكلي همّ.

لم تند عنها إلا أنّةٌ وضعَتْ فيها كل أعبائها وهواجسها السود، وتمتمةٌ تهدجَتْ فيها بشعورها الديني. وسكن الطفل بين ذراعي وتوقف عن بكائه المفرط حين اهدودرت سوزوكيتنا السوريّة وسط أسراب الظلام، وأخذت تقرقع فوق اسفلت السبيل.

أما هو، فما انفكّت ذراعه اليمنى تطوّق خصري، تحميني من السقوط من حافة الصندوق، بينما تمسّكت يده اليسرى بسياج السوزوكي الحديدي.

- هل كان يتملى مفاوز خيبتي في ارتقاء السرفيس؟ هل كان يزرع نظراته فيّ على الرصيف تحت الجسر؟!!

دخلنا نفق الثورة، وخرجنا منه إلى حي المزرعة، الذي كان على موعد مع الانفجار الانتحاري بعد يومين اثنين. انطلقنا في أوتستراد الفيحاء، هبطت درجات داخلي، وخلته يجذبني إليه، كانت بواكير هواء بساتين الزيتون الليليّة تلفحني مختلطة بريحة الأطفال من الجسد الصغير في حضني.

* * *

.. وتصدى دمّر البلد والمشروع بترجيع معدني لقصف هاون يمزق السماء، وصليل راجمات تتلاحق محاولة نهش الأفق اللانهائي في جهات داريا والمعضميّة.

صادف خروجي صباحاً مع موعد تدفق الطلاب إلى ثانوية يعقوب الكندي.

 - يفتنني تردّي الفتيان في حيرة المنطقة الظليلة ما بين الطفولة وحمى البلوغ.

مشيت باتجاه الجسر المؤدي لمدخل مشروع دمّر، وتركت عن يساري القاطرات والشاحنات الكبيرة التي مابرحت منذ أشهر تحمل أثاث بيوت أكراد جبل الرّز، لنقلها إلى الجزيرة. وعند المفرق قرب المؤسسة الاستهلاكيّة وقفت أنتظر سرفيس وادي المشاريع مع غيري من أهل الجيرة.

وصل السرفيس، وما هي إلا أمتار حتى كنا نصطفّ في الرتل أمام حاجز الوزّان العسكري المحصور بمحال عقاريّة منخفضة العلوّ.

تعلقت عيناي بالمرئيات اليوميّة عينها: الكومجي يفرغ من لحام آرمة ويفاصل على السعر؛ الخضرجي يرتب سحارات البندورة، والبرتقال؛ الحلاق منهمك بالحكي وقصّ شعر الزبون، شغيلة ورشة البلاط ومعمل البلوك يرتشفون الشاي؛ بضعة كلاب شاردة تفتش بين النفايات، تقضقض بقايا عظام نتنة مطروحة؛ ظلال طولانيّة لأشجار حور ترتعش على غوارب بردى، واحتمال سيارة مفخخة أو تبادل إطلاق رصاص حاضر أبداً على مساحة المشهديّة.

أخذت أبحث عن بائع القهوة المتجول كثيف الشعر.

كنت قدرت، مما يندلق من سمرته وفحمة عينيه، أنه لا يتجاوز الـ13 سنة، إلا أن أنواء الأيام التي حفرت في جبهته العريضة أثلاماً، جعلته يبدو أكبر من هذا العمر. لعلها، أقصد التجاعيد الجبهيّة، وراء زئبقيّة حركته الواثقة وانسيابيتها العجيبة، أو لعل أجنحة هرمسيّة خفيّة رُكِبت على صندله المستورد من سوق الصين العظيم.

دائماً ما ترتدّ حركته في عيني بالسؤال:

- كيف لقامته الرهيفة كغرسة ضامرة في بدايتها أن تقوى على حمل أحلامه؟!!

يحضّر تنويعات القهوة في كشكه المحمول بحرفيّة غير خادعة. وبسرواله الواطئ الخصر، والمزمزم بحزام ذي بكلة معدنيّة، يخبّ من جانب لآخر بالكؤوس البلاستيكيّة بين عساكر الحاجز، والشوفيريّة، وركاب السيارات والباصات، وزبن المحلات التجاريّة.. يختصر زمن انتظارنا الطويل على الحاجز بحضوره الكاسح وعبق قهوته المغليّة.

تقاسمت المقعد في السرفيس مع شاب، احتضن ابنته الصغيرة وأجلسها فوق ركبته. بالكرديّة  تحادثا، وبين الحين والآخر، كان الأب يربت على رأسها، يفرك لها أصابع قدميها النافرة من شحاطة البلاستيك، ويعود ليشدّ لها ربطة زهرية فاقعة جمعت شعرها المحمر على هيئة ذيل حصان. خمّنت أنها من الشحاذات الصغيرات المنتشرات في مركز المدينة، وأنها في طريقها للشغل مع الصباح.

لملمت الأجرة من الركاب وسلّمتها للشوفير، بينما كان هذا الأخير يحاسب القهوجي عن قهوة ثلاث أيام ماضية على الحاجز.

أحدهم أخبرني أن بائع القهوة المتجول، قبل انتقاله مع عدته إلى حاجز الوزّان في دمر البلد، كان يشتغل في قدسيّا، وتشكّل زبائن قهوته حينها من الجيش الحر، والشوفيرية، وركاب السرفيسات والميكروات، وعابري الطريق .. والطريق للسوريين، فهي مطبوعة بآثارهم ووقع خطاهم، يستهدي بها العابرون الجدد.

لم يستطع عسكري حاجز الوزّان الشاب فتح باب السرفيس الجانبي بسهولة، فتطلع للشوفير:

- يا زلمة لسه ما صلّحت هالباب!! الهويات يا شباب.

قبل أيام حصل إطلاق نار ليلي على نفس الحاجز، جفّ ماء الحياة من وجوه عناصر من الجيشين، وكانت زمزمات أمواه النهر شاهدة على الواقعة.

أخيراً، أدار السائق مفتاح السرفيس، وإلى متراس منحنى الربوة انطلقنا حيث البيك آب المزودة بدوشكا، وصوب منتزه منشيّة الركن الأبيض راحت العجلات تتلوى مع صَبا بردى، وتئزّ فوق الطريق الخاوية، المنصَّفة بإطارات الكاوتشوك، وغدت الأشجار تتراكض بالاتجاه المعاكس.

صدحت الأغاني الكردية من المسجلة وعلا لغط الركاب، الأمر الذي عزّز اعتقادي بأنني الراكبة العربيّة الوحيدة في السرفيس. وتخيلت مع سخاء بردى، أنني في سهوب قمح، وحتى على ضفاف قصب بري، وأن الخابور يتمشى بي بين منتزهات الوادي.

فتحت عيني مع شعوري بالدقائق. وبلمحة بصر فصم رجل يصطاد في النهر عرى حواري الخابوري. وأدرت رأسي للتأكد من المشهد المنخطف خلفاً..

- يصطاد في بردى؟ ومن إيمتى بردى فيه سمك؟؟!

كيف لي بتبرير لامعقول يفرض نفسه برؤية العين!!

حسناً!! قلت لنفسي. وأردفت:

- ما هو الفارق بين لامعقول رجل يصطاد في نهر بردى، عن لامعقول كشّاش حمام أبصرته على سطح بركن الدين يلوّح لسرب حمائمه المحلّق على علوّ منخفض فوق الفيحاء، بالتزامن مع طائرات معدنيّة تخترق الأجواء، تلقي بقنابلها الحراريّة، كما لو أنها تتغوط في السموات، قبل أن تقصف الغوطة الشرقيّة!! ما الذي يدعوني لتكذيب ما رأيته من غرابة أطوار، وأنا متأكدة أن الصدق يرفأ في الرؤية وذروة الشهوة للحياة في شامنا!!

من ساحة الأمويين، غذّ السرفيس السير إلى "جسر الرئيس"، الذي ينتظر اسم حريته. استأنست بفكرة حضرتني من مثال الحكم الديكتاتوري في اسبانيا، أيام كانت الشوارع الرئيسيّة في المدن والبلدات والضياع تحمل اسم "الجنرال فرانكو"، ومع أول الخطو في التحوّل الديموقراطي أصبح اسمها "شارع الدستور".

وصلت الجسر، وتهت بين قفير البسطات كل حسب تخصصها: الدخان، الشموع، العطور، الشواحن الكهربائيّة، الرموت كونترول، الساعات، واقي الموبايلات، القشاطات، الكتب، المحافظ اليدويّة، البالة، الخبز البايت، البزورات، السمسمية، القباقيب السكرية، الراحة والبسكوت..

أما المرأة القزمة فتقف إزاء السيارة المصفّحة المتمركزة فوق الجسر من جهة أبو رمانة، قبالة قصر الضيافة القديم، تغطي رأسها بحجاب وترتدي مانطو قصير يصل كاحل القدم، لها فم عريض مسجى بابتسامة ساخرة، وجبهة تضاهي السماء، ويدين تبيعان العلكة.

* * *

طلعت بأول باص-ميكرو مرّ من أمامي بعد حاجز شمدين بقليل. ترك لي شاب يجلس بجوار صبيّة مقعده في الصف الثاني. حدّست أنهما في طريقهما معاً للجامعة من المريول الأبيض والكومبيوتر المحمول.

طفق الميكرو يسير بنا إلى الميسات، فساحة عبدالرحمن الشهبندر. زحزحت جذعي قليلاً كي التقط أبعاد مرتسماتي والركاب في قرار مرآة معلقة أمام السائق..

- بديعة!! أكيد الشوفير صمم المراية عند شي نجّار تحفة!!

تأطرت المرآة ببرواز خشبي مذهّب، ومصمم وفق طراز الروكوكو، بلفائفه النباتية وزخرفه المتوهج، وبأبعاد كبيرة نسبياً، فالمرآة تمتد طولاً حتى منتصف الزجاج الأمامي.

تتمازج ألوان وأصوات الميكرو، وحتى موحياتها الغيبيّة، وتصطخب في مرسح الفرجة داخل كادر المرآة.

 - والله ولا الفن السابع!!

تتقاطر الشخوص في الميكرو ويضاعفها بلور المرآة. الممثلون في قعر الشاشة-المرآة هم جمهور الصالة-ركاب الميكرو مع الشوفير، والعكس صحيح.

وبينما نحن، جوق السوريين، نشهد إطلالة جمعنا على بعضنا البعض، ونحملق في عجقة صورتنا في محتوى المرآة، كان طراز الروكوكو الذي يحبسنا ينزاح عن معياريّة ذائقته، ويتحرر من شكليّة سراب رفعته، إلى قبض ريح لعوب قوامها تلقائيّة تكويننا في مشهديّة المرآة.

يومها، حاولت الاتصال بالنجار أبو مروان بحرستا، يللي فصّلت في ورشته موبليا بيتي، حتى مراية غرفة النوم، لأعرف وين أراضيه وأطمئن عليه، بس الموبايل دائماً مقفل أو خارج التغطيّة...

أذكر أنه في اليوم الذي أحضر فيه قطع الموبيليا لتركيبها في مسكني، طلب مني سجادة صلاة. قلت له هل تنفع البطانية، أجاب: تمام!! وصلى لسبحانه تعالى في الصالون كي تعجبني تفصيلاته، فأعجبتني سبحان الله كتير كتير!! وتعاهدنا على صداقة بلا سندات ولا تواقيع ممهورة.

منذ ذلك اليوم، أقصد من يوم محاولتي الاتصال به، كلما مرّ المعلم أبو مروان على عتبة ذاكرتي ليلقي سلامه المعهود، تطبق مرآة مشروخة على صدري وتروح تنزف سويداء تصوراتي من بروازها.

* * *

منذ الصباح لم يتوقف القصف المسعور من قاسيون على جنوب دمشق.

تملصت من الوقت المتبقي لموعدي مع سائق التكسي أبو محمد، ودخلت جنينة المدفع (حديقة الشيخ الرئيس ابن سينا) كانت الساعة تشير بعقاربها للثانية بعد الظهر. وضعت كيس مشترياتي إلى جواري على المقعد الخشبي المواجه لمقهى تراتوريا، وأخرجت مسرحية "موت دانتون" (1835) لجورج بوشنر (1813-1838) من حقيبتي أعيد قرأتها.

ميّزت عجوزاً يمكث في الركن الذي سقطت قربه قذيفة منذ مدة، تلامحتُ فيه تلك الرغبة بالانفناء في ضجة الحديقة الدائبة.

تعتمت مرئيات الجنينة آن أطرقت طرفي في المنظر المسرحي الذي وصلت لعنده، كانت سكينة حزينة ترتجف بين الكلمات، وشعرت بمرارة الدفلى على السطور. وقال دانتون: "حيث يتوقف الدفاع عن النفس، تبدأ جرائم القتل"، وتابع حواره مع روبسبير وهو يجوّف حفرة عدمه، ويتأمل في محنة الاختيار والحتميّة.

داومت على قراءة الزمن الدرامي، الذي غدا غولاً لا يعرف الرحمة، إلى أن امتدت إلى حنايا استغراقي طوشة يمور الشباب في شرايينها. رفعت بصري عن السطور، كان لفيف من الشابات والشباب يفترش حشائش أمرعت إلى جانب تمثال ابن سينا. التصقت كل صبية بصديقها بجرأة وتفتح لم أعهدهما من قبل في مدينتي (على الاقل ع المكشوف)، وبدأوا بتقاسم السندويشات والعصائر، والأحاسيس المتحفزة والمنطبعة على الوجوه، ولم يقصروا في الأيادي التي رغبت أن تستشعر. لابد أنهم انصرفوا من الدوام الجامعي إلى الميعاد في الحديقة الصغيرة.

تململت ثلاث سيدات-خالات دمشقيّات عتيقات حرجاً من طلاب الجامعة. وتبدّى لي أن الخالة، أصغرهن قامة، الجالسة في الوسط، كانت تعلن وهي تشير بسبابتها المعقوفة، تقريرها الأخلاقي الذي يطال الشباب الجديد، بينما أصغت السيدتان المرافقتان لها بجدية تدعي الحزم، رغم أنهن لم يتركن سيرورة المشاهدة من متابعتهن، فتفقدنها بين الفينة والأخرى، ليعرفن لوين رح توصّل!! بينما قناع بوشنر يقول على لسان دانتون: "تمنيت أن أكون بعضاً من الأثير، لكي تستحمي في موجي، وأتكسر على كل موجة من أمواج جسدك الجميل".

انبعجت أجواء السماء من عنيف دوي سمع من جهة المشرق هذه المرة. نظرت في عقارب ساعتي التي استحال زحف الدقائق فيها يقضم الأعصاب:

- تأخر أبو محمد. اللهم اجعله خير!! أكيد فيه زحمة ع حاجز الصفصاف!!

عدت للتكمش باللحظات المومضة التي لطلاب الجامعة عند نصب ابن سينا. وأحالتني روائز شعريتهم إلى الحب في زمن الثورة المكتوب من قبل عشاق جنينة المتحف الوطني: أيقونة الغرام الدمشقي الأجمل هذه الأيام .. ورواء عري المشاعر، في اللحظة الحاضرة، بين النوافذ البازلتيّة، والبقايا الحجرية والدوافن الأثريّة...

- يتهاوى العرف، والشوق الكسيح بنشور أحبة اليوم في دمشق "الدار المسقيّة".

* * *

وأمسى الزمن تابوتنا في دمشق. وأصبحنا نهرّب الموعد مع الأصدقاء والأحبة عبر الحواجز، والقنص، والقصف، والقذائف، والتفجيرات..

الموت يحاصر مواعيدنا. يشير بأصابعه للقيانا. نستوعبه على مضض. نطوي خرائط المدينة في القلب باتزان عجيب، ونمضي إلى الطريق، ونلتقي.

جفالى يهزنا شعور غريب حين نسمع أخبار سقوط قذائف أخطأت زمن مرورنا من المطرح الفلاني، فوقعت بعد ربع ساعة أو ربع ساعتين من عبورنا. نتحسس صورتنا في المرآة بعد سماع خبر موت حارس المبنى الذي كنا نود دخوله قبل حين. ونتأكد من أن أرجلنا مازالت لنا، ونحن نسمع بتر ساق مَنْ مضينا من جواره..

الشمس دافئة بما فيه الكفاية كخلفيّة مشوار يبهر الأنفاس مع روح الشتاء الدمشقي، وإطلالة صديق يصطحبني معه، يقف بي تحت شباك زنزانته في القلعة، يحكي وأصغي. نصل البذورية ونمارس طقوس شراء صابون الغار وملبس المولد النبوي. نلج خان أسعد باشا ننفض القبة السماوية بنظرة، ونحب المروج المغرقة في الزرقة والقدم.

يتركني .. أبتسم .. أصعد درجات الباص وأعود لبيت أمي.

* * *

بسبب الأحوال الأمنيّة، وعدم استطاعة قاطرات الزبالة من عبور مناطق القتال، تم تغيير مكان مكّب النفايات من نجهة إلى جبل قاسيون. ومدري مين خطر ع بالو من "الجهات المختصة" أن يحرق المزبلة، الأمر الذي جعلنا، لأكثر من ثلاثة أيام في مساكن برزة، نستاف رائحة دفراء من دخان متصاعد دومته الريح فوق أنفاس الحارة.

وعلق الخضرجي:

- إي والله افتكرت الدخنة فوق الجبل شي انفجار نووي.

مفاده، خرجت من بيت أمي في مساكن برزة، لموعد عند موقف الباص في ساحة باب توما مع صديقي وقريبي علي، بعد مرور أيام قليلة على تفجير المزرعة (الذي نتعارف، أهل دمشق، على تسميته بـ"تفجير الحياة" نسبة لمشفى الحياة الذي وقع التفجير إلى جواره)، والذي تزامن مع ثلاث تفجريات انتحارية (وربما أربع) زلزلت مساكن برزة (إحداها شاهدت عمود نيرانها ودخانها الأسود من النافذة، لحدوثه عند مخفر الشرطة المحاذي لمدرسة شفيق السادات الابتدائية وفرن الخبز)، ولم يهتم أحد بالإخبار عنها بوضوح، ولا عن المعارك الطاحنة الدائرة في الحواري والبساتين المحيطة إلى ما بعد الخامسة مساء، حتى أننا، سكان الحي، توخينا الابتعاد عن الشبابيك مخافة رشقات النيران المتطايرة، وعدد من الجيران افترش كريدورات البيوت لقضاء الليل.

المهم، أنني خرجت من البيت العاشرة صباحاً، وبما أن السرفيس لم يعد يلتزم الخط المرسوم له لانقطاع حركة المرور في شارع الثورة - منطقة المزرعة، قررت أن أركب أول سرفيس يمرّ من الشارع باتجاه العباسيين، وكان ماكان وقضى فكان. أوقفت سرفيس كتب على لوحته "التل"، والذي يفترض أن رحلته يجب أن تكون بالاتجاه المعاكس، وتنتهي على الرصيف المقابل لمشفى الحياة.

سألني الشوفير:

- لوين؟!

- ع باب توما!!

أشار برأسه، فصعدت، وتابع:

- ع كراجات العباسيين ومن هنيك، إختي، خدي سرفيس تاني، أو اقطعيها مشي بين الحواري أحسن لك .. يالله!!

دخلنا بين أزقة وزواريب مساكن برزة بخط بياني له شكل الزيك-زاك. وكانت العربة تتوقف مع أية إشارة يد من راكب أو راكبة ع الطريق، فيبادر الشوفير بالسؤال المكرور: "لوين؟" ويأتيه الجواب، فيرفض أو يقبل الراكب معنا فيما لو توافقت سفرته مع وجهتنا.

أحدهم انتزع منّا، ركاب السرفيس، ابتسامة مريرة، حين رفع يده ملوحاً بعد أن قرأ لوحة السرفيس، فتوقفت المركبة عنده بدعسة فرام مفاجئة. سأل الشوفير:

- لوين أخي؟

- ع الحياة!! (يقصد المنطقة التي يقع فيها مشفى الحياة والتي يفترض أن تنتهي إليها رحلة السرفيس)

فرد الشوفير ومشهدية التفجير الانتحاري ماثلة في هواء المدينة:

- إي أنو حياة هي؟!! لا عمي .. ع كراجات العباسيين رايحين!!

وصلنا الكراجات: عالم العوالم، حياة تتجاهل قوانين الفناء، وحركة دائبة تربض عندها العربات المتنقلة، والبسطات المفترشة، وأشياء المعترين والأسى الدفين.

على الأرض تتجمع الحقائب المحملة بسير الأحياء والقتلى، والأمتعة المغلقة على معنى الجنائز والمجازر .. وهنا وهناك يسمع صريخ الهواتف المحمولة، ونداءات المحن المجهولة. أما أحشاء القهر فتلفّ مع سندويش الفلافل والحلاوة والبيض المسلوق والبطاطا المقلية وسودة الدجاج المتبلة. وفي غورية الأبعاد رائحة شواء ع الفحم يختلط بنسيس محرقة بشرية في الذاكرة، وحرقة الفراق القسري في الحافلات وباصات الهوب هوب القادمة من فجاج دير الزور، والرقة، وحماه، وحمص..

في لحظة العنف الراهنة تتجلى محطة انطلاق باصات العباسيين الدمشقيّة كما لو أنها الحالة النقيض لساحة جامع الفنا المراكشيّة في المغرب.

تستخلص ساحة جامع الفنا وجودها من ديمومة "التراث اليومي"، فتحوّل أداء الهامش النافل لفرجة تحايث المتعة. بينما تستخلص كراجات العباسيين وجودها من المؤقت، والطارئ، والمفصل الزمني الغفل، فتحوّل معيش المعبر-الكراجات لفرجة تحايث "الخوف والشفقة".

ويتحقق الكاثارثيس في "الهنا والآن" لديمومة الباحة المراكشيّة وعزيف جنّ فرجتها العجيبة المدهشة، ويتحقق كذلك في المحطة الدمشقيّة حين العبور بين البشر، والتماهي معهم في بؤرة الـ"هنا والآن" .. هو التماهي مع المقيمين، والمسافرين، والنازحين، والمهجّرين من الجهات السورية كافة، محملين بذاكرتهم وفجائعهم بين طيات الثياب والفرشات واللحف والمواعين القليلة التي رافقتهم من الديرة والدور المتروكة.

نزلت من السرفيس كي أتابع سيراً على الأقدام إلى باب توما وفقاً لنصيحة الشوفير. خطوت باتجاه الرصيف المرتفع، حيث علت لوحة دعائية كبيرة زاهية لعصير برتقال. تلامحت سائل بول رفيع ينسرب تحتها. وبعفوية، خلعت جاكيتي وجعلتها ستارة تحجب صغيرة أقعت تحت الإعلان للتبول، وأحاطت بها رفيقاتها الثلاث ليسترن تبوّلها.

لابد أن البنات البدويات وصلن دمشق، والصغيرة تحاصرها المثانة كما دجّ الانفجارات الحارقة المسموعة من جوبر، استنجدت بأتربها، فتحلقن حولها كطوق الحمامة.

تعربشت عيون الصغيرات علي بارتباك وأنا أفرش جاكيتي حول أكتافهن الضيقة، ابتسمتْ، فهدأت عريكتهن الدفاعيّة. سألت:

- من وين جايين؟

التزمن الصمت. كانت الإشاربات المتضيقة على خدودهن الصغيرة، تجعل استغراق العنب الأسود يتبدى في التماعة عيونهن المدورة. رفعت الصغيرة المقرفصة طرفها الدامع نحوي لبرهة واجفة، ثم عادت وأطرقت في شَخّتها المنسربة على بلاط الرصيف. لم أعد للسؤال مرة أخرى. اكتفيت بابتسامة مطموسة الملامح، وأخذت أتطلع إلى لوحة الإعلان، وانتابني الشك في صواب ردة فعل حرصي عليهنّ. انتهت الصغيرة من إفراغ المثانة، فأشارت لي صغيرة أخرى أنها تريد التبول أيضاً، وطلبت مني عدم تركهنَّ وسترها بالجاكيت. انزلق إلى داخلي شعور بالارتياح، واقشعر جلدي بتضامن تواجدي أزال شكي، وأعادني للعبة طفولتي "طاق طاق طاقيّة"، وتخلق فيَّ دافع لاحتضان الدنيا. وكان صفاء واثق يرين على العالم المتطهر.

* * *

البارحة كان العراك ضارياً بالمسدسات والرشاشات والدوشكايات، في الشارع التحتاني من جهة القابون، ودام طوال الليل حتى بان أول غبش الفجر. أما الديك بجنينة الجيران فالتزم الصمت، وكأن آخر رصاصتين متتابعتين اخترقتا رئته، فخرّ صريع الدوي ولم يؤدي صياح الفجر.

ارتطمَتْ بمقعدي في جنينة المنشية كرة صبي، وارتدت متدحرجة إلى أن استقرت عند أقدام امرأة تغطي رأسها بحجاب شرعي وترتدي مانطو طويل. استقطبت ذهني السيجارة بين أصابعها الطويلة، تمجّها بشهوة على الملأ، تدوّم دخانها غيوماً راجفة، وتنفض صفوة الرماد في الفراغ دون نأمة حرج تفرضها البيئة الاجتماعية لدمشق.

تمردتُ على أشجاني، رأيتها تتأمل بأجفان غير مرتعشة الرائح والغادي، وكأن مقعدها يحفّ بدنيا أثيريّة، لا بشارع شكري القوتلي. احضرَتْ معها لمخيلتي لوحة "غوابي بالبلوزة الوردية" لماكس بيكمان من متحف تيسين في مدريد.

استغرق الألماني بيكمان في رسم حبيبته "غوابي" سنين عدة في عهد النازية، إلى أن عتقها على مساحة الرسم بوضعيّة المجابهة لإمرأة حرّة تحمل جمالها الذاتي الملتبس. وتدخن سيجارة كإحالةٍ رمزيّة لتحرر المرأة، واستقلاليّة شخصيتها في مجتمعه خلال ثلاثينات القرن الماضي.

تبصرتُ في "امرأة لفافة التبغ" في جنينة المنشية "غوابي" وهي تغطي رأسها، ترتدي الرمادي عوضاً عن الوردي، في عينيها التماع راسب يرتشف البعيد، وهي تكوّن تشكيل ذاتها، بحضورها ولفافتها، في فضاء الشام، بدل أن ترسمها ريشة رجل .. كائن من كان.

***

مزقة ورق متروكة في كومبيوتري: سوريتنا مازالت ماثلة، والأرض تلوح بالعودة.

التاريخ يدب في أوصالنا، يعتمر قبعته، يلبس حذاءه الضخم، ويهبط بعينيه على صبر قسماتنا، ويمضي بحتميته معنا وإلينا.

العصافير عم بتزقزق في غرف بنايات الجوار يللي ع العضم، ومازالت تتعمر بالحارة.

.. بدأت خطبة الجمعة. أجلس في شرفة بيتي في دمر. الهلكوبترات تحوم بالجانب الآخر من الجبل، وبين الحين والآخر فيه دجّ قوي كتير.

مبارح الخميس كنت في بيت أختي، حين وصلت خبرية مقتل ناس كتير بجامع الإيمان. رجعت ع البيت كرفته، وأنا عم بسخر من الشرائع الجائرة.

حسيت الطريق لبيتي مكوّر بشكل الخوف، وعم يرتجف ويمشي بلا قصائد.

ع نفس الشرفة، من كام سنة كنت أقعد كل يوم جمعة انتظر مرور قطار الزبداني. كنت أسمع صفيره الحاد الممطوط قبل أن أرى دخانه من أسفل الوادي. شو كان حلو!! أكيد رح يرجع يمر بشي جمعة من الجمع، ورح ارجع انتظره ع شرفتي واستنشق عمره وحريته.

                                            * * *

راعتني التعابير التي تتجلى فوق الاسمنت، وتغير ألوانها المرتشحة على الدرجات مع الوقت، إلى أن أضحت بلون الخيال. التعابير تعود لشاب من دمر البلد قتل بيد عناصر المفرزة الأمنية. قيل أنه كان يشتم رأس الهرم، وقيل أنه كان يقبض على كيس أسود بين أصابعه، وقيل بل هدد بمسدس بيده .. فأردوه قتيلاً برصاصة واحدة.

كلما عبرت من جوار آثار الدم المتدرجة على السلم، اتطلع لتحولات اللون التي تشربها الإسمنت.

اليوم، مرّ فتنيان يتراكضون من أعلى الدرج، في طريقهم للعب كرة القدم في الفسحة التحتانية، تقافزوا بالكرة، ودعسوا فوق القتامة الشبحيّة. ارتج قلبي وتدحرج.. كما لو أنهم كانوا يدعسون جسدي ويدوسون عليه.

* * *

صعد بنا الباص إلى طريق "الجندي المجهول" بشارع معاذ بن جبل في قاسيون. تنبهت إلى أنني أديم النظر إلى "قصر الشعب". حاولت الخروج من التماهي مع ذاتي، بإبعاد بريختي صرت أشاهد فيه نظرات من جاورني من ركاب الباص. والله كل من رأيته، ع الواقف أو ع القاعد، كان يلتفت وينظر إلى قصر الشعب!! كل العيون كانت مشدودة نحو "القصر" تحدّق فيه!! إلى أن مرت بيك آب عليها دوشكا، فانتقلت العيون معاً إلى المدفع الرشاش، ومن ثم عادت معاً إلى "قصر الشعب".

أبصرت في طقس التطليعات المتزامنة الحركة، إشارات للتفكير المشترك لجماعة يوحدها المصير والذاكرة الجمعيّة.

* * *

وحيدة في منزلي. استمتع بغريزة العودة للسكني بعد طول غياب. إلا أنني كلما أويت لفراشي، يتناهى لي دبيب أرجل رهيفة يطغى على حواسي ويقلق نعاسي.

أنهض، أستنجد بشمعتي على الفزع والعتمة السقيمة، أشعلها وأبدأ التفتيش والبحث في أبعاد البيت عن منافذ لتفسير تزاحم الخطوات الليلي. ولكن لا أحد!!

تتراكم الخواطر الموحشة في ذهني، وتمسي أعصابي خيوطاً سريعة الاحتراق. بالرغم من ذلك، أجلس على كرسي الخيزران في الصالون ولا أسلّم لطعم القلق، أمشي بخطوات تدّعي التوازن صوب العين السحريّة، لا أميز شيئاً في ردهة السلّم الحالكة.

- حسناً، لا أحد.. لا أحد إلا وقع خطواتك على رصيف مينائي.

أقنع نفسي بتفاسير تستمد مرجعيتها من رغبتي المستثارة، وإحساس بالتحليق يسري في عروقي.

أعود لسريري. وتعود زغبيّة الخطو لرشق نعاسي، وتستحيل هسيساً قوطياً يعشعش في مناماتي ولا أتمكن من فكّ رموزه المبهمة.

أستعيذ من شرّ الوسواس الخناس وأتعايش مع الدبيب المطموس الليلي.

وأخيراً، تكشف الأمر عن مساكنة حمامات لي في علب الأبجورات. شعرت ريحة الإنسان فيها، وإلفة ووحدة مصير. لعلها من الحمائم النازحة مع المهجّرين إلى "مدينة الياسيمن"، وربما قادمة من رفوف الحمام التي مررت بها، وأنا في طريقي إلى المناخليّة، تغطّ وتطير في المرجة، تزينها وتتقاسمها مع النازحين، وذكرى الشهداء، وكلمة الرقة المسطرة على نصب التلغراف.

* * *

في آخر ليلة دمشقيّة قبل سفري لبيروت، ما انفك القصف المدفعي يلوث تخوم الشام.

حسناً، أحضرت سلم الألمنيوم وقضيت الليل بتلييف حيطان مطبخي، حتى صارت متل الفلّ.

في الصباح الباكر، فصلت قاطع الكهرباء، وقطعت الماء من السكر الرئيسي، وغادرت لأعود يا وطني.

* * *

(4)

"أفلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَت عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ". (واجهة المدرسة العادليّة الكبرى. نقلاً عن سورة غافر/82).

الفيحاء تقيم الصلوات الرحيمة على موتى الوطن، وتنحاز للفظ جلالة "السوريّة" كعلامة مساواة فارقة في هوية الحرية السياسيّة .. على طريقتها، وطريق التحدي بالصبر والسلوان، يجري في عروقها جمال الحياة وهو يصل ذروة المعنى بسبب -ولا أقول رغماً عن- المناخات النيتشويّة، إن لم أقل الكافكويّة، التي تغرق الديرة والديار بشحوب صفرة الموت وليل ضرير لم أعرف له مثيلاً في حياتي عند انقطاع التيار الكهربائي عنها مع الجنوب السوري بالكامل، حتى أنني كنت أخال نفسي كما لو أني في فيلم سينمائي يعود للتعبيرية الألمانية أو للسينما السوداء (خاصة مع المؤثرات الضوئية للشموع، والمصابيح اليدوية، والشواحن المختلفة الأحجام والاستطاعة، والتي تتلاعب بتنويعات الغباشة الضبابيّة وخيال الظل وسط بهيم الظلام ورهابه).

العنف الذي مهّد الطريق أمام البربرية وأفعال همجيّة في بقاع سورية مختلفة، يقف هو ذاته وراء ما يسطّر من طباق جمال، ومزامير تفتّح وتكّشف على الآتي، وتصميم عفوي على المقاومة، وتأكيد واع الشعور، بضرورة أننا نتقاسم جميعنا مهمة العبور بالبلد إلى برّ الأمان، وبأن اقتفاء أثر خطواتنا هو دليلنا إلى هذا العبور رغم وعثائه.

الثورة في "شامة الدنيا" تقول أنها لا تستطيع أن تعيش دون أن تثوّر علاقاتها الإنسانيّة، لذلك تنتعش علاقة الناس مع بعضهم البعض بما يتقاسمونه مع شقفة الخبز من قدرة على خلق دفتر يوميات وتاريخ.

معظمنا يدرك أن المركز لم يعد صامداً وأن معنى السلطة وبنيانها يتهاوى، وينظر لصور الاستبداد على أنها خيال وماض في طريقنا للتخلص منها، في حين أن الحقيقي هو العالم الموجود لنا، هنا والآن، وهو في طريقه للتشكل والتكون. عند هذه النقطة ينخرط قاطنو الشآم، والداخل السوري كافة، إضافة للنازحين وساكني الخيام في "معسكرات التجميع والتكديس" في الدول المجاورة، ينخرطون جميعاً في فعل ذاكرة جمعيّة في تاريخ وطن .. ذاكرة لا مثيل لها على الإطلاق.

على وقع لعلعة الدوشكا ورشقات الرشاشات، وعويل الحوامات، وغوليّة قصف الطائرات، وصوت الانخطاف المعدني للقذائف الهاوية، ودوي التفجيرات الانتحارية .. أصبحت دمشق حقل ألغام زمني، يفوض أغلب أهلها أمره هامساً "الله هو الحامي"، وهو يقف على قارعة الرصيف، قبل رحلة الذهاب لقضاء شغله في ساحة السبع بحرات، أو الصالحية، أو كفرسوسة، أو المزة، أو باب توما، أو جرمانا، أو صحنايا، أو التجارة، أو جوبر، أو القابون، أو حرستا، أو باب مصلى، أو السويقة، أو جادة الدرويشية، أو باب السلام، أو العقيبية، أو حي الأمين، أو التضامن، أو الزبلطاني، أو الحريقة، أو مقبرة باب الصغير..

عشت تفاصيل يوميّة رأيت فيها أن العديد ممن صادفتهم على الطرقات يرفض المتواضع الاجتماعي المتحجّر، فيبتدع قيماً جديدة ويعيش جدل تعريّة، وتحرر روحي يتحول لما هو فعلي وواقعي كل يوم أكثر فأكثر، فمدينتي تحاول التغلب على القلق وتركات السنين الثقيلة بقوة ما يستطيعه الإنسان العاري من تمزيق للأقنعة عن الأوهام السياسيّة والدينيّة المتطرفة، وإماطة اللثام عن القسوة وشظف العيش بأدوات مختلفة، أهمها فعل التمسك، على قدر الاستطاعة، بالأشغال والوظائف في مؤسسسات الدولة العامة والخاصة من إدارات، وجامعات، ومدارس، ومشفيات، وصيدليات، وأفران، ومعامل، ونقل عام، ودكاكين، وأسواق، ومقاهي، وجمعيات سكنية، وورش بناء ودهان وتصليح برادات وأعمال الكهربجيّة، والبسطات وبيع الخضار والأزهار البرية... إلخ، كتأكيد على أنها مؤسسات مهنيّة وحرفيّة تعود لنا، أهل سوريا، على علاتها التي لا محل للحديث عنها هنا.

واحدة من وسائل الدفاع الذاتي، التي عايشتها في بيوت الأقارب والصحاب حين تعذّر علي الرجوع لمسكني مساء، كان التشبث بحكايا السهرات والتي تبدأ مع أول المساء على خلفيّة نشرات الأخبار، فتتحول وقائع النهار والسعي وراء رزق اليوم، أو جرة غاز، أو ربطة خبز، أو بيدون مازوت، أو دواء ارتفاع ضغط الدم، أو لقاح للأطفال، أو راتب تقاعدي .. إلى مقامات غروتسكيّة وبيكارسكيّة لاذعة يصبح فيها بطل/ـة (بالأحرى لابطل) الحكاية حكواتي لسيرة يومه، وهو يتحايل على الموت المقيم في الهواء، ويناور بشطارة الشطار على لامعقوليّة الظرف البائس، مبتعداً عن النواح الكربلائي رغم غزارة مبررات "دمع لا يكفكف" أو نشيج أرميا، بل ويتخذ هذا الحكواتي من الذات موضوعاً مفضلاً لملهاته الإنسانية السوداء، التي تتجدد فصولها مع تجدد أوقات اليوم والحدث وغلاء الأسعار والحرمان والتقتيل.

في دمشق لا تقفر الشوارع إلا مع المساء، أو مع انفجار يهز العاصمة ويمزق البشر والحجر والزمن، يرين الصمت الجنائزي، وشيئاً فشيئاً تتجمع شظايا الوقت الحزين، تمر الساعات البئيسة، ويعود الأهالي لحرصهم العفوي على ارتياد أماكن التجمع والطحشة كالأسواق، ومواقف السرفيسات، وباحات الحواري القديمة، والمساجد، والحدائق، وساحة المرجة، والمقاهي (يقال أن مقاهي باريس انتعشت بالزبن والرواد أيام مقاومة الاحتلال النازي). وكأن في جمعنا وازدحامنا السوري تشديد على إحساسنا بالنمو معاً، وبأن الزمن يتكون من وحدة مشاعرنا، حين لا زيف في ممارساتنا الآنيّة واستمتاعنا بالمقتضب العابر على مرمى من أصوات القصف جواً وبراً وجبلاً. إضافة لأن الجَمعة والطَحشة والزحمة تتبدى كما لو أنها سبيلنا الوحيد لمعرفة أننا على قيد الحياة معرفة أكيدة.

لعل لهذا الأمر تأثير في الميل نحو الانفتاح على التغييرات في الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة، من قبل عموم الأهلين، مقيمين ونازحين ومهجّرين، الأمر الذي يشير له وضوح غياب التحرش الجنسي بالصبايا والنسوة في الشوارع العامة وزواريب الحارات؛ ورحابة الهامش الذي يبيحه أهل الغرام، شيباً وشباناً، لدوال حسهم على مرأى من الجميع، رغم وشوشات عجائز يتشمسن في الحدائق والبلاكين عن "الوقاحة والرزالة المستفحلة في أواخر هذه الأيام"؛ وتطوع شبان الأحياء بالخروج من بيوتهم للعمل في تنظيف الطرقات أو كشرطة مرور تنظم معضلة التشابك المروري وزعيق الزمامير، أو تسليكهم لعجقة طوابير الأفران أو صفوف السيارات الطويلة عند كازيات البينزين ومراكز توزيع الغاز؛ وتحوّل السؤال بين السكان أحدهم للآخر من "وين ساكن؟" ليصبح: "وين كنت ساكن؟" وكأن فعل الماضي الناقص يساوي الجميع بواقع المصيبة والمصير؛ وكذلك الدعاء الدارج في حارة بيت أمي (على سبيل المثال)، قرب خطوط التماس مع محور برزة البلد والقابون: "اللهم يثبت علينا الإيمان ببلدنا وبيوتنا"؛ ولا أنس عبارات تفعل فعل الحبوب المهدئة يتبادلها الناس بين بعضهم البعض، ويلتقطها المرء ع الماشي من دردشاتهم أو اتصالاتهم بالموبايل في الشارع؛ أما الخوف من انقطاع التواصل فيدفع المهجّرين من حمص أو حلب، أو حرستا أو داريّا أو.. أو.. للاطمئنان بالهاتف على استقرار أصحابهم من المناطق الأخرى، قبل الانهماك بتحديد تموضعهم وشبكة تنقلاتهم في طبوغرافيا المدينة.

كذلك الأحاديث الجارية حين يلتقي أصدقاء من نحل وملل متعددة السبل إلى تعالى الله جلّ وعزّ، وحرصهم، غير الممنهج ولا المبرمج، على بثّ رسائل تطمين، وتطامن ذاتي، حين لا يخوضون بها مباشرة، بل يتركونها معلقة على محض فعل اللقيا؛ وبالكاد تسمع الأغاني الموسميّة يللي ع الموضة، هنا في دمشق تبدأ تراتيل القرآن مع استفتاحة الأرزاق في الدكاكين والمقاهي، ومن ثم لا يأتي إلا صوت فيروز الحي من ماضينا الميت مع توسع مساحات النهار حتى إقبال المساء؛ أما المسج التي يكتبه ويرسله من هم في مناطق الحصار أو القتال، يبلّغون فيه عن أواصر صلتهم بالحياة عبر حبهم للأهل والأصدقاء وسوريا، فيتناسل جواه مثل العشق هذه الأيام على طريق دمشق "الدار المسقيّة".. إلى ما هنالك من كثافات تحررية وتشارك إنساني، جماعي واجتماعي، اشتبكت بجمالياته العميقة في شرايين مدينتي، لدرجة أشعر معها أن الشام تعلن بقصصها القصيرة، والقصيرة جداً، وشذراتها السردية اليوميّة واقع تشكل مجتمعها الأهلي من جديد، كما وتشهد نواة تحولها الديموقراطي بمحض إرادتها وعفويتها، في وقت تقف فيه البلد على مفترق طرق خطير.

مدينتي تقوم وحيدة من وحدتها، تقوم وهي تحمل سجال السؤال، كأنها تغرب وجهها عن طبقة سياسية مؤسفة لم تكن على قدر مسؤوليّة وقف النجيع النازف، إن لم أقل أن لها سلب الدور والنصيب فيه أمام التاريخ.

مدينتي تكفكف جروحها، تخزّن ما تبقى من أمل، تسري على كيفها، وتمشي على طريق ذاتها: طريق دمشق .. استعارة كونيّة للهداية!!

* * *

(5)

"فاعتبروا يا أولي الأبصار" (عارف الشهابي أثناء تقديمه مسرحية "زهير الأندلسي" سنة 1910، نقلاً عن سورة الحشر/2)

من المعيش اليومي، بدا لي أن ما يسوّق على شاشات النت ووسائل الإعلام حول دهريّة طائفيّة ترقد في الشام، تتحين الخروج من قمقمها، ليس أكثر من صناعة خطاب استبداديّة عملت وتعمل في هذا الاتجاه، واختراع ساسة ومثقفي مؤتمرات أُخر يلهجون ببلاغة الموالاة والمعارضة على حدّ سواء. وأن الكلبيّة الرائجة بين عديد "مثقفي الرأي" وجهابذة البروباغاندا، في الإرساليات الافتراضيّة والفضائيّة، بكل ريبيّتها بنزاهة الدوافع الثوريّة والفعل الأخلاقي، تتخلف عن مجاراة تحولات الحقبة، ومواكبة تطورات الواقع وحراكه، إن لم أقل أنها تساهم في إمعان الشعور بالإحباط، وسريان خيبة الأمل بين المشاة و"السواد الأعظم" من راكبي السرفيسات وحافلات النقل العمومي وغيرها في دمشق.

طوافي في المدينة، وما ينزّ إليها، لم يرتد في لحظة من اللحظات، رغم تراكم جثامين الأبرياء، إلى الشعور بتمييز أو غلّ طائفي من واحد أحد، لا بشكل كامن ولا ظاهر معلن. وأعتقد أن الغيتو الطائفي ليس فضاء ينغلق عليه المكان في المدينة، بقدر ما هو تعصب يكتسب الذهن أسلاكه الشائكة من سياق تاريخي متعين، يتوجس فيه من "الأغيار" في الفضاء العام.

يقوم مفهوم "الأغيار"، على الـ"هم" مقابل الـ"نحن" في بنية خطابه، ويعمل على نزع مصطلحي "الأغلبية" و"الأقلية" من النظرية السياسيّة لاستخدامهما فيما يخص اللاهوتي المعشّق بالسياسي، مؤسساً بذلك لتراتبيّة روحيّة في المجتمع، الأمر الذي أرى أنه يتناقض مع المساواة والتعدد والتنوع ضمن الوحدة السياسية الجامعة. عدد من هؤلاء، ممن يقوم خطابهم على مفهوم "الأغيار"، يطمئن لـ"هوية الملّة الدينيّة-المذهبيّة" المجايلة للعهد العثماني، أو لـ"إثنيّة الهوية الطائفيّة" لمابعد حداثة البعض منا المفترضة أوائل هذا القرن، أو حتى لـ"هوية مذهبية-سياسيّة" تخلط الأوراق بين الزماني واللازماني في أنبيق "العجيب الغريب"، الذي اعتدنا الاستنجاد بمعوجته لحظات الشدّة، وغباشة الرؤية، وآن تقطير المفاهيم القسري.

في الواقع، وبالاستناد إلى مرجعيّات تربيتي في دمشق، أقول أن ليس لدي اعتراض على أي من الميول الهوياتيّة بحد ذاتها، فابتكار الهوية وتقرير المصير هما حق مشروع للفرد والجماعة، إلا أني أرى في تصنيع هذه الهويات سيرورة مماثلة للاستشراق الذي شرّق "الشرق"، هكذا يتم العمل على مذهبة السياسة، إلى جانب طوئفة الملة ضمن كلٍ متجانس، فطري، متوعر، بدئي، هوياتي متعال على الأطلس التاريخي. ولا ينظر لبنيتها المركبة وتعددها السياسيّ والاجتماعيّ؛ ومؤثر سردياتها التاريخيّة الكبرى وأساطيرها وخرافاتها في صياغتها كجماعة تتشظى بين من يرى نفسه في ثبوت تراتبيتها العقائدية المغلقة، وبين من يرى نفسه في صيرويتها المتحولة المنفتحة.

وأعتقد أن هذه الهويات المفترضة المذكورة أعلاه، والآخذة بالتفبرك هنا وهناك، سواء مشت عكس ما مشى عليه التاريخ الوطني السوري الحديث، أم حاملة للانفصال عنه، أم بنيويّة خارجة عنه، تشكل توتراً ومصدر قلق مستمر، لتعارضها مع أسّ التعاقد الأهلي المساواتي، وإمكانيّة المواطنة السلميّة، وإرادة الفعل التواصلي الحرّ. الذي تشهد لاحتمال تحققها الدوريات ووقائع الصحف ووثائق الذاكرة التاريخيّة للإصلاح والنهضة، والفترة الدستورية لحكم الاتحاد والترقي، وأيام الحكم الفيصلي، ومرحلة الاستعمار الفرنسي، والتي أجبرنا خطاب الاستبدادين السياسي والدنيي-الأصولي على محوها من ذاكرتنا السورية الجامعة، الأول بغائيّة تدّعي "العلمانيّة" وتتوجه نحو زمن الذات السلطويّة (القائد)، والثاني بغائيّة "سلفيّة" تيمم وجهها شطر عصر الذات النبوية (الرسول). هكذا فإن الابتعاد الزماني عن الطواف بكعبة أي من الغائيتين ضلال، ومروق وأبلسة جهنم.

وفي معرض الحديث هنا أود أن أعلق على تعبير "الوعي السني" التي يُلصق بالحراك الثوري السوري من قبل البعض: إنّ "تسنين" الوعي الثوري، يشابه تاريخياً "تتريك" الوعي بحقوق الإنسان في بداية القرن العشرين (تركيا الفتاة)، والذي كانت إحدى نتائجه، "تعريب" وعي مضاد، كدفاع ذاتي عن الحق بعين الحقوق (العربية الفتاة). فكان ما كان من روح انفصال عن الكيان الإمبراطوري. فاعتبروا يا أولي الأبصار!! ففعلكم هذا ينسجم مع مساعي الطغيان لطوئفة الثورة.

وأقول هذا دفاعاً عن الماديّة والتاريخ: التاريخ العام وتاريخ المتحد السوري الذي ولدت في كنفه ليس إلا، مع إيماني أن أطلس الزمان هو أفق مفتوح على التحول والصيرورة.

ثمة بالمقابل، مثقف يساوي بين النظام والملة النصيريّة، أو في أحسن الأحوال يتهم هذه الأخيرة بالانعزال الحصري عن الحراك الثوري. ويسعى في فحوى خطابه، لتصنيع إحساس جماعي بالذنب يلاحق النصيريّة. ويتناسى أن فعله هذا يعني أن ليس هناك من مذنب، وأن الاحساس الجماعي بالخطيئة لهو أبسط وأفضل وسيلة ممكنة للحيلولة دون المجرمين الحقيقيين بحق الشعب السوري، إضافة لأنه يعمل على تغذية السخط اللاعقلاني لدى الجماعات الروحيّة الأخرى.

إن ربط المذهبي بالخطيئة السياسيّة يحفر هوّة عميقة بين مكونات الشعب، بين جماعة يقع على عاتقها تمثيل دور "الجلاد" وأخريات دور "الضحية"، هوة لن يكون بالإمكان ردمها بسهولة، بل وتجعل لمطالب المساواة والحقوق المدنيّة العقلانيّة مردوداً لاعقلانياً خاوياً من المعنى، لأن الأمر يتعلق بين خاطئ مجرم من جهة وبريء مظلوم من جهة أخرى.

تعيش دمشق طوق القصف الضاري الذي يسوّرها بالتداعيات الوحشيّة، فتمتلئ أحشاؤها بالمآسي والمهجرين، وتتشح مرتسماتها الحزينة بأثواب نسوتها السود، وتتفرع من جاداتها خبريات اللصوصيّة، والتشبيح، والتشبيح المضاد، والتعذيب، والمذابح، وقصف الأعمار، ووقائع انتهاك الأعراض وتخريب النفوس وحرق أسلافها .. إلى كل ذلك تنشغل "شامة الدنيا" بفكرة هويّة الحريّة، ومضمونها السياسي، بذات الوقت الذي تبرهن فيه على قابليتها التاريخيّة لاستيعاب كل من اتخذها سكنه ومسكنه داخل السور وخارجه.

* * *

(6)

في الشام ذات العماد!

بشكل من الأشكال، يمكن القول أنني حاولت الاستدلال على ملمح المستقبل في اللحظة الحاضرة في يومياتي الدمشقية التي انتخبتها، وأتيت على تسجيلها سابقاً.

بالمقابل، تحقق واقع بعض من جوباتي في الشام ذات العماد وفق منحى طباقي لرحلة عيسى بن هشام.

كما هو معروف، موضع محمد المويلحي شخصية عيسى بن هشام في السرد في العقد الأول من القرن العشرين، وجعله يجول في القاهرة المعزيّة، ويتكلم حول جديد تحولات حاضر يأتي على القديم وأطلاله الباشاويّة، فكان نص "حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن".

من جهتي، تعقبت ماضي وطنيّتنا الحيّة، ونحن نشهد محاق الحاضر الاستبدادي.

لا يخفى على أحد أن "الوطنيّة" هي مفهوم حداثي بامتياز، ترافق تطوّره مع المؤسسة الثقافيّة الحداثيّة. من هذا المنحى يأتي تناولي لأثر المكتبة الظاهرية، ومدرسة مكتب عنبر، ومسرح القباني، والمجمع العلمي العربي، والجامعة السورية في صياغة الخلية الأم لوطنيّة المتحد السوري.

بادئ ذي بدء، وقبل أن أتطرق لدور هذه المؤسسات، التي شاركت دمشق غيرها من مدائن "الديار السورية" في تكوين الحسّ الوطني الذي سيتبلور لاحقاً، أود الإشارة إلى أهمية انتفاضة أيلول الشعبية سنة 1831 في دمشق، و"التسوية" بين جميع الأديان أمام القانون التي قال بها ابراهيم باشا أثناء حكمه الشام (1832-1840)، والتنظيمات الإصلاحية العثمانيّة (خط شريف كلخانة سنة 1839، والخط الهمايوني عام 1856) في العمل على إحداث صدع عميق في جبرية القيم المستقرة التي حكمت الطوائف الحرفيّة، ومعتنقي الملل والنحل المختلفة في "الديار السورية" الخاضعة للإمبراطورية العثمانية.

واعتماداً على ما دونّ في تلك الفترة، أعتقد أن الانفراج الحداثي نحو صيغة تقوم على حق المساواة بين مكونات المجتمع، كان واحد من الدوافع البعيدة للمذابح التي طالت النصارى في دمشق (باستثناء حي الميدان، ومن لجأ للقلعة ولدارة عبد القادر الجزائري) خلال الفترة الممتدة من 9 تموز، إلى 16 تموز 1860.

بالطبع لا يمكن إغفال دور الحكومة العثمانية (المحلية والمركزية)، ومصالح القوى الاستعمارية، انكلترا وفرنسا، في تأجيج العنف الديني، وبداية الترويج الغربي لـ"حماية الأقليات الدينية" كسردية تمهد الدرب للتدخل المباشر وغير المباشر في عمق خرائط السيادة الجيوسياسية.

ولكن ما يهمني التأكيد عليه هنا، هو أن الشرخ الحاد في معمار المجتمع القديم القائم على "الإسلام السني"، كمقياس متعال على بقية الجماعات الروحيّة، أعلن عن وجود مجتمع آخر يقوم على إزالة هيمنة هذا القياس كحق طبيعي، وبالتالي تداعي مفهوم "الطاروق" إلى ما هنالك من دلالات إقصائيّة وفرز مجتمعي على أساس الدين والفئة الحرفية الاجتماعيّة (كاستخدام الثياب والألوان كعلامات تمييزية دالة).

بمعنى أن الإصلاحات الحداثيّة عملت على انتزاع الفرد في علاقته مع الجماعة من الخضوع لهيمنة تراتبية الطائفة الحرفيّة والجماعة المذهبيّة، إلى تجريب معنى "سواسية كأسنان المشط" أمام القانون، وفي الشارع والسوق، مهما كان تصنيف المهنة اجتماعياً، أو درجة الإيمان والتقوى وتعابيرهما.

من المؤلم القول أن مذابح 1860 في دمشق، تؤسس لتاريخ المساءلة المدينيّة حول معنى الفضاء الجغرافي الجامع، والانتقال من التركيز على "الجريمة والحساب" إلى البحث في الأسباب والنتائج، كما تشير نصوص من أرخ ودون لأحداث ذلك الزمان. إضافة لأن هذه النصوص عبرت عن الحاجة والضرورة لإنجاز فكر يحاجج في علاقة "الإيمان" بـ"الوطن".

حسناً، بالعودة إلى النقطة التي بدأت بها حديثي في هذا المقطع حول الخلية الأم لوطنيّةٍ ستتدرج مع سياق التاريخ كقاسم مشترك للمتحد السوري في القرن العشرين، أتابع:

منذ قديم الزمان وسالف العصر والأوان، تفتحت مدينتي المعمورة على جهات الأرض وراء البحار ومعجم البلدان. هندست أسواقها، وطوائفها الحرفيّة، وخاناتها، وأرباضها، وحماماتها، ومسالكها، وتربها وهي تستقبل مؤثرات ثورات "الغرب"، الاجتماعيّة والصناعيّة، في القرن ما قبل المنصرم. تمثّلت –على أكثر من مهلها– التنويعات الثقافيّة التي توالت عليها، حتى أدرجتها في شبكة علاقاتها المعرفيّة كمكون من مكونات سيرتها الذاتيّة، ومن ثم أعادت إنتاجها وإبداعها وكتابتها وتعميرها وموسقتها ومسرحتها بمفرد لغتها الهجينة في متن نصها المدينيّ، وحاشيته البهيّة المرفقة بشروحات وتعليقات ووجهات بصر وبصيرة متعددة المشارب والمرجعيات والمنابر.

آن انعتقت "كنانة الله" سنة 1879، بفضل مساعي علماء دمشق، خاصة الشيخين طاهر الجزائري (1852-1920) وسليم البخاري (1851-1928)، عن مفهوم "علم الخاصة" واحتكار المعرفة القروسطي، وقررت تعمير "غرف قراءة" لعامة "هيئة الاجتماع"، تضمّ فيها مؤلفات العلوم العصريّة و"كنوز الأجداد" من صحائف حبرتها يدّ التراث، لم تجد أفضل من المدرسة الزاخرة بالمخطوطات والواقعة عند تربة الملك الظاهر بيبرس لإشادة هذه "المكتبة العموميّة" على النمط الجديد حينئذ، وكأن دمشق عبر فعل المكتبة الظاهريّة لا تشير إلى بدء انحلال امتيازات ثقافة القديم فقط، وإنما كذلك إلى أن المعرفة عمليّة تراكميّة واتصال في التطور الفكري، حتى في أشد حالات القطيعة وأعنف الهزات الثقافيّة ثوريّةً.

من جانب آخر، أقيمت هذه المؤسسة المكتبية المتفاعلة الصلة مع تراثها والمنفتحة على معرفة "الغرب"، وكأنها تقول بعلاقة معرفيّة نديّة تكافليّة ترفض الإقصاء، وتقوم على الحوار السجالي مع ثقافة "الآخر"؛ أما تأسيسها عند ضريح الظاهر، بما لشخصية بيبرس من دلالات تاريخيّة وثقافيّة، فإنه يعبر بلا لبس، عن موقف انتلجنسيا المرحلة الرافض لامتدادات "صليبيّة" جديدة تسعى للهيمنة على محطات طريق الحرير، الواقعة في "الشرق الحسي المستهلِك" بمقياس "المركز العقلي المنتج" للأفكار كما العلوم والصنائع.

في معرض حديثي هنا، أود أن أذكر أن مخزون كل من الظاهريّة والعادليّة قبالتها (نسبة لضريح الملك العادل الأيوبي فيها)، والتي عملت فيهما أوائل التسعينات على نسخ ما يهمني اقتباسه من المصادر والمراجع والدوريات بخط يدي، لم تعمل سلطة "الحركة التصحيحيّة" على تحديثهما وتطويرهما، وهي التي ادّعت "بناء سورية الحديثة"، بل قامت بجرف محتواهما، ونقله إلى مكتبة تحمل اسم العائلة المالكة في ساحة الأمويين بحذاء "هئية الأركان العسكرية" (لعل أحدهم يرى أن شعار الأسد المميز لدولة بيبرس أثره في هذه النقلة .. والله أعلم!!). أقفرت رفوف المدرستين المكتبتين من وثائق التاريخ ولم يبق لهما إلا نسخ مصورة عن أصول متناثرة مذررة، وارتد مفهوم المعرفة النهضوي ليخضع لرقابة مثقف السلطة الأداتي، ولبيروقراطيّة تصنيف، وتبويب، وأرشفة، وإخفاء المواد المكتبيّة المعرفيّة التي لا تنسجم مع السرديّة التسلطيّة.

في سنة 1871، أقام أحمد أبو خليل القباني (1833-1903) عرضه المسرحي الأول في الخانات الدمشقيّة، وحمل إليه فنون الأداء شبه المسرحيّة التي كان يمارسها وصحبه منذ سنة 1865، والتي اختلطت فيها عناصر الفرجة الشعبيّة (الحكواتي، والكركوزاتي أو خيال الظل)، والموسيقى، والغناء، ورقص السماح. ووصلت هذه التجربة الجماليّة إلى أوج نضجها، ومؤثرها في ذائقة ووعي وذاكرة المتلقي أثناء ولاية "أبو الدستور" مدحت باشا لدمشق.

بلورت تجربة القباني معنى الاحتراف المسرحي لأول مرة في تاريخ هذا الفن في الثقافة العربية. وليس الانفكاك المستمر والمتعاقب للقباني عن جبريّة الطوائف الحرفيّة التراتبية ماقبل الرأسمالية في المجتمع الذي ولد فيه، إلا مثال بديع عن انشقاق الفرد-الفنان عن الإطار المرسوم له عائلياً واجتماعياً وفنياً. وكان هذا المسرح، كظاهرة دراميّة، مبني على قابلية، بل على وجوب حمل الصراع الفني والاجتماعي والفكري لمجتمعه، فالحرب التي شنها الشيخ سعيد الغبرة وأتباعه عليه، تفاعلت لخطورة مساس ىالقباني بالثابت اليقيني: إخراج المرأة إلى الفضاء العام ممثلاً بالركح الدرامي، وأداء أدوار السلطة وإماطة الحجاب عنها وكشفها في الفضاء المسرحي.

إلى جانب كل ذلك، كان لصعوبة أداء الرقابة لعملها أثناء الفعل المسرحي دوره في الوقوف بوجه عمل القباني، لما للمسرح من خاصيّة تقوم على مفهوم الـ(هنا والآن). وفي معرض الحديث هنا، أذكر حضور منظر السجن في أغلب الدراميات القبانيّة، وكأن الفنان أسس لتناول هاجس الحرية في المجتمع، والفن منذ تلك الأيام.

التفت القباني إلى فنون مجتمعه وتراثه الشعبي، بمعنى أنه تناول الفن المسرحي الغربي الوافد، وأدرجه في سياق ثقافته، ليعيد إنتاجه بهوية فنيّة شعبيّة اختلقها المكان والزمان الذي ولد فيه هذا المسرح من جديد.. هوية فنية منفتحة على التطور والابتكار.

يشكّل المسرح الذي فعله القباني انزياحاً مسبقاً ومبكراً عن الكتابات النقدية للبنانيين نجيب حبيقة (1869-1906) وفرح أنطون (1874-1922)، ومحاولتهما وضع نموذج يحتذي به المسرح الناطق بالعربية.

من جهته، نظّر الناقد نجيب حبيقة، في سلسلة دراساته المنشورة في مجلة "المشرق" اليسوعية سنة 1899، لنموذج مسرحي وجده في الكلاسيكية الجديدة، أي في السياق الاجتماعي والفني للماضي الأوربي في القرن السابع عشر. أما فرح أنطون فوجد المعيار الجمالي في النزعة الاجتماعية المتأثرة بالفلسفة الوضعية في الحاضر الأوروبي آنئذٍ، وذلك في مقالاته المنشورة سنة 1906 في مجلته "الجامعة".

من هنا فإن تجربة القباني، في الوقت الذي تحاورت فيه مع المنجز الفني والأدبي لمجتمعها، كانت تشيد معيارية ثقافيّة حرة وطنيّة شعبيّة ترفض الاستلاب دون أن تنظّر لفعلها هذا.

ولا أنسى الإشارة لمسرح معاصر للقباني، ومازال الغموض يكتنفه، ألا وهو "مسرح الاتحاد" الذي أسسه حنا عنحوري (1863-1890)، بمساعدة أخيه سليم عنحوري (1856-1933).

لعب مسرح أبو خليل الشعبي خلال حياته في دمشق، دوراً تربوياً مؤثراً في جمهوره المديني الذي تقاسم المتعة بذات الوقت الذي كان ينسج فيما بينه روابط أهليّة جامعة، على نحو مشابه لدور الصحافة الأوسع كمنبر سجالي. لعل هذا الأمر يبرر إدراج النشاط المسرحي كجزء من المنهاج التربوي في المدارس، وممارسة كثير من النهصويين والأحرار العرب للفعل المسرحي واستخدام خشبته لتقديم المسرحيات وإلقاء الخطب الوطنية والأناشيد الحماسية مع بداية القرن العشرين.

حسناً، ثمة بالمقابل مؤسسة لعبت دوراً هاماً في تجذير الوطنيّة، إلى جانب المسرح (والصحافة لاحقاً كجريدة الشام)، ألا وهي المدرسة الحداثيّة. فإلى جانب المدرسة الجقمقية (متحف الخط العربي حالياً)، التي تعود للعصر المملوكي (1419) وعنيت بتدريس الكلاسكيّات اللغوية: العربيّة والتركيّة والفارسيّة، والمدارس التبشيرية كمدرسة العازارية التي كان لها دور عظيم في نقل المؤثرات الثقافية الغربية وتعليم اللغة الفرنسية، افتتح سنة 1867 "مكتب إعداديّة ملكيّة" (مكتب عنبر)، وكان بمثابة مدرسة أهليّة مدنيّة تتعين ضمن فضاء يتغيّا الحداثة، ومغاير لشعائريّة مدارس الكتّاب والطرائق الصوفيّة، ويربى طلبتها على "الذوق السليم وحب المعرفة"، حتى تتمكن فيهم "ملكة البحث والاستدلال" على حدّ قول الشيخ جمال الدين القاسمي (1866-1914). وخرّجت هذه المدرسة أهم الشخصيات الوطنيّة التي انخرطت في الحراك السياسي والثقافي والعلمي السوري من مثل نسيب البكري (1888-1966)، وشكري القوتلي (1891-1967)، وأبو الدستور السوري فوزي الغزي (1891-1930)، وسعيد الغزي (1892-1967) ، والطبيب حسني سبح (1900-1986) تلميذ المعلم الشهيد عارف الشهابي (1889-1916) ... إلى كل ذلك ليس بمستغرب أن تعرف هذه المدرسة أول إنتفاضة وطنيّة واعيّة ضد التتريك، وتجلّت هذه الانتفاضة الشبابيّة ضد حمولة جملة "بيس آراب" الجوهرانيّة العنصريّة سنة 1912، كما أرّخ ظافر القاسمي (1913-1984) في مؤلفه "مكتب عنبر".

مدينتي أكدت على أولوية "علميّة" اللغة العربيّة على "الإعجاز"، عند تحقق مشروع "المجمع العلمي العربي" سنة 1919، الأول من نوعه في تاريخ الثقافة العربيّة، والذي جاء بمثابة إخراج دمشقنا التنويري لـ"الموسوعة" المعرفيّة والعلميّة، وتقاسم المجمع مع متحف الآثار فضاء المدرسة العادليّة كمقر له، بادئ ذي بدء، وكان محمد كرد علي (1876-1953) أول رئيس له.

وحين أرادت "الشام" إنشاء جامعتها، فإنها اتكأت على مدرسة الطب المفتتحة سنة 1903 لتتدرّج بها نحو كيان تدريسي جامعي افتتح سنة 1919، وضم معهد الطب ومدرسة الحقوق، وأقيم على ضوء مفهوم المؤسسة "المدنيّة" المرادف لـ"الوطنيّة" آنئذ، والذي كان شرطاً محايثاً للجامعة، فبرهنت الحاضرة بذلك على شخصيتها الحداثيّة الرافضة لاستنساخ التجارب الأخرى، كما لم تكن لجامعتها تلك الـ"أميركيّة"، أو الـ"إنجيليّة" أو الـ"يسوعيّة، أو غيرها من التوصيفات، التي ميّزت وخصّت غيرها من المؤسسات التربوية في مدن "الديار السورية"، بل، وبوضوح، قالت الجامعة سنة 1923 بـ"السوريّة" كنعت لها أيام كانت تواجه الغرب الكولونيالي!!

من كل ما سبق أقول أن ثورتنا السورية قامت للانفتاح على قرن جديد، نستأنف فيه ما كان لنا من خطوات حقيقية باتجاه مجتمع مدني، ودولة وطنية، وثقافة وطنيّة ناطقة باسم عموم السوريين ولأجلهم .. واسترداد ما وسمت به المؤسسات التربوية والثقافيّة: "شعبيّة" "سجاليّة"، و"علميّة"، و"أهليّة"، و"مدنيّة" و"سوريّة"، دون أن يفوتنا استيعاب معنى تعدد تنقلات جغرافيتنا السياسيّة ما بين "الجامعة العثمانيّة" و"الجامعة المشرقيّة"، و"الجامعة الإسلاميّة"، و"الجامعة العربيّة"، وإدراك أن أفول هذه الجامعات السياسيّة لا يعني يباس أرض جامعاتها الثقافيّة، بل على العكس من ذلك، مابرحت خصوبتها مزدهرة أمام البحث وحفريات المعرفة لطبيعة الثقافة التي تتسم بالديمومة. الأمر نفسه ينطبق على تقلباتنا في الحضارات القديمة، البعيدة التخوم منها والقريبة.