هي قصائد تنصت للزمن العربي في تحولاته، وصوت شاعر يعيش اغترابا مضاعفا بين زحمة نداءات هويته وبعضا من أماني مؤجلة أنهكها الانتظار.

قصائد

حسن العاصي

وا شرفاه

كان محراب المستجيرين
جناح المنكسرين
ونصير المظلومين
كأنه هيكل تهاوى
مات الشرف العربي
وجدوه جثة على شواطئ الملح
مسفوحاً عارياً كجذع مبتور
على فمه زبد الدهشة
وفي العينان لعنة وحسرة
نكحوه نكاح الأمة  قبل أن يقتلوه
نصبوا له شرك الموت
وأرسلوا الدناءة  لتقبض روحه
عند صلاة السحاب

 نفخ إبليس على أسوار الضوء
تموت الخطى ويسبٌح النعناع
يفارق الشرف العربي الحياة
غسلوا عينيه بالدماء الدافئة
كان الفم شهقات غمام رمادي
والرائحة بكاء مكتوب على حريق العيون
لم يحضر أحد جنازته
لم تحمل بنات العمٌ نعشه
وعُذرهم القاتل مجهول
فلا عزاء ولا عقاب

 

شدٌوا وثاقه على حرف الكفن
 
يتهجد المدى ويثمل الصمت
هذه المآذن انتصبت ترنو إليك
والمطر المتعب من الغيم
يشكو الأرصفة المذبوحة
أوقدوا صمتهم بكسوف الذكريات
عند زلال المرايا
يحتمون بشق غيمة
تسلق الحلم كالنجم لوعة الماء
يرتٌل دمه بياضاً على حافة الغياب

 

أنا الشرف شفق بلا كساء
تُزهر على قامتي ريح الماء
أغفو على صهوة الطين
وحيد كطائر فضة
ليس لي وطن
وجعي يراودني كظل ريح
تحت أسفار الصقيع
تبتر القصائد أصابعي
حرف على كل بيرق
وقبل المأتم الأخير من صهد الوجع
تعبرني دماء الفصل الأبيض
أنشد مسافة سراب

 

أنا جدار الرماد
قتيل على شرفة الأشواك
أمدٌ أصابعي أوتاداً
لشجر السرو
هنا بعض حزني يحجم مني
هنا تستبيح الدروب خطى الطوفان
أقف على رأس التاريخ المتورٌم
وأتربع موائد الخواء
تنمو زفرات السماء
بين أضلاعي
ويغسلني التراب

 

يقطع الشرف وريده
ويصبح صدراً شاهقاً
هذه العتمة نبض احتراق الغيم
قبل ثلاث خطوات
من عمر الحكاية
تنبأ الضرير من بني خثعم
فصدقت الرؤيا
نام ميتاً حياً لم يمت
حملته القبائل خيل ظمآى
فغدت الدروب تتناسل شواهد موت
طوتها ريح الجنوب
وذرتها فوق مراكب الغرباء
زهرة على كل باب

 

يا شام
سلام عليك يا دمشق
يتهادى صباح الشام على بساط
من سندس وديباج
يرقٌ من ثغرها البنفسج

للعصافير حين تصدح
أزهار النارنج باكورة الصلاة

والمآذن آيات الخالق تنسدل

على الكروم وبساتين التين

بالأسماء الحسنى
وأكواب القهوة شراب البنٌ
موٌال يعانق الشرفات العتيقة

والخلخال أزهار الرمٌان

على ضفاف الشام كًتب التاريخ

وغًرست أشلاء الكون

من هنا مر الآراميون والكنعانيون والإغريق

وظلٌت الشام وجه طاهر

معتٌق بفضة القمر

الشام لسان الكون

فيها صكٌت الأبجدية المسمارية ,الأرامية والسٌامية

همس ينمو على أصابع الصوت

وعند عتبات الشام تًنبت الكرامات

فهي توأم الأقصى وشقيقة المسيح

يحرسها الرحمن

الشام بسبعة أبواب

مدينة مفتوحة على السماء

والياسمين أقراط دمشق

تغفو عليها الملائكة

قاسيون عروس فوق هودج مخملي

الأموي مسمار الله في الشام

والغوطة مليحة حسناء بجدائل

تمتد بين نهرين

بردى بتلات بماء يغسل الذنوب

صدقة جارية كأنٌها مزمار الراعي

والربوة سحر البيان

دمشق سيدة المدائن

حدائقها خطىً بلا تعب

كأنها سجادة صلاة

دروبها وسائد الروح تزيٌنها الحواري

كأنٌها قبضة من نور

دمشق ريم القبائل وشامتها

هي القمر العائم لحظة الغروب

بدراً أخضراً

الشام زهرة العيد براعم خمرية

وخلف أسوارها تتمايل

أغصان التوت والسفرجل

كراقصة أثملتها الألحان

كأنٌها إنجيل الفقراء

مرصٌعة بطيور الجنة

قصيدة لاتكتمل بتفٌاح أو محراب

هي وحدها ترسم المطر ربيعاً

الشام عروس فاتنة بتاج من زنبق

وقلادتها ماء القلب

سلام على تلك الأرض ونسغها الطاهر

وًلدت لتظل نبوءة الشرف

وللإباء إيوان

منذ نيٌف هاجرت أمواج الشام بحرها

بكت النوارس

احتضر النهار والٌيل رحل

وتجرٌعت القصيدة قبرها

خلف أسوار الزوال

الراحلون وحدهم خطىً تائهة

يقين يحتضر

وأثواب معلقة في السماء

والصغار يكابدون الوجع

ويمرٌغهم الأنين فوق خطوط الوحل

ينامون وهم يمضغون الحسرة والأحزان

خلف عباءة البياض

تتوارى مآثر التراب المتوقٌد

يجتث أغصان الماء

كأنما الرصيف لاعاصم له

كالشرفات المهجورة

عناكب بلٌلورية تنزف حمماً

أضغط على الريح

يدخل الملح الأسود جوقة الموتى

أبكي كفي وألقي حزني

جهات للإيمان

أضحت المدينة قلب حزين

بضفائر من عصافير

وشراع مبعثر يمتد جدائل من دم

عند حافة الوقت المشروخ

تتقشٌر الجدران في وحشة الضياء

ويغفو الظل على وشم الماء

عناقيد ملح تصافح الموت

في جبٌ الظلام

تفر الدروب تلفظ الذبح

والقتل ثقوب سوداء

كالثوب الضرير يلتحفه الشيطان

 

سقط اليقين
في تمام الهزع الأخير
إلٌا نجمة
أوغل بالمدينة الدم
وتمادى القتل
تهيم الخطى على تلال العوسج
والعصافير نفقت
على أسطح القرميد الأسود
يفر الناس من ظلالهم
يتجرعون الموت
قالوا هنا يرقد الأحياء

كأنٌ الأبواب أوصدت الوقت
حرٌاس الفوانيس أثقلتهم الدروب الضٌيقة
الأقدام دامية
الشرفات مبتورة
والحدائق ثعابين تتلوٌى
خفٌت أصوات الفرح كالمطر
والشجر غادرته المآذن
سقط اليقين فسقط الوجود
والذاكرة نصال جرداء

على بُعد صرختين سجدتً
ارتميت على خافق السهد
أتوسٌد صدر التراب
كانت مواويل الظمأ تدور كالرحى
بين جرحين
قالوا الرمل محميٌ الرٌب
علا العويل فانقبض الغبار
سقطت الخيول الرمادية
وفاض البحر فراشات وبكاء

حزينة هي المدينة
كقوافل الراحلين
النوافذ تتوسٌل المساجد
وتتوارى خلف المتاريس
رائحة الموت
تتشقٌق الأجنحة وتُدبر الغيوم
تحتضر الأرصفة والشهب
والجرذان يقرضون أعين الصغار
نساء الحيٌ يرفعن الصلوات
ترنو إليهن أصوات النواح حُبلى
شهوة القتل تتسكٌع هنا
تحدٌها العقبان السوداء

في تمام العنق التاسعة إلٌا سبعة مجازر
يغفو تعب الأطفال خلف أبواب الموت
مدائن الزنبق أنبتت علقماً
وحواري الياسمين أكلت صغارها
الكروم ترتٌل مناسك الإحتراق
تذرف حبٌات العنب حمماً
التلال القريبة أضحت لاهوت يرتعش
يشيخ وجه القمر ويضمر
يفترش الوطن الخطى الضالة
يستحث زحمة التراب
ويستوصي غصٌة الرخام
في مقابر الغرباء

يحزن الحزن وتهوي الصباحات
وتتعرٌى الأرض الثكلى
وتفر من الأشرعة العارية
تسحل ضفائر العويل خلفها
فتنقبض جماجم الصرعى خجلاً
يكتب الرجال أسماءهم على وجه العاصفة
وينثر الصغار أحلامهم فوق التوابيت الجائعة
هذه غلال الخوف تلتهم الأعناق
فتنسدل الرؤوس كالسنابل العمياء

هذه البلاد ليست لك
فأي تراب يراقصك قبل الغرق
ظهر القبائل مقصوم
لعينيها ضجيج
لاشيء يشبهها ولا تطاوعها المسافات
الوطن أضاع سراج الإيمان
كنت هنا قبل دهر وغفران
وقبل نيٌف من الأصوات المكتومة
اسودٌت الشمس
وأشاح القدٌيس غبار الماء

إنهض يا أحمد
هنا آخر الرمل وأول اليقين
فأي نبيٌ سيملك هذا الميلاد
اقرأ باسم الدٌم يتوسد الرؤيا
أيٌها الراقدون هنا
في قلبي مدائن تتشظٌى
وصوتي وجه على الرمل
والآخر نافذة قطار
تأبطت ويلاتي على أعتاب الرسل
ألوذ بصحراء تلد أنبياء..

 

كاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك