يتناول الكاتب العراقي في قصته المصير التراجيدي لمعوق حرب يفقد كل شيء العائلة والمحيط متأرجحا على حافة الجنون بسبب تلك الإعاقة التي عطلت حياته تماما وأحالتها إلى جحيم ومن خلال حكاية القصة سيتجسد هول الحرب وأثارها الطويلة غير المحسوسة على النفس البشرية

ملاذات طالب العجيبــــــة

محمد علوان جبر

فيما كانت الألوان والأصوات تتصاعد من شاشة التلفزيون ، لم يكن يحدق في شيء محدد،  جلس في زاوية الغرفة والدخان يتصاعد من خصلات شعره الرصاصية التي طالت في قمة رأسة بتكورات غطت جزءا من جبهته العريضة ، ربما رأيت دخانا يخرج من عينيه وهو يبكي،  لم يجرؤ احد على مقاطعة بكائه، كان جسده يهتز وهو يطلق أشياء تتكوم في صدره، لم اجرؤ على فتح أي حديث معه سوى ذلك التواصل الذي يقيمه من يشترك مع الآخر في محنة،  لكني بقيت اردد في سري:

ــ   أي محنة يعيشها طالب،  الذي  يسميه البعض ( طالب ابو القلاقيل) التسمية التي تثيره ويتقبلها بصمت فيه غضب مكتوم،  فهو يعد الأشياء التي يجمعها من أول الصباح وحتى آخر المساء  ليست بقلاقيل:

ــ    انها ثروة حقيقية، انها قطع من الحديد الثمين الذي لا يعرف أهميتها غيري.

يردد هذه اللازمة كلما يسمع كلمة قلاقيل.  منذ الفجر يبكر إلى الأماكن التي تلقى فيها النفايات، ويعود مساءا ويدخل بصعوبة إلى البيت الذي لم يترك فيه زاوية أو غرفة أو ممر أو مخزن لم يملآه بقطع الحديد المختلفة التي يجلبها من مزابل المدينة فجرا.. بل في الساعات التي تسبق الفجر حيث يخرج دراجته الهوائية بعد أن يربط أكياس البلاستك  الملونة على المقعد الذي وينطلق خلفه مخترقا السكون والظلمة مطلقاً من فمه لحنا لا يعرف من أين أتى ....كما كان يقول لي:

ــ  لا أعرف من أين تأتي الألحان التي تستعصي علي في غرفتي فحالما  أعتلي الدراجة الهوائية فجرا  وأخترق الأزقة حتى تنطلق من أعماقي جميلة لا كما هي في الغرفة إذ يحسها تشبه النعيق،  أما فجرا فنفس اللحن يتحول إلى سحر يديم القوة في ساقيه وهما تديران دواسة السرعة في الدراجة الهوائية التي لم يستطع أحد أن يحدد لها عمرا ولا شكلا، فهو يديمها واضعا آلة اللحيم عليها رابطا إليها مايدعمها ويجعلها صلبة كالفولاذ والحديد الذي يعرفه جيدا،  لم يكن الأمر كذلك ..

 ــ  مذ  ماتت  أم مشتاق أحسست أن ثمة شرخ كبير...

   يردد هذه اللازمة باستمرار بمناسبة وبغير مناسبة رغم علمه أننا نعلم أن أم مشتاق لم تمت،  بل أخذت مشتاق في يوم ممطر، تصاعد فيه البرق واشتدت فيه الريح واختفت، من يومها لم يعرف أحد عنها شيئا ما، بقي هو يدور في الساحات،  بعد أن زار كل أقاربها بدءا من بيت شقيقها الذي هدده وهو يصرخ فيه .....

ــ   ابني  ... أعطوني ابني وأذهبوا إلى الجحيم ......

كل نساء الحي يدركن المرارة التي كان يذيقها إلى أم مشتاق كل يوم،  خاصة بعد أن لفظته الحرب بأجهزة عاطلة تماما، بدءا من أذنيه اللتين أصماهما انفجار قريب قطع أوصال من كانوا قريبين منه وصولا إلى كل أعضاء جسده،  بما فيها أجهزة ذكورته، كان يعيش أيامها لوثة هذيان قوية عرفنا منها ما فيه إذ كان يجهر بصوته القوي انه عاطل  

 ــ     كل ما في روحي وجسدي عاطل!.

كان أيامها هائجا غاضبا لا يعرف ولا يملك وسيلة غير الصراخ في وجه من يسأله، كنا نعرف تفاصيل حياته بشكل دقيق، وندرك ما يحمله من انكسار وهو يصرخ بما يشبه العواء الذي يعتذر عنه فيما بعد، نعلم انه بعد أن أصيب إصابة مميتة نجا منها بأعجوبة، ومرورا بمحنة عدم تمكنه من كبح غضبه الذي كان يتصاعد وإطلاقه زعيقا مخيفا، تطور إلى الحد الذي كان يمسك فيه قطعة حديد بيده ويرفعها بقوة ويهم بضرب ابنه مشتاق، والى الحد الذي أنقذته أمه حينما قرب آلة اللحيم المحمرة من وجه ابنه وحينما حاولت منعه، فوضع الحديد المحمر في لحم ذراعها البض ، حينها لم ينقذها إلا صراخها العالي الذي حاول أن يكتمه بقبضته المتسخة بالحديد والسخام فلم يفلح، إذ هرع الجيران النساء والرجال وسحبوا المرأة المحترقة الذراع هي وابنها، ومن يومها بدأ الصراع يشتد بينهما، هي وخوفها المشروع وهو بصمته ونظراته الغاضبة، ولم يزيل التوتر إلا ذلك الخروج اليومي فجرا لينبش أكوام القمامة بحثا عن شيء لم يجده، فاستعاض عنه بقطع الحديد الصغيرة والكبيرة التي كان يكدسها في البيت، بدأ الأمر حينما خصص مساحة للحديد على السطح ، قريبا من آلة اللحيم التي رافقته مذ كان عسكريا يعمل على تصليح السيارات، المهنة التي أعانته في تمشية أموره  بعد إحالته على التقاعد لأسباب صحية، حينما يكلف في إصلاح الأبواب والشبابيك، كان يمضي اغلب نهاره في صف قطع الحديد التي يشدها جيدا على بدن الدراجة، وفي طريق عودته، لم يكن يسمع أو يرى نظرات السخرية وكلمات التهكم التي كان يطلقها أطفال الحي بينما الرجال الكبار يكتفون بهز رؤوسهم وهم يتذكرون صورة طالب قبل أن تأخذه الحرب منهم.

     يحدثني عن  تذمره من أبناء الحي " أنا اعرف  أنهم يكرهوني واني لا أطيق الجلوس أمام وجوههم ".. فيما بعد سلك طالب طريقا آخر، إذ تغير سلوكه كثيرا، فعدا ملبسه الرث الذي استبدله بملابس نظيفة، أخذ يكثر من الجلوس في مقهى الزقاق القريبة من بيته، لكنه واضب على الخروج صباحا، يعتلي دراجته ويتجه نحو المزابل وأماكن تجميع القمامة،  يدور عليها،  ويقف قرب بعضها، وهو يدقق فيها بنظرة المتأمل،  لكنه يعود دون أن يجلب شيئاً، يركن دراجته في ما تبقى من البيت بعد أن أكلت النار كل شيء فيه، ظل يتساءل عمن أشعلها؟،  ظن بأخوة أم مشتاق.  يبدأ حال وصوله بنقل ما أحترق بعربة صغيرة يدفعها، لم يطلب مساعدة من أحد رغم أننا عرضنا عليه ذلك،  يرفض ذلك بشدة ويواصل حمل ما يتساقط على الأرض أثناء دفعه العربة الخشبية المدعمة بالكثير من الألواح الحديدية، يعمل بصمت عجيب، حتى اليوم الذي عاد فيه فجرا وهو يصطحب امرأة معه، وقبل أن يسأله اح ،  قال أنها زوجتي، لدي أعمام في الريف زوجوني إياها، لم نصدق، لأن النسوة اللواتي حاولن أن يزرنها في الغرفة الوحيدة التي بقيت سالمة من الحريق، خرجن بانطباع غريب في وصف شكلها،  فهي تبدوا  وكأنها متسولة،  هكذا رأين شكلها ووضعها في الأيام الأولى من دخولها الدار المحترقة وقبولها السكن غرفة مكشوفة على الشارع،  غرفة بلا نافذة، خالية من أيٌ أثاث عدا الفراش الرث.

كان الغضب الذي كان يعتريه حينما يرى إحداهن تقترب من بيته.

شمر عن ساعديه وأصلح الكثير من أجزاء البيت بما فيها السياج الخارجي الذي وضع فيه بابا عاليا،  لم نسمع من المرأة صوتا، ولم نرها. ولم تستطع النسوة أن تكلمها، إذ كان يحكم إغلاق الباب حينما يخرج فجرا، يعود متجنبا النظر إلى وجه أحد من الزقاق، يعود حاملا كيسا شفافا يبين من خلاله لفات الفلافل وصمون وبصل، يدخل البيت ويبدأ فوراً العمل وحيدا. يحمل الطابوق حينا ويحمل الأسمنت حينا أخر، هكذا وببطء هائل أكمل بناء السياج الخارجي ووضع الباب، ولما أحكم مدخل البيت بدأت رحلة الغموض، يغلق الباب ويبدأ العمل داخل البيت حتى اليوم الذي سمعنا فيه صراخا يأتي من بيته، فكنا نقترب لكن الصراخ يتحول إلى ضحك وبكاء وأنين متواصل طوال الليل، يتكرر الأمر مرات عديدة في الليلة الواحدة، مما سبب قلقا للجميع. اقترحت أن نفاتحه فتنصل الجميع من ذلك، فعزمت وحدي على ذلك لعلاقتي الحميمة به، وخططت على أن أتحدث معه حالما يعود من جولته الصباحية. لكن قبل أن اذهب إليه حدث أمر سهل من مهمتي، فقد سمعنا اصطفاق البوابة الحديدية الكبيرة، ثم رأينا طالب يركض خلف كتلة من السواد، الكتلة التي تشكلت فيما بعد على هيئة جسد بشري بيد مرفوعة للأعلى ، كانت المرأة المرعوبة لا تعلم كيف يمكن لها أن تتخلص من الصوت الضاج وهي تسمع وقع الأقدام الضخمة التي كانت تضرب الإسفلت بقوة إلى أن تمكنت من التخلص من الكف العملاقة قبل أن تسقط على ظهرها إذ دخلت بابا مشرعا بلغته بعناء. أغلق الباب خلفها بمزلاج، فوقف طالب مشدوها لا يعرف ماذا يفعل للحظات، ليبدأ بضرب الباب والصراخ حتى كان صراخه يصل إلى أخر الزقاق، ثم حل صمت قطعه نشيجه المتواصل. لم يرفع عينيه حتى اللحظة التي أمسكت فيها كتفه، فانتبه لي ومسح وجهه بمنديل متسخ ونهض، أمسكته من يده بمودة ودرنا حول الزقاق، ولأني كنت أدرك توتره وغضبه وحزنه، بقيت صامتا وكتفانا يكادان أن يتلامسا، ابتعدنا كثيرا عن الزقاق، ودخلنا مقهى، طلب شايا ورفض السيكارة التي قدمتها إليه، أخرج علبة سكائر من جيبه وبدأ يدخن وعيناه معلقتان في السقف، لزمت صمتي وطلبت لنا شايا آخر:

ــ   هل تصدق ... أنا غير مصدق .. أن ما حدث كان حقيقيا..

لم أفهم فسألته:

ــ  ما لذي أصدقه أو لا أصدقه؟!.

قاطعني بحدة، كأنه لم يسمع سؤالي:

ــ  أنا غير مصدق أن الأمر كان حقيقيا،  ربما أنا في حلم!.

ولم أرد فصمت، سألته:

- وبعد؟.

ــ   أنا لم أحب احد من هذا الحي كله إلا أنت، هربت الملعونة رغم أني طوال الليل اروي لها ما عشته يوما.. يوما ، مذ كنت طفلا ، بلا أب وأم، لو تركوني أموت حينما أصبتُ ،  لكان الأمر أفضل بكثير، لقد هربت هي الأخرى ، وقبلها أم مشتاق.. وابني مشتاق،  رأيت دمعا غزيرا ينساب على وجنتيه المتغضنتين بغبار أعوامه التي قاربت الستين،  ثم أردف بعد فترة الصمت: - توقعت أن تأتي  بعد أن تبدأ بصراخها وعوائي  طوال الليل توقعت أن تأتي قبل أن تهرب الملعونة، دعك من هؤلاء الذين هم عبارة عن مجموعة من المجانين.

سألته عنها ، فأجابني بنفس النبرة:

- وجدتها تلوذ بجدار قريب من المزبلة بينما كنت أقف أتأمل قطع الحديد ا. خافت أول الأمر لكنها دققت في ملامحي، ربما كانت تعرفني فكلانا مشردان في تلك الصباحات، أشفقت عليها وجلبتها إلى البيت، وعملت ما رأيته من اجله ، قلت لها نتزوج، ولكني عاطل، ضحكت أول الأمر، وافقت وهي تضحك، قلت لها هذا بيتك، ابقي فيه وإياك من معاشرة نساء الزقاق، لكنها لم تلتزم ورأيتها لمرات معهن وهي تحدثهن عن رجل عاطل، أقول لك أنها تعلم أنني لا أكره شيئاً في العالم أكثر من السرير في الليل .. لكنها كانت تضطهدني وتدعوني إلى السرير  صباحا  بعد أن اجلب لها فطورها. كنا سعداء أول الأمر، لكنها بعد فترة راحت تطلب مني أن ادخل معها  الفراش، أقول لها دائما، أنا عاطل، وكان هذا شرطي معها، أنا أخاف السرير.

ــ   لماذا يا طالب ..؟

ــ  حينما أضع رأسي على الوسادة، تمتد يدي بلا وعي مني نحو عضو ذكورتي، وحينما لا أجده تنتابني رعشة، وأبدأ أتأوه حاسا بفراغٍ هائلٍ في جسدي، فأبقى أتقلب في الفراش حتى اللحظة التي ينبهني فيها ديك غريب، إذ كان يصيح صياحا خاصاً أميزه من بين جوقة الديكة، صياح أعرفه، صياح لذيذ وحاد حينما أسمعه أغادر سريري متجها نحو الدراجة لأتواصل مع الصباح الذي يتدفق أمامي بهدوء.

ــ  ومتى تنام ...؟

ــ  لا أنام إطلاقا، ربما أسقط على جدار وأنا أغوص في غفوة قصيرة

ــ  وماذا تفعل حينما تطلب منك أن تدخل معها الفراش؟!.

واصل وهو يكاد ينتحب:

ــ  أبقى حائرا.. خائفا ومتوترا.. أحيانا أتخلص منها وأصرخ بصوت يشبه العواء.. لكنها تجيبني بصوت أعلى..فكنت أخشى ممن يسمع صياحنا طوال الليل فأستسلم

ــ   ماذا تفعل ..؟

ــ   أستسلم  لها .... فهي تعرف أمر ذكورتي التي استلبتها الحرب، وتعرف ما يجري، أقول رغم معرفتها بأن جسدي سيبدأ بالارتعاش منتظرا صديقي الديك، أبقى حائرا ، لا أعرف ماذا افعل ، ثم أنصاع إلى إلحاحها، فأدخل معها الفراش، ونبدأ بعناق متعجل، تطلب مني أن أولج شيئا هناك،  فلا أجد إلا أصابعي، فعلناها  لمرات، وزادت في إيذائي كل ليلة.. تريد أن نكرر الأمر.. وأدفع أنا ثمن نزوتها التي تجعلني أتحسر على أيامي قبل الحرب اللعينة، أواصل ارتجافي وتقلبي حتى الصباح الذي يتواصل مع ليل مفجع، شرحت لها هذا وأنا أكاد أتوارى أمام نظراتها المحتجة، قبل أن تصرخ في وجهي (أنها ستغادر) قالتها لمرات ومرات حتى هذا اليوم الذي استطاعت فيه أن تفتح الباب فيما أنا مشغول بإغفاءة قطعت بصوت الباب وهو يفتح.

وقبل أن ننهض من المقهى،  لمحت من جديد دخانا يتصاعد من عيني طالب، كان لون الرماد يتداخل مع وجهه وشعره الكثيف، حقا كان الدخان الذي يخرج من رأس طالب ذو رائحة حادة تركت ثقلا كبيرا وغصة ذات صوت يشبه صوت اصطفاق البوابة الحديدية. ودعته  كان رأسه قد اختفى تماما من كثافة دخان أعماقه وهو يغلق الباب بسرعة.