تقدم (الكلمة) هنا أهم ما كتب من دراسات عما جرى مؤخرا في مصر. تكشف عن حركية الثورة المصرية وآمالها، وعن كيفية انخراط الإخوان في مسار الثورة المضادة، وأن انحياز الجيش للموجة الثانية من الثورة قد يكون محاولة لترويض الثورة وبناء مسار سياسي جديد للثورة المضادة، كي ترهف بوصلة الثورة من جديد.

ما الذي يحدث في مصر الآن؟

عن سقوط المسار السياسي الأول للثورة المضادة في مصر وآفاق المستقبل

أشرف الشريف

نستطيع أن نقول إن ما يحدث في مصر، منذ الحراك الشعبي الواسع في 30 يونيو ضد حكم الرئيس السابق محمد مرسي، يشكل بمثابة عودة إلى ثورة يناير 2011 ومعاركها الأصلية ضد سلطوية الدولة القديمة. وذلك بعد عامين ونصف من التشويش والإرباك المتعمد، الذي أحدثه المسار السياسي الكارثي بهندسة المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين منذ 11 فبراير 2011. وجاء ذلك بهدف إجهاض الثورة وما تحمله من وعد بتحولات جذرية في بنية السياسة المصرية. ثورة يناير منذ بدايتها كانت ضد الاستبداد، والسلطوية الدولية، والقهر البوليسي، وانتهاك حقوق الإنسان. وكانت ضد اقتصاد سياسي لا تنموي قائم على رأسمالية المحاسيب، والريع، وسوء توزيع الدخل، والفساد، والظلم الاجتماعي.

إن الهدف من الثورة، كان وما زال، تفكيك الدولة القديمة القائمة على استبعاد غالبية المواطنين من عملية صناعة القرار. ويأتي هذا الاستبعاد لصالح هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية والنخب البيروقراطية والأوليجاركيات الاقتصادية. وتأتي أهداف الثورة من أجل بناء دولة ديمقراطية جديدة. تستوعب هذه الدولة جمهور المواطنين كفاعلين أصليين داخل عملية صنع القرار والسياسات العامة، وما يستلزمه هذا من إعادة بناء مؤسسات الدولة. وكذلك تغيير شكل ومضمون علاقات الدولة بالمجتمع والمواطنين. وإعادة تأسيس لمفهوم حكم القانون، إضافة إلى توسيع وتجذير المجال العام والمجتمع المدني والحريات العامة والخاصة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمساواة والتعددية الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى إدماج الأقليات والهوامش داخل الدولة والمجال العام. ستكون هذه الدولة الجديدة بشرعيتها الديمقراطية التشاركية أكثر قدرة على بلورة سياسات عامة تخدم مصالح أوسع قطاعات ممكنة من المواطنين. كما ستتمكن هذه الدولة الجديدة من تحقيق الإنجازات المتعلقة برفع مستوى المعيشة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسعي نحو العدالة الاجتماعية وتحسين شروط الحياة لأغلبية المواطنين. الأمر الذي فشلت الدولة القديمة في تحقيقه بصورة واضحة.

إن الخصم هنا واضح: إنه أجهزة الدولة القديمة العسكرية والمدنية. أضف إلى ذلك، كل ما ارتبط بهذه الأجهزة من شبكات مصالح ونفوذ داخلها وخارجها. أما الفاعل الثوري من الجهة الثانية فهو واضح: فهو يضم طيفاً واسعاً من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والثورية وقطاعاً ضخماً من القوى الشعبية غير الممثلة داخل الدولة القديمة. تلك الجهات الطامحة إلى تغيير السياسة المصرية من الجذور، بغية تحسين أحوالها ونيل حقوقها.

أين هي جماعة الإخوان المسلمين من هذا الصراع؟
إن الإخوان هنا دخلاء على هذا الصراع، فالقضايا المطروحة أعلاه ليست قضاياهم أو معاركهم. إن طبيعة تكوين وفكر وانحيازات الإخوان، السياسية والاقتصادية والثقافية، تجعلهم رافضين تماماً لأي شكل من أشكال التجذير السياسي الثوري. بل إن هدفهم هو وراثة الدولة القديمة كما هي. لكن الإخوان يريدون مع هذه ”الوراثة“ احتلال موقع القيادة والسيطرة، الذي يرونه ضرورياً من أجل تحقيق مشاريعهم الأيديولوجية.

شارك الإخوان، منذ اللحظة الأولى، سوياً مع المؤسسة العسكرية - وبدعم أمريكي واضح- من أجل بناء ديمقراطية إجرائية محافظة. تتحول مع مرور الوقت إلى سلطوية انتخابية تقوم على مجال سياسي جديد مفتوح ولكن ضيق. مجال قائم بالأساس على الانتخابات كمفهوم وحيد للممارسة السياسية، ويعطي شرعية للنظام الجديد/ القديم. كما يرتكز هذا المجال على وضع سقف دستوري وسياسي يحد بصورة فعلية من قدرة القوى الحزبية على تغيير السياسات العامة عبر الصندوق. إضافة إلى عدم وجود أي ضمانات حقيقية لحقوق الإنسان، كما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. أضف إلى كل ذلك التضييق الدستوري والسياسي والقانوني على كل حركات الاحتجاج النقابية والعمالية والحقوقية والاجتماعية. هذه الحركات التي من المفترض أن تؤذن بتغييرات أكثر جذرية في بنية السياسة والاقتصاد في مصر. بل وعلى المدى المتوسط والأطول يمكن أن تعمد القوى المهيمنة على الدولة وحلفائها في المجال الانتخابي إلى استخدام أدوات هيمنتها للتأثير على مجريات العملية الانتخابية ونتائجها وقد ظهرت بوادر هذا في الانتهاكات التي شابت عملية التصويت على الدستور الإخواني العسكري في ديسمبر 2012.

تلاقت هنا مصالح الأطراف الثلاث: الدولة القديمة بمؤسساتها المدنية والعسكرية، والإخوان، والإدارة الأمريكية. من جهة، تضمن مؤسسات الدولة القديمة، وفي قلبها المؤسسة العسكرية، عدم الاقتراب من دورها المتحكم ومصالحها التي ترسخت عبر عقود طويلة من حكم الدولة القديمة السلطوية المستعلية على المواطنين. أما الطرف الثاني، وهم الإسلاميون وجماعة الإخوان في قلب الكتلة الإسلامية، فيستغلون ميزتهم الانتخابية النسبية الراهنة بغية تحقيق أغلبية انتخابية تسمح لهم، على المدى البعيد، بتحقيق مشروعهم السلطوي وفهمهم للدولة الإسلامية. ويقوم على فرض تصور الجماعة الهوياتي والشمولي الطابع بقوة الدولة على المجتمع. ذلك التصور المؤدلج حول السياسة والقانون والثقافة والمجتمع والأخلاق. مما يؤدي إلى طمس التعددية والاختلاف. وأما الطرف الثالث، وهو الولايات المتحدة، فتستمر، فيما تراه استثماراً ناجحاً، في دعم حركات الإسلام السياسي "الوسطي" ”المعتدل“.

يرتكز هذا التصور الأمريكي على معتقد استشراقي ثقافوي، روجت له الكثير من مراكز الأبحاث الأمريكية في العقد الأخير، يتلخص في التالي: إن أحزاب الإسلام السياسية الوسطية المعتدلة هي قدر المنطقة العربية والإسلامية وهي المُعبر الأبدي عن رغبة ومزاج وإرادة وثقافة جماهير تلك البلاد، ومن ثم فهي تحتكر تمثيل الشرعية الشعبية بالإضافة إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية التي تكفل لها التحكم في الشارع العربي وضبطه. ولذلك فإن هذه الحركات هي الضمان الأفضل للاستقرار السياسي وحماية المصالح الأمريكية خاصة، والغربية عامة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها أمن البترول وإسرائيل واحتواء إرهاب الحركات الإسلامية المتطرفة. وبناء على كل ما تقدم، ترى الولايات المتحدة أنه يجب تشجيع بروز الديمقراطيات الإجرائية الأليفة في دول الربيع العربي وبقيادة حركات الإسلام السياسي المعتدل. وذلك لأن هذه الحركات ستحترم معادلات الحكم والمصالح القائمة أمنياً واقتصادياً واستراتيجيا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية بالإضافة إلى احتوائها خطر الحركات الإسلامية المتطرفة. وهو ما يشار إليه عادةً بالنموذج التركي أو نموذج حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا.

لماذا سقط الإخوان؟
إن سقوط الإخوان كان بمثابة نتيجة منطقية بسبب طبيعة تكوينهم السياسي والتنظيمي والأيديولوجي. وذلك على عكس ما يروج له الإخوان من حديث عن المظلومية الأبدية التي تلحق بهم. إضافةً إلى محاولة تصوير سقوطهم كنتيجة لمؤامرة فلولية وانقلاب عسكري أطاح بهم وليس الإرادة الشعبية. كما الكثير من الترهات التي تروج لها وسائل الإعلام الأمريكية.

حركة الإخوان عبارة عن طائفة دينية واجتماعية مغلقة تتبنى تصورات هوياتية سلطوية حول الجماعة كراعية وحافظة للهوية الإسلامية القارة والثابتة للمجتمع، والتي تحتاج إلى التنزيل السلطوي عبر جهاز الدولة المركزية الحديثة، لتضمن أداء دورها على أمثل وجه. كما أن الحركة تتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية يمينية محافظة. ولذلك لا يمكن الإشارة لهم كقوة تغيير بأي معنى من المعاني. ذلك وعلى الرغم من تحالفهم مراراً مع العديد من القوى الثورية عبر مراحل الثورة المختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أثناء انتفاضة الـ18 يوماً التي أدت إلى تنحي مبارك وأثناء المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2012. إلا أن حركة الإخوان ظلت دائماً بعيدة عن كل آفاق التغيير الديمقراطي السياسي والاقتصادي، كما شرحناه أعلاه. وتجلى هذا عبر عدة محطات مهمة من ضمنها: الدستور السلطوي العسكري، والسياسات والتشريعات التي أعدتها حكومة الرئيس مرسي ومجلس الشورى الإخواني. تلك السياسات والتشريعات المراد منها تقييد حرية التظاهر والجمعيات الأهلية والإعلام وتداول المعلومات والنقابات العمالية وملاحقة الناشطين السياسيين قضائياً وأمنياً. إضافة إلى محاولة وضع أنصار الحركة والأتباع داخل مواقع السلطة التنفيذية والإدارية والقضائية. أضف إلى كل ذلك مسألة توزيع ”الغنائم“ وهو ركن أساسي في منهج عمل أي طائفة سياسية واجتماعية. كما الاستمرار في سياسات رأسمالية المحاسيب والاقتراض والريع دون أدنى اكتراث بقضايا الإصلاح الاقتصادي. ناهيك عن التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية. وأخيراً، ممارسات التحريض الطائفي والمذهبي، والعنف ضد الخصوم السياسيين، والتي أوجدت حالة من الصراع والاقتتال السياسي والاستقطاب المستمر.

ومن جهة أخرى، حاول الإخوان مسايرة قوى النظام القديم ومؤسساته. ومن المثير للسخرية أن يتحدث الإخوان عن مخاطر حكم العسكر بينما شاركوا هم، جنباً إلى جنب مع العسكر، في تخطيط المرحلة الانتقالية. بل إنهم قاموا بـ”شيطنة“ الحركات الاحتجاجية التي قامت ضد حكم المجلس العسكري. حتى إنهم انحازوا للمجلس العسكري أثناء قمعه للثوار في مذابح ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، كلها وقعت بين سبتمبر وديسمبر2011. كما ضمن الإخوان للمؤسسة العسكرية كل ما تريده من امتيازات وحصانة من مراقبة المؤسسات المدنية، ومواقع تتحكم في شؤون الأمن القومي والاستراتيجية وذلك من خلال الدستور العسكري- الإخواني، الذي شهد اختلالا واضحاً في القوى والعلاقات المدنية العسكرية لصالح المؤسسة العسكرية.

رفض الإخوان أيضاً، وبإصرار، المضي قدماً في أي من مشاريع العدالة الانتقالية ومشاريع إعادة هيكلة أجهزة الشرطة ومحاسبتها. سواء كان ذلك في فترة مجلس الشعب المنحل أو في عهد حكم الرئيس مرسي. بل على العكس من ذلك، فقد قاموا بتكريم قيادات الشرطة والمجلس العسكري ومضاعفة ميزانية كلا المؤسستين. وأخيراً، حاولت حكومة الإخوان مراراً وتكراراً التصالح مع الأوليجاركيات الرأسمالية الموروثة من عصر مبارك قانونياً وسياسياً. وبالرغم من ذلك فقد فشلت محاولات الإخوان في بناء تحالف يميني اجتماعي حاكم، مما ساهم في فض الدولة القديمة من حولهم أمام الانتفاضة الشعبية التي شهدها الـ 30 من يونيو.

ويعود هذا الفشل إلى عاملين. الأول: نقص الكفاءة لدى الأخوان، إضافة إلى قدراتهم الضعيفة على بناء التحالفات السياسية، حتى حول المسائل التي قد تكون هناك مساحات اتفاق حولها. على سبيل المثال، كتابة الدستور، وتشكيل الحكومات والتحالفات الانتخابية. لكن العامل الأهم في كل ذلك هو أن تكوين الإخوان كطائفة دينية واجتماعية مغلقة، لا تفتح بابها للآخرين ”كزبائن“ محتملين، يثير الشك والريبة والتوجس عند الشركاء المحتملين داخل الدولة القديمة. والمقصود بهؤلاء الشركاء، الجيش والشرطة والقضاء والبيروقراطية، وهي أجهزة محملة أصلاً بعداء قديم للإسلام السياسي. كما أن هذه الأجهزة تتميز باختلاف كبير في تصوراتها مقارنة بالإخوان حول ”المصلحة الوطنية“ و”رؤية العالم“ و"الأمن القومي المصري". ولم يدخر الإخوان وسعاً في إثارة مخاوف مؤسسات الدولة القديمة وهي ترى مؤسسة الرئاسة تغض الطرف عن حوادث العنف والتخريب والإرهاب التي تقوم بها جماعات محسوبة على التيار الإسلامي –قاعدة التأييد الأساسية لسلطة الإخوان- في سيناء بالإضافة إلى العنف والتحريض الطائفي واستهداف الشيعة والأقباط على يد منتسبين إلى التيارات الإسلامية بشكل يهدد بإثارة عنف أهلي واسع وهو خط أحمر بالنسبة لمؤسسات الدولة القديمة.

وبهذا تفشل محاولة الإخوان بأن يصبحوا الطبقة السياسية الجديدة القادرة على توحيد تحالف مؤسسات الدولة الحاكمة. بل تكون هذه المحاولات أقرب منها إلى محاولات استتباع هذه المؤسسات والسيطرة عليها بدلاً من أن تكون هناك تفاهمات مشتركة معها. على سبيل المثال النزاع بين الإخوان والمؤسسة القضائية. وغني عن القول إن أجندة الإصلاح والتطهير الحكومي أصبحت غير مطروحة أصلاً. فما نراه على الساحة ليس أكثر من محاولات إخوانية للتغيير، عبر اختراق المؤسسات القديمة أو خلق هياكل جديدة موازية. وهو ما يراه الآخرون (عن حق) ليس أكثر من تمكيناً للإخوان. ولهذا فقط انفضت الدولة القديمة من حول الإخوان. ولا يأتي هذا الانقلاب بسبب كراهيتهم للمشروع الإخواني الإصلاحي التغييري، كما يدعي الإخوان، بل بسبب عجز الإخوان عن إعادة تأسيس الاستبداد بشكل كفء وفعال وبالتراضي مع الآخرين والشركاء المحتملين في الدولة القديمة. إذن، وبرغم كل بروباجندا الإخوان حول "الدولة العميقة" المعادية لهم فقد خانهم التقدير في القراءة الصحيحة لموازين القوى بين الجانبين من ناحية، ومتطلبات التعاون والشراكة مع هذه الدولة. كما أنه قد ثبت أن مخاوف القوى المدنية من الدولة الإخوانية الدينية قد بالغت في تقدير قدرات جماعة الإخوان السياسية والمؤسسية والمادية والتنظيمية على اختطاف الدولة المصرية وأخونتها، كما أن هذه المخاوف لم تعِ قوة مؤسسات الدولة السلطوية المصرية وتشابك مصالحها وتربيطاتها العصية على الاختراق أو التطويع.

ومما زاد الطين بلة الفشل المذري للإخوان في إدارة دولاب العمل الحكومي. ولعبت عوامل عدة دوراً في انضمام المواطنين العادين للاحتجاجات بعد انسداد آفاق الأمل بتحسن الأوضاع التي اتسمت باحتدام أزمات الكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات وازدياد غلاء المعيشة. كما شهدت البلاد حالة من السخط العام على جماعة فشلت في إدارة البلاد، وتديره بمنطق الطائفة والمافيا المغلقة ذات المصالح الخاصة والامتدادات الإقليمية والدولية. وتثير المخاوف حول تدخلها في الحياة الخاصة للمواطنين بشكل يحد من حريات الناس. وعلاقة المواطن العادي بالطائفة الإخوانية تبقى دائماً علاقة مركبة ففي أوقات المظلومية التاريخية لهذه الطائفة في عصر ما قبل الثورة من الممكن أن يتعاطف المواطن مع الإخوان، بل ويشعر بالإعجاب بتقواهم وورعهم الذي يتمنى أن يكونه. لكن هذه المشاعر تتبدل بسرعة شديدة إلى العداء والنفور والكراهية إذا ما أحس أن هذه الطائفة لا تهتم إلا بمصالحها الذاتية، وأن ولاءها لامتداداتها الخارجية وليس لهذا البلد، وأنها تعمل ضد مصلحة البلد.

إن هذا الانتقال من مشاعر التعاطف الشديد إلى الكراهية الفائقة تحكمه دائماً وضعية غربة الطائفة وأنها ببساطة كيان متماه مع نفسه فقط، ولا يقبل الاندماج داخل المجتمع. ولقد حاول الإخوان تجسير هذه الفجوة وحققوا نجاحاً نسبياً في العام الأول للثورة، وكانت ذروة نجاحاتهم في الانتخابات البرلمانية عام 2011. كان تصويت أحد عشر مليون مواطن لهم هو استجابة لمحاولات الإخوان استخدام خطاب غير ديني وغير إخواني أثناء الانتخابات وعبر شعار "معاً نحمل الخير لمصر" حاول الإخوان تصوير أنفسهم علي أنهم حزب وسطي محافظ، قادر على تمثيل الشعب وتحمل مسؤولية قيادته. لكن، وأمام انخراط الإخوان في مسار الثورة المضادة أكثر فأكثر، وزيادة الافتراق بينهم وبين قوى الثورة وتعقد الحسابات بينهم وبين مؤسسات الدولة القديمة، قاموا بتغيير التكتيك واستعادوا خطاباتهم الإخوانية الإسلامية الكلاسيكية اعتماداً على قاعدة التأييد الإسلامية (وبدا هذا في المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة في 2012 مثلاً) وقد أوجد هذا حالة الشقاق والنفور من عامة المواطنين، والتي تصاعدت مع تزايد الإحباطات والأداء المخيب للآمال كما أسلفنا.

إذن تلاقى غضب قوى التغيير الثورية ومؤسسات الدولة القديمة وجموع المواطنين العاديين لتصبح السلطة الإخوانية معزولة. وأصبح اعتمادها على قاعدة تأييد التيار الإسلامي فقط، وهو الذي زادت ممارساته التحريضية والتكفيرية الساخطين سخطاً. ومن المنطقي أن يسقط حكم الإخوان هنا لأن من يعادي الجميع يخسر. ومن المدهش أن كل الفرص الممكنة لتفادي نهاية حكم الإخوان قد أهدرها الإخوان الواحدة تلو الأخرى بإصرار عجيب. فمنذ استفحال الاستقطاب السياسي في مصر إثر أزمة الإعلان الدستوري الدكتاتوري الذي أصدره الرئيس مرسي في نوفمبر 2012 والإخوان مصممون على الاستمرار في مواجهة صفرية الطابع، لا تحتمل إلا إحدى نهايتين إما الفوز بكل شيء أو خسارة كل شيء وتحت الضغط السياسي تغلبت عقلية الطائفي المؤدلج (الذي لا يري العالم إلا عبر ثنائية الثبات والظفر بكل شيء أو المحنة والانكسار) قد تغلبت على عقلية التاجر المفاوض عند قيادة الإخوان. فبالتالي رفض الإخوان (قادة وجماهير) تقديم أي تنازلات سياسية حقيقية لقوى المعارضة خاصة بتغيير الحكومة والنائب العام وضمانات لنزاهة الانتخابات البرلمانية، ورفض الإخوان كل شيء إلا الاستمرار في سياستهم الفاشلة في التعامل مع مؤسسات الدولة القديمة. ورفضوا أخذ تصاعد الغضب الشعبي تجاههم بجدية. ونحّوا جانباً السياسة (بمعنى التفاوض والتهادن والحلول الوسط) لصالح تكسير العظام، وعض الأصابع. قام الإخوان بكل ما يستطيعون لإفشال أي محاولة للتغيير والإصلاح، مع بقاء حكم الرئيس مرسي. وقتلوا فرص أي تدخل سياسي ناعم من الدولة القديمة للضغط من أجل الإصلاح. وتم حصار أعداء الإخوان من قوى ثورية ومؤسسات دولة قديمة ومواطنين عاديين في ركن ضيق عنوانه "لا خلاص إلا عبر إسقاط حكم الإخوان."

والمدهش أن يفعل الإخوان كل هذا مع أنه من المفترض أنهم يعرفون أنه لا فرصة أمامهم للفوز في معركة صفرية يتحد كل الخصوم أمامهم فيها. وكانت انتفاضة الـ 30 من يونيو التي خرج فيها الملايين بمثابة الضربة القاضية في سقوط الإخوان. وكالعادة أهدر الإخوان فرصتهم الأخيرة في "الخروج الآمن" عبر التضحية بمحمد مرسي، والاستجابة لمطلب جماهير 30 يونيو بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. كانت هذه الاستجابة ستخلق  win-win situationفكانت ستضمن عدم تدخل الجيش المباشر، وتقوم بتهدئة الجماهير بمنحهم ما يطلبون، وتمنع العنف والتصعيد من جانب الإسلاميين، وتمنح الإخوان فرصة التفاوض حول مواقعهم داخل المسار السياسي الجديد عقب الانتخابات الرئاسية المبكرة. لكنه منطق اللعبة الصفرية الذي حكم قرارات الإخوان من البداية إلى النهاية. فلم تجد المؤسسة العسكرية بديلاً عن التدخل المباشر لعزل مرسي، خوفاً من أن يؤدي تصاعد المد الشعبي الغاضب إلى انهيار الدولة ككل. كما جاء هذا التدخل في محاولة لامتلاك زمام المبادرة، وترويض الحركة الجماهيرية، وبناء مسار سياسي جديد للثورة المضادة، يستكمل ما فشل المسار الأول المنهار في تحقيقه.

وللتذكير فقد كان أحد أسباب دخول الإخوان انتخابات الرئاسة في 2012 هو ضرورة تفادي أن تسيطر مؤسسات الدولة القديمة على مقعد الرئاسة، وما قد يستتبعه هذا من إقصاء أو تهميش للإسلاميين. وللمفارقة، وبعد وصولهم للرئاسة، قام الإخوان بكل الجرائم التكتيكية والمواجهات الصفرية الانتحارية الممكنة الكفيلة بجعلهم يلاقون نفس المصير الذي خاضوا الانتخابات الرئاسية من أجل تفاديه. ولكن بأي تكلفة؟ بفاتورة أكبر بكثير دفعت حسابها عملية التحول الديمقراطي، وفرص التغيير الثوري في مصر.

والآن ماذا بعد؟
هناك ملفان رئيسيان على جدول الأحداث في المرحلة القادمة في مصر. الأول هو ملف مستقبل الإسلاميين، والثاني هو ملف المسار السياسي الجديد، أو ما أسميه بالمسار الثاني للثورة المضادة في مصر. أما فيما يتعلق بمستقبل الإسلاميين: نستطيع أن نقول –بقدر من اليقينية- إن انتفاضة 30 يونيو، وهي أضخم حشد جماهيري في تاريخ مصر وأضخم حشد جماهيري في تاريخ العالم الإسلامي ضد الإسلام السياسي، قد أعلنت نهاية مشروع الإسلام السياسي. والمقصود بنهاية مشروع الإسلام السياسي نهاية مشروع تأسيس الدولة الإسلامية بالمعنى الذي شرحناه سابقاً، لأنه قد ثبت وجود مقاومة مجتمعية شديدة لهذا المشروع، مما يجعل تحقيقه غير ممكن. وبغض النظر عن الطريق لتحقيق هذا المشروع، سواء كان ذلك عن طريق القوة، أو عبر صندوق الانتخابات، وإلا تكررت قصة محمد مرسي وسقوطه مرة أخرى.

لكن هذا لا يعني زوال الإسلاميين بأي حال من الأحوال. فالتيار الإسلامي سيبقى ممثلا لكتلة شعبية معتبرة في المجتمع المصري، كتلة لها تنظيمها الانتخابي القوي ولها حضورها السياسي والاجتماعي. ومن الممكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتملة فيما يخص مستقبل الإسلاميين بعد سقوط مرسي. والسيناريوهات الثلاثة تقوم على قناعة أن عودة مرسي للرئاسة صارت ضرباً من الخيال، وقادة جماعة الإخوان (وبعيداً عن كل تحريضهم العلني على التظاهر والاحتجاج للضغط من أجل عودة مرسي على طريقة هوجو تشافيز في 2002) فهم وقبل غيرهم يعرفون أن عودة مرسي هي في حكم المستحيلات فهذا خيار انتحاري بالنسبة لقادة الجيش. والكتلة الاحتجاجية المطالبة بعودة مرسي ترتكز فقط على التيار الإسلامي، وبالتالي فهي كتلة عاجزة عن فرض إرادة التغيير عبر معادلات الاحتجاج ناهيك عن تناقص حجم هذه الكتلة مع الوقت يأساً و قنوطاً. وأخيراً فحتى لو فرضنا جدلا أن المستحيل قد تحقق وعاد مرسي فببساطة سيتكرر مشهد 30 يونيو المليوني الاحتجاجي ضده مرة أخرى، وبشكل أكثر خطورة.

السيناريو الأول فيما يخص مستقبل الإسلاميين في مصر هو الدمج الصحي والإيجابي وعبر هذا الدمج يتحول الإسلاميون إلى أحزاب سياسية محافظة ثقافياً واجتماعيا، تتموقع على يمين المشهد السياسي وتفوز بحصص في المؤسسات المنتخبة. ومن الممكن أن تزيد أو تنقص هذه الحصص، بحسب وزنهم النسبي المتغير، ويمكن لهم أن يشاركوا في الحكومات المنتخبة. لكن يبقى ذلك في إطار قواعد عامة يتوافق عليها الجميع، فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة والدولة وضمانات الحريات والحقوق والفصل بين المؤسسات وغيرها. والشرط الضروري هنا هو أن يحدث هذا في إطار المشاركة لا الرغبة في الهيمنة والسيطرة. وهو بعكس ما جرى أثناء المسار الأول للثورة المضادة. إلا أن ذلك يستلزم تجديدات جذرية ومنهجية في أشكال التنظيم الحركي الإسلامي وفي فكر الإسلاميين. وخاصة فيما يتعلق بمواضيع المواطنة والحريات والحقوق والديمقراطية والتعددية. تجديدات تتجاوز الدعوات المألوفة للفصل بين الدعوى والسياسي وتذهب إلى آفاق أخرى تتعلق بقبول شرعية الجماعة الوطنية، وتذهب كذلك إلى فهم السياسة كمساحة للتدافع والاختلاف، وليس كساحة للغلبة والتمكين، والإنتقال من ”سياسات الهوية“ إلى ”سياسات التدبير“. إضافة إلى التخلي عن منهج شمولية العمل الإسلامي، والتعبئة الدينية الطابع (في حقيقة الأمر هذا التجديد لن يكتمل إلا على أرضية إصلاح منهجي وشامل في الفكر الإسلامي المعاصر فقهياً وعقائدياً مما قد يتسع الحديث له في موضع آخر). أيضاً، ووفق هذا السيناريو للدمج، فيجب أن تكف الأحزاب الإسلامية عن خلط الدعوي بالسياسي، وأن تخضع للشفافية فيما يخص تمويلها ومصادر إنفاقها، وحظر أي تمويل يعتمد على امتداداتها الخارجية، ومراقبة هذه الامتدادات والفروع الخارجية نفسها. ولا نرى حتى الآن مؤشرات على وجود استعدادات عند الإسلاميين لإجراء هذه التجديد الشامل. بل من المرجح أن يصطف الإخوان وراء قياداتهم التنظيمية العليا والوسيطة، على المدى القصير والمتوسط على الأقل، في وجه ما يرونه من أخطار وجودية أمامهم في المرحلة الراهنة. وهناك سيناريو آخر هو أن يتم التفاوض بين الجانبين ويقبل الإخوان بالتخلي عن مطلب عودة مرسي (غير الممكن ممكن عملياً) والتهدئة. وفي المقابل يقوم المسار السياسي الجديد بدمج الإخوان على شرط "مشاركة لا مغالبة" وضمان عدم ملاحقة قادة الإسلاميين أمنياً ولا قضائياً، بدون أن يلزموا الإخوان بأي تجديدات فكرية وتنظيمية حقيقية.

أما السيناريو الثالث فهو أن يسلك الإخوان درب سياسة الأرض المحروقة. بمعنى آخر اللجوء إلى التصعيد وإشعال العنف والاقتتال الأهلي والطائفي والفوضى الاجتماعية والسياسية. وهذا ما بدأ فيه الإسلاميون بالفعل، منذ إسقاط مرسي. وهنا ستصبح مواجهة الإسلاميين بشكل أساسي مع المجتمع وليست فقط مع الدولة. على عكس ما كان الحال عليه بين السبعينيات وحتى التسعينيات.

إن فرص كل من السيناريوهات المذكورة أعلاه مرهونة بأمرين. من جهة، مدى تحلي الإسلاميين بالعقلانية والمسؤولية للتخلي عن عقلية المباريات الصفرية والصراعات الوجودية وسياسة الأرض المحروقة، والتي ستطالهم هم أولاً قبل غيرهم. إضافة إلى ذلك يتعلق الأمر بمدى رغبتهم بإجراء المراجعات الشاملة المطلوبة والقبول بالمساومات والتفاوض السياسي حول مواقع لهم داخل المسار السياسي الجديد. ومن جهة أخرى، يتعلق الأمر بمدى قدرة المسار الجديد على دمجهم بشروطه. وعلى الرغم من أن أمر الدمج يبدو صعب المنال ومحفوفاً بالمخاطر، إلا أن هذا السناريو محتمل بسبب تداخل المصالح الاقتصادية والتجارية و الاجتماعية. إضافة إلى الأدوار الإقليمية التي لعبها الإخوان في السنوات الأخيرة. كما أن الاعتبارات العملية والأمنية التي تحكم المؤسسة العسكرية، ممكن أن تؤدي إلى دمج الإخوان حتى دون أن يقوموا بمراجعات وتغييرات لازمة في فكرهم وتنظيمهم، وذلك نظراً لتداخل الأدوار والمصالح. حيث أن المؤسسة العسكرية تقود المسار السياسي، ولا ترغب بتحمل العبء والثمن الذين يمكن أن ينجما عن اصطدام واسع مع الإخوان وإقصائهم. بالإضافة إلى هذا فعلي المدى الاستراتيجي الأبعد يمكن لنا أن نقول أن مؤسسات الدولة القديمة ترغب دائماً في إبقاء التيار الإسلامي على الساحة كتيار معارض رئيسي هو في حقيقة الأمر متصالح أيديولوجياً وسياسياً مع معادلات الحكم الخاصة بعلاقة الدولة السلطوية مع المجتمع والمواطن. ويتم توظيف هذا التيار دائما كعامل إرباك وتشويش وتجريف واستنزاف للطاقة السياسية للمعارضة والقوى الشعبية. من الناحية الأخرى فمن المرجح أن تستمر قيادات الإخوان فيما برعت فيه دائماً من خيارات تكتيكية مثل الحفاظ على وحدة الجماعة عبر منطق الاصطفاف لمواجهة الخطر الوجودي، واستخدام شعارات الهوية والشريعة الإسلامية لتوحيد صفوف الجماعة وكسب تعاطف القوى الإسلامية الأخرى. ومن ثم يتم تأجيل التجديد الفكري والتنظيمي المطلوب إلى أجل غير مسمى.

لا يعني هذا أن سيناريو العنف و التصعيد غائب عن اللعبة بتاتاً، لكنه على الأرجح لن يكون على الطريقة الجزائرية شديدة الدموية. لأنه في حالة الجزائر وعقب الانقلاب العسكري على نتيجة الانتخابات البرلمانية في 1992 كانت هناك مؤسسات دولة قوية عازمة على استئصال الإسلاميين، وكان هناك تيار إسلامي تعرض لمظلومية حقيقية (لأنه حرم من نتيجة فوزه الانتخابي) وحاضنة شعبية تتعاطف مع هذا التيار، أو على الأقل لا تشارك في حرب الدولة ضده. بينما في حالة مصر فالدولة لا ترغب في استئصال التيار الإسلامي، ولا تريد تحمل تكلفة هذا. ومن الصعب الحديث عن مظلومية التيار الإسلامي في مصر، فقد أخذ فرصة حقيقية للحكم وفشل فيها وفقد شرعيته. وأخيراً فالمجتمع المصري قد ثار بالفعل ضد حكم الإخوان وأبدى معدلات عالية من الكراهية والنفور الاجتماعي ضد التيار الإسلامي. وبالتالي فهو لن يوفر أي حاضنة شعبية للعنف الإسلامي.

إذن فالمرجح هنا هو أن أي عنف إسلامي في مصر سيظهر بصيغة ما يعرف بـ (Low intensity conflict) و العنف العشوائي على مستوي القواعد الشعبية الإسلامية هنا وهناك. إضافة إلى التعبئة السياسية الاحتجاجية الإسلامية المستمرة عبر الاعتصامات والمسيرات والتظاهرات. وهذه التعبئة الاحتجاجية تلعب أدواراً مركبة فهي مطلوبة من جانب الإخوان من أجل إبقاء المجال العام هشاً وضعيفاً ومحاصراً و تخريب المسار السياسي. وبالإضافة إلى هذا فهي توفر مساحة للدفاع نفسياً واجتماعيا عن وجود التيار الإسلامي، وإثبات قوته وقدرته على المواجهة والكفاح والبقاء والصمود، أمام الممانعة الاجتماعية العاتية. وذلك حتى تتغير الظروف والأحوال و تسمح بالـعودة come-back (الرسالة هنا موجهة للأنصار والاعداء معاً). يحتاج التيار الإسلامي إلى تمثيل معين للنضالية والمعركة وإلا بهتت جذوته. أيضاً من الممكن له أن يكتسب تعاطف الكثير من المتدينين الذين أقنعتهم البروباجندا الإخوانية بأن الرئيس القادم بعد مرسي سيستهدف مظاهر هويتهم الدينية، ويمنعهم من أداء الطقوس والشعائر الدينية الإسلامية، مثل أداء الصلوات وارتداء النساء الحجاب وغيرها.

وفي مقابل هذا التصعيد من جانب الإسلاميين فلن تتردد المؤسسة العسكرية في الاستخدام الانتقائي للعنف المفرط ضد الإسلاميين من أجل ترسيم الخطوط الحمراء في الاشتباكات وتحديد ما لن تتسامح معه (مذبحة أحداث الحرس الجمهوري فجر الثامن من يوليو 2013 نموذجاً). ففي مقابل صمت الجيش أمام معارك الإخوان مع الأهالي في مناطق مختلفة منذ انتفاضة 30 يونيو في الإسكندرية والجيزة والصعيد (لعله نوع من الاستنزاف للطرفين لكي يتعزز دور المؤسسة العسكرية في النهاية شعبياً كحامٍ للمجتمع) تحرك الجيش، وبمنتهى الوحشية، أمام محاولة الإخوان الاقتراب من أبنية الحرس الجمهوري؛ مؤكداً أن مناطق نفوذه ومايراه "هيبة للدولة" هي الخط الأحمر الحقيقي بالنسبة للمؤسسة العسكرية. ومن الصعب توقع مسار واضح تؤول إليه الأحداث في ملف الإسلاميين. لكن الأقرب إلى الحدوث هو مزيج من السيناريوهين الثاني والثالث. ويتفق هذا مع مناهج عمل قيادة الإخوان والمؤسسة العسكرية وتداخل مصالحهما والعقل التكتيكي الذي يحكم قراراتهما.

لكن في حقيقة الأمر فهذا التوازي بين السناريوهين من الصعب الحفاظ عليه وهو أشبه باللعب بالنار. ويتصور قادة الإخوان أن التصعيد يمكن أن يبقى دائماً تحت السيطرة، ويتم توظيفه كورقة تفاوضية وقت اللزوم. لكن في حقيقة الأمر فمن العسير أن يلجم قادة الإخوان القواعد الشعبية الإسلامية ويدجنوها بمنطق التفاوض البراجماتي في السيناريو الثاني، والذي يستلزم التخلي عن محمد مرسي (الذي تمت تعبئتهم للدفاع عنه وفقاً للسيناريو الثالث بوصفه رمزاً لوجود الإسلام في مصر). ومن نافل القول أن هذا المسار لن يوفر شروط مثلى للتحول الديمقراطي في مصر، ولا لتطوير الإسلاميين. ومن الصحيح القول إن مسألة التعايش مع وجود الإسلاميين في مصر يجب أن تطرح بجدية على أجندة القوى المدنية والثورية بعيداً عن أحلام الاستئصال (غير الممكن ولا مجدٍ عملياً). لكن يصح أن نقول أيضاً إن الإسلاميين بخياراتهم العشوائية ورفضهم إجراء المراجعات الضرورية وتكتيكاتهم المراوغة بين التفاوض والتصعيد اللامسئول هم من يضعون أنفسهم على مسار انتحاري، لا يقدرون عليه ولا يستوعبون نهاياته.

لكن إلى متى يستطيع الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً تأجيل استحقاقات التغيير؟ مأساة الإخوان أنهم يتحركون في ثلاثة عوالم متوازية ولا يستطيعون الموائمة بينها. فهناك عالم اليوتوبيا الإسلامية، وعالم الحداثة السلطوية السياسية والاقتصادية، وعالم السيولة السياسية والاجتماعية الثورية، التي أتت بها رياح ثورة يناير 2011. الحشد السياسي الإسلامي، سواء أكان انتخابيا أو تعبوياً احتجاجيا أو تنظيمياً، يتم على أرضية الأيديولوجية الإسلامية، وأحلام الحكم الإسلامي، وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وفق منهج يغلب عليه الفهم السلفي للعقيدة والتراث الإسلامي، والتصورات القطبية الحركية. بينما المخرجات السياسية والاقتصادية للجماعة هي بالأساس بنت عالم الحداثة السلطوية المصرية. فنجد الجماعة تستثمر في بناء ماكينة أصوات انتخابية و”بيزنس” تجاري لمراكمة رؤوس الأموال، سعياً للقوة والتحكم في إطار السياسة الكلاسيكية لدولة سلطوية تتعامل مع سكان البلاد بوصفهم رعايا لا مواطنين، رعايا خاضعين لوصاية هذه الدولة وتحكمها في شئون حياتهم ومعاشهم وتنشئتهم.

ولكن على أرض الواقع فإن دولة الإخوان في عهد الرئيس مرسي لم تكن "الدولة الإسلامية" التي حلم بها حسن البنا وسيد قطب والتي تستخدم أدوات الحداثة السياسية والمؤسسية وتقوم بتطويعها لصالح تسييد الأيديولوجية الإسلامية على كافة شؤون الإجتماع البشري في مصر. بل كانت دولة مهجنة ورخوة ومائعة تبقي على موزاييك الموروثات القانونية والسياسية والإدارية للدولة المصرية الحديثة، ولا تكترث بقضايا "تطبيق الشريعة"، ولا الضوابط الشرعية على السياسات العامة، حتى ولو بشكل رمزي (وتتعدد الأمثلة هنا مثل مسائل فوائد القروض الربوية، ومنع الضباط الملتحين من العمل، وتجديد رخص عمل الملاهي الليلية، واستمرار السياحة الشاطئية، وعوائد الضرائب على الخمور، وغيرها من المسائل). هذا غير استمرار النهج الاقتصادي النيو ليبرالي ونمط الاندماج في النظام الدولي والإقليمي بمحدداته الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية من موقع التبعية.

أين هذا من التصور النضالي الطهراني عن "الدولة الإسلامية" التي تقعد للإسلام في الأرض، وتقود المسلمين نحو الوحدة وأستاذية العالم، وتنهي الاستعمار الغربي الثقافي والسياسي؟ أيضاً لم تظهر جماعة الإخوان بمظهر "الطليعة المؤمنة" أو "الجيل القرآني الفريد" (المعادل الإخواني القطبي لمفهوم الحزب الطليعي القائد في الماركسية اللينينة البلشفية) القادرة على اختراق أجهزة الدولة والسيطرة عليها بقوة إيمانها، وبحسن إعدادها، وضخامة مواردها البشرية والثقافية والاجتماعية. بل بالعكس كانت الصورة دائماً أقرب إلى دولنة الإخوان منها إلى أخونة الدولة. وبدا وكأن النضالية الإخوانية البناوية القطبية قد تاهت في أضابير بيروقراطية ومؤسسات الدولة المصرية الحديثة. هذه الفجوة بين الأيديولوجية والواقع أصبح من الصعب تبريرها في عصر ما بعد الثورة، وبالتالي زادت من مساحات الشك والتساؤل والحيرة داخل صفوف الإسلاميين. لقد تلبد صفاء اليوتوبيا الأيديولوجية الإسلامية بشعاراتها البسيطة وحماستها الدينية، أمام حسبة الموائمات السياسية المعقدة، والتقدير البراجماتي لمقتضيات الأحوال وتحقيق المناط.

وكانت استجابة الإسلاميين لهذا الفشل الإخواني تنحصر في الغالب في الإقرار بالتقصير والعجز عن تطبيق المشروع الإسلامي، لكن مع التشديد على ضرورة الاصطفاف وراء الحكم الإخواني -مع كل تقصيره- في وجه أعداء الإخوان من القوى الليبرالية واليسارية الثورية. لأن "إسلامي متخاذل أو مقصر أفضل من علماني صريح". ولأن هذه السلطة الإسلامية المتخاذلة ستوفر الحماية للتيار الإسلامي وتمكنه من الاستمرار في الدعوة بدون قمع أو مضايقة، على أمل سرابي أن تتحسن الأمور في المستقبل، وتتوفر القابلية لتحقيق المشروع الإسلامي. لكن هذا يبقى هروباً تكتيكياً وترحيلاً للأزمة واستغلالاً لمناخ الاستقطاب السياسي حتى يأتي فرج الله من عنده، في إفلاس استراتيجي واضح. لكن ما فاقم أزمة الإسلاميين بقوة هو عجزهم عن مسايرة العالم الجديد الذي أتت به مرحلة مابعد ثورة يناير، والسيولة في الحركة والمبادرة والفعل لأجيال جديدة من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، تقوم بتفكيك أنساق القوة والضبط والتحكم على مستوي إنتاج السلطة والثروة والمعرفة، لصالح التجريب في التنظيم، والحركية والفكر. وبالتالي فنحن أمام صعود قوى سياسية واجتماعية شابة وجديدة عصية على التدجين والاحتواء والإرهاب، و قادرة على الاحتجاج وكسر إرادة القوى المسيطرة وتحدي الهيمنة والدفاع عن حريات المجال العام الجديد. وبالتالي فإن قدرة السلطة الإخوانية على الإقناع والردع والحفاظ على الرساميل الاجتماعية من الثقة الشعبية التي اكتسبتها جماعة الإخوان عبر عقود قد تآكلت بشكل متسارع أمام كل هذه التناقضات والمستجدات. فقد وصلت حالة الكراهية والنفور الاجتماعي من الحركة الإسلامية في مصر إلى درجات غير مسبوقة تاريخياً، وتحتاج عقوداً طويلة من أجل تداركها.

وهنا تقع المأساة الكبرى للإسلاميين الآن. فهم لم يخسروا فقط هيمنتهم السياسية المستجدة، ولكنهم خسروا أيضاً هيمنتهم الاجتماعية والثقافية العزيزة التي راكموها عبر عقود، وبلغت قمتها أثناء ذروة اليوتوبيا الإسلامية من السبعينات وحتى التسعينات.

وماذا عن الطيف الواسع للتيارات السلفية؟ هذه بدورها تمر بعدم يقين وتخبط واضح. فالتناقض بين اختياراتهم السياسية المستجدة عقب الثورة، ومناهجهم الأصلية في النظر والحركة والعمل، صار أكبر من أن يتم تحييده بدعاوى الموائمة وحساب المفاسد والمصالح. والمراجع والكيانات السلفية صارت عرضة لسهام الاتهام والشك وفقدان المصداقية من الجمهور السلفي الواسع. وما انصراف العديد من السلفيين عن حزب النور، أكبر الأحزاب السلفية، بسبب "تخاذله عن حماية "المشروع الإسلامي"، إلا تعبير عن هذا التخبط والقلق. وجاءت نهاية الرئيس الإسلامي محمد مرسي بهذه الطريقة الدرامية لتثير مزيداً من الأسئلة حول جدوى العمل السياسي ومعناه في إطار المنهج السلفي، والعجز عن تطوير البدائل السياسية للتقنيات السياسية الحداثية العلمانية المرفوضة. ولعل مشهد اعتصام الإسلاميين في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة هو تعبير واضح عن هذا التخبط الإسلامي. فبين الدفاع عن "الشرعية الديمقراطية للرئيس المنتخب" و"المشروع الإسلامي" تتذبذب شعارات المعتصمين، ومن ثم قدرتهم على الإقناع وبناء خطاب متماسك. والأنكى أنه أوصل بعض هؤلاء الإسلاميين المعتصمين إلى القناعة بأن خطاب الدفاع عن المشروع الإسلامي هو خطاب يعزلهم عن باقي المجتمع. وأن خطاب الدفاع عن الشرعية الديمقراطية، وإن كان غير مقبول شرعياً، إلا أنه الأكثر قدرة على اجتذاب المواطنين من خارج التيار الإسلامي، ومن ثم امتلاك أي قدرة علي النجاح في الدفاع عن مرسي. أي تخبط وأي فوضي مفاهيمية!!!

الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب النور تعرف ما تريده. هدفها منذ البداية هو وراثة دور الإخوان المسلمين في قيادة التيار الإسلامي في مصر. ولكي تحقق هذا الهدف على المدى الأطول فلابد لها أن تتمايز عن الإخوان سياسياً، وتتموقع في صفوف المعارضة (باستثناء تحالفهم الاستراتيجي مع الإخوان في مسألة الدستور ومواد الهوية والشريعة). ولا تصطدم لا بمؤسسات الدولة القديمة، ولا بحساسيات قوى التغيير الثورية. وهذه العقلانية البراجماتية قادت الدعوة السلفية وحزب النور بالطبع إلى الاعتراف بهزيمة مرسي والإخوان، وقراءة المشهد قراءة صحيحة ومن ثم الالتحاق بالمسار السياسي الجديد. وهذا النهج من الدعوة السلفية قد يحميها من الإقصاء، ويضمن لها موقعاً مهماً في المجال السياسي الجديد (نجاح سياسي تكتيكي). لكن هل سيضمن لها احترام وثقة أنصارها من السلفيين والإسلاميين أمام ما يرونه من خيانتها للرئيس الإسلامي؟ في الأغلب لا. وهنا ستنحصر قاعدة تأييد حزب النور في جمهور الدعوة السلفية فقط، وهذا يضرب هدف الدعوة الأصلي (في وراثة الإخوان وقيادة التيار الإسلامي ككل) يضربه في مقتل. فالخسارة الأيديولوجية بالنسبة للإسلاميين تتحول إلى خسارة سياسية على مستوي حجم التأييد والدعم والإسناد.

إذن وبرغم أنه من المرجح استمرار الدور القوي لجماعة الإخوان داخل الكتلة الإسلامية على المدى القصير والمتوسط لكن مستقبل الحركات الإسلامية على المدى الأطول يبدو غامضاً ومفتوحاً على احتمالات ظهور فواعل وظواهر إسلامية جديدة تتفاعل مع هذه التحديات، ظواهر تتراوح بين الجهادية التكفيرية على أقصى اليمين،  وما بعد الإسلامية على أقصى اليسار.

أما فيما يتعلق بمستقبل البلاد عامة، فقد عادت الثورة إلى معركتها الأصلية. أي إلى معركتها مع القوى السلطوية للدولة بمكوناتها المختلفة، من عسكر وأمن وبيروقراطية وأوليجاركية. وعلى الرغم من أن هذه القوى خسرت حليفها الانتخابي المدني (الإخوان)، إلا أن المعركة القادمة ستكون صعبة وشرسة أمام القوى الثورية. وذلك لأن القوى السلطوية استغلت الفترة الماضية في إعادة تنظيم صفوفها، والحصول على مساندة شعبية، من بعض القطاعات الساخطة على فشل المسار الأول، والذي حملت الإخوان مسؤوليته. ولم تتضح معالم المسار السياسي الجديد بعد، لكن في الأغلب سيتضمن دوراً مركزياً للمؤسسة العسكرية كطرف يتحكم ولا يحكم، باستثناء سياسات الأمن القومي التي ستبقى خاضعة لحكم الجيش المباشر. ولكن ومن المتوقع أن يكون هذا المجال السياسي عاماً ومفتوحاً لكنه ضيق. ويقوده تحالف يميني سياسي حاكم ينتهج سياسات تبدو ظاهرياً أنها تهدف إلى الإصلاح. لكنها فعلياً ستقوم بتثبيت الوضع القائم (كان فشل الإخوان في تأسيس وقيادة مثل هذا التحالف هو سبب رئيسي في سقوط حكمهم). وسيقوم هذا المجال العام على دمج الإسلاميين بالشروط التي أشرنا إليها آنفاً، وبمهام وأسقف محددة. وهنا من المتوقع أن يلعب كل من الدعوة السلفية وحزب النور السلفي دوراً مميزاً كمفاوض بالنيابة عن أنفسهم وعن باقي الإسلاميين، في الحصول على حصص وتحديد موقعهم في المسار الجديد. إن وجود الدعوة السلفية وحزب النور في عملية التفاوض الخاصة ببناء المسار الجديد، لهو مطلب عسكري وأمني ايضاً. بغية نزع ورقة مهمة من أيدي الإخوان، وهي ادعاؤهم أن إسقاط مرسي كان حرباً ضد الإسلام والشريعة والهوية.

من المرجح أن يشهد المسار السياسي الجديد ترسيخاً لمصالح النظام القديم، ولكن ربما عبر وجوه جديدة. وأخيراً تبلور نزعة عند بعض مؤسسات الدولة القديمة وشبكات مصالحها لإعادة بناء الدولة الأمنية والبوليسية. وتعول هذه المؤسسات على الانفراج الذي سيحدثه تدفق أموال الخليج، واسترخاء بعض الناس عقب زوال خطر الإخوان. وفي حال شهدت البلاد تصاعداً للعنف الإسلامي، فمن الممكن أن يعطي ذلك ردة فعل عكسية، وشرعية أخرى للدولة الأمنية في مجتمع تنهكه أعباء المواجهة المستمرة مع عنف الإسلاميين. لكن مشروع الدولة الأمنية هذا سيواجه بقيود وكوابح أهمها ديناميكية الحركات الاحتجاجية وتآكل أدوات القمع وتسييس قطاعات متزايدة من المواطنين – من خلفيات طبقية واجتماعية متباينة- واقتحامهم للمجال العام قبل وأثناء انتفاضة 30 يونيو.

لكن أهم العقبات على الإطلاق أمام مشروع إعادة إنتاج الدولة الأمنية، ومصادرة المجال العام، ستكون استمرار الأزمات البنيوية للنظام: أزمة الشرعية، وأزمة الإنجاز كما أسلفنا. فبقاء النظام سيكون مرهوناً بقدرته على تحقيق الاستقرار. إلا أن هذا الاستقرار لن يتحقق إلا عبر تنفيذ تغييرات ثورية واسعة، لحل أزمتي الشرعية والإنجاز. الأمر الذي سيرفضه النظام رفضاً قاطعاً. قد تقبل الطبقات المتوسطة والدنيا مرحلياً تحمل التكاليف والعسر، على أمل أن ينتج المسار الجديد تحسناً في الأحوال. لكن هذا لن يكون تفويضاً مطلقاً، وسيواجه لحظة الحقيقة عاجلاً أو آجلاً. وخاصة أن أي إصلاح اقتصادي حقيقي وواسع، وما سيتضمنه ذلك من إعادة هيكلة للموازنة العامة، والسياسات المالية والضريبية، وسياسات الإنفاق، يستلزم قاعدة شعبية كبيرة وداعمة. الأمر الذي لا يتوفر في حالة المسار الجديد بتحيزاته السلطوية والمحافظة. ومع تآكل قدرات الدولة المادية على القمع وشراء الزبائن فستبقي البلد بشكل كبير غير قابلة للحكم ungovernable أمام طوفان المطالب والإحباطات والاحتجاجات.

من هنا فستبقى الأزمة مستمرة، ومن ثم فالثورة مستمرة. ومعركة الثورة هي معركة النفس الطويل ومعركة إفشال كل البدائل السلطوية الممكنة والموروثة من حقبة دولة يوليو (دولة قديمة- إسلاميين-عسكر.. إلخ) حتى تستطيع قوى الثورة تقديم بدائلها للوصول إلى السلطة، وتحدي هذه المصالح المهيمنة على المدى البعيد. لكن على عاتق الحركات الثورية الآن، أعباء هائلة على مستوى المشروع والتنظيم والقيادة وبناء الكوادر وتكوين الموارد البشرية لملء الفراغ السياسي والاجتماعي الكبير في مصر، والذي من المرجح أن يزداد عقب فشل محاولات الإسلاميين في ملئه خلال سنتين ونصف منذ اندلاع الثورة. كما يتطلب هذا مجهوداً كبيراً من أجل تأطير أهداف وحساسيات القوى الشعبية المختلفة التواقة للتغيير أمام مسار ثان للثورة المضادة.

أخيراً، في تصوري إن تحولات يونيو 2013 في مصر، جاءت ضربة قاصمة في وجه التصورات السياسية والبحثية الأمريكية والغربية. تلك التصورات عن فرص نجاح "الديمقراطيات الإجرائية" المحافظة الأليفة، التي يقودها الإسلاميون المعتدلون في دول الربيع العربي. حيث كانت هذه السياسات تعمل على قدم وساق نحو تحويلها إلى سلطويات انتخابية محافظة وأليفة وموالية للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية الغربية، وبمباركة مراكز الإمبراطورية. وقد أجهد هؤلاء الباحثون أنفسهم في التساؤل حول ما إذا كانت مصر ستحذو حذو النموذج الباكستاني أو التركي أو الإيراني أو الإندونيسي أو الروماني أو السوداني بالرغم من أن تطورات الأحداث كانت تؤكد أن مسار التغيير في مصر سيكون مختلفاً. وأن مصر بصدد تأسيس ما يمكن أن نسميه النموذج المصري. كما جاءت تحولات يونيو الأخيرة لتؤكد أن الربيع العربي لن يصير شتاءً إسلامياً، نسبة إلى هيمنة الإسلام السياسي. ولتؤكد كذلك على أن الموضوع أكبر من مجرد البحث عن شروط صحة العملية الانتخابية، وعن تحقيق المصالحة المفاهيمية بين الإسلام السياسي و الديمقراطية. وتتباكي مراكز الأبحاث الأمريكية الآن على انهيار العملية الانتخابية في مصر. وتلك الدوائر الثقافية والتحليلية في الغرب أجهدت نفسها عبر سنوات طوال في تحرير ما تراه شروط العلاقة الصحية بين الإسلام السياسي والليبرالية وفي سرد محددات التحول الديمقراطي في مصر. وصدمتها من ما تراه فشلاً في نظرياتها، حول الدور المركزي للإسلام السياسي الوسطي المعتدل في تحقيق التحول الديمقراطي المستقر، بالإضافة إلى فشلها الواضح في قراءة حركات الإسلام السياسي في مصر.

في الأغلب لا يعرف هؤلاء الباحثين الكثير عن الخطابات والممارسات الحقيقية للقواعد الشعبية للتيارات الإسلامية على الأرض ويكتفون برصد بعض الخطابات التحسينية لمجموعات منتقاة من شباب وقيادات الإخوان القادرين على الرطانة بمصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه الصدمة تجعل هذه الدوائر البحثية لا تفهم أن ما يحدث من حراك سياسي وشعبي وفكري في مصر، وما يتضمنه هذا الحراك من تصفية وتفكيك لخطابات الدولة والحكم والمعارضة (ويشمل هذا الإسلاميين بطبيعة الحال) يتحدى أدبيات حقل التحول الديمقراطي الـ democratic transition studies أصلاً. فما يحدث من حراك وتفكيك لأنساق السلطة والقيم والمؤسسات في مصر منذ الثورة يتجاوز الوصفات السابقة التجهيز للأكاديميا الأمريكية عن العلاقة بين الأيديولوجيات والمؤسسات ومواقعها داخل السياسة والمجتمع في مصر. ناهيك عن تصورات حقل الـ post-colonial studies عن دور الأصالة الثقافية (وممثليها السياسيين من إسلاميين وغيره) في تحقيق التحرر الشامل، ومواجهة الغرب بإمبرياليته القديمة والجديدة. ماتزال هذه الدوائر البحثية والتحليلية والأكاديمية الغربية عاجزة عن فهم أن حركة الجماهير في مصر، التي أطلقتها ثورة يناير، قادرة على فتح آفاق جديدة على مستوى التعبئة والحركية وأهداف التغيير والاحتجاج ومفهوم الحكم وآلياته ومعنى الديمقراطية وآلياتها وفكرة الفاعل الشعبي وإعادة بناء وتركيب الثقافات السياسية والاجتماعية. آفاق جديدة تعجز عن استشرافها الإنحيازات المعرفية والسياسية الجامدة والخيالات العقيمة والضحالة التحليلية والسياسية.