تستبين الباحثة كيفية تفعيل قراءة النص الروائي من خلال منظور تصنيفي تجنيسي مسبق، ومنظور تقييمي مصاحِب للقراءة، يستدعي فيه القارئ مخزونَ ذاكرته، ومنظور نقدي تحليلي منجِز للقراءة، يفعِّل فيه القارئ تجاوبه مع التحقُّـق النصي. وترى أن تفعيل القراءة يتغيا تمثل التجربة الوجودية التي يقترحها النص.

قراءة الرواية من النص إلى الفعل

سعيدة تاقي

ينطلق فعل القراءة من الامتـــداد النصي الوَرَقي للتحقُّـق الرِّوائي، مستنداً إلى منظورات ثلاثة، تشكِّـل -أثناء مسار القراءة- قوى الضغط ومحاور الجذب، التي ينضِّد، في ضوئها قارئ النص تلقيه لذلك العالم النصي تفاعلاً وتأويلاً.

المنظور الأول: منظور تصنيفي تجنيسي جاهز بشكل مُسبَق. يحتكم إلى الإعلان أو البند الذي قدَّم وِفقه الكاتبُ مؤلَّفه الإبداعي. ومن ثم يرتبط المنظور بالقالب الروائي؛ بحيث يتوقع من التحقُّـــق النصي تمثيل ذلك القالب، والتصادي مع مقوماته الجنسية ومميزاته التكوينية. ويتوقع منه -كذلك- توجيه القراءة، (كلّ قراءة، وأيّ قراءة) نحو تلقٍ محدَّد بكل الاستراتيجيات النصية(1) التي زود بها الكاتب نصه.

المنظور الثاني: منظور تقييمي تكويني مصاحِب للقراءة الفِعلية. يستدعي فيه القارئ، بشكل عفوي تلقائي، مخزونَ ذاكرته عن المقروءات النصية السابقة.ويتم الاستدعاء من وجهتين. تستحضر الأولى المُتعاليات النصية للجـــنس الأدبي، اعتماداً على الحصيص المـــتراكم من فعاليات القـــــراءات السابـــقــــة المنجَزة على تحققات روائــــية أو سردية مختـــلــــفة. وتخوض الثانية في محاورَة الهوية الإبداعية للكاتب، من داخل الأنساق الأدبية الإبداعية التي عُرِف بها، أو في محاورة الانتماء الفكري للمبدع، من داخل الأنساق الثقافية والفلسفية التي ينضوي ضمنها.

ويفضي تأمل المنظورين إلى بناء تصور أوَّلي حول تفاعل القارئ مع النص، في أطواره التمهيدية. فبينما يقيِّد المنظور الأول فاعلية القراءة بحكمٍ تجنيسي مسبق، يستدرج فهم النص الإبداعي وتأويله نحو مقاصد الكاتب (و/ أو الناشر). يقود المنظور الثاني فعل القراءة نحو استدعاءات نصية شبيهة بالتحقق النصي - موضوع القراءة - أو مجانسة له إبداعياً أو فكرياً أو ثقافياً. فـتَـنقُـل تلك الاستدعاءات المتلقي إلى عقْـد صلات تقارب أو تباعد بين النص وعوالم نصية مختلفة ومتعددة يحيل عليها فعلُ القراءة ذاته.

وعلى الرغم من كون القارئ ليس ملزماً بتجاوز ذاته الخاصة، عبر الرّكون إلى حــدود معَــدَّة سلـــفاً لتسيــيج الفــهـــم، أو من خلال تعـــطــيل انفـــتاح أفــق التـــلقي على المــساءلة والتشكيك والحفر والنقد. فإن القارئ ليس بصدد تطبيق آلي، على النص، لمخزون ذاكرته النصية؛ بحيث يصبح النص محفلاً لتمرير الإسقاطات الإيديولوجية، أو الأحكام التقييمية المسبقة. ففَـهْـم النص -في فعل القراءة- لا يُمكِن أن يكون إلّا "فهم الذات أمام النص"(2).

المنظور الثالث: منظور نقدي تحليلي منجِز للقراءة. يفعِّل فيه القارئ تجاوبه مع التحقُّـق النصي، في ظل تفاعـلٍ بنّاء قائم على ثنائية التوقع والنفي(3). وهكذا تغدو المميزات التكوينية للنص، فضلاً عن الاستراتيجيات النصية التي صاغها المبدع أو صاغ بفضلها النصّ، علامات نصية كاشفة لانتظام بنية ما يُعليها التحقُّق النصي قصْد نسْج دلالة معينة. وعبر تمثُّلات القارئ، المصاحِبة للقراءة، حول معلــــوماته عن الأنساق والقيم الســـــردية، ومقروءاته السابـــــقة للإبـــــداع الـــروائــــي، وحول مدوَّنـــاتـــه القـَــــبْلية عن الــــمـــــبدع وانتماءاته، يشيِّد ذلك القارئ توقعاته عن تلك العلامات والبنية والدلالة. وهي توقعات قابلة للنفي وإعادة التشــيــيد، ارتباطاً بتقــدم القراءة نحو نهاية النص المقروء، وانسجاماً مع جدلية التفاعل القائم بين القارئ -ذلك المزوَّد بخبـــرة تحليلية ومعـــرفة نصـــية وقدرة تقييمية ومخزون نقدي- وبين كينونة النص والعالَم الذي يقترحه. فـــبحكم غياب الكاتب الفعلي الحقيقي عن عملية التلقّي والقراءة، "وحدها الدلالة "تُــنْــقـِـذُ" الدلالة، دون المساهمة المـادية أو النفسية للمؤلف. لكن قول إن الدلالة "تُــــنْــقِـــذُ" الدلالة، معناه إن التأويل وحده هو "العلاج" المضاد لضُعْـف الخطاب الذي لم يعد مؤلِّـفه قادراً على إنقاذه"(4).

لا ريب أن إتمام المنظور النقدي لأطوار التفاعل الخاص بين القارئ والنص -وفق المنظورين التصنيفي والتقييمي- يرفع عن فعل القراءة شطط الإغراق في الذاتية (الإغراق في الفهم الذاتي مع الهيرمينوطيقا الرومانسية). لكنه يحمي القارئ -أيضاً- من ادعاء الموضوعية المطلقة (ادعاء علمية النقد الأدبي مع التحليل البنيوي أو السيميائي).

ولذلك تصير فعالية القراءة تأويلاً يحيِّنه القارئ للنص؛ حسب ما انتقاه في إنتاجه لإمكانات ذلك النص حول نمط الكينونة التي يقترحها النص. فكل قارئ يختَصّ بقراءة شخصية لا يمكنُ لقارئ ثانٍ أن يحيِّنها، لأنّ فعل القراءة يظلّ تأويلاً مرتبطاً بما أنتَجه ذلك القارئ من إمكانات النص، وبما أدركه حول العالَم الذي يقترحه النص. وهو تأويل يكتسي مشروعيته الذاتية والموضوعية من موطنَـــين. أوّلهما استعداد قارئ حصيف وجَّهَه الامتدادُ النصي بــفـــراغـاته وبــياضاتــه وســمات اللاتــحديد التي تطـــبع انــفــتاحه، إلى شــحـذ التـــــرقُّــــــب والــتــذكُّــر والتوقُّع والنفي(5). وثانيهما نص مكتوب يصرُّ -رغم لانهائية التأويلات المتطاوِلة عليه- على تحصين دلالاته، عن طريق الكتابة (الإبداع الروائي)، ضد غياب مقصديات الكاتب(6).

يقدم تلقّي الرواية -وفق تلك المنظورات الثلاثة- فاعليةً تروم الفهم والتأويل، ليس للتحقُّــقات النصية للروايات فحسب، بل تسعى من خلال الإحاطة بالعوالم الإبداعية لتلك النصوص، إلى استيعاب نسق التحوّل الذي يشهده جنس الرواية عموماً، وإلى إدراك أبعاد ذلك التحول فنياً وثقافياً ووجودياً.

و تقتضي تلك المساعي النقدية، الانتقال من فهم دلالة النص وتأويل قصديته، إلى فهم الفهم الإبداعي. ففعل القراءة يراهن على استكناه دواعي التحول، ودواعي اختراق حدود الجنس بابتداع هوية روائية جديدة، ولذلك تُوازي القراءةُ مَسالــكَ التلقّي بمدارج تحليل الخطاب.

وهكذا ينشغل التلقّي -في ضوء الفهم- بتحقيق معاني النص؛ لكون النصوص الأدبــية "تعطي انطلاقة إنــــجازات المعنى عوض أن تصوغ -بالفـــعل- المعاني نفسها"(7)، ومن ثم تمسي مشاركة القارئ حاسمةً، فبدونها لا يمكن أن يتحقق أيُّ إنجاز. وينشغل التلقّي كذلك -في ضوء التأويل- بإتمام النص وإزاحة التأجيل عنه، من خلال مدِّه ببُعْـد دلالي يدعم بُعْـده السيميولوجي؛ فقد كان للنص معنى فقط، أي علاقات داخلية وبنية. أمَّا بعد التأويل، فتصبح للنص دلالة، أي "إنجاز في الخطاب الخاص للذات القارئة. كان للنص، بسبب معناه بعد سيميولوجي فقط (...) وبسبب دلالته، صار له بعد دلالي"(8). فالذات مدعوة إلى فَـهْــم نفسها أمام النص، لأن هذا الأخير لا ينغلق على نفسه، وإنما ينفتح على العالَــم ليعيد وصفه وبناءه. ومن ثم فخَــتْــم النص بالتأويل "هو توضيح شكل الكينونة في العالم المعروضة أمام النص"(9).

ويتطلَّع تحليل الخطاب إلى مساءلة تلك الهوية الإبداعية المتحقِّـــقة، برصد التحــويرات والــتــعــديلات ذات البــعديــن الــفــنـي والجــمالــي التي حـــــاور عــبــرها الجــنــس الروائــي ذاتــه. وتتوخى المساءلة -بذلك- سبر ما يتوارى خلف تلك التحويرات من مَقول صعُـب عليه أن يعلن عن نفسه خارج منحى الاختراق الإبداعي ومعتَرك التجديد المغامِر ومنعطف الانتهاك التجنيسي. ولمّا كان الخطاب عموماً "ليس سوى لعبة؛ لعبة كتابة في مرحلة أولى، ولعبة قراءة في مرحلة ثانية، ولعبة تبادل في مرحلة ثالثة، بحيث لا تعتمد الكتابة والقراءة والتبادل إلا على العلامات، مما يجعل الخطاب يلغي ذاته حالَما يضع نفسه ضمن نظام الدال"(10). فإن التعامل مع خطاب تلك التحققات النصية الروائية، لا يتمُّ بوصف الخطاب مجموعة دَوال، بل بوصفه ممارسةً إبداعية تستفيد من فائض قيمة الكتابة السردية، ومن أرباح خلق "الرواية".

و من ثم يطمح تحليل خطاب تلك التحققات الروائية المتميزة، إلى فهم الفهم الإبداعي. وسيتيح هذا الفهم استجلاء مَقول تلك النصوص الروائية أولاً، وسيمكِّن من كشف أنماط الكينونة التي تقترحها تلك الهويات النصية الروائية، من خلال عوالمها النصية ومعالِمها التّسريدية ثانياً.

إن تفعيل القراءة بمنظوراتها الثلاثة، المحفِّـــزة للفهم وللتأويل ولتحليل الخطاب، لا يسعى في مراميه إلى إنشاء جدل بين التحققات النصية الإبداعية، وبين الجنس الروائي، في ضوء محاورة تحولات الرواية، لأن سؤال التجنيس ينبثق -عرضاً- عند أي قراءة تحليلية ممعِنة في خصوصية النصوص الأدبية وفي تميُّزها. فكلّ عمل أدبي ينتمي إلى جنس معين، وهذا الانتماء الضروري يستلزم أنّ كلّ عمل أدبي يفترض أفــق انتـــظار خاص به، ويفـــتـرض مجموعة من القواعد السابــقة في الوجود، والمتــفَّـــق حولها، لتــوجــيه فــهم القارئ وتمكينه من عملية تلقٍ مقبولة(11).

ينزع تفعيل القراءة -بالفهم والتأويل وتحليل الخطاب- إلى تمثيل التجربة الوجودية التي تقترحها تلك النصوص الروائية، وفق تنضيد دائري يشكِّــل النص والجنس قطبيه الأدبيين، وتشكِّــلُ الكينونة والعالَم امتداديه الوُجُوديين.

 

الهوامش
(1) يضع أمبرتو إيكو "الاستراتيجيات النصية" في مقابل "قصدية النص"، التي تختلف عن "قصدية الكاتب الفعلي" وعن "قصدية القارئ". بيان ذلك في: أمبرتو إيكو. التأويل بين السيميائيات والتفكيكية. ترجمة وتقديم : سعيد بنكراد. المركز الثقافي في العربي. الطبعة الثانية، 2004. ص 77-80.

(2) بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، ترجمة: محمد برادة- حسان بورقية، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2004 ، ص 80.

(3) نستند إلى مَفْهَـمَة إيزر للتوقع والنفي في: فولفغانغ إيزر، فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة د حميد لحمداني- د الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، طبعة 1995.

(4) بول ريكور، من النص إلى الفعل، ص 130.

(5) مفاهيم الترقب والتذكر والتوقع والنفي تحدِّد عماد فعل القراءة لدى إيزر، أما الفراغ والبياض فيمثِّلان المقابل المتطور لمفهوم "سمات اللاتحديد" عند إنكاردن، سعى من خلالهما إيزر إلى تجاوز الإحراجات التي كشفها في "سمات اللاتحديد". راجع: فولففانغ إيزر، فعل القراءة، ص 102.

(6) يقول ريكور: "الكتابة (...) تجعل النص مستقلا عن قصد الكاتب، وما يدل عليه النص لا يتطابق مع من أراد قوله. من هنا فصاعدا، سيكون للدلالة الشفهية، أي النصية، والدلالة الذهنية، أي النفسية، قدَران متبانيان" م م. ص 76.

(7) إيزر، م. م، ص 19.

(8) ريكور، م. م، ص 106.

(9) المرجع نفسه، ص 78.

(10) M FOUCAULT, L’ordre du discours, éd Gallimard, 1971, p. 51.

(11) H R JAUSS, «Littérature médiévale et théorie de genre», in Théorie des genres, ouvrage collectif, éd Seuil 1986, p. 42.