يوضح الكاتب المغربي أن هذه الدراسة تكشف بعض الإشكالات المترتبة عن العلاقة الحتمية بين العرب والمسلمين والغرب، والتي لا تزال تخفي صراعا مريرا يجر تاريخا من آلام الإمبريالية المباشرة وغير المباشرة التي تستمر آثارها حتى الآن. ويتخذ صاحب الدراسة الموقف الوسطي الذي لا يبخس الاستشراق حقه، ولا ينجرف مع تيار النقد الجذري الذي يدين كل أعمال المستشرقين ويحذر منها.

نقد الاستشراق

بين النقد الجذري والموقف الوسطي

عبدالرزاق المصـباحي

صدر مؤخرا عن كتاب المجلة العربية بعدد(201) كتيب (الاستشراق بين منحنين: النقد الجذري أو الإدانة) للباحث والأكاديمي السعودي علي إبراهيم النملة. والكتيب عبارة عن دراسة مطولة ألقاها صاحبها في مناسبتين ثقافيتين، ويقارب فيها سؤال نقد الاستشراق الذي يسعى إلى مساءلة مفهوم الاستشراق، دوافعه، وآثاره على الثقافة العربية الإسلامية، بمعنى إعادة تقييم العلاقة بين الغرب والشرق، خاصة أن الاستشراق ظهر لأغراض تنصيرية في بدايتهأي منذ اتخذ مجلس الكنائس في مدينة (فيين) الفرنسية قرارا بإنشاء كراسي الأستاذية للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية... ، ثم اتخذتهالإمبريالية العالمية وسيلة لجمع المعلومات المهمة التي تسهل لها اقتحام الشعوب المستهدفة، وهما دافعان ظلا لصيقان به (أي الاستشراق) فظل في تصور كثير من مفكري الثقافة الإسلامية جزءا من فعالية المركز الذي تسعى إلى تدجين ما يعتبره ثقافات هامشية، وجعلها نسخا منه في السلوك والعقيدة، فضلا عن التحكم في اقتصادها بما يعزز هيمنتها وجبروتها.

ويعتبر الدكتور علي إبراهيم النملة أن نقد الاستشراق برز بوضوح مع كتاب أنور عبدالملك منذ كتابه (الاستشراق في أزمة) سنة 1963، ثم تلته كتاب عبدالله العروي (الإيديولوجيا العربية المعاصرة) سنة 1967، وكتابات إدوارد سعيد، خاصة كتابه الأشهر (الاستشراق) الصادر سنة 1978، وهو يعد من أهم المحاولات النقدية التي فككت بينة الاستشراق، إذ اعتبر أنه يتلبس بلبوس العلم والمنهج مخفيا خلفياته الأيديولوجية التي تجعل من (الشرقي) مجموعة من الصفات الجوهرية اللصيقة بكل ما يناقض (الغرب) ويخالفه، مما يضفي صورا نمطية ثابتة وجامدة على العربي تجافي منطق التاريخ الذي يقول بالتطور والتغير في الأحوال والسمات،وذلك يخفي، في عمقه، الخوف الدفين من الشرقي باعتباره تهديدا، وهو "شعور، يرى إدوارد سعيد،أنه أصلته في الذهنية الغربية الدولةُ العثمانيةُ التي كان خطرها محذقا بأوربا" ( محمد عدناني ضمن تصدير ترجمته كتاب الاستشراق ص19).

إن ارتباط الاستشراق في بدايته بالاستعمار والتنصير جعله محط شك وريبة دائمين عند كثير من المفكرين المسلمين الذي اعتبروه شرا مقيما، لدرجة أن كثيرين منهم دعا إلى عدم التعاون مع المستشرقين ومراكزهم، فالنسبة إلى كثيرين منهم يعتبر الحديث عن "الحياد الاستشراقي مجرد خرافة" (ص14).ويرى الدكتور علي إبراهيم النملة أنه من مفارقات الأشياء أن هذا التصور الذين يُدين الاستشراق وأهدافَه في صيغته التقليدية كان أيضا عند مستشرقين غربيين كجاك بيرك وأندري ميكيل وستيفان ليدر... ومنهم أيضا برناد لويس المستشرق الإنجليزي الأشهر الذيقال بضرورة رمي مصطلح (الاستشراق) في مزبلة التاريخ أو مزابل التاريخ، وهو يقصد بذلك المصطلح وليس العلم، لكونه ارتبط بأهداف شنيعة وأضحى مصطلحا مشؤوما (ص10)؛ فبعض تياراته سعت إلى مجرد تشويه الإسلام وربطه بالإرهاب، مع غياب الموضوعية والعلمية اللتينتفترضان في (علم) يرفع هذا الشعار ويدعيه، واحترازا من الدلالات السلبية التي وصمت الاستشراق فإن عددا من المستشرقين الألمان استعاضوا عن تسمية أنفسهم بالمستشرقين إلى إطلاق لقب المختصين في الإسلام والدراسات الإسلامية، أو الأدب العربي أو غيره ما المباحث والعلوم والفنون التي ينهض بها الشرق. ومنه فإن إدانة الاستشراق والحذر منه ليس تخوفا صادرا بشكل مطلق عن منطق المؤامرة ، وإنما جزء كبير منها ( أي الإدانة) ناجم عن حقائق تاريخية وتجارب أليمة مر بها الشرق ولا يزال. ولكن هل يدعونا هذا إلى أن نجعل من الاستشراق شرا مطلقا نرفضه كليّة؟

يرى الدكتور علي إبراهيم النملة أن اتخاذ هذا حكم من هذا القبيل هو جور لا يستند إلى العدل في الأحكام الذي تدعو إليه كثير من آيات القرآن الكريم، لذلك يقترح بحثا في المواقف حول الاستشراق ينتصر للعدل والموضوعية في الحكم على الاستشراق وتقييم دوره، وهو برغم اعترافه أن مسح جميع مواقف المفكرين المسلمين والمستشرقين هو أمر يعزّ على باحث فرد بسبب اتساع دائرتهم التي تمتد لتاريخ عميق، فإنه قسم هذه المواقف إلى ثلاثة أنواع، الموقف الأول سماه بالموقف المتوجس،والذي أشرنا إليه سلفا والذي يعتبر الاستشراق إحدى آلياتالإمبريالية والتنصير، بوصفهما جناحي مكر يعد الاستشراق ثالثهما. بل إنهم يربطون بين الاستشراق وبين الغزو الثقافي، ويجعلون من نقد الاستشراق مرادفا لنقد التغريب، بما يظهر حجم التموقف السلبي من فعاليته. ويبدو أن هذا الموقف لا يطمئن للمستشرقين مهما أبدوا من خدمة للثقافة الإسلامية وتفان في إشاعتها في العالم، معتبرين أن ذلك يخفي غايات مغرضة ينبغي الحذر منها، أما الموقف الثاني فوسمه بالموقف المنبهر، وهو يعتبر أن المستشرقين ليسوا أعداء للأمة الإسلامية وأن كثيرا منهم أسدوا خدمات جليلة لها تند عن الحصر، بخاصة في ما يتعلق بنفض الغبار عن التراث العربي والإسلامي منخلال جمعه وصونه وتحقيقه وتقويمه، حتى إن طه حسين اعتبر أن العلم ينبغي أن يلتمس عند المستشرقين (الفرنج) ( ص31). أما الموقف الثالث فنعتهبالموقف الوسط الذي يقوم على الاعتدال عن طريق تجنب التعميم في الأحكام وبالمثل تلافي الانبهار بمنجز المستشرقين، بحيث إنهم أسسوا لمنهج علمي في تقييم الاستشراق، بموجبه يرفضون ما يستحق الرفض ويقبلون ما كان مناسبا، ولقد مثل هذه الفئة زمرة من المتخصصين في الاستشراق ممن خبروا هذا المبحث وحاوروا أهله، مما يؤهلهم لتأسيس نقد موضوعي للاستشراق.

ويبدو جليا أن علي الدكتور إبراهيم النملة يميل إلى الموقف الوسطي الذي لا يبخس الاستشراق حقه، ولا ينجرف مع تيار النقد الجذري الذي يدين كل أعمال المستشرقين ويحذر منها، ولهذا السبب فإنه اختار نموذج الاستشراق الألماني ليؤكد على أهمية دور المستشرقين في خدمة الثقافة الإسلامية، خاصة أن ألمانيا ظلت بمنأى عن الحركات الإمبريالية الكبرى التي اقترنت بفرنسا وإنجلترا والبرتغال، لذلك فإن "الاستشراق الألماني يظل الأقرب إلى النزاهة والعلمية نظرا لجدية الألمان وميلهم إلى الموضوعية" (ص40)، ومن الجهود التي قام بها المستشرقون الألمان إنشاء المكتبة الإسلامية بتركيا من قبل المستشرق الألماني هلموت ريتر ، والذي كان مشرفا أيضا على معهد الآثار الألماني بتركيا، وقد صدر عن المكتبة الإسلامية ثمانية وأربعون كتابا باعتناء وتحقيق مشتركين بين مستشرقين ألمان وباحثين عرب ومسلمين، فضلا عن تحقيق كتاب (الوافي بالوفيات) لخليل بن أيبك الصفدي، والذي صدر في ثلاثين جزءا وكتاب (سير أعلام النبلاء) لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الذي اشتمل على ثلاثة وعشرين مجلدا، وإضافة إلى ما قام به المستشرقون الألمان، حسب الدكتور إبراهيم النملة، فإن دار (إي. جي. بريل) بمدينة لايدن بهولندا كانت قد نشرت دائرة المعارف الإسلامية باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية.

إن النقد الجذري للاستشراق، في جوهره، ليس إلا نتيجة طبيعية لغياب التخصص العلمي لأصحابه الذين، في الغالب، تأخذهم حماسة الدفاع عن الهوية الإسلامية للأمة، فيقعون من حيث لا يحتسبون في منطق المؤامرة الذي يدين كل شيء آت من الآخر فيحذّر منه ومن خطره القاتل، وصوت هؤلاء غالبا ما طغى على صوت المتخصصين الذين يميلون إلى الروية والتؤدة والموضوعية في إصدار الأحكام، وهذ يؤدي تفويت فرص الحوار الثقافي الفاعل بين الحضارتين، بحيث يتم تجاهل أن كثيرين من المستشرقين كانوا أول من رفض الصور النمطية التي ألصقتها الكنيسة بالإسلام، ويورد الدكتور عبدالله الغذامي موقف البروفيسور مونتجمري وات الذي أرجع "الحس السلبي ضد العرب والإسلام إلى عامل سيكولوجي، وهو ناتج في أصله عن إحساس عميق بالنقص أمام العرب، حين كان العرب متقدمين وحضاريا في مقابل تخلف أوربا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر" (الفقيه الفضائي ص155). ونجم عن ذلك أن مثقفي القرون الوسطى في الغرب كانوا يلصقون ما في حضارتهم بالعرب والمسلمين. وهذا يدل، إضافة إلى ما أورده الدكتور إبراهيم النملة من نماذج، على كون الاستشراق ينبغي أن يخضع للوسطية باعتبارها أرضية للعدل في الأحكام الذي سيؤدي حتما إلى التأسيس لحوار ثقافي ينهض بمشروع التغيير الذي يحفظ الهوية ويجعلها منفتحة بوعي ناقد ونافذ.

إن الحقيقة أن دراسة الدكتور علي إبراهيم النملة ( الاستشراق بين منحيين) تضع اليد على بعض الإشكالات المترتبة عن العلاقة الحتمية بين العرب والمسلمين والغرب، والتي لا تزال تخفي صراعا مريرا يجر تاريخا من آلام الإمبريالية المباشرة وغير المباشرة التي تستمر آثارها لحد الآن، وهي برغم من أنها دراسة مركزة إلا أنها مفعمة بالإحالات المهمة على كتب المتخصصين في الاستشراق بما فيها كتب الدكتور إبراهيم النملة نفسه، فضلا عن أربعة ملاحق تهم أسماء طلائع المستشرقين، وجميع إصدارات المكتبة الإسلامية، وأجزاء كتاب ( الوافي بالوفيات) للصفدي مع ذكر أسماء جميع المحققين الذي أسهموا في عملية التحقيق والاعتناء، ومجلدات كتاب (سير أعلام النبلاء) لشمس الدين الذهبي، وهو بذلك يقدم للقارئ المهتم أرضية لتوسيع الاطلاع على ما حفل به هذا المبحث من إسهامات وحوارات ثقافية هامة.