تتناول الناقدة رواية "أشياء عادية في الميدان" للسيد نجم، وترى أن الروائي لا ينسخ وقائع وأحداث مجردة، وإنما هو مؤرخ ينقل المرحلة التاريخية بأبعادها الإنسانية، متمثلاً الواقع ليعيد إنتاجه سردياً وبكيان جمالي يتغيا المكاشفة وهو يغوص في عوالم الشخوص الروائية.

تكاملية الأضداد في «أشياء عادية في الميدان» للسيد نجم

ديـنـا نبـيل

إنه "ميدان التحرير".. إذن!

لأن المصريين سكنوه بدلا من ثكنات الجيش الانجليزي، أيام الإحتلال

لأن المصريين يموتون على أرضه الآن..

بدا الميدان منحوتاً بخريطة مصر، شمالها بسعة الخط الواصل من وزارة الخارجية، وجامع "عمر مكرم"، حتى مبنى الجامعة الأمريكية.. ويضيق خط الجنوب قليلا بسعة ميدان "عبدالمنعم رياض".. يشقها شلال من الناس عوضا عن نهر النيل"

(رواية "أشياء عادية في الميدان"- السيد نجم)

مقدمة:

ليس الروائي محض ناقل لوقائع وأحداث مجردة، وإنما هو مؤرخ إنساني ينقل بدقة المرحلة التاريخية بأبعادها الإنسانية كما يعايشها أصحابها، فهو مؤرخ وباحث وسيكولوجي ورجل إجتماع يطمح إلى إصلاح مجتمعه بتجسيد مثالبه والمتغيرات التي تطرأ عليه ليقف مكاشفاً لواقع مجتمعه، مجسداً لآماله وطموحاته ومخاوفه. ورواية "أشياء عادية في الميدان" للسيد نجم تعد نموذجاً للرواية التي تؤرخ لمرحلة تاريخية  هامة في تاريخ مصر، وهي ثورة 25يناير؛ وليست الرواية سرداً أجوف يشتمل على حقائق تاريخية صريحة، بل يدمج الكاتب العام مع الخاص وينزل إلى العولم الخاصة لشخوص الرواية كي يصور مردود الثورة الإجتماعي والنفسي على الشخوص بدلا من أن تبدو حقائق تاريخية طافية في الكتب بعيدا عن أرض الواقع. ومن ثم يبدو النسيج الروائي شديد التواشح لأنه لا يصور مواقف منفصلة لشخوص من خلفيات إجتماعية مختلفة، وإنما يصورها كشخوص فسيفسائية ومشاهد متراتبة مجتمعة مكان روائي واحد-الميدان.

بنية الرواية

لا يلتزم العمل الأدبي علمية التأريخ الصرفة وترتيب الأحداث الزمنية، فالرواية التي تتألف من عشرة فصول تكسر إطار التاريخ الصلد عبر سريان الأحداث في حركة دائرية تعتمد على الاسترجاع. تبدأ الرواية بـ"الفصلالأخير" ثم الأول والثلني.. حتى الثامن، إنتهاء ب"الفصل قبل الأخير"، فتنطلق الرواية من مشهد داخلي للشخصية الررئيسية "سري" الذي يلحظ تغير ملامح وجهه في المرآة وتحسن علاقته الزوجية إثر عودته من الميدان، ثم يعود الراوي بالأحداث إلى مقدمات ذهابه إلى الميدان ثم تحوله إلى شاهد عيان على وقائع الثورة وتطورها على أرض الواقع وصولا إلى عودته إلى بيته ولقائه زوجته. تحيل بنية الرواية الدائرية إلى الشكل الفيزيقي الميدان –كدال على التحرر من الأسر والثورة والدعوة إلى التغيير. إنه يشبه حلبة المصارعة، وقتال الإنسان ليكتشف ذاته وليتعرف على هويته ونقاط قوته التي طمستها الأنظمة الاستبدادية.

المكان الروائي/ الميدان

يقدم الميدان تجسيدا للواقع المصري من خلال عدد من الأنظمة البنيوية ينسجها الكاتب في ثنائيات ضدية شديدة الحبكة متداخلة كالحلقات، فنجد عناصر النظام الأبوي جنبا إلى جنب مع الشباب الثوري، وتتلاقى الأجيال، الماضي مع الحاضر، ويتداخل عالم الواقع مع عالم الإفتراض، وعلى الرغم من إتصاف هذه الثنائيات بالضدية فيما بينها، إلا أن هذه الثنائيات وبوصف الرواية منتمية إلى تيار ما بعد الحداثة، تندمج ولا تظهر تنافراً بقدر كونه نوعاً من التكامل والتلاحم، وهو ما يجسده عنوان الرواية من مفارقة – "أشياء عادية في الميدان"- فمن الأشياء العادية أن توجد الأضداد جنبا إلى جنب في الميدان، بل من الممكن أن نقول أنها من الأشياء التي تحدث فقط في مصر، يقول الراوي عن أحد المشاهد في الثورة: "مقبرة مغروزة بصور الشهداء، محاطة بسور من الحبال الملونة، مجللة بعلم كبير لمصر.. وبعض الزهور البلاستيكية، هنا وهناك .. رسوم ضاحكة! لا يحدث أن تكون الضحكات إلى جوار شواهد الموات إلا في مصر!". فهذه الأشياء ليست عادية إلا في الميدان. مثلها مثل وجود متظاهرين من ذوي الأربعة أعوام، ومن يرسم علم مصر أو خريطتها على جسده، ومن يأتي على كرسي متحرك ليشارك في الثورة، ومن يعقدون القرآن إلى جوار الدبابات، وهتاف الألترس، ومن يوازي بين خط القناة مع الميدان. بل إن الميدان يتحدى إطار المكان الفيزيقي ليعطي بعداً سيكلوجيا طارحا جدلية البيت واللابيت، فيصبح الميدان المأوى الجديد لمن يعانون القهر سواء من زوج الأم أو الزوج المتسلط. فكل له سببه الذي يدفعه إلى التظاهر، تتعدد الأسباب والثورة واحدة، والميدان واحد.

النظام الأبوي–فئة الشباب

تأتي الثنائية الضدية (النظام الأبوي-فئة الشباب) لتطرح الواقع الثوري وأسباب الصراع بين الطرفين. فعبر المفهوم  السوسيولوجي والعلاقة الديالكتية (الجدلية) بين هذين القطبين؛ تتضح الهوة الواسعة بينهما وصعوبة وجود أرض مشتركة. ليست تلك الفجوة معبرة عن الواقع السياسي وإنما الواقع الاجتماعي بشكل عام، ف "سري" يعاني في شبابه من الديكتاتورية والنظام الأبوي المتمثل في والده وفي كل من لديه سلطة فوقية في مجتمعه التراتبي، يقول عن والده: "مرت الأيام، كبرت وناطحته رأيا برأي.. لم يتحمل رأيا يخالف رأيه، ثم أن المجتمع كله يعاني أزمة قبول الرأي المخالف ويصدرها إلى بقية أفراد المجتمع، يقول: "وجدتهم كلهم مثل أبي، من ذوات الأبواب الموصدة. مديري في المصلحة الحكومية، محصل الأتوبيس الموصل إلى مقر عملي، بائع رغيف الخبز في الفرن المجاور، جندي الحراسة أمام باب قسم الشرطة، مدرسو الحضانة وأساتذة الجامعة.. وكل من قابلت!". وعليه يدخل سري في التيار الأبوي ذاته ويصير أحد تروس هذا النظام المتسلط العتيد؛ فيتحكم في عمل من يرؤس ويدعي أنه الخبير بالأمور، حتى أنه كان يتمنى الولد ليمارس عليه سلطة الأب. وتقدم الرواية في المقابل بنية فئة الشباب الذين يكسرون قاعدة تحكم النظام الأبوي ويضعون حلا لهذا الصراع متجسدا في ثورة 25يناير، يقول "سري" عنهم: "مجموعة من الشباب من ذوي الدم الفائر، يعلنون تمردهم.. لا هم فئة بعينها لها مطالب محددة ترجوها! ولا حتى سمعت عن زعيم يلتفون حوله جسدا كان أو فكرة!". فتحرر هذه الفئة من فكرة الأب/ القائد/ الزعيم/ البطل الأوحد الذي عهدت أجيال الكبار أن تلتف حوله، مما يلفت انتباه المتلقي لاختلاف الوعي بين الجيلين ولا ننسى من كان من جيل الأب يتهم هؤلاء الشباب بالمؤامرة وزج الأيدي الخفية بهم إلى تخريب البلاد، وهذا ليس إلا دليلا على الفجوة الكبيرة بين جيل الأباء والشباب.

الماضي–الحاضر

يجمع الميدان الحاضر الثوري المتمثل في 25يناير، كما أنه يطرح بعداً زمنيا للمكان، بإعتبار أن الزمن هو البعد الرابع للمكان، وهنا تأتي الثنائية الثانية (الماضي-الحاضر). يؤرخ الكاتب لتلك المرحلة الزمنية منذ "سعد زغلول" الذي تضع إمرأة عجوز صورته في شقتها حيث يلجأ الثوار، فهو بذلك يربط حلقات التاريخ الثوري معا. كما يبرز دور الميدان في كونه الشاهد على عدد من الثورات والمظاهرات: في ذكرى نكبة فلسطين وفي أعقاب نكسة67 وعند إرتفاع الأسعار في عهد السادات، ومؤخرا في ثورة 25يناير. وكما أسلفنا لا يقدم الكاتب حقائق طافية، وإنما ينزل إلى مستوى الأفراد ويجسد في مشهدية عالية روح التلاحم وتلاطم الأفكار أحيانا وانسجامها أحيانا أخرى، ونقل الخبرات من جيل الكبار إلى جيل الشباب، وظهور روح التعاون والعطاء والاندماج في ايقاع العمل الجماعي. وهكذا تتبدل الأدوار من كون "سري" الخبير بالأمور وأحد عناصر النظام الأبوي الذي يتحكم في الآخرين، ليصبح هو السائل، ويصير شابا في العشرين. فتزول الفوارق بين الأزمنة  والطبقات الاجتماعية وهذا هو التغيير الذي يصوره الكاتب في بداية الرواية في مرحلة انسلاخ الجرادة من هيكلها الخارجي الصلد، فيتحول "سري" من حبيس لشرنقة توفير لقمة العيش ودوامة النظام الأبوي التراتبي إلى إنسان يسعى إلى التغيير والتحرر، يقول: "أقسم أنني مررت في الميدان مرات لا تعد ولا تحصى.. مع ذلك لا أدري أين أنا منه الآن؟! هل تغير الميدان أم أنا الذي تغير؟!" ومن ثم يأتي الاختلاف بين ثورتين من جيل الآباء والثوريين الشباب، فيتعجب "سري" من توجه الشباب والفتيات الجميلات من المستويات الراقية لتكبدهم مشقة النزول إلى الميدان وتنظيفه والشوارع المحيطة. فعبر استرجاعات "سري" لمظاهرات الطلبة في الماضي، يقارن بين شكل الثورة قديما وحديثا، يقول عن شباب 25يناير: "رأيتهم من ذوات الأكف الناعمة، أرى فيهم من الشبات والشباب.. من ملابسهم المستوردة.. وليست من مصانع القطاع العام؟، بل من لكنة نطق بعض الكلمات العربية.. والمفردات الانجليزية والفرنسية التي ينطقونها؟ من سحنتهم الناعمة، تبدو وكأنها تحمل هالة غامضة وضاءة؟" ومن ثم يلقي الضوء على وسائل الثورة المستخدمة، كاستخدام الأبواق والمنصات والهتافات الجديدة المنغمة التي تضفي نشوة على قائليها حتى يتحول الميدان إلى حلقة ذكر صوفي، يذوب فيها المرئي مع اللامرئي، والجزء في الكل، ويتجرد الانسان من ذاتيته، ولا يتحرك إلا بالروح الجمعي.

الواقع–الافتراض

يجمع الميدان ثنائية (الواقع –الافتراض) وتمثل هذه الثنائية التحدي الكبير لإثبات إمكانية الحشد الثوري عبر عالم الافتراض لتغير الواقع، فالواقع مليء بالضباب والظلم، فهناك ممن آتى إلى الميدان من أجبروه على تقديم إستمارة "معاش مبكر" قبل الاربعين من عمره، والأجير الذي جاء من أقصى الصعيد، ومن نزعت عنه العمودية لرفضه تأييد أحد المرشحين، ومن ذل في الخارج ففر إلى الميدان. فجيء الشباب في المقابل عبر عالم الافتراض، يعرفون بعضهم بعضا ليس بالشكل وإنما بالتوجه والمواقف وهو ما يعد أكثر نضجا، وتتحول هذه الشخصيات الفيسبوكية أو الافتراضية إلى شخصيات واقعية بنزولها الى أرض الواقع. وهنا تأتي دلالة الافتراض، وكيف يتحول الشخوص في هذا البلد إلى شخوص إفتراضية، وفالانسان الحقيقي أو من يمتلك شخصية حقيقية هو من لديه الحرية والكرامة ويتمتع بحقوقه الانسانية والعدالة الاجتماعية. أما وقد سلبت من الانسان هذه الحقوق فيتبدل الى انسان إفتراضي، إلى منطقة فراغ أو عدم أو ما بين الحقيقة والعدم ولا يفعل هذا التواجد إلا عند نزوله إلى الميدان. ومن ناحية أخرى، يتوازى العالم الافتراضي مع عالم الأحلام وإفتراضات الشخوص وأمالهم التي يطلق لها العنان ولكن لا تكتفي بذلك إلى عدد نزولها إلى الواقع. فيتحول "سري" من العيش في شرنقة المرحلة البينية "بين الوجود واللاوجود" التي اكتفى فيها بالجري وراء لقمة العيش والتفكير في عمله والسير في روتين الحياة العمل، إلى استشعار وجوده عند تغيير نمطية حياته وتحطيم أغلال النظام التعسفي الذي يدور بين رحاه.

"سري"

تبدو شخصية "سري" على الرغم من كونها شخصية محورية إلا أنها شخصية غير بطولية أو ما نسميه ب"اللا بطل"، وهو مصطلح ضمن ما بعد الحداثة. فهو شخصية نمطية تمثل فئة عريضة من مجتمعنا، سواء في شكله النمطي الخارجي، أو طابع حياته الروتيني الذي يخلو من ملامح البطولة، وإنما يقبع حبيس عدة أمور: مرضه بالعنة وملله من حياته الزوجية التي تتخللها الكوابيس والهلاوس الليلية ومحاولاته الكثيرة في التعاويذ والطب البديل للحصول على الولد. يضع "سري" حياته داخل شرنقة ويمارس عليها أنواعا من التعسف اللا إرادي متبديا في نرجسيته كرئيس في العمل، ومكابرته وإدعاءاته تحدي الرؤساء في قراراتهم كونه أحد جنود إنتصار أكتوبر. وتتبدى في ميوله الميكافيلية وانكفائه على الصراع من أجل درجة مالية أو ترقية وظيفية وإيقاع المكائد ودس الأوراق لتعطيل ترقيات زملائه. إلا أن هذه الشخصية تتغير وتعود إلى فطرتها المعطاءة التي كانت عليها وقت حرب أكتوبر عدد مواجهته بـ"مهدي" عامل الكافتيريا. فعلى الرغم من تدني مستواه الاجتماعي، يسعى "مهدي" إلى المشاركة في الثورة ويتحرك في الميدان كالملهم الذي يعرف ما يفعل. فيتحول "سري: تدريجيا من "سري عبد العليم" الذي يدعي علمه بكل شيء إلى التحرر من قيوده النفسية والنرجسية وحتى من قيوده العادية كفنجان القهوة، كارت الرصيد، وشاحن الموبيل، ليصبح شخصية "سيزيفية" يحمل نقالة المصابين في التحرير ولا يهمه تكرار ما يفعل.

"مهدي"

يزاوج الكاتب بين الحقيقة والاسطورة في الرواية عند تقديمه شخصية "مهدي"، الشخصية المضادة لـ"سري". تتمثل في شخصية "مهدي" صفات أسطورة بقدر كونها حقيقية، إذ إن "مهدي" يجسد روح الشباب التواقة إلى التحرر من الضغوط، فيقرن الكاتب بين تظاهر "مهدي" في الميدان والذي يحيل اسمه إلى المهدي المنتظر ومشاهد قتال "هرقل" في الأسطورة الإغراقية. وتأتي تلك المزاوجه نتيجة طبيعية لما تكلم عنه "كلود ليفي ستروس" عالم الاجتماع والانثربولوجي الفرنسي ضمن رؤيته للأسطورة في المنهج البنيوي. فلا توجد نسخة واحدة أصلية من الأسطورة، فكل نسخة من الأسطورة تكون معمولا بها، لأن لكل منها يجسد محاولة الأبنية لوضع نظام للعالم الفوضوي والخبرة الانسانية في بوتقة واحدة. فبتقليص الأسطورة إلى عناصر بنيتها الأولية، تلتقي أسطورة البطل "هرقل"، الذي يقتل أسد نيميا، مع عامل الكافيتريا "مهدي" على الرغم من أنه ليس نصف اله وخارق القوى كـ"هرقل"، لكنه عامل فقير ، حتى وإن إختلفت الوحوش التي يقاتلها "هرقل" عن الوحش الكبير الذي يقاتله "مهدي" –النظام الأبوي في هذه الحالة، فهناك سمات مشتركة وهي الجرأة في اختراق الأخطار والتكفير عن خطيئة أو إثم لم يقترفه ولكن وجد نفسه يكلف بهذا القتال. ويكفي أن البطل في الحالتين كان مصدر إلهام لكل من يسمع عنه.

وأخيراً، إن رواية "أشياء عادية في الميدان" للروائي "السيد نجم" تمثل تأريخا لمرحلة فارقة في تاريخ مصر، وهي ثورة 25يناير، مسلطة الضوء على أهم مشاهد الثورة وروح التضحية والتعاون بتقديم الميدان عبر نظام بنائي معتمد على ثنائية ضدية تتمخض عن الثورة لتكسر الهيكل الصلب للنظام الابوي. ولعل أكثر ما ركزت عليه الرواية هو روح التغيير التي تسود الميدان ليس على مستوى الجماعة الانسانية والمجتمع، وإنما على مستوى الشخوص والأفراد. فنمطية الشخوص في الرواية لا يلبث أن تتغير عند اكتشاف نقاط قوتها وهو ما تعول عليه الرواية؛ فالثورة تبدأ أولا من داخل الانسان وليس الظروف المحيطة.