يكتب الناقد المصري أن هذه الرواية رغم زمنها الماضي، ودورانه حول نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، إلا أن بدايات القرن الواحد والعشرين، حاضرة في قاع الرؤية، ومحركة في باطن الأحداث. فالروائية سعت بالدرجة الأولي، إلي تعميق رؤية المشهد الحالي، والذهاب به إلى جذوره الممتدة في عمق التاريخ.

تحت «شجرة اللبخ».. دع الماضي فلم يكن جميلا

شوقي عبدالحميد يحيى

مثلما يشعر الإنسان وهو يرهف السمع لصوت الناي، وسط أغاني العصر المعتمدة علي الطبلة، بصخبها وإثارتها للأعصاب.

ومثلما يجد الإنسان نفسه يتخبط وسط زحمة العصر، وتسارع الخلق في كل الاتجاهات، ثم يجد شجرة يستظل تحتها علي شاطئ ترعة في قرية بعيدة نائية عن زحام العاصمة، وتمد الشجرة فروعها ليتطاول الظل، فأنت تنعم بالسكينة تحتها، حتي لو كانت تلك الشجرة " شجرة اللبخ"[i]. تلك المتعة القرائية التي تمنحها "عزة رشاد" مع الاسترخاء، المتأمل، فيما كان، وما يجب أن يكون، متخذة من الظلال الوارفة التي تمنحها فروع "شجرة اللبخ" أو "دقن القط" وما تمنحها فروع الرواية من شخوص، تمنح كل منها مساحته الكافية كي يفيض ويضئ، دون تزيد أو تجاوز، لتكشف عن زاوية جديدة من خفايا "رضوان بيه البلبيسي". ذلك الذي لم يعد موجودا بجسده، وإن لم يزل حيا في وعي وفكر كل أهل قرية "درب السوالمة". مستبطنة فلسفة المصري، محددة له معالم الخروج من السجن الضيق الذي حصر نفسه فيه. متخذة مما كان عبرة، وشمعة تضيء، عل ما سيكون، يكون أفضل مما كان.

قد يثور التساؤل عند قراءة "شجرة اللبخ" الصادرة في العام 2014، بعد ثلاث سنوات من الثورة والصخب، اين هي من كل ما يحدث، غير أن نظرة متأملة، تقول أنه لا يمكن القراءة بعيدا عن المشهد الواقع، إلا أن الكتابة الروائية عن ثورة يناير 2011. في تلك الظروف المضطربة، وغير المستقرة، ربما يوقع، كما وقع الكثيرون، في مزلق الشعارات والمباشرة، وما نسميه بمرحلة التسجيل، إلا أن "عزة رشاد" ومما سبق لها من أعمال، يؤكد أنها تسعي دائما نحو الأعمق، نحو كشف الكوامن الداخلية، للإنسان، وها هي تكشفها للمجتمع. فأستطيع القول بارتياح، أن شجرة اللبخ، رغم زمنها الماضي، ودورانه حول نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، إلا أن بدايات القرن الواحد والعشرين، حاضرة في قاع الرؤية، ومحركة في باطن الأحداث.

"تعلم عزة رشاد" أن المصري من قرون مضت، وحتى الآن، يعيش علي الماضي، يفكر في الماضي، أكثر مما يفكر في المستقبل، أو حتى الحاضر. يصر علي أنه ابن الحضارة الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ. ويصر علي أنه من أتباع السلف الصالح ممن تصدروا عصر الإسلام الأول، وارتكن إلي فعلهم، دون أن يبادر هو بالفعل وفق ما يمليه العصر، فحاولت أن تقول كلمتها، وترسل رسالتها التي تقول فيها، أن الماضي، لم يكن خيرا كله، ولا كان شرا كله، إلا أنه مات، وتعالت روائحه، فمنحت الجيل الجديد، مسدسه، كي يطلق الرصاصة علي ذلك الماضي، وليبدأ عصرا جديدا، معتمدا فيه علي نفسه. وهو ما سنحاول كشفه من خلال:

شجرة اللبخ وثورة يناير

تعددت الأراء حول مصطلح "الرواية التاريخية" والتي تبدو في أبسط صورها، أنها الرواية المتكئة علي أحداث التاريخ، وقد تعمدت استخدام اللفظ "متكئة" للدلالة علي أن التاريخ لا يكون مقصودا لذاته في تلك الروايات، وإنما هي تستدعي التاريخ لأغراض مختلفة، كان أشهرها لدي بعض كتاب الستينيات من القرن الماضي، والأشهر منها بالطبع رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني. والتي استدعي بعض وقائع الماضي، ليضعنا في مواجهة الحاضر، دون أن يتعرض للمساءلة الأمنية.

إلا أن عزة رشاد وهي تكتب في فترة تختلف عن الفترة التي كتب فيها الغيطاني روايته، فإن الدافع هنا يختلف في استدعاء التاريخ، خاصة أننا لا نستطيع تحديد فترة تاريخية محددة، يمكن أن نقول أن الكاتبة ارتكنت إليها لكتابة رسالتها للجيل الحالي. أستطيع القول بأنها سعت بالدرجة الأولي، إلي تعميق رؤية المشهد الحالي، والذهاب به إلي جذوره الممتدة في عمق التاريخ، مثلما جذور "شجرة اللبخ" الممتدة من الأب "نصير الدين"، وامتداد جذور الرمز (رضوان البيلبيسي) إلي الجد وجد الجد، وهو ما يؤكده الخولي "حسنين" الذي يحمل من المعرفة حول رضوان البلبيسي، مالا يعرفه غير من دواخله، وهو ما يكشف لنا في ذات الوقت سر العنوان، أو سر شجرة اللبخ:

 { كان مثل أبيه وجده وجد جده، يجيد الحرث ولا يجيد البذر، أنجب بنات كثيرات، عدا أنه لم يرزق إلا بولدين اثنين، "نعمان ورضوان" ثم جاءه حفيد واحد "فارس أفندي"، تضرب الشجرة بجذورها عميقا منذ أرسل نصير الدين المراسيل لأتي بشتلتها، بعد أن مات ولده البكري "نعمان" بضربة شمس، فيما كانت أمه مشغولة، يلي وتعجن خبيز العيد، ولم تنتبه للصغير الذي تعلقت عيناه بعيني قط صغير كامل البياض كالثلج، ذي عينين سماويتي اللون، استدرجا الولد "نعمان" فتبعهما خطوة بخطوة وصولا إلي الأرض الخلاء العارية، تحت وطأة شمس بؤنة التي لا ترحم .. غرس نصير الدين الشتلة في نفس الموضع الذي وجد فيه ولده يحتضر}ص229، 230. 

وتنسج "عزة رشاد" خيوطها بنعومة، فلا تشعرنا بنقلة التاريخ، وإنما تضعنا في مواجهة الحاضر لتأمل تلك النظرة المتحولة للشباب بعد ثورة يناير، وكيف أنها لم تأت من فراغ، فنري "فارس" الإبن أو الجيل الجديد. فالإبن سافر إلي فرنسا، وتغيرت رؤيته للحياة وللناس. فهاهو فارس يكشف لنا عن شخصيته:

{بيه، باشا، نفسي أعرف مين اخترع الألقاب دي؟ عبيط مين اللي عمل أبويا ده بيه؟ سخيف مين اللي اخترع الشعر العمودي المتكلف ده؟ مين وليه وإزاي؟ ماتت الرومانسية فطيس}ص150.

وكذلك رؤية "فارس" لزوجته "سوزان"البولندية التي اجتذبها من فرنسا:

{رأي فيها فارس الوجه الإنساني للحضارة الغربية، لفته إدمانها القراءة وتقديرخا للعلم، كما لمس شغفها بالفن وهو يتجول معها في متحف اللوفر، وقصر فرساي، وحديقة النبات}ص152.

وبناء علي تلك المعطيات، تغيرت رؤية الجيل السابق للجيل اللاحق:

{ تراجع البيه عن تصوراته بشأن الطبيعة الرخوة لأبناء البلد "التي ظنها لن تجعلهم يصمدون أمام الامبراطورية العظمي"، بعد ما رأي تسابقهم في توكيل من يتحدث باسمهم وقوة احتمالهم في سبيل الاستقلال. عدا أن هذا لم يمنع انزعاجه من أن تصبح درب السوالمة قسما مما يحدث.}ص74

فهو جيل رومانسي حالم، مهيأ لأن يثور علي الماضي التقليدي. وإن انصب الحديث في "شجرة اللبخ" عن ثورة عرابي، وعلي ثورة 1919. إلا أنه ورغم عدم إشارة عزة رشاد، فإن القارئ اليوم لابد أن ينظر حوله، ويجد أن اليوم لا يختلف عن الأمس.

ففضلا عن شخصية الضابط "مدكور"، الإبن البار للبوليس السياسي، وما يمثلهن - وما سنعود إليه- من فشاد الشرطة، الذي كان أحد أهم أسباب ثورة يناير، تحاول الكاتبة أن تعود بنا إلي زمن "صندوق الدنيا" وحكايات الأراجوز، الذي يردد ما تردد في ثورة يناير:

{عسعس عصابة عاملي شريف

طلع شافطها دي بلدنا

والناس يا عيني ما لاقية رغيف

عسعس عصابة غاوي تلطيش

لابسلي بدلة قال ميري

ونازل تحشيش .. نازل تهبيش} ص172.

وأيضا: {ورغم استشراء الاحتجاجات الشبابية علي مجمل الأوضاع الجائرة المحنطة من سنين}ص348.  

فهل يستطيع القارئ أن يغادر مشهد ثورة يناير، والتي قام بها الشباب، أو الجيل الجديد، علي جيل شاخ و فاحت رائحته الكريهة. تلك الرائحة التي حاول الخولي "حسنين" تجميل مشهدها. إلا أن رائحة "المصرف" (مصرف بلبيس) ظلت تزكم الأنوف علي مسافة بضع كيلومترات. في رؤية رمزية، جد مقنعة.

التقنية الروائية: 

في لغة سلسة، لا تخلو من الكثير من الشاعرية، قامت رواية "شجرة اللبخ" علي تقنية "الأصوات" التي تمنح كل شخصية فرصتها في توضيح رؤيتها حول موقف معين، أو قضية معينة، وهي هنا، موت "رضوان بيه البلبيسي" المآساوية، و التي تفضي به إلي الدفن بطريقة مختلفة، يحيطها ظروف مختلفة، لذا، فكانت الرؤي من حولها، مختلفة، مثلما الرؤي حول الشخص ذاته، في حياته، كانت مختلفة، ومثلما في اشتباكنا مع الواقع المعاش رؤيتنا مختلفة، فمنا من لا يزال يري في الماضي ما يستحق أن يستمر، زمنا من يري غير ذلك، فكان استخدام هذه التقنية، موفق ومتساوق مع نفسه.

استدرجت "عزة رشاد" قارئها للنهاية، عن طريق لعبة التقديم والتأخير، مثلما تركت لشخوصها الحديث عن "رضوان بيع البلبيسي" الذي مات مؤخرا، فإنها لم تكشف لنا عن من يكون "رضوان بيه البلبيسي" وما وظيفته في الدرب، حثي كشفت ما قبل النهاية عن تعمدها في عدم تحديد شخصية محددة ، لتطلقها علي الماضي بأكمله، كاشفة علي لسان ابنه "فارس في كلمة، بدت عابرة، إلا أنها كاشفة، وهو يحدث نفسه: { بينما أنت ما زلت ترتجف من أبيك أو من السلطة"}ص263.فانفتحت الشخصية علي العموم، من جانب، ومن جانب آخر استدرجت قارئها للتتبع وانتظار ما هو آت. وهي نفس اللعبة التي حرصت عليها عندما ظلت لفترة طويلة لا تكشف عن سر العداوة المتوارثة بين "رضوان" وابنه من جانب، ومبارز وابنه "همام" من جانب آخر. حتي كشفت عنها في قصة، وإن بدت تقليدية، إلا أنها كاشفة عما خفي من صراع بين الخير والشر، أو كاشفة عن أطماع السلطة "رضوان" وبين فعل الخير. فبعد أن تسلل العقرب ولدغ "رية" بنت البيه الكبير "نصير الدين" واخت رضوان، كان مبارز هو من شفط السم من ساقها، حتي كاد يبتلع جزءا من السم. قامت شبه علاقة أو تعاطف بين "رية" ومبارز، وعلي إثرها، انخرطت "رية" في علاقات ود مع أهل الدرب، وانتشر منها فعل الخير، الأمر الذي معه خاف "رضوان" علي أموال وأطيان (العيلة). فأمر بحبس "رية" واعتبر مبارز هو من حرضها علي تبديد إرث العائلة، فرتب له نهمة باطلة بسرقة أسورة ذهبية من القصر. ولما لم تثبت التهمة، انتهز فرصة لقتله. وانتقلت رغبة الانتقام ل"همام" من رضوان" الذي سعي بدوره لقتل "رضوان". إلا أن الأخير مات، ربما من الفضيحة المخجلة، ربما من الخوف، ربما من (الخضة). المهم أنه لم يمنح "همام" فرضة قتله والانتقام. فيسعي للانتقام من الإبن "فارس" غير أن الأخير، أيضا، لم يمنحه فرصة الانتقام للاختلاف طبيعته"فارس" عن طبيعة والده، أو أن طبائع الأجيال تغيرت: { كراهيته لرضوان لا حدود لها، ولكن لماذا لم يجد ابنه مثله متعجرفا وفظا وأنانيا ليقتله بدم بارد ويحرق قلب أبيه وينتهي الأمر؟!}ص135.

واستمرارا للحبكة المدروسة، والكاشفة عن مهارة الحكي، تضع "عزة رشاد" في النهاية  "همام" في مواجهة الضابط سئ السمعة "مدكور" ليصيب الأخير "همام" في مقتل، بعد أن كان "فارس هو من أطلق الرصاص علي "مدكور، ليتحول "فارس" من ساع لقتل "همام" ومن حمل السلاح من أجل قتله، ليحاول علاج "همام" ويصبح الجيل الجديد أو الجيل الثاني، معا في مواجهة الفساد، المتمثل في شخص "مدكور" وليبقي"رضوان بيه البلبيسي" الذي بدأت الرواية وانتهت عند موته، أي ان الزمن الروائي، هو ما بعد وفاة ذلك الرمز الماضوي. ولتبدأ حياة جديدة . حيث يفكر "فارس" بعد مكاشفة "زهران" أخو "قدرية" بأن البيه هو من كلف من يشعل الحريق في الجرن الذي راحت "قدرية"، محبوبته، ضحيته:

{ إذن سيحتاج بدلا جديدة، وطربوشا، أو حياة جديدة بدلا من هذه التي تلوثت بالدم ورائحة الرمة التي يصر الحقير حسنين علي تشييد مقام فوقها وجعلها مزارا}ص261.

عمدت الكاتبة علي ألا يستغرق قارئها فيما أفاضت فيه من عديد الحكايا، وعديد الشخصيات، التي ساقتها بتؤدة، قد توحي بالاسترخاء. فحصرت كل ذلك بين مشهدين، مفتتح، خاتمة، نافية أن تكون بها قد وضعت "خاتمة للحكاية، فعنونتها" هل من خاتمة" دافعة قارئها للمشاركة، مؤكدة أن ما سردته، ليس كل الحكاية، وما هي إلا ساردة، ناقلة عن الواقع. في حين كان المفتتح، أقرب إلي الخيال منه إلي الواقع، حيث ركزت الرؤية التي من حولها تدور الشخصيات. أمور غير عادية البيه الذي هو ملئ السمع والبصر مات وطار نعشه، ورفض أن يذهب إلي المقابر فتم دفنه تحت "شجرة اللبخ". أي أنها استمالت القارئ، بالحكي الخيالي وسارت به إلي المواجهة مع الواقع مع تخليها عن دور السارد وظهورها ككاتب للعمل وكأنها تسقط الحائط الرابع من جديد. وهو ما يعزز رؤيتنا بأن استخدامها للتاريخ ليس إلا حيلة لرؤية الواقع المعاش.

يضاف إلي إضفاء الطبيعة الإنسانية أو الواقعية في الشخوص، لغة الشخصيات المعتمدة علي اللهجة العامية، التي أضفت الحميمية علي الشخصية وأبرزت الكثير من ملامحها.

فإذا ما تأملنا شخصية مثل "شفاعة"،التي تعمل خادمة، وإن لم تعامل كخادمة، يضاف إلي تلك الطبيعة، ما عانته من مأساة موت وحيدها، الأمر الذي أجري علي لسانها خشونة اللفظ، فأصبحت (الشتيمة) لغة عادية لها: { وفين الراجل اللي يستحق؟ دول كلهم كلاب ولاد كلاب.... وتستمر في السباب} { خسارة. ليه ماقلتليش يا هبلة، وأنا كنت أجيب لك حقك من حبابي عينين رضوان} {ما تهمدي شوية يا بت، إنت عايزة تجيبي أجلي يا بنت الكلب}. وعلي نفس النهج، تنطق كل شخصية بما يتناسب مع طبيعتها ومستواها.

كما أن غياب الحوار، إلا قليلا، أعطي الكاتب فرصة الوصف، والحكي، الذي أيقظ شهوة المتابعة، التي تمسك بالقارئ ليتواصل، ويبحث عما بعد، علي الرغم من أن الشخصيات كلها تتحدث في معظم أدوارها عن محور واحد، يدور في البداية والنهاية، حول رضوان البلبيسي، وموت رضوان البلبيسي.

انسانية الشخصيات

كما سبق القول بأن اعتماد الرواية علي تقنية "الأصوات" فقد منحها ذلك فرصة خلق شخصيات حية نابضة، تراوحت أدوارها، لكنها تظل في النهاية، كاشفة عن الشخصية المحورية المتمثلة والمجسدة للماضي "رضوان البلبيسي" ، والذي رغم رمزيته، لم تجعل منه الكاتبة، رمزا جافا، ولكنها، نجحت في جعله إنسانا، من لحم ودم. يؤثر ويتأثر، يشعر ويحس. ولا أدل علي ذلك من نظرة الخولي "حسنين" ذلك الأقرب من رضوان، ويده الباطشة التي استخدمها لفعل ما يريده في الفلاحين، وهو ما يكشف عن كلا الشخصيتين، رضوان وحسنين، الذي استأجره البيه بعد ضبطه يسرق من حيقة القسر، والذي ظل الغل والحقد في داخله، ولا يعدم استغلال نفوذه المستمد من البيه، وهو ما يكشف في ذات الوقت عن قدرة "عزة رشاد" علي كشف الأعماق لأطراف الحوار، أو استنطاقها في أحاديثها لنفسها، فيكون الكشف مزدوجا:

{يقرالحميع بعظمة البيه وقوته، علي أن أحدالم يعرف ضعفه واضطرابه، وارتعاشة الخوف في صوته سوي حسنين، الذي يستشعر ذلك بينما البيه يؤنبه: مش عارف تأدب شوية فلاحين مقملين مافيهومش واحد بيعرف يفك الخط؟}ص236، 237.

وكذلك رؤية "شفاعة" التي عاصرت "رضوان" ومن قبله والده، والأقرب إليه داخل البيت:

{ أن البيه لم يعاملها أبدا كخادمة، بل أكرمها كواحدة من العائلة، وأن الانضباط، والقسوة المشهور بهما، أتاحا بجوارهما مكانا في نفس القلب لهذه الشفقة التي اختصها بها، عدا أن كل مجهودها لم يزعزع الجفوة التي لاقتها بها، منذ اللحظة الأولي صافيناز هانم، بل زادها}ص31.

وأيضا رؤية "فارس" لوالده، والكاشفة أيضا عن أن أيا منهما، رضوان وفارس، لم يكن رمزا وفقط، وإنما هم بشر يتحركون. فرغم ما يحمله فارس تجاه أبيه، وما كان يدعوه لمحو أثار الضحكة مع أصحابه قبل عودنه للبيت، إلا أنه عندما يموت رضوان، ويتصور فارس أن همام هو من قتله{ الذي بدأ يفتقده حتي قبل أن ينفض مولد العزاء، بل يستعد للقتل من أجله، من أجل الرجل الذي وسم خطاه بالخوف والارتباك فحتي أنه كان يمسح وجهه ليزيل بقايا ضحكاته مع أصدقائه عندما يصل إلي بوابة البيت}72.

وكذلك رؤية "سعاد" وما سمعته من أصدقاء البيه بأنه { صاحب رأس تطاول عنان السماء، وبدن يتمرغ في الوحل}ص21. وهو ما يؤكد طينية البيه رضوان الأرضية البشرية.

علي أن عزة رشاد، لم تشأ أن تجعل من رضوان البلبيسي، شخصية نمطية، كلها شرأو كلها جهل، وإنما أضفت عليه شئ من الثقافة، بل والثقافة شبه المتخصصة. فهو يقرأ الكتب، ويناقش ابنه "فارس" فيها.

وإذا ما نظرنا إلي شخصية رئيسية أخري، وهو "همام ابن مبارز" والذي عنونة عزة رشاد أحد فصولها ب "ابن مبارز همام" ، مقدمة اسم الأب علي اسم الإبن، الأمر الذي يوحي بالقصدية المستترة. نجد أن "همام" كلما أقدم علي فعل شر، فإن الفعل يتم دون تدخل منه. فمثلا:

1 – أراد أن يقتل رضوان، ودبر له الفضيحة مع البنت "بنورة" غير أن رضوان مات قبل أن يفعل له شيئا.

2 – فكر في الانتقام من الواد "سمعة" رفيقه في النشل، والذي منعه من النشل في المظاهرة. غير أن سمعة مات في المظاهرة، وبيده قبضة من المنشورات، ولم يتمكن سمعه من الانتقام منه.

3 – فكر في الانتقام من الضابط مدكور.. وفي الظلمة والجو مناسب ، يكتشف أن من يضربه بالعصا علي رأسه ليس الضابط مراد.

4 - { كراهيته لرضوان لا حدود لها، ولكن لماذا لم يجد ابنه مثله متعجرفا وفظا وأنانيا ليقتله بدم بارد ويحرق قلب أبيه وينتهي الأمر؟!}ص135.

وإذا تأملنا حديث "همام مع نفسه:

{تدعمت صلته "همام" بالشاب "أبو طابع حًسن" الذي كان يطبع المنشورات ويوزعها، ولا يصدق همام قط أن تقتل يداه عصفورا، هذا الشاب هو الوحيد الذي يحترمه من الأفندية، ليس لأنه علمه القراءة، بل لأنه وجد في أفكاره تفسيرا لما استغلق عليه. فطالما سأل نفسه لماذا شارك في عمل خطر كهذا دون مقابل علي الرغم من أنه ليس لديه ثأر شخصي مع البوليس السياسي أو مع الملك أو الإنجليز؟ وحده هذا الشاب هو الذي ساعده علي أن يفهم نفسه، يفهم أنه يكره الظلم، سواء كان اسمه مدكور أو ألبرت أو رضوان البلبيسي}ص135 ، 136.

فإنه يمكن القول بأن "همام" لم يكن شرا كله، وإنما هو ما فرضه عليه كونه ابن "مبارز، ذلك الذي ظل لغزا في نظر ابنه حيث يصاحب العقاب ويعادي البيه، يهج من الدرب ليصاحب المطاريد. وهو ما أتصور أنه دعا الكاتب بعنونة الفصل ب"ابن مبارز همام". وهو ما يمكن قراءة نهايته، بموته في النهاية، خاصة أنه الممثل الثاني، بعد "فارس" لجيل الأبناء، أو جيل الشباب، وقد أرادت أن تنقي الكاتبة من قاموا بالثورة من كل شبه تكون قد لوثتهم، و"همام" سرق محفظة، وفكر في فعل الشر. ليظل ممثلا لذلك الجيل، "فارس" الذي لم تتلوث يده، وأخته "ليلي" التي أضيرت من "مدكور"، أو من الشرطة، وليصبحا عنصري الثورة. وهو أيضا ما نستطيع معه القول بأن "همام" شخصية حية تنبض، وليس مجرد رمز مجرد. 

ومثل ذلك ما نستطيع أن نتلمسه في رسم شخصيات بشرية تشعر وتتألم، خاصة الشخصيات الأنثوية، التي تستحق أن نفرد لها العنوان التالي:

المشاعر الأنثوية

من الأمور التي نحتت شخصيات "شجرة اللبخ" في أرض الواقع الإنساني، تلك المشاعر التي ربما قد لا يستطيع التعبير عنها إلا إمرأة. حيث كشفت عن مكنونات ودواخل المرأة في أخص خصوصياتها. حيث، نجد ذلك في كل الشخصيات النسائية تحديدا.

فها هي "سعاد" الزوجة الثانية لرضوان، والتي اعتبرها وزوجته الأولي "صافيناز" مجرد وسيلة لجلب الوريث، تصف تعامل رضوان معها ليلة الدخلة:

{ مرحه ولطافته جعلاها تشعر بالألفة، لن تنسي كيف اقترب رويدا رويدا، حتي أحست ببذرة الحب تتفتق في قلبها، ليلة عرفت فيها الحب ناضجا مكتملا، وتمنت لو يكون العمر كله مثلها........}ص14.

وبعد أن فرغ من مهمته، وبدأت مشاعر الغيرة تدب في صدر "صافيناز":

{ الحب الذي ولد واحتضر في ليلة واحدة، ثم مات وشبع موتا في السنوات التالية}ص18.

وإحساس "شفاعة" أبضا بالأنوثة حينما احتضنها "مرسي" في الدكان:

{طوال تلك الليلة لم تستطع أن "تتلم علي جتتها"، فاجأها ضعفها ولامت نفسها علي الدقائق التي قضتها في الغيبوبة "المذهلة"، ضحكت غير مصدقة أن الأنثي التي بداخلها لاتزال حية}ص46.

وفي تجربة "شفاعة" أيضا، مع منصور سائق الحنطور، وفاقد أحد ذراعيه:

{وتمتد بين ذلك فواصل من القبل والتلامس الخفيف ثم الثقيل، يجفف منصور عرقه:

-                  متآخذنيش يا ست شفاعة، مقدرتش أمسك روحي.

-                  بعد إيه بقي! ده إنت قطعتني يا راجل! أمال يا خويا لو كنت بدراعين!!}.

ثم تقول عنه، كاشفة أن الأنثي ليست أحاسيس جسدية فقط:

  {أصله راجل محترم بحق وحقيق، أصله قدرني. حسسني إني هانم، رغم إن الكلمة دي عمره ما قالها. كانت مسحورة بوداعة طباعه ولسانه الحلو}ص48.

وعن حكاية " سبيلة" أرملة الجد الشيخ بسيوني . وحكايتها مع همام مبارز:

{ جذبته فانقطع جلبابه المهترئ، كان محتشدا بالفضول لمعرفة ماهية النساء، فيما كانت "سبيلة" أرملة الجد" التي لم يغادرها الشباب تماما تعاني حنينا لأنثي ظنتها قد ماتت داخلها من زمن طويل، غير أنها فوجئت بها تفيق، من أول لمسة، وتًبعث بحيوية أكثر من أي وقت مضي}ص118.

وتحكي ليلي ابنة "رضوان" حينما تزوجت مدكور:

{قبلها قبلة دافئة، قبلة لم يهبها مثلها من قبل – عندما كان يجتاحها بهوس مصارع وحوش، كان كفيلا بإثارة غضب وكراهية أي امرأة في العالم عدا هذه التي اعتبرت نفسها قد ماتت بعد هجرها حبيبها - }ص217، 218.

وتحكي، أيضا، عن همام ابن مبارز الذي أحبته بينما تصورت فيما بعد أنها كانت معه في خدعة:

{سألت نفسها مرارا وتجدد جرحها كلما تذكرت وصف جميلة لكون همام قد جعل منها قطة جائعة، تموء ضارعة: أحبني، أيقظني، قبلني، اقتحمني أو اقتلني، كان يسهل عليها بعدئذ أن تقرر ببال مرتاح أن ما بينهما لم يكن حبا. وأنها كانت ضحية خدعة ...... بينما وحدها تعلم أنها لم تكن قطة تتضرع، بل امرأة أحبت رجلا أحبها، حبا ما كان ليكبر إلي هذا الحد إلا لأنه بادلها إياه.... فلو لم يحبها لما حرص ألا يجور علي برهان عفتها ولأذل أباها وحقق انتقامه، ولو كانت تهفو لذكر، لبحثت عن غيره فور اختفائه، ولكنها لم تقبل بسواه، حتي بعد أن تزوجت مدكورٍٍ}ص219.

         غير أننا إذا ما يحثنا عن دور "شجرة اللبخ" في الرواية. بحثا عن أسباب تسميتها بها، فإنه رغم وجودها، وطريقة غرسها، ودفن "رضوان" تحتها، كل ذلك يوحي برمزيتها، وبحثا عن خصائص شجرة اللبخ، أو ذقن الباشا، التي قد تكون استمدت رمزيتها منها، فنجد الموسوعة الحرة:

{اللبخ شجرة كبيرة متساقطة الأوراق، تنتشر في الباكستان والهند وبنغلادش وجنوب الصين وتايلاند وماليزيا، وهي توجد كذلك في افريقيا واستراليا والوطن العربي.

تعرف الشجرة أنها مثبتة للنيتروجين وذات قيمة عالية للتظليل. لحاء الشجرة يشتهر في الطب الشعبي في علاج آلام المغص والبطن، كما أنه يحتوي على نسبة عالية من التانين المستخدم في صناعة الجلود.

شجرة اللبخ تتميز بتسامحها مع الأشجار التي تنمو قربها، حتى أنه يمكن للشجرة أن تنمو إلى جانب شجرة أخرى في مسافة ضيقة نظراً لنظامها الجذري العرقوبي، وبخاصة اذا زرعت تحت مسافة واطئة.}[ii].

ومن خلال ذلك، لا نستطيع أن نجد للشجرة دلالة رمزية مرتبطة بالعمل، حتي لو نظرنا إلي حملة النحل الذي هاجم من يبنون الضريح، فإنها ليست مبررة، حيث مات البناء(عامل البناء) مجانيا، فضلا عن أن النحل لا يأكل أجساد البشر، قد يميت إذا كثر لدغ النحل، لكنه لايأكل لحم البشر.

كما نجد أيضا، إشارة تبدو أيضا رامزة، غير أننا أيضا لم نستطع الوصول لرمزيتها، وهي الربط بين محاولة قتل فارس وبين فقده ل "موءة" المعزة المرتبطة به، حينما ظن أن مبارز يطارده.

إن رسالة صارخة ترسلها "عزة رشاد" عبر روايتها الممتعة، تقول للمصريين، آن الآوان أن تنظر وراءك في غضب، فالماضي لن يقيم مستقبلا، إن عشنا عليه، وعلينا أن نبدأ حياة جديدة، يقودها جيل الشباب.

 وإذا ما ربطنا بين "شجرة اللبخ" بما توحي به من تأويل، ومتعة افتقدت في الكثير من الروايات الحديثة، وبين رواية "سيرة الناطوري" للروائي مصطفي البلكي، خاصة أن كلتيهما درات حول شخص قد مات بالفعل. نستطيع القول بأن كتابات روائية حقيقية، قد بدأت عن حدث مزلزل، كان لابد أن يغير من مسار الرواية المصرية، وربما العربية، وعلي أيدي جيل جديد من الشباب، وهو ثورة الخامس والعشرين من يناير.

 

Em: shyehia@yahoo.com

 



[i]  - عزة رشاد – شجرة اللبخ – رواية – الكتب خان للنشر والتوزيع – طبعة أولي 2014.

[ii] - من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة