يكشف هذا التحليل لمختلف السرديات التي سعت إلى تفسير ظاهرة داعش والتعرف على الأسباب التاريخية والموضوعية التي أدت إلى ظهورها، عن العلاقة الوثيقة بين هذا الظهور وبين سياق التردي والتخلف والجنون الذي يعيشه العراق وسوريا، وعن الجدل البراجماتي المستمر بين السياسي والميتافيزيقي.

«داعش»: انفجار السرديات

أرض الثورة بين أبديّتين سياسية وميتافيزيقية

عصـام عـيـدو

ربما تكون الفضيلة الوحيدة لداعش أنها استقطبت المفارقات وحملت جميع المعنيين محلياً وإقليمياً ودولياً على الخوض في نشأتها وتحليل مآلاتها. فعلى رغم ولادتها الحديثة، يمكن لداعش أن تكون بؤرة مكثفة لشرح كل تعقيدات منطقتنا وتناقضاتها الفكرية المتقابلة، فهي مع عدميتها مليئة بالمعاني، ومع عبثيتها مليئة بالرموز وقابلية الإحالات. وبما أنها وُلِدَت ذات طبيعة حدية نهائية متأزمة ونشأت كذلك في سياق مماثل فإن أغلب التفسيرات التي خاضت في شأنها اتجهت تقريباً الاتجاه نفسه. مع بروزها انفجرت مجموعة من السرديات الداخلية والخارجية في مسار أشبه بغرفة مليئة بالمرايا المقعرة والمحدبة المتناظرة، فسهلت بذلك من جهة على كثير من المؤمنين استحضار نصوص زمن حيرة الحليم. في كل بنيةٍ انفجرت تقريباً سرديتان متصارعتان وربما ثالثة ورابعة في عمل تفكيكي لا متناهٍK تتسم جميع تفاصيله بالإطلاقية والحتمية الدينية أو التاريخية أو السياسية.

السرديات الدينية:
تعكس السرديات الدينية تأويلاً تاريخياً مفتوحاً على الزمن سمحت به نصوص الفتنة والملاحم نفسها، فهي تتعلق حسب التأويلات السائدة بزمنين متقابلين، زمن الفتنة الأولى وزمن الفتنة الأخرى. الأمر الذي دفع من جهة بكثير من المؤمنين إلى النظر إلى داعش على أنها حالة تمثل نمطاً خوارجياً بكامل تفصيلاته النصية المتعلقة بسلوك المقاتلين وأشكالهم؛ من التشدد في العبادة والسفه في التشريع. وأنهم وفقاً لهذا التأويل (كلاب النار) كما تشير إلى ذلك بعض الأحاديث النبوية. وهو تأويل تبناه مجموعة من المقاتلين والشرعيين السوريين في إشارة إلى عدم أحقية داعش في التدخل في الشأن السوري والخروج بالتالي على شرعية المقاتلين الحقيقيين السوريين، كما أشار إلى ذلك "مجاهد مأمون ديرانية" في مقاله "قاتلوا داعش قتال الخوارج والمفسدين"(1)، وتبنته أيضاً للمفارقة بعض المؤسسات الدينية الحليفة للأنظمة عموماً وللنظام السوري خصوصاً وبعض الشخصيات الصوفية – مفتي مصر السابق "علي جمعة" في بيانه "داعش نبت شيطاني"(2) - في إشارة إلى وضع الجميع – المعارضات والكتائب السلفية ومقاتلي الدولة الإسلامية وربما الوهابية خصوصاً والسلفية عموماً- في سلة واحدة. ومن جهة أخرى دفع آخرين إلى النظر إلى داعش على أنها مظهر من مظاهر الملاحم الكبرى التي تقع في آخر الزمن والتي يرافقها رفع الرايات السوداء، وزحف الجيوش الملحمية (جيش السفياني) في تأويلين متضادين شيعي وسني. وهو تأويل تبناه المتعاطفون مع داعش ممن تضخمت لديه أوهام الصراعات الكبرى والأمل بالخلاص بأي ثمن، وهو ما يفسر جاذبية داعش لمكونات متنافرة خليجية وغربية وآسيوية وشمال أفريقية، أتت إلى أرض الخلافة أو تعقد العزم أملاً في الخلاص الأبدي وانتقاماً من اللانتماء الوطني الذين كانوا يعانون منه في دولهم.

في مقابل هاتين السرديتين، نشأت تأويلات مفكِّكة ترفض هذا المنحى التاريخي النظائري. في مقالته "داعش بين إحراج الفقيه واختزال المثقف"(3) يذهب "كريم محمد" إلى أن مشكلة سردية الفتنة الأولى تنبع من التصور الفقهي كنمط تفكير سائد سهل الاتباع في الفكر العربي في تحليل ظواهرنا ورد وقائعنا الصغرى إلى وقائع كبرى، أخذت حيزها في مخيالنا الجمعي. والأمر كذلك في سردية الفتنة الأخرى التي اتسمت بأنها حدية المنزع بين جهتين: جهة مثقفة متدينة وغير متدينة، ترفض رفضاً حاسماً الدخول في تنميط وقائعنا ضمن صراعات الخلاص الكبرى الملحمية، وجهة تمثل أحلام التعساء وسجناء المستقبل الخلاصي العدمي.

سرديات الارتهان السياسي:
بجانب السرديات المتناظرة السابقة، قامت سرديات أخرى تتعلق بالارتهان السياسي. والأمر كذلك هنا، انفجرت مجموعة من التفسيرات المتقابلة في تحديد طبيعة الارتهان وطرف الارتهان. وغني عن البيان أن الثورة السورية في عامها الثاني وما بعده دخلت في سجال حول أثر التمويل الخليجي الموجَّه لدعم بعض الفصائل ذات التوجه الإسلامي، والتي نشأت كنظير للجيش الحر السوري، مما دفع بعدد من المحللين - في سياق داعش - إلى رمي كتلة الشر كلها في سلة الداعم الخليجي.

في مقالته "كيف تشكلت داعش؟ 1-2"(4) حاول "نواف القديمي" تحديد مجموعة من "الملامح في الخطاب السياسي والسلوك الميداني" لداعش، منها تصدُّر شخصيات عسكرية السلم القيادي لتنظيم داعش، "معظمهم كانوا ضباطاً في الجيش العراقي البعثي زمن صدام حسين". وعلى الرغم أن هذا ليس الملمح الوحيد الذي قدمه القديمي إلا أنه يشير –وكذلك غيره من الكتَّاب- إلى ارتهان داعش لأنظمة معينة، سابقة كنظام صدام، انخرطت في داعش رغبة بالانتقام؛ أو حالية، كنظام البعث السوري، رغبةً بتشويه الثورة السورية واختراقها. في مقابل هذا التفسير الذي لا يعتمد فقط على عامل الارتهان كما هو الحال في المقالة الآنفة الذكر، قدم آخرون شرحاً تفصيلياً برهانياً يرفض فكرة هذا الارتهان أو بالأحرى يفكك جهات هذا الارتهان. في مقاله "فصل المقال ما بين داعش والبعث من علاقة واتصال"(5) يرى "وائل عصام" أن هذا الارتهان لم يكن إيديولوجياً سياسياً بقدر ما هو طائفي، أي أن انخراط البعثيين العراقيين في داعش لم يكن انتقاماً للبعث الزائل، وإنما انتقاماً ضد الطائفة الشيعية التي خنقت العراق. لكن هذا التحليل يؤكد فكرة طالما أشار إليها غير واحد بأن داعش العراق تختلف عن داعش سوريا. وأن الارتهان الداعشي لنظام البعث السوري ليس إيديولوجياً، بقدر ما هو براغماتي. كما يشير إلى ذلك "القديمي" في مكان آخر من مقالته. وأياً يكن، فإن سؤال الارتهان سؤال عقيم كما أشار إلى ذلك "عزمي بشارة" في مقالته "من يقف خلف داعش؟"(6) وهو سؤالٌ يعكس "مظاهر الخصومة السياسيّة المتحولة إلى تخندق ومعسكرات، أو تلك المتحولة إلى صراع هويات، أو القائمة عليها". وهنا تغدو مفارقات الاتهام بالارتهان واضحة الأسباب. وهي بالتالي اتهامات حدية، ترمي الشر كله في سلة الطرف الآخر، أمريكا ضد روسيا، إيران ضد السعودية.

سردية النظائر الوهابية:
وربما السردية الأكثر انتشاراً هو ربط داعش بالخطاب الوهابي خصوصاً والسلفي عموماً. في هذه السردية يستحضر الكتَّاب مجموعة من النظائر التاريخية القديمة أو المعاصرة بغية تفكيك بنية داعش الفكرية. ولكن يبقى السؤال المكرر، لماذا يرتاح الكثيرون لهذا التنميط السريع؟ وبالتالي عن أي سلفية نتحدث عندما نتكلم عن داعش؟ ربما يستسهل البعض هذا الربط نظراً لما تشكله داعش من شكل أو خطاب بعيد عن عالم حداثتنا المعاصر. ولكن إلى أين ينتمي؟ من المعلوم للباحثين بالخطاب السلفي، أو الحركات السلفية أو الحركة الوهابية، أن ثمة تفاصيل كثيرة وخطابات متعددة تتنازع هذه الحركات. ولكن ما يجمع هذه الخطابات أو الحركات جميعها هو أمر واحد يقوم على ثنائية الرجوع إلى الأصول، والتمرد على الرسمي، وما وراء ذلك فهي مختلفة اختلافاً كبيراً.

في مقالته "كيف تشكلت داعش 1-2" يذهب القديمي إلى أنه لا يمكن اعتبار "تنظيم الدولة الإسلامية مجرد تطور طبيعي للسلفية الجهادية، أو للمدرسة الوهابية" لثلاثة عوامل أولها: أن داعش تبدو خارج دوائر المرجعيات المدرسية للسلفيات الجهادية في العالم العربي، ثانيها: عدم إصدار داعش تنظيراً شرعياً تأسيسياً موسعاً للمواقف العقدية والسياسية، وثالثها: عدم انتساب الشخصيات الشرعية المعروفة والمؤثرة في الوسط الجهادي لداعش. وعلى رغم صحة هذه العوامل واقعياً إلا أن المتتبع للنمط السلفي الإجرائي يرى أن هذه العوامل لا تصلح أن تكون مستنداً تفكيكياً لجهة ارتباط داعش بهذه الخطابات. الخطاب السلفي بعمومه متمرد وقابل للانشطار، وبالتالي ليس بالضرورة يحتوي على قيادات معروفة، بل ربما يكون تشظياً داخلياً وتمرداً على قيادات معروفة وخارجاً عن دوائر المرجعيات المعروفة، أما عدم إصدار داعش تنظيراً شرعياً تأسيسياً فهذا يتبع ذرائعيتها المتعلقة بسياق النشأة والمسار الذي سأتحدث عنه لاحقاً.

بهذه النزعة الذرائعية رأى "منصور الهجلة" في مقالته "هل داعش نبتة سلفية"(7) أن داعش تختلف عن نسختها السلفية النجدية، أما ما وراء ذلك فهما على توافق وانسجام. ولكن نظرة فاحصة لنشأة ومسار الوهابية يمكن لها أن تنير هذه العلاقة المختلف في تحديدها. في مقاله "الوهابية وإخوان من طاع الله وداعش. هل أعاد التاريخ نفسه؟"(8) يقدم "عبد الله المالكي"، وكذلك "ألاستير كروك" في مقاله "لا يمكن فهم داعش دون معرفة تاريخ الوهابية في المملكة العربية السعودية"(9) وبدر الإبراهيم في مقاله "داعش والوهابية والتكفير: الاختلاف والتشابه"(10) دراسةً جديرةً بالفحص لهذا النمط الوهابي الإجرائي القابل للتشظي الداخلي المستمر والمستعد لتوظيف النصوص وتطويعها حسب تموضع الحركة وذرائعيتها. فبعد تجنيد الملك "عبد العزيز بن عبد الرحمن" لمجموعة من المقاتلين المؤمنين "إخوان من طاع الله" عبر تحالف تاريخي واجتماعي بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، "وقد تم التعبير عن هذه الرابطة عبر إحياء الصفقة التاريخية التوافقية بين السلطة السياسية والسلطة الدينية بلغة المصاهرة؛ إذْ تزوج الملك عبد العزيز من ابنة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، شيخ علماء المذهب الوهابي حينها" سعى عبد العزيز للتخلص من خصومه العثمانيين والبريطانيين وعملائهم في الحجاز عبر فتاوى وهابية "العهد القديم" –حسب تعبير المالكي- أو "الوهابية الأصيلة أو الراديكالية" -حسب تعبير الإبراهيم- التي تبيح قتلهم وعدم التعامل معهم، وحين استتب له الأمر بدأ بالتحالف مع البريطانيين، وأسس بذلك النهجِ النسخة المنقحة من الوهابية المعدلة البراغماتية –حسب تعبير الإبراهيم- التي مشت عليها المملكة فيما بعد والتي بها اعتبرت داعش العدو الأول للإسلام، كما صرح بذلك مفتي المملكة الشيخ "عبد العزيز آل الشيخ".

دفع هذا النهج "إخوان من طاع الله" إلى التمرد على الملك "عبد العزيز بن عبد الرحمن"، وتأسيس فتاوى وهابية "العهد الجديد" –حسب تعبير المالكي- التي تبيح تكفير أتباع الملك عبد العزيز، والتعامل في نفس الوقت مع البريطانيين ضد الملك عبد العزيز في ذرائعية مفتوحة. وعلى أية حال، فإن الإشارة إلى النظائر الوهابية في سياق داعش ثنائية الإحالة، فبينما يعتبر البعض أن داعش نسخة من الوهابية المعدلة التي تقوم عليها المملكة حالياً وذلك بالنظر لعاملي التكفير والتمويل أو الدعم السابق لظهور داعش، يرى البعض الآخر -وهو الأكثر دقة- أن داعش نسخة عن الوهابية الأصيلة التي تتمثل بـ "إخوان من طاع الله" من حيث التمسك بالنصوص المؤسِّسة للوهابية المكفِّرة لكل من لا يؤمن بالتوحيد، الذي تجسَّد في الدولة، وفكرة أممية الجهاد والتمدد الجغرافي، ولكنها تفترق عن هذه الوهابية الأصيلة بأنها لا تبحث عن نصير سياسي أو تحالف تاريخي أو اجتماعي بين السلطة الدينية والسلطة الرسمية. فالأمير أو الخليفة في السياق الداعشي هو نفسه الداعية والملك.(11) وفي هذا السياق يمكن فهم إمكانية استهداف هذه الوهابية الأصيلة متمثلةً بـ "تنظيم داعش" النظامَ السعودي على الرغم من الكلام الكثير الذي يُقال حول الدعم المالي الآتي من ممولين داخل المملكة.

هل داعش صورة عن الإسلام؟
يدور حول هذه السرديات جميعها قضية كبرى انفجرت ولن تتوقف، وربما انفجارها يحمل إيجابية أخرى لظهور داعش كما يرى البعض. فتحت هذه القضية الباب على مصراعيه للدخول في سؤال كبير يتعلق بحقيقة علاقة داعش بالإسلام، فبينما يستسهل عامة الناس -في منزع حدي تكاسلي- الجوابَ على هذا السؤال بأن ما تقوم به داعش لا يمثل الإسلام الحقيقي، وأن الإسلام الحقيقي هو شيءٌ آخر، يذهب آخرون وبنفس الدرجة إلى اختزال الإسلام بكل مكوناته المعقدة بصورة داعش. وبين هذين المنزعين تأويلات هامشية وداخلية متعددة. دفع ظهور داعش مجموعةً من المثقفين إلى البحث والحفر في جذور داعش، وتعددت تأويلاتهم بدءاً من تحديد المشكلة في النصوص الإسلامية نفسها مروراً بتحالف المؤسسة التقليدية الدينية مع الأنظمة العربية وانتهاءً بالتطبيق الخاطئ للشريعة الإسلامية.

وربما الأمر الذي يتفق عليه أغلب من كتب في تحليل ظاهرة داعش هو أن نصوص الشريعة لها دور ملحوظ في بنية داعش إلا أن وظيفة هذا الدور مختلف عليها، فبينما يحيل البعض إلى أن هذه النصوص هي سبب وجود داعش وغيرها من الحركات الإسلامية المتطرفة، كما نرى ذلك جلياً في بعض الكتابات الاستشراقية وكتابات اليسارية العربية، يحيل البعض الآخر إلى المنهج الفاسد الذي تتبعه حركات متطرفة في تأويل نصوص الإسلام. في نظر الذين يعتبرون الإشكال في النصوص. تبدو المعضلة حقيقية، فهم يرون أن العبارات المنددة والمهاجمة لأفعال داعش من قبل المؤسسة الدينية الرسمية ما هي إلا تنديد بالمنفِّذ وليس بالقانون أو التصرفات الوحشية، وهي بالتالي نصوص مؤجلة قابلة للتنفيذ على يد العدالة الحقيقية من قبل المؤسسة الدينية.

توحش داعش وأسباب التكون الاجتماعية والنفسية:
في مقابل هذه السرديات الدينية والتاريخية والسياسية، نرى أيضاً مجموعة من التحليلات التي تفكك الظاهرة من جهة علم الاجتماع أو علم النفس. فالبيئة التي ظهرت فيها داعش هي استمرار لبيئة ممتدة في الزمن والمكان العربيين، بيئة الاحتلال السابق والاستبداد اللاحق، بيئة اللانتماء الوطني والديني، بيئة "دين العدمية الأخلاقية"، بيئة تعميق الهويات الطائفية. إلى كل ما سبق يعزو "عزمي بشارة" في مقاله الآنف الذكر "من يقف خلف داعش" الوحشية العدمية التي تقوم بها داعش. وبتحليل نفسي في مقاله "التفسير العلمي لوحشية داعش" (12) The science behind ISIS Savagery يرى عالم الأعصاب "إيان روبرتسون" أن ظاهرة داعش لها نظائر كثيرة في تاريخ الإنسانية القريب، وهي على الرغم من أنها لا ترتبط بدين محدد ولكنها في نفس الوقت قابلة للتوظيف الديني.

ويعزو روبرتسون ظاهرة داعش إلى مجموعة من خمسة عوامل نفسية واجتماعية: الوحشية تستدعي الوحشية، الانغماس في الجماعة، الجماعة المخالفة بوصفها أشياء، الثأر، ودور القادة. في شرحه لعامل "الانغماس في الجماعة" يقول روبرتسون: "عندما تنهار الدولة بقانونها ونظامها ومجتمعها المدني، لن يكون هنالك إلا مصدر واحد للبقاء هو الجماعة سواء كانت هذه الجماعة دينية أو عرقية أو سياسية أو قبلية أو عشائرية أو كانت -في هذا السياق- هيمنة بهيمية من قبل زعيم عصابة يستمد بقاءه من الأمن المتبادل الذي توفره الجماعة. الحرب توثق علاقة الناس بجماعاتهم، وهذه العلاقة التوثيقية التي تقوم بها الحرب تسكِّن الخوف الجنوني وحجم المصيبة التي يشعر بها الفرد عندما تنهار الدولة. كما أنها توفر تقديراً للذات لبعض الناس الذي يشعرون بالمهانة نتيجة فقدهم المكان والمكانة، التي كانوا يتمتعون بها في مجتمع منظم نسبياً. وحينها فإن الهويات الجماعية والفردية تبدأ بالاندماج جزئياً، كما أن تصرفات الشخص تبدأ بالتماهي مع الجماعة لدرجة أن تصبح تعبيراً عن إرادة الجماعة، بقدر ما هي تعبير عن إرادة الفرد. وعندما يحدث هذا، فإن بإمكان الناس أن يقوموا بأشياء مرعبة لم يكونوا ليتخيلوا أنفسهم سابقاً أن يقوموا بها لولا ما حدث".

تحيل هذه السرديات والتأويلات جميعها والتي تنزع في أغلبها إلى الجواب عن جينولوجيا داعش إلى فائض المعنى الناتج عن عدمية التوحش في زمن الحداثة العربي. وهي -كما يقول كريم محمد في مقاله "داعش بين إحراج الفقيه واختزال المثقف"-: "مجرّد يأس ميتافيزيقي من العصور الحديثة ... إن داعش مخيّم كبير للعدميين، الذي يمتلكون فائضًا من المعنى، عدميّة من فرط المعنى، وليست من غيابه". إن خليطاً متماسكاً ومناسباً من العوامل يمكن أن يؤدي إلى ظهور داعش، وربما تصلح السرديات السابقة بمجموعها أن تكون أرضية لبروز تنظيم كهذا. في مقاله "آباء داعش"(13) يشير "زياد ماجد" إلى أن داعش وليدة ستة عوامل "آباء"، هي الاحتلال والاستبداد والعدوانية الإيرانية الطائفية والسلفية الخليجية والطهارة التاريخية والعنف. أو عاملين رئيسيين كما أشار إلى ذلك بدر الإبراهيم في مقاله "داعش والوهابية والتكفير: الاختلاف والتشابه"(14) هما تآكل شرعية الدولة العربية، والعولمة غير العادلة: المتمثلة بالرأسمالية المنفلتة، والتراتبية القائمة للمجتمع الدولي.

بإدراك السياق الذي ظهرت فيه داعش يمكن لنا أن نحدد كيف نشأت ولماذا. داعش نشأت في بيئة العراق والشام، بيئة أمجاد الخلافتين التاريخيتين، وفي نفس الوقت بيئة البعثين اليميني واليساري. بيئة العراق التي تعرضت للاحتلال البريطاني ثم الاستبداد البعثي، ثم الاحتلال الأمريكي ثم الاستبداد الطائفي. بيئة سوريا التي تعرضت لاستبداد أقلوي قلَّ نظيره. كما أن داعش نشأت وبرزت كظاهرة في أحداث السنة الرابعة من الثورة السورية، السنة التي تلت ثلاث سنين من الحراك السلمي، ثم ولادة الجيش الحر فظهور الكتائب المسلحة ذات الطابع الجهادي، ثم تجمُّع هذه الكتائب في تشكيلات أكبر، ومن ثم تفتُّتها وانقسامها تبعاً للولاءات، وتغير رياح التمويل، أو بالأحرى تغير سياسات الممولين الخليجيين واختلافاتهم فيما بينهم كأنظمة؛ أو فيما بينهم كأفراد وأنظمة.

لم يكن هدف الثورة السورية في بدايتها إلا تغيير هذا النظام، وبناء دولة مدنية، والقضاء على الأبدية السياسية التي خنقت كل ما هو دنيوي عبر استحضار كلمات الخلود والبعث ... التي تحيل إلى خطاب ميتافيزيقي. مع التوحش والبهيمية التي قام بها النظام تحولت الأبدية السياسية شيئاً فشيئاً إلى أبدية ميتافيزيقية، خنقت كل ما هو أُخروي في عيون المتدينين وغير المتدينين. حتى نادى بعضهم "خذوا موتكم وارحلوا عن موتنا". وفي الأبديات الميتافيزيقية التي تجلب الدنيوي إلى الأخروي يمكن لتنظيم مثل داعش أن يولد ويحارب بذرائعيةٍ وبمنحى عدمي جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ويستقطب في الوقت نفسه جميع المقاتلين الميتافيزيقيين المحليين والإقليميين والدوليين. لا غرابة حينها أن تكون أرض الخلافة –على عكس أرض أفغانستان وغيرها- جاذبة لكل الجنسيات؛ ولا غرابة أن يذبح داعشي بريطاني صحفياً أمريكاً على أرض الخلافة الموعودة. ولا غرابة أن يذبح داعشيٌ مصريٌ مقاتلاً سورياً من الجيش الحر أو الكتائب الإسلامية، كونه من الصحوات التي تتعامل مع الدول الغربية، وتنادي بدولة الديمقراطية؛ ولا غرابة أن يذبح داعشي جندياً من جنود النظام السوري كونه نُصيرياً ربيباً لـ"النصرانية الكافرة" العالمية. ولا غرابة أن يعلن الخليفة خلافته على منهاج النبوة، ويبقي على اسم "الدولة" الحديثة التي تذبح بالسكين.

هوامش:
(1) https://www.facebook.com/mujahed.diraneyya/posts/10202357703447388

(2) www.elwatannews.com/news/details/543055

(3)altagreer.com/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%AD%D8%B1%D8%A9/%D9%81%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%8A%D9%87-%D9%88%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81

(4) www.alaraby.co.uk/opinion/99b08cd2-484b-4e94-850f-c2946ecb648e

(5) www.alquds.co.uk/?p=189940

(6) www.alaraby.co.uk/opinion/59674ce4-99e9-4aac-a71e-b472130d54bb

(7) fairforum.org/?p=2227

(8)altagreer.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%
D9%86%D8%B4%D8%B7/%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%B7%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%87%D9%84-%D8%A3

(9) www.huffingtonpost.com/alastair-crooke/isis-wahhabism-saudi-arabia_b_5717157.html

(10) https://www.al-akhbar.com/node/214666

(11)  للمزيد حول هذا التحول في النظرية الوهابية حول الدولة اقرأ مقالة "بدر الإبراهيم" https://www.al-akhbar.com/node/214666 

(12)http://therepublicgs.net/2014/08/26/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A-%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%B4%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4 

رابط المقال بالانكليزية:  http://www.telegraph.co.uk/comment/11041338/The-science-behind-Isis-savagery.html 

(13)https://now.mmedia.me/lb/ar/analysisar/552964-%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4 

(14)  https://www.al-akhbar.com/node/214666