يرسم الروائي العراقي تفاصيل حياة رسام عراقي هرب من جحيم حروب بلاده، ليعيش مرارة المنفى في إسبانيا ويقع في قبضة شبكة تستغل المواهب الفنية باستخدامها في ترميم اللوحات ورسم نسخ من اللوحات الشهيرة بعقود عمل وهمية وما يستتبع ذلك من تعقد حياة الفنان المنفي.

عـنـد شـواطـئ أنـدلـوسـيـا (رواية)

أحمد غانم عبد الجليل

الإهداء: إلى عائلتي الحبيبة

 

أيها الإنسان الحر ستحب البحر دائماً

فالبحر مرآتك تتأمل نفسك في انبساط أمواجه

غير المتناهية, في حين

أن روحك هاوية لا تقل عنه مرارة

ومن دواعي سرورك أن تغوص في أعماق صورتك

وتضمها بعينيك وذراعيك

وقلبك يلهو أحياناً بخفقانه      

وبصخب هذه الشكوى الوحشية المتمردة"

                                  من قصيدة الرجل والبحر ـ بودلير

 

قد لا تملك جمالاً يخطف الأبصار من الوهلة الأولى، تبدو لك دوماً كما لو أنها قد استفاقت من النوم لتوها ولم تتخلص من كسل النعاس بعد، فلا تفتح عينيها على وسعيهما إلا إشارةَ إلى تعجب أو استفزاز أو فضول لا يترك لك سبيلاً سوى تهدئته، عندئذٍ تلتهم وجهها الأبيض باهت النمش فرحة ظفر تستثيرني لضمها ومعانقتها طويلاً في أي مكان نكون فيه ثم تستمر ضحكاتها التي قد تثير انتباه كل المدينة إلينا...

 تتملص من ضيق حياتها المملة بين ذراعيّ، لا تفتح شفتيها الدقيقتين عند العناق، تكورهما بين شفتيّ وتتركني أرتشف نداهما بعذوبة مقطوعة من مقطوعات شوبان الذي تعشق موسيقاه ذات الطابع الرومانسي الميال للكآبة، تمسك كفي برفق، تمسح خدها بباطنه، ثم ترقب أصابعي الموشاة ببقايا ألوان لوحة من اللوحات التي اعتدت رسمها سريعاً في متنزه عام أو قرب الشاطيء، عندها تتحول يدي إلى شبه آلة لا يسمح صاحبها أن يصيبها أي خلل أثناء العمل المطلوب منها، أياً كانت قسمات الوجوه والوضعيات المفضلة لدى هذا أو تلك، تعاند الوهن، تسابق السآمة وحر الصيف مع توهج شمس المتوسط، أو لسعات البرد وتلبد الغيوم المنذرة بسقوط أمطار قد لا تنقطع زخاتها لساعاتٍ تغير المشهد بالكامل، مشهد البحر والشواطئ والشوارع وحتى ملامح الناس...

 وجدتْ عندي بورتريه فحمي لوجه سيدةٍ عجوز، حفرتْ الكرمشة خديها حتى خسفتهما، صممتُ على رسمها، دون أخذ رأيها أو إثارة انتباهها، أبلغتها بإسبانية بالكاد كنتُ أمسك بتلابيبها أني لا أريد منها أي مبلغ، اعتقدتُ أني أهديها إحدى ابتسامات أواخر العمر الشحيحة أو أضفي بعض المؤانسة على جلستها الطويلة، المكتظة بالحكايات المنسية، على الأريكة المقابلة لي في باحة مفتوحة تتوسط مجمعاً سكنياً وعدة مقاهٍ ومطاعم بلا أن تأتي بحركة تقريباً غير علامات الضجر، جفلتْ عند تقريبي الورقة إلى وجهها الموشوم بالتجاعيد، رمقتْ ملامحي الشرقية وبشرتي التي لا تدل على سمرة أشعة الشمس البرونزية، تشنجتْ خطوط الزمن حول محجريها، ظلتْ تحدق في مرآة وجهها دقائق محيرة نقلت الجهامة إلى وجهي، توقعتُ أن يعلو صوتها، تزعق فيَ بعد ساعات من الصمت، تؤنب تجاسري على خصوصية صمتها بكلماتٍ قد لا أفهم لأكثرها معنى، ولو حصل ذلك لما كانت المرة الأولى التي أواجه فيها مثل هذا الموقف... رمتْ بالورقة بعيداً، كبحَ الهواء جماح طيرانها، فطوَحها سريعاً على الأرض، سعيتُ وراءها قبل وصولها إلى الشارع، تحت أقدام المارة وعجلات السيارات، وعندما استدرتُ لم أجد لها من أثر...

 سهمتْ أمام الورقة المجعدة طويلاً، أخذت تتلمس بشرتها الناعمة من الجبين حتى أسفل الرقبة...

«سوف أكون مثلها ذات يوم!!!... »

تشاغلتُ عن الإجابة على سؤالها بما لا أتذكر وقد أدخلني في صومعة أسئلةٍ أخرى أحاول التهرب منها ما أستطيع، راقبتُ الورقة تتهاوى من الشباك الذي فتحَته فجأة ليبدد ما في الغرفة من دفء وسكون، وددت الانفجار بغيظٍ لم تعهده فيّ من قبل، طردها من الغرفة الصغيرة مبعثرة الأغراض التي أسكنها وصديقايّ، فذلك الوجه بكل ما يتلبسه من شحوبٍ ونسيان وجدت فيه استفزازاً فنياً من نوعٍ خاص، لعلي أستطيع أن أرسيه في لوحة دقيقة التفاصيل أشارك بها في معرضٍ ما، بعد أن أغطي الشعر الذي تآكله المشيب بفوطةٍ سوداء تخفي فستان العجوز عريض فتحة الصدر، ولكني لم أفعل شيئاً في النهاية غير إطلاق قهقهة عالية من ضيق عقلها وتهافت أحلامي بين الجدران العتيقة العطنة...

 لم أكن ألاقيها في ذلك الجحر الكئيب إلا عندما لا نجد بديلاً عنه، وأتأكد أن حسن المغربي ومسعود السوري غير موجودين ولن يعودا إلا في ساعةٍ متأخرة، وإن صادف وعاد أحدهما مبكراً، على غير عادته، فالورقة التي أعلقها على مقبض الباب من الخارج: "الرجاء عدم السخافة" إسوةً بالفنادق، تكون جد كافية للتنبيه إلى وجودنا في الداخل وضرورة الانصراف، وفي كافة الأحوال هي لا تستطيع التأخر بعد المغيب كثيراً...

 تسترخي بين فخذيّ لدى تربعي على الأرض كما الكيتار، تلصق ظهرها إلى بطني العارية، تسند رأسها إلى كتفي، تسدل شعرها الذي أحالت خصله الصفراء ليلاً لا تسكنه نجوم لأجلي، يفح منه عبق الياسمين، تدير وجهها نحوي، تبتسم ابتسامتها الناعسة المبهجة، تقَبل شفتيّ، ذقني، ذراعي اليسرى تلتف حولها، أصابعي تتجمع عند سرتها، تضحك...

«إعزفني، وتخلل نغماتي، فإن لم تفعل أنت لن يفعل سواك، هل تعرف أن داخل كل إنسان في أي مكان على الأرض معزوفة تخلق معه، حتى لو بدت أشبه بضوضاء أو بعواءٍ للآخرين، يجب أن يخرجها أو يجد من يخرجها له قبل أن يركن كل شيء فيه إلى صمت تام، خرس موحش، موحش

 أعرف أن في كلامها بعض التأثر من حكايا جدتها المتوفاة قريباً، ومن قبلها شقيقها الذي قُتِل في العراق، هو أيضاً أجبِر على الذهاب في ركب الغزو، لم يقوَ على المعارضة رغم التخلص من كتائب الإعدام بعد انتهاء حكم فرانكو، تتحدث عنه وعن دمويته كما لو أنها عاصرت عهده كاملاً، استغربتُ عندما لم تجد موته في بلدي المحتل عائقاً من ضمن عوائق عدة تعاند علاقتنا واستمراريتها، فقط تفاجأت من إسمي في البداية...

«محمد؟؟...عربي عراقي!!! ـ !!! de Arabia, Iraqui

 كانت أستاذتي في المعهد الثقافي البريطاني الذي دخلته لفترة وجيزة ثم تركته بسبب فقر الحال، كنت عكس كل الطلبة هناك، أسعى إلى تعلم اللغة الإسبانية من خلال إتقاني اللغة التي جاؤوا لتعلمها، بدا لي الأمر صعباً لأنها كانت طبعاً تركز على اللغة الغريبة عنهم، مفردات وقواعد، لا على لغتهم الأم، تفهمتْ ذلك منذ البداية فصارت تساعدني للوصول إلى هدفي حتى لو أمضت معي ساعات في كافتيريا المعهد أو كافتيريا مجاورة بعد انتهاء الدوام...

عدتُ في تلك الآونة إلى مشاعر المراهق الذي يعشق أستاذته ويتلصص على مفاتن جسدها، من الرأس حتى القدمين، مع أني أكبرها بسنوات، لم تعرف كيف تسنى لي الاستدلال على عنوان الشقة التي تقطنها وزوجها وطفلاها في شارعٍ فرعي يصل بين حيين مكتظين بالشركات والدوائر الحكومية والمحال التجارية، تصورت ُنفسي لحينٍ من الوقت ذلك الشاب الغر، محسن في رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم لدى جلوسي إلى إحدى طاولات رصيف كافتريا يديرها رجل جزائري بانتظار إطلالة من نافذتها ذات المظلة الخشبية الصفراء، تشير لي بحركةٍ من يديها، بعد تلفت يمنةً ويسرة، أن أصعد فأتقافز مهرولاً نحو باب العمارة الأشبه بباب دار عتيقة لأشرع بأولى معزوفاتي على أوتارها المنسية...

 ذراع كل منا يحوط بخصر الأخر من الخلف لدى انحدارنا من ناحية مرتفعات ميخاس "Mijas"الوعرة باتجاه المدينة، على يمين الطريق الضيق المرصوف الذي نمر به يمتد رياض شاسع لا يحوط البصر مداه، تفترش خضرته زهور متنوعة تتناثر بين جذوع أشجار البلوط والصفصاف والسدر وأشجار أخرى غريبة، فارعة الطول ومتقّصفة الأغصان، تنزوي عنها شجرة تين عجفاء تلوح من ورائها أطلال قلعة إسلامية تشد أنظارها أكثر من الكنيسة العتيقة المهجورة الواقعة على مقربةٍ منها...

 يطول مسيرنا دون شعور بالإنهاك أو الوقت نحو منطقة الباص الذي يقلها من ضاحية مربيا "Marbella " إلى ملَكا العاصمة "Malaga" حيث تمر عبر "المنطقة الخضراء" شبه الجبلية، تقع على مرمى الطريق الواصل بين المدينتين، كم من النكات نستوحيها من تلك المفارقة الغريبة، وفي كل مرة لا أستطيع منع نفسي من الضحك المبتلع مرارته على سخافاتها المستهلكة...

 خوفي عليها من السير وحيدة في الشوارع يثير لديها نشوة انتعاش تنهل مما نستقيه من لذة على الفرشة القديمة متآكلة الحواف التي تأوينا، أطويها كل صباح على النافذة الضيقة المطلة على زقاق صغير يتفرع من زقاق أكثر عرضاً وطولاً وانحداراً وصولاً إلى الشارع العام، لا يختلف كثيراً عن زقاق عربي عتيق، حينما ولجته أخذني إليه حنين مفاجئ، إذ لم أشعر بأي غربة عنه ولا عن أناسه الذين لم أكن أعرف منهم أحداً...

 أقف حتى مغادرة الحافلة، ثم أقفل عائداً، أدخن سيجارة، أسحب دخانها بقوة ثم أنفثه بتروٍ وهدوء على مقربة من الشاطيء المقفر، أصخي السمع لزحف الموج وانسحابه، تتابعه دقات ساعة رتيبة لا تتوقف، لا أدري متى يمكن أن تعلن لحظة رحيلي إلى أرضٍ جديدة وعوالم أخرى يجدر بي التكيف معها سريعاً، أو الرجوع إلى بلاد تغص بالدماء...

*      *      *

 في كل مرة تبتعد عني بقبلةٍ أو مداعبة تلظي فينا شهوة العودة إلى الفراش في اشتياقٍ أكبر ينغزني إحساس مقيت، أشبه بتوجس الغرق في هذا البحر الشاسع، أني لن أحظى بها مجدداً، ولأسباب متعددة تتقاطر في ذهني كسلسلة من جبال عالية شرسة الوعورة لا قدرة لي على اجتيازها... ما كنت أدرك أني سوف أتعلق بها إلى هذا الحد ومغامرة تحدي صدها جموحي العنيد يمكن أن تتحول إلى... عشق " أقصد ذلك العشق الحقيقي الذي يستلب من المرء عمره ويجدده في آنٍ واحد...

 تستحلفني بالعذراء، بكتابنا المقدس توكيداً، ألا أملها يوماً، ألا أهجرها من أجل أي امرأة أخرى، حتى لو ساقتني إليها شهوة عابرة، وأن تبقى هي المرأة الأولى في حياتي دوماً، تسألني إن كنت أصاحب إحدى الغجريات اللواتي يرقصن في البيت الشرقي (بيت الغجر) الذي نمر به كلما تواعدنا عندي...

«إحذر، من يقع في غرام إحداهن تسلط عليه سحراً لا يستطيع الفكاك منه أبداً، يصبح عبداً مطيعاً لأهوائها مدى الحياة»...

 كنت أرى الغيرة تلوذ بعينيها قبل استسلامها لعناقي الحار مطَمئناً ثم ساخراً: أيهما أشقى، سطوة سحرهن أم سطوة السياسة والحروب، الموت الذي أهجسه يتعقبني وربما يستبقني إلى كل مكان أحط فيه...

 لاحظتُ جيداً مدى ولعي بالفلامنكو عند دعوتي لها لقضاء أمسية في تلك الدار، كما لاحظتْ معرفة الفرقة وحفاوتها بي وكأن علاقة حميمية تجمعنا منذ سنوات، أول مرة دخلتُ فيها تلك الدار الصغيرة كنت برفقة حسن ومسعود، مرت نظراتي على سلم خشبي ملاصق للجدار البعيد عن الباب الذي يجبرنا على الانحناء قليلاً عند عتبته، يجَسم صوت وقع الأقدام عند كل درجة من درجاته، يهتز مسنده كلما أمسكت به يد أحد الصاعدين أو النازلين من نصف الطابق العلوي، تصطف على جانب منه غرف ضيقة المساحة، في كلٍ منها يوجد سرير يتسع لشخصٍ واحد، يفي بالغرض على كل حال، وحمام نتن الرائحة في أخر الطرقة، بقيتُ أجول بناظري في المكان، الجدران باهتة اللون، الكراسي والطاولات الصغيرة شديدة البساطة، العواميد الخرسانية المتصلة بأقواس تتدلى منها أصص الورود، الكنبة الواطئة المخسوفة والمركونة إلى حائط تتوزع عليه كسواه صور ولوحات صغيرة لا تتضح معالمها للناظر إليها إلا عن قرب، مراوح يدوية ذات ألوانٍ فاقعة تميزها، وصنوج مختلفة الأنواع والنقشات معلقة بخيوطٍ حمراء وصفراء مثبتة إلى مسامير رفيعة بارزة مثل نتوء الزمن الماضي على بناء الدار، نافذتها الوحيدة تطل على الزقاق الذي توليه الفرقة ظهرها لدى تقديم عروضها الصاخبة، يجلس على الأريكة رجل تشابك الشيب بسواد شعر رأسه، مشرق الوجه، ذو جسد رياضي وصوت رخيم، يحتضن كيتاره أمام الميكرفون، عزفه وصوته الجهوري حيناً والرخيم حيناً آخر يضبطان إيقاع الرقصات المتقلبة كموج البحر، يساعده في ذلك شاب أو إثنان، وسيمان، بلحيتين خفيفتين، يتأنقان ببنطاليهما الأسودين وقميصيهما اللذين يرادفاهما السواد مع لمعة تسطع تحت المصابيح البيضاء الوهاجة، أو مغنية بدينة، محببة الملامح تمتلك صوتاً أوبرالياً، يصدح في الآذان بقوةٍ تلج حواسك وإن كنت لا تفقه من لغتها كلمة، بالإضافة إلى شدو بقية الفتيات، لا تعرف كيف امتلكت كل منهنّ ما يميز طبقتها الصوتية عن الأخريات، وكأنهنّ يمثلنّ السلم الموسيقي بتدرجاته النغمية المتباينة... لوحات ناطقة أسعى حثيثاً لإرضاخها على الورق، ولو عبر رسومات تخطيطية تتتبع حركاتهنّ المومِئة بشتى المعان ما بين الفرح والحزن، الشجن والإثارة، التمرد والوجع، الانهاك والتوتر... تطَوح الجسد وتعابير الوجه المختلفة المصاحبة للموسيقا المحلقة نحو الأفق البعيد والكورال الغنائي متداخل الأصوات (الرجالية والنسائية) تخلق أمام عينيك عالماً غارقاً بالتفاصيل، لا يشغلك عندها التمعن باهتزاز النهدين والبطن وتمايل الردفين المتدرايين خلف ذيل الفستان العريض الطويل، مشبوك فتحة الصدر الكاشفة عن تجويفه بوردة كبيرة من الدانتيل الملون والمطرز بالنمنم، فتاة أكثر من سواها لفتت انتباهي، وخلال أيام متتابعة، سمرة قسمات وجهها المتصلبة، عروقها النافرة على وشك الانفجار تتحول إلى حمرة قرمزية، كما لو كانت تعكس ومض النيران التي تحاصرها، تدور وتدور، تروح وتجيء من ناحية لأخرى، يتمايل جذعها ورأسها مثل شجرة اعتادت مقاومة الريح العاتية بينما تظل قدماها متسمرتان على الأرض في نقطةٍ محددة، ثم تشرع بالدوران حول نفسها بنقراتٍ متتابعة تحتد وتيرتها فجأة معلنةً الثورة على كل شيء حتى يبدأ جسدها كله بالارتجاف وكأنها ستنهار مغشياً عليها...

«هزة الجماع». علق مسعود مستخفاً دمه فأكمل حسن بذاءته بضم قبضة يده وهزها نحو الأعلى والأسفل وهما يراوغان ضحكاتهما المخمورة، لم تلهني التفاتة نحوهما واستمرت نظراتي في متابعة دواماتها المستوطنة للأحاسيس، خاصة من يتجرع آتون الحروب ولو عن بعد، كان الجمود يستشري بعينيها، مغيَبةً عن الزمان والمكان بكل كيانها، تسدل جفنيها الموشيين بكحلٍ سماوي خفيف وكأنها في أعلى درجات الوله أو الانعتاق، متصوفة مبتهلة لا قدرة لأحد على منعها من التحليق في فضاء لا تحده حدود، لا تحتاج لتأشيرة سفر للتنقل من مكانٍ إلى آخر، ولعل هذا بعض سر ديمومة أولئك القوم على مر الأزمان، يدهشك اللمعان المتسلل إلى عينيها لدى فتحهما بصفاءٍ تام وكأنها ولدت من جديد، تبحلق وترصد كل شبر في المكان دون أن تركز نظراتها على أحد، صدرها يوالي الارتفاع والانخفاض سريعاً، العرق يسيل من جبينها غزيراً، فلا تكف عن الدوران حول نفسها والصنج يعاود الطرقعة بين يديها حتى يبدو أنه قد صار جزءاً لا ينفصل عنها، ذيل الفستان المكركش يلتف بدوره حول جسدها ثم تجده بحركة سريعة وبسيطة من ساقيها يهفهف مثل مروحة تنشر الحياة بعد جمود...

*      *      *

 حاولت لوسيا إمدادي ببعض ذلك الألق عند لقائنا في شقة إحدى صديقاتها، أجهدت نفسها طويلاً، نكشت شعرها، علَ بعض الشبه يقربها من «غانياتي» على حد تعبيرها، تجاوزت تعثراتها وترنحات كادت تسقطها على وجهها أو ظهرها، تأففت عالياً، رمت الصنج من يديها واتجهت نحو الشباك مولية ظهرها لي، شأنها عند الغضب أو الزعل، دنوت منها، ألصقت وجهي بشعرها، أحطت صدرها متوتر الخفقان بذراعيّ، أحنيت رأسي ورحت أقبل رقبتها التي أخذت تتمايل بانكسار طفلة، رأيت الدمع يترقرق في عينيها عندما استدارت نحوي معلقةً ذراعيها حول رأسي...

قلت لها ضاحكاً:

- المرأة مرأة أينما وجدت، لم أكن أعرف إن درجة الغيرة مرتفعة عندكنّ أيضاً إلى هذا الحد...

قالت بشيءٍ من المكر: يجوز إنه بعض تأثيركم علينا، ألم تستوطنوا مدننا قبل قرون، وآثاركم باقية هنا إلى الآن، لم يقدر على إزالتها أحد...

ـ يعني أنتِ وريثة الحنق والتسلط العربي؟ ههههه...

ـ ومن أين تعرف أني لست من أصلٍ عربي... لا تبحلق بي هكذا، نعم، لمَ لا يكون أجدادي من عرب الأندلس الذين أجبروا على تغيير ديانتهم والتنكر لقوميتهم حتى ينجوا من محاكم التفتيش... من يدري، كل شيء جائز.

ـ ولو كنتِ عربية ماذا تريدين أن يكون اسمك؟  

ـ ذات اسمي، يكون بالعربية نو... نورا، ظنوا أني كفيفة أول الأمر لأني لم أستطع فتح عينيّ لعدة ساعات بعد ولادتي، فأشارت صديقة والدتي الراهبة في الدير القريب من دارنا أن يسموني لوسيا، نورا، تيمناً بإسم شفيعة المكفوفين...

 أردتُ معانقتها، ولكنها تملصتْ من بين ذراعي نحو الفراش في خطواتٍ متقافزة بخفة الغجريات اللواتي عجزت عن تقليدهنّ، اضطجعت على جنبها الأيمن، ودعتني بإشارةٍ من يدها اللحاق بها، أحاطت رأسي بساعديها، فاسترخى بين كتفها ورقبتها، انشغلتُ بقبلاتي عن أجزاء من سرد روايتها عن شفيعة المكفوفين، لها أسلوب جد جميل في قص الحكايا، خاصة تلك التي حفظتها عن جدتها في صغرها، منها قصة القديسة المولودة في مدينة سيراكوزا الصقلِيّة، كانت وحيدة أبويها الثريين التقيين، خصصت نفسها منذ صغرها لحب المسيح بعد وفاة والدها، عندما كبرت قليلاً اختارت لها والدتها أوتيكا عريساً حسن الأخلاق، إلا أنه كان وثنياً، توسلتْ والدتها كثيراً أن تؤجل الأمر وظلت تدعو ربها أن ينقذها من تلك المحنة مع إصرار العريس على معرفة سبب التأجيل... غفوتُ قليلاً بفعل نبرة صوتها الهادئة المحافظة على ذات الوتيرة ولما أفقت كانت قد وصلت إلى الحاكم بسكاسيوس الذي اتهمها بالسفه لتوزيعها كل أموالها وأموال والدتها، التي رضخت لإرادتها بعد شفائها من النزيف الدماغي بمعجزةٍ إلهية، على الفقراء والمحتاجين، ولما اشتد الجدال بينهما ورفضت العودة إلى الوثنية أراد إذلالها بسوقها إلى دار الخطيئة وقد أبهرته عيناها فاقتلعتهما بيديها وألقتهما في وجهه قبل أن يمسها، عندها ظهر لها السيد المسيح وثبَتها في مكانها ولم يستطع الجنود زحزحتها حتى بواسطة الحبال إلى أن خارت قواهم، أراد إحراقها، فأخذت تصرخ وتسبح لله أن ينقذها وتحث الحاضرين على عبادته حتى أثارت الدهشة لدى الجميع، صار الناس يشتمون الحاكم فأخرسهم وأمر بقطع عنقها بالسيف لكن الضربة لم تكن كافية لنزع رأسها، فنقلها المؤمنون إلى بيت قريب وأقاموا لها القداس لترقد بسلام....

أخذتني غفوةٌ أخرى حتى صحوت على هفيف قبلاتها على جبيني وصدغيّ...

ـ تريد ان أقص عليك قصة لوسيا أخرى؟... الراهبة المعمرة لوسيا دوس سانتوس، من مدينة فاتيما ـ فاطمة ـ البرتغالية، هي...

ـ هه... ما قصتك والقديسات والراهبات. 

ـ هههه... ربما أترهبن ذات يوم، من يدري، وأعتكف كما اعتكفتْ في دير القديسة تريزا في مدينة كويمبرة البرتغالية حيث ماتت...

ـ يبدو أن الرجوع الأعمى إلى الوراء يطغى على العالم وليس عندنا فقط.

سألتْ متحيرة: ما قصدك؟...

انقلبتُ فوقها، عانقتها ولم أشأ لعناقي أن ينتهي... قلتُ جزعاً من إطالة نقاشٍ قد لا تمله...

ـ إن كان لا بد من الاعتكاف فابدئي به في صومعتي أطول وقت تسمح لنا به الدنيا...

 في داخل كل امرأةٍ مهما بدا عليها من بساطة، عند الوهلة الأولى على الأقل، تنمُر غجرية متمردة تأخذك إلى دنيا ليس لبراحها من آخر، بصمة تميزها عن سواها كلما جرفك الموج إلى أغوارها أكثر، ولوسيا نوعٌ خاص جداً من النساء، تهيم روحها في أكثر من عالم في وقتٍ واحد...

 أخذتُ أفكر إنها قد تكون فعلاً من أصلٍ عربي، وأحد أجدادها إسمه محمد أو أحمد أو عبد... أو أو... منذ ذلك اليوم قررتُ تسميتها نورا، فرحتْ كثيراً بهذا الإسم لما يمدها بخصوصية مضافة وهي معي، ينتزعها هو الأخر من حياتها دائمة التذمر من جمودها، لم أسألها عن تفاصيلها إلا قليل القليل، رغم الحنق الذي يتآكلني كلما حان وقت مغادرتها لتكون مع رجلٍ آخر وحياة أنزوي عنها بعيداً بعيداً، حنقُ كثيراً ما يود البطش بي وبها حد الاحتراق مع كل دقيقة تسترقها ضراوتي (الصحراوية) من طفليها اللذين تعشق، ديفيتو وبانديراس ـ تيمناً بإسميّ شقيقها وابن ملكا النجم أنطونيو بانديراس... تعلق صورتيهما داخل قلب ذهبي صغير معلق إلى سلسلة تحوط رقبتها وتصل حتى مفرق نهديها، تنزعها مع بقية ما ترتدي من اكسسوارات كثيرة الخشخشة، خاصةً حول معصميها منتاهيي الرقة بين خشونة كفيّ اللتين طوِعتا على العمل في شتى الحرف قبل حمل السلاح والقبض على رعدة الزناد، وأيضاً بعد رمي الرشاش في عرض الصحراء والتقافز بين الآبار المحترقة، أدخنة سعير نيرانها السوداء ظلت تلاحقنا مع قذائف الطائرات المغيرة فوق رؤوسنا، صرخات الاستغاثة تشتتنا في تيه البرية أكثر فأكثر، تعثرت بأكثر من جثة طُمِست أصابعها في الرمال وكأنها كانت تود حفر قبرها قبل أن تلتهمها الأنياب المسعورة...

سألتني وأنا مستلقٍ عند عناقيد كرومها اليانعة: لماذا أتيتَ إلى هنا بالتحديد، أجدادك عبروا جبل طارق منذ قرون ثم عادوا خائبين مخلفين كل شيء وراءهم، والآن أنتم تعاودون الكرة...

جذبتها إلي بشبق، قلت ساخراً: تغربت كثيراً داخل بلدي وخارجه، عبرت البحر المتلوي بين عالمينا، مدفونةٌ في قراره حكايات أكثر من التي نعرفها منذ قدم الزمن، لأرسو أخيراً عندك...

قالت وأنا أزيح خصلة من شعرها، هطلت قوساً من ليل لامع على ورد وجنتها اليمنى: كما رسا نوح عند جبل الجودي...

ـ عدنا للحكايات القديمة، وأين يقع جبل الجودي هذا؟...

ـ في تركيا... ملحمة الطوفان، مدونة في النصوص السومرية قبل غيرها، لم تقرأ شيئاً عن تاريخكم القديم؟!...

ـ حاضرنا شغلنا عن كل شيء...       

ـ ولهذا لم تتأثروا كثيراً بما سُرِق من المتحف في بغداد بعد الاحتلال؟

ـ الدماء المتناثرة في الشوارع كانت أكثر بكثير، أنتم أيضاً خدعوكم الأمريكان، استحوذوا على كل شيء ولم يتركوا لكم إلا فتات الغنيمة، حتى شركاتهم...

 خدر الحزن عرّج خطين من الدمع نحو أسفل خديها، ينعيان من جديد أخيها ديفيتو، أخرجت صورته ذات مرة من محفظة نقودها وأرتني ملامح وجهه البشوش بعينيه الفيروزتين، كستنائي شعر الرأس واللحية والشارب الخفيفين، شديد الحيوية والمرح، والذعر لحظة وداعها لدى التحاقه بوحدته العسكرية المتجهة إلى الكويت...

أمسكت يدي، لثمت باطنها بنعومة: يدك مثل يده، صلبة، قوية، دافئة وحنون... حتى هناك تشابه في مزاجيكما، سريعا الغضب والهدوء، كان عندما يحب فتاة يهوّس بها، يعاملها كأميرة لم يخلق مثلها في الدنيا، وعندما يخاصمها أو يباعد بينهما جفاء يعاملها كعاهرة شوارع رخيصة يخاف الاقتراب منها، كأنه كان يعرف إن عمره قصيراً ليقوم بكل ما يخطر في باله من حماقات وانفعالات متنوعة قد تستلزم عند غيره أسابيعاً لا أياماً أو بعض يوم يود أن يستنزف كل لحظةٍ فيه حتى آخر ثانية...

ـ لدينا تعبير غريب عمن يحمل ذات صفاته ويموت في سنٍ مبكرة... "لم يكن إبن دنيا".

ـ أليس هذا هو القدر، أم أنك لا تؤمن به؟...

 ران علي صمتٌ ثقيل، وكأني لا أعرف الإجابة أو لم أسأل نفسي مثل هذا السؤال يوماً، أحسدها على ذلك الصفاء الذي تحمله بين جنباتها كما تحمل وله العشق لدى وجودها معي، وكأنها هي من استحضرتني من تلك البلاد الصحراوية النفطية المطلة على ضفاف المتوسط...

 رافقتها ذات مرة إلى ساحة تواجه كنيسة قوطية صغيرة ذات واجهةٍ بيضاء توزر أعلاها وجوه حجرية لعدد من القديسين، أسفل كلٍ منها نحتت أحرف لاتينية متآكلة، تركتني على مسافة منها ومضت عبر ممشى مستقيم من الحصى الناعم، ارتقت ثلاث درجات رخامية عريضة قادتها إلى بابٍ خشبي كبير وعريض، توارت عبر ضلفته المواربة لتوقد الشموع وتطيل من الصلاة والابتهال، تطلب، مثلما تفعل دوماً، السلام لروح أخيها وجدتها ووالدتها التي صعدت روحها إلى عنان السماء ولم تبلغ حبيبتي العشرين من العمر، كان عليها الاعتناء بأخيها الأصغر منها بعدة سنوات، تحاول قدر المستطاع ترويض غوغاء رعونته المراهقة وصلف شخصيته الحرون، رغم شدة تعلقه بها هو الآخر، بينما كان الأب يقيم في مدينة أخرى بعيدة ليؤمن لهما احتياجاتهما، والجدة التعبة المسنة تمضي أكثر الوقت في سرد الحكايا القديمة ولو لنفسها إن لم تجد من يصغي إليها...

انتظرتها طويلاً على أريكة خشبية يصعب تحديد لون طلائها، تستفيء بأغصان شجرة كالبتوس عالية محنية الجذع حتى أصابني الملل ثم كاد الضجر يقودني إلى ترك المكان، رفعت رأسي نحو السماء داكنة الزرقة، الغيوم تسبح فيها على شكل مراكب صغيرة يمكن أن تبعثرها أي هبة ريح تلاعب خصلاً من شعري المجعد، ثم أبصرت البقعة الرملية أمامي كجدارية بيضاء تحتاج لالتهام الألوان النقية، تمتزج فتفرز ألوانا أخرى متحيرة، ترسم اللوحة التي لم تجنح في خيالي ولم يسبقني لفكرتها أحد، ربما بابلو بيكاسو كان يجلس جلستي هذه، وعلى هذه الأريكة بالذات، شارد الخيال وراء خطوط لوحة "الجُرنيكا"... تسمرت أمامها وقتاً لا أدريه في متحف الملكة صوفيا بعد وصولي بيومين برفقة بعض زملائي في البنك الإسباني ـ العربي (I.S) كنت العراقي الوحيد بينهم في الدورة المحاسبية المقامة في الفرع الرئيس بمدريد، فرصة كانت بعيدة المنال بالنسبة لي، أوشكت على اليأس أن يفي قريبي الذي غادر العراق منذ أكثر من عقدين ونصف بوعده ويرسل لي عقد العمل في طرابلس، طالبني قبلها بدخول عدة دورات تؤهلني للوظيفة الحلم لأي متسكع بعد الحرب، تتصيده بؤس الذكريات في كل وقت وأينما ولى وجهه، لا يبرأ منها إلا في بعض حالات السكر الشديدة مجنونة الهذيان ثم يصحو على شخبطة الورق المبعثر أمامه، تشكَلَ بعضها رسوماً مرتبكة الخطوط، دعمّها بقراءات عديدة عن مبادئ فن الرسم وبزيارات طويلة لجاره الطالب في كلية الفنون الجميلة... أخذتني رعدة قوية تنعي نبأ مقتله على يد بعض المسلحين، مزعوا لوحاته وزملائه الذين أصروا على إقامة معرضهم التشكيلي المشترك الأول في إحدى حدائق متنزه الزوراء، رياض الكثير من حكايا العشق، أول قبلة وله مراهق حصلت عليها هناك، خلف شجرة متينة الجذع، على ضفاف بحيرة اصطناعية يتهادى فوق مائها البط بخيلاء مبهج، أول لمسة صدر مكهرّبة، أول ترنيمة شبق وأروعها في حياتنا...

 ماذا كان إسمها، ما مواصفات جسدها، وجهها، ملامحها؟... أكاد لا أتذكر شيئا عن ذلك بالمرة...

 "أول مرة تحب يا قلبي وأول يوم أتهنى..." أخذت أتمتم بكلمات الأغنية العندليبية حتى رأيت لوسيا تتقدم نحوي بتؤدة وكأنها آتية من سفرٍ طويل على الأقدام...

ـ ظننتك سوف تبقين هناك معتكفة ولن تخرجي إلا وأنتِ في زي الراهبات... قلتها ضاحكا.

ـ أنا أيضا خفت أن تسيطر علي الفكرة وأبقى هناك إلى الأبد.

 نظرت إليها متحيراً فيما تقول وتعني بالتحديد، واجهتني بنظراتٍ غريبة تنفض أثر الدمع المنزوي أسفل عينيها، باغتتني بجدحة عينين متفرسة وبنبرةٍ تتوسل المزيد من التأكيد الجازم الذي لا يرتضي للشك مدخلاً: تحبني؟؟؟...

 أخذتها من يديها الرخوتين المعروقتين باتجاه ركن منزوٍ من الشاطئ، أردت استعادة روحها المضطربة بالكامل من خفوت ضوء الشموع التي لا تتوقف عن الذوبان بعد ذهاب من أوقدوها وعودتهم إلى سوح الحياة الماضية في عجالة من أمرها، كانت في أشد حالات غموض انكسارها، حزنها، وجعها... وشهوانيتها أيضاً...

 أشعة شمس الظهيرة الحامية كانت تتكسر عند نتوءات الصخرة المنحنية الكبيرة مدببة الحافة التي سكن شغفنا تجويفها، ينحسر ضياؤها عند أسفل بطني وطرفي قميصي مفتوح الأزرار وخصرها الرشيق الذي راح يتراقص في توغله بين ثنايا بساط الرمل الناعم من تحتها...

 ذراعاها تتشبثان برأسي وكتفيّ وظهري، وكأنها تخاف أن أتركها على حين غفلة فلا تبصر أمامها إلا موج متراخٍ كما لو كان يرنو نحو الجمود في ساعة القيلولة، تناثرت خصلات شعرها فوق بلوزتها القطنية الرمادية التي توسدتها، خلعتها سريعاً فور بدء تسلل أصابعي من تحتها، ثم ألقت حمالة صدرها بانفعالٍ يملي عليه جنون الشبق أوامره ولم تعد لارتدائها إلا عند نهوضنا، مستمتعة بما يستنشقه نهداها من نسائمٍ بحرية...

 أخرجت من حقيبتها سيجارة وناولتني أخرى، سحبنا ونفثنا أدخنتها باستمتاع النفس الأول والشهقة الأولى، جال كلٌ منا في ملكوت صمته الخاص، نسمع أصواتاً مختلفة مبهمة، لا نهتم بتمييزها، إن كانت تصدر عن إنسانٍ أو طير، العالم يتجوف ثم يتكور من حولنا، يصير فقاعة تقلنا إلى شيء من السرمدية المتهادية على وجه البسيطة...

 أيقظني من شبه غفوة أردت ألا أفيق منها سؤالٌ لا تمل طرحه من حينٍ لآخر، عسى أن تهتدي ذات مرة إلى إجابة تبحث عنها دون سواها:

«ما الذي أتى بك إلى هنا بالتحديد؟ »

*      *      *

 غادرت الفندق مثل لصٍ يحمل دليل إدانته، حقيبة ملابسي الصغيرة، ضياء الفجر المتمدد في الأفق يلوِح لي بما أقبل عليه من غموض، تلفتُ ورائي لأكثر من مرة للتأكد أن أحداً من زملائي أو من رجال المخابرات المكلفين بمراقبتنا في الخفاء لم يتنبه لتوجس حركتي حتى وصولي الباب الزجاجي الخارجي الدوار، تنفست عميقاً لما ركبت سيارة الأجرة الذي أوقفها لي الرجل الأشقر دائم الابتسام للنزلاء وضيوفهم، أخبرته بصوتٍ خافت إني أقصد محطة القطار التي لم يهدني إليها تجوالي ورفاقي في المدينة العتيقة التي تغلب على مبانيها السمة الأوروبية الكلاسيكية فخمة الطراز، كثيرة الزخارف والتماثيل متباينة الأحجام والأشكال، وجوه أصحابها المنتصبة في الميادين ووسط الساحات ترصد في جمود حركة الحياة بإيقاعها السريع، مزيج هائل تتعدد بصماته في هذه البلاد، يكسبها وجهاً معشَق الملامح، وجه يشبه وجه نورا ـ لوسيا باهت النمش في مواجهة شمس المتوسط ـ الأطلسي قبيل الغروب، وصلت المحطة شبه الخالية قبل التزاحم الذي يذكرني بهرولة الجنود صوب القطارات التي تقلهم إلى جبهات القتال، هناك كانت آخر مرة أرى فيها وجه أخي المغالب حزنه الطويل فيما الوطن يدخرني للحرب التالية...

 حجزت في الدرجة الثانية وظللت أرقب حركة الناس عبر النافذة في تململ واضطراب، تأخذني الدهشة مما أفعل، وما يمكن أن تصادفني من مواقف أو أسئلة ليست في الحسبان، ركبت بجانبي عجوز توجست مني ريبة ما فطنت، لا أدري كيف بالضبط، أني عربي، رغم حاجتي الملحة للتودد إليها واستراق بعض الاطمئنان من الطيبة المنصهرة في قسمات وجهها المترهل، ولو بلغة الإشارة، القطار كان فائق السرعة، لا صلة تربطه بقطاراتنا القديمة، ناقلة الأموات اكثر من الأحياء عبر سنوات الحروب اللعينة، طاف بنا على حواف المقاطعات والمدن والقرى الصغيرة، لوحات متنوعة تمرق من امام ناظري بسرعةٍ أقرب إلى رمشة عين، تكاسلتُ عن إخراج دفتري وبعض الأقلام من حقيبتي لرسم بعضاً من ملامحها، مستعيناً بشريط الذاكرة لتسجيلها فيما بعد، وربما لو فعلت لظنت المرأة المسكينة إني أخرج قنبلة لتفجير القطار بكل راكبيه... أرجعتُ مسند الكرسي للوراء ملتمساً شيئاً من الاسترخاء، أغمض عينيّ كل حين ثم أفتحهما فجأة مفزوعاً، أحدق بما حولي، أهم بالنزول في كل محطة يقف عندها القطار، أختفي بين شعاب الأرض الغريبة لأخلق لنفسي حياة جديدة أجهل عن معالمها شيئاً، ولعلي أعبر صوب الرصيف المواجه وأقفل راجعاً وكأن شيئاً لم يحدث، لأول مرة في حياتي أشعر بحرية الاختيار التي كنت أحسد عليها أبطال وبطلات الأفلام الأمريكية، كلما واجه أحدهم انكساراً أو حالة فشل ولو جراء خيبة عاطفية يلملم أهم مقتنياته في صندوق أو عدة صناديق، كرتونية أو خشبية، يضعها في سيارته ويغادر المقاطعة أو الولاية منعتقاً من كل شيء ليبدأ حياةً جديدة تبيح لمخيلاتنا رسم ملامحها...

استمرت الرحلة نحو ثلاث ساعات، لا أعرف في أي اتجاه أتوه، أحمل حقيبة سفر في يد وأقبض بأخرى على خارطة سياحية زادتني ارتباكاً، مررت بشوارعٍ وساحات لا أحفظ اسما من أسمائها أو طريقة لفظها الصحيحة، إلا أني توقفت أمام متحف بيكاسو، في سان أوغستين كالي، على بعد مئتي متر من البيت الذي ولد فيه الرسام الشهير، تشير إليه اللافتات الصغيرة ذات الأسهم الدالة، وعلى مقربة من كاتدرائية قديمة يؤمها السياح كثيراً، بدا لي أنه ملحق بها، وربما العكس... القصر المشيد في عصر النهضة، كان يكتظ بالداخلين والخارجين منه، اللافتة المنقوش عليها إسمه تبرز للمارة من أمامها، فتستوقفهم خلف السياج الحديدي المحوط للباحة الخارجية الزاهية بالأشجار والمصاطب والمنحوتات الموسومة بشخصيته المتناقضة المحيرة للكثير من معاصريه والنقاد لحد الآن، الرجل الذي أمضى عمره ما بين فرَش الرسم والأزميل و... فروج النساء حتى أتت على صخب حياته التسعينية...

 يضم المتحف مجموعة كبيرة من اللوحات والأعمال الفنية، من الرسم والحفر والسيراميك وصور فوتوغرافية وتماثيل وأعمال خزفية متنوعة، في الطابق الأسفل تحت الأرض توجد بقايا آثار ومقاطع من أساسات سور المدينة القديم وفتحات جدران فينيقية ورومانية وعربية، منها ما يعود إلى زمن إنشاء المدينة في القرن السابع قبل الميلاد... وعدت نفسي بحتمية زيارته كثيراً بعد ذلك، إلا أني لم أكن أتخيل ما سوف يفرض علي من إحساس باللصوصية في أغلب تلك الزيارات، متزامناً مع ما يوخزني من انكسار لدى مروري بمعهد تعليم الرسم الملحق به... "أعطني متحفا وسوف أملؤه"... جملة من جمله، مخطوطة بأحرفٍ بارزة سوداء على قطعة مستطيلة من الرخام الأبيض، مثبتة على باب المتحف الداخلي العريض المصنوع من خشب الصاج السميك، كما لو كانت بوابة حصن منيع، ترجمتها لي لوسيا لدى خروجنا في أحدى المرات نحو الشارع المطل على حلبة مصارعة الثيران، اللعبة التي تشئمز منها وتقول إنها من بعض كوامننا الهمجية العصية على الترويض...

 سرت طويلاً حتى وصلت الشاطئ، البحر كان يناديني بحماس، بل يصرخ بي أن أتحلل من كل شيء واهرع نحو غنج أمواجه، أغطس فيها عميقاً ثم أقفز إلى أعلى ما أمكنني، يسابق هديره زعيقي المنتصر لحرية اختياري، أستنشق هواءً ما تنفست مثله من قبل، ألوِح لليابسة الملغمة بعبثية الحياة بإشارات ظفر الخلاص من الدوائر التي أجبرت على الدوران في محيطاتها الضيقة مكبلاً بأغلال عمر الحروب والتوهان، أما هذا التيه الجميل المتخم بالحرية المطلقة المجنونة فهو من صنعي أنا، أنا القائد والمقاد، الآمر المتسيد والموتمَر في آنٍ واحد...

 كان الشاطئ عالي الصخب بصيحات وضحكات وقفزات في الماء من كلا الجنسين ومختلف الأعمار، أجساد شبه عارية، وجوه وهيئات لم أستطع أن أتبينها عن بعد، لن يسألني أحد عن هويتي، قوميتي وجنسيتي ومعتقدي ومذهبي، فليس للمرح والسعادة من وطنٍ ينتميان إليه، أو هذا هو المفترض على الأقل، شرع ظلي بالتضاؤل مع ارتفاع درجات الحرارة في منتصف النهار، بدأ بهلوانات البحر بارتداء ملابسهم احتماءً من جمرات سعيرها المنهالة على البشرات الناعمة الملتمعة بالزيوت والكريمات المرطبة، ينبهوني إلى ضرورة البحث عن مطعم قريب قبل أن يغشى علي، وإن أجبرت نفسي على تناول وجبة من الوجبات البحرية الغريبة التي لم تعتدها أمعائي بعد، ومن ثم البحث عن أرخص فندق يمكن أن يأويني أياماً لا أعرف عددها كما لا أعرف شيئاً عن حياتي الآتية، وتلك هي روعة الدنيا وفتنتها و... مكمن الخوف إلى حد الفزع منها أيضا...

"البحر من بعيد يبتسم

أسنانه زبد

والشفاه من سماء

****

وأنتِ يا فتاة كدِرة المزاج

نهداك صوب الريح

ما بضاعتك؟

سيدي:

إني أبيع ماء البحر

****

وأنت أيها الأسمر الفتى

ما الذي لديك بالدماء يمتزج؟

سيدي

ذاك ماء البحر"

 لوركا ـ أغنية ماء البحر

 صوت لوسيا يترنم بالقصيدة في أذني كلما واجهت البحر، شدت بها بالأسبانية ثم بالإنجليزية، قالت إنها عثرت عليها باللغتين ضمن كتاب قديم منسي وكتب أخرى على أحد رفوف مكتبة المعهد، وضعته في حقيبتها بكل ثقة دون أن يفطن إليها أو يفتقده أحد فيما بعد، أهدتني إياه بعد أن حفظتْ جل قصائده، شرط أن أسمعها، ولو بين حين وآخر، قصيدة تخبرها مقدار حبي لها ولوعته خلال فترة تعارفنا الأولى، وكذلك إثر غياب قد تتعمده أحياناً في دلال صبية تزهو بفرحة وجدها الأول، فتستبد بي وحشة لم أتخيل أن توقعها بي، تلك الساحرة، الطفلة المجنونة، يصعب عليك معرفة ما يمكن أن يطرأ على بالها ويستحوذ على تفكيرها، ما تنوي فعله بعد مغادرتها لك أو لفراشك وجسدها الغض الذي كان يرتعد بين أوصالك من ثوان يرخي سدال الخمول...

 عرضت علي مراراً أن أنتقل إلى السكن في ملكا العاصمة، كي لا تضطر إلى تكبد عناء الطريق كلما راودها الشوق إلي فتأتيني، دونما اتصال أحياناً، حتى لو عرفت إنها ستضطر لانتظاري طويلاً أمام باب الشقة في ذلك الحي الموبوء بصنوف مختلفة من البشر، تكفلت أن تجد لي المأوى المناسب، على الأقل نستطيع أن نستمتع باستقلاليتنا وخصوصيتنا وقتما شئنا، بعيداً عن تطفلات صديقيّ اللذين تشعر بشيءٍ من التوتر والريبة نحوهما...

أطمئنها ساخراً: شكلاهما هكذا، ولكنهما طيبا القلب حقاً...

*      *      *

 تعرفتُ على حسن ومسعود من خلال تعاملي مع شركة وبزار عبد الحميد ـ قريب حسن ـ السياحيين وسط ملكا... بودو، كما يناديه الجميع، أقام هنا منذ السبعينيات، شعره الأجعد يبدأ من منتصف الرأس، يرجعه للوراء حتى تهبط خصله على كتفيه العريضين، متناسقي الحجم مع قامته المتوسطة المكرّشة، يوزع على أصابع كفه الغليظة ثلاثة خواتم ذوات فصوص من الأحجار الكريمة النادرة، همس لي حسن لدى ملاحظته حملقتي بها أكثر من مرة بلا إرادة مني، إنه يعتبرها، بالإضافة إلى الوشم متداخل الألوان كلوحة سورياية لا يفهم من دلالاتها شيئاً والمنقوش على طول ذراعه الأيسر، تميمة الحظ التي جلبت له كل ما كسب من ثروة على مر العقود الماضية، لم أرتح لشخصيته، في البداية على الأقل، رغم ميله للمزاح وإعجابي بطريقة تعامله مع الزبائن من كافة الجنسيات والقوميات والأديان، وعندما يسأل عن هويته يجيب مازحاً...

«صاحب أعمال سياحية وبس»

 يترجمها إلى لغات يفاجئني كل حين بإتقان تحدثه إحداها، حتى العربية يتكلمها بلهجات متعددة في سلاسة متمكنة من صحة اللفظ، متباهٍ بقدرته اللغوية عبر ابتسامةٍ تكشف عن صفين من أسنان لامعة البياض، يهتم بأناقته طبعاً، حتى لو لم يكن يرتدى سوى بنطال جينز وقميص مشجر بألوانٍ فاقعة، يفح عطره الغالي عن بعد وكأنه يستقدم به السياح، يتفنن بترغيبهم وإقناعهم بكل ما يعرضه عليهم، وما لا يحصل عليه بما يشبه غسل العقول يجني أكثر منه بوسائل قد لا يسعها جراب الحاوي... رغم كل شيء لا أستطيع نكران أنه الوحيد الذي وجد في رسوماتي حادة الخطوط، البعيدة عن الحرفية الحقيقية والتي كنت أعرضها على أصحاب البازارات كالشحاذين لأتحصل على ما يقوِتني وأدفع أجرة الفندق الحقير الذي أقيم فيه، أو حتى أجرة تذكرة تعيدني إلى مدريد لأرى كيف يتسنى لي إصلاح ما أفسده جموح هفوتي الحمقاء، صرت أصلِح بعض اللوحات الصغيرة التي بهتت أغلب ألوانها نتيجة ركنها الطويل في المخزن، أو أقلد لوحة لهذا أو ذاك ممن أعرف أو لا أعرف، ومن مختلف الجنسيات والعصور والمدارس الفنية التي قرأت عنها بعض الشيء فيما مضى، كم فرحت وتألمت في ذات الوقت عندما كان العراقي فائق حسن من بينهم...

 «استنزاف حقيقي لموهبة يمكن أن تنمو بسرعة كبيرة وتحصل على حجمها الذي تستحقه بين المشاهير، داخل أسبانيا وخارجها إن توفرت لها الظروف التي تسمح لها بذلك. ».

 علقت لوسيا متبرمة، حتى أحسست أنها تتقمص شخصية ناقدة فنية خبيرة بالفن التشكيلي الذي أشعر أني أتمتم بأولى أبجدياته...

 يعرف بودو دوماً كيف يسخِر كلاً منا لما يحقق أكبر قدر من المكسب، أوكل إلي الذهاب مع الزبائن (المميزين، والعرب منهم خاصة) إلى شارع " كالي لاريوس التجاري وسط المدينة، أحسب بعض المحال هناك غصوناً متفرعة من إمبراطوريته المتوارية عن الأعين، وعلى اختلاف ما تبيعه من بضائع محلية ومستوردة، أدلَهم وأتعامل بالنيابة عنهم عما يرغبون شرائه، المهارة في هذه اللعبة تكمن في حرفنة فبركة وصل البيع، الذي يدفعه الرجل منتفخ الأوداج ومحفظة النقود، أو زوجته المزهوة بمصاغها، وربما فتاة يافعة لافتة الجمال، على الأغلب تكون عشيقة صيف، ولو بعقد زاوجٍ مؤقت، لا يحب أن يبدي أمامها أدنى تصرف ينم عن بخل، الفيزا كارت أيضا لم تنجُ من التلاعب في غفلة من الأعين المشتتة بين بهرجة البضائع وفتنة البائعات، أنبني ضميري كثيراً في البداية وكدت أترك العمل برمته، ولكني على أية حال لستُ على استعداد للعودة إلى الجوع والحرمان، ثم ما شأني بأولئك المغفلين الذي يأتون لبذخ المال دون حساب، كما أن عملي الـ... ليكن ما يكون مسماه يوفر لي الوقت الملائم لكل ما تهوى نفسي في أيقونة السحر الغامض هذه، عمل حسن ومسعود الرئيسي سائقان لدى شركة السياحة، تجوب حافلتاهما معظم الأماكن السياحية في البلاد، تستغرق رحلاتهما أياماً في بعض الأحيان، اضطررت أكثر من مرة إلى مصاحبة كل منهما كمرشد سياحي، أشرح عن معالم وآثار مدن لم تطأها قدماي من قبل، سخرت من جديته عندما طلب مني مثل هذا الطلب، فأعطاني كراسة ـ مكتوبة بالإنجليزية ـ ثم أخذ يشير إلى الصفحات التي يتوجب علي حفظ أكثر ما تتضمنه من معلومات، وعندما يعجزني الشرح أو الإتيان بإجابة على أي استفسار مباغت أفبرك المعلومة من عندي دون أن أظهر تلكؤاً يسفر عن جهلي، المهم أن أستعين قدر المستطاع بالأرقام، فالسواح المتحذلقون يحبون هذا كثيراً، كما أن كلاً من حسن ومسعود قد يعرف معلومات تتيه عن الكثير من المرشدين، وكذلك كيفية التعامل مع أي موقف مفاجئ يعترضنا، وفي النهاية هي سفرة وليست حصة تاريخ أو جغرافية...

 أكثر مرة نلت فيها غضب بودو كانت بعد رفضي العنيد تلبية رغبة إحدى الشقراوات المولعات بالـدم العربي الفوار في الفراش، سمرة الجسد المشعر بكثافة، خشونته، وأيضاً ما نقلته بعض الكتب عن جسارته الشرسة في سوح قتال معركة من معاركنا المقدامة في هذا الجزء المترهل من جسد القارة الشقراء، ينحني مثل حدبة كبيرة نحو البحر الطعين بمثلث جبل طارق، يوشك أن ينغرس في أرض الجنوب القريبة/ البعيدة كنصل سكين حاد، يمزع بقايا حلم الشرق القديم، بينما نصر أن يكون معبرنا إلى مرافئ دنيا تكوِم في صدورنا الحسرات على مدى سنوات أعمارنا المختطفة منا من قبل أن نولد...

 لم أكن أعرف أن جسديّ حسن ومسعود كانا من ضمن السلع المتاجر بها من قبل الامبراطور، هكذا صار يحلو لي تسميته في سري، على أن يكون التعامل بشأن الدفع والمدة وعدد الليالي معه شخصياً، ضحكت حتى لم أستطع السيطرة على نفسي وأنا أتصوره نخاساً يتاجر بجواريه في أسواق غرناطة أو أشبيلية في عهد الفتوحات (العظيمة) قبل أن نرجع مساقين بهزائمنا، نتعكز على الرماح المتكسرة والسيوف الصدئة المطعجة وألجمة الخيول مطأطأة الرؤوس والخرساء عن الصهيل تلتف حول رقابنا...

*      *      *

 تأخر الوقت، يلف رأسي خدرٌ تام جراء رطوبة نسيم البحر، أو ما احتسيته من خمر؟... لا أدري ما الذي صار يدفعني إليه بشراهة، أدفع الكرسي إلى الوراء وأنهض متكئاً على الطاولة المطلة على الشاطئ عند ناصية رصيف بار كوباكيانا العائد لرجل عجوز ذي بشرة فاحمة السواد وشعر قطني تتقدمه جبهة عريضة تعتلي عينين عسليتين وأنف أفنص، لا يدخن إلا السيكار الهافاني متوسط السمك المهرّب إليه مع النبيذ الكوبي المعتق، قرر ولداه منذ سنوات الهجرة إلى أمريكا وتركه وزوجته العجوز وحيدين، كما رحلوا قبل عقود عن معتقل كاسترو، هكذا ينعت في حزن جزيرته الهائمة فوق الكاريبي، لعل إسم البار هو ذات إسم مدينته التي أكاد أبصرها في وسع عينيه كلما تمعن ملياً في رشقات البحر للشاطئ، قدرته عجيبة في توقع أحوال الجو، متى تهب الريح العاتية حتى تتحول إلى عاصفة وبأي إتجاه، متى تعتدل درجات الحرارة وتشرق شمساً صافية مع شيء من لسعات البرد الخفيف المنعش، كم ساعة أو يوماً يمكن أن يستمر المطر المتدفق كشلال في هطوله، يتوقف المطر ولا تتوقف إسطوانات روبين غونزاليز ليلاً أو نهاراً، تصاحبني أغانيه المشتركة مع رفيقه أرسينيو رودريغز حتى مدخل شارع فرعي، أتمايل في استدارتي يميناً نحو شارع أكثر ضيقاً فزقاق أمشي فيه بتلوي السكارى، أحاول إقحام اللحن الكوبي ـ المعتق هو الآخر ـ على أي موّال أو أغنية عراقية قديمة دون جدوى، ليس لصعوبة مثل هذا الهذيان فقط، بل لأني أتفاجأ بغياب كل أغاني الغزل التي وعيت وجيلي عليها عن ذهني تماماً، مقامات، مواويل، أغنيات لا يدرك شجنها سوانا، أدندنها من حينٍ لأخر فيتمايل معها رأس لوسيا بولهٍ عذب، ثم تستحلفني أن أترجمها لها ما استطعت وإن فقدت أغلب معانيها، آه، نعم تذكرت..

"يا طيور الطايرة مري بهلي ... يا شمسنا الدايرة ضوي لهلي"

 رحت أحدق نحو الأعلى فلم أرَ طيراً يطوف في السماء الموحشة، وطبعاً ليس من شمسٍ تتخفى بين السحب لأنها لم تجد مكاناً تبيت فيه, قهقهاتي لا ترضى الانقطاع وأنا أرد على مكالمة أميرتي نور ـ لوسيا...

تقول معنفة: لمَ تركت نفسك تسكر إلى هذا الحد؟

ـ وأنتِ لمَ تركتيني مبكراً، الذنب ذنبك؟

ـ ليتني ما فعلت، وصلت واستحممت، كنت معي بالمناسبة وتشاقيت كثيراً هههه...

تصمت ثم تردف في ضيق: هأنا أجلس أمام النافذة وحدي، أطل على الشارع شبه الخالي، وهو سهران في بيت أحد أصدقائه، أو صديقاته، لا يهمني ذلك على الإطلاق، المهم لدي الآن هو أنت، لا تعلم كم أشتاق إليك، النغمات داخلي تتعالى، تحتاج المزيد والمزيد من العزف, ليتك تستطيع المجيء وسوف أتدبر أمر المكان.

أكب على توهجها المجنون دلو ماء تثاؤبي: وليتك تعرفين مدى شوقي للوصول إلى الفراش.

متبرمة: سوف تنام عليه بمفردك؟...

ـ لا طبعاً، مع رائحتك التي تعطره يا حبيبتي...

ـ وتظن أن روائح صديقيك النتنة قد تركت منها شيئاً لحد الآن؟....

 أجيبها بضحكةٍ ضاجة تكاد توقعني أرضاً، تلفت أنظار المارة إلي وأنا أدلف باب العمارة المتداعية، كل سلمة تطأها قدمايّ تلقي عليّ تحيتها الرتيبة المعتادة، أعلم أن إحداها يمكن أن تخلع من مكانها وتكسر لي ضلعاً أو عظماً أو لعلها تتسبب في كسر رقبتي ذات يوم، عندها من يمكن أن يفتقدني أو يبكيني حتى آخر العمر، أخوتي الذين ينهكهم التقافز بين ألهبة النار في بغداد ليل نهار؟... أكيد أن أولادهم قد كبروا الآن أكثر مما أتوقع، وشيئاً فشيء سوف أختزَل من ذاكرتهم إلا إذا علموا أني أصلح ممراً لعبورهم إلى العالم الفسيح، كما ينظر أقارب بودو ـ العملاق ـ إليه الآن، أم والدي الذي استعاد شبابه بعد فترة وجيزة من وفاة أمي المفاجئ وتزوج بأرملة في مثل عمري تقريباً... أستشهد زوجها بعد الاحتلال مباشرة، لها من الأطفال ثلاث، كنت في ليبيا عند مواراتها الثرى، صممت على الرجوع فوراً إلى بغداد، ولكن منطق الغربة صد طريقي، ظل زملائي هناك يقنعوني بالعدول عن رأيي، محتملين عصبيتي واضطرابي، شتائمي وكفري، لم يرضَ البنك أن آخذ أكثر من أسبوعٍ أجازة لئلا يؤثر انفعالي وتشتت ذهني على مسار عملي الدقيق، شرط ألا أغادر جماهيرية الفاتح وإلا أعتبر عقدي لاغياً، كما يتوجب علي دفع غرامات لا أعرف من أين جاؤوا بأرقامها وفق قوانين البنك والدولة، آه كم أكرهك أيتها الأرقام والقوانين الطاغوتية، ويشاركني كرهك الجميع، لعل الغني منا قبل الفقير، ولكننا مجبرون على التعامل معك كما يتعامل العبد مع سيده دون أدنى أمل بالانعتاق من سلسلته الحديدية الخانقة...

 لا أدري بأي سلمة تعثرت ليصدر كلانا زمجرة تذمر ولعنة على الغرفة الضيقة والظلمة اللعينة والحياة في الخارج والداخل، ارتمائي على فرشتي، بعد خلعي القميص والحذاء، بمثابة صيحة احتجاج يدوّي صداها مع حركة الريح الخفيفة المؤرجحة ضلفتي الشباك المفتوح... كما قالت لوسيا، لا يتدانى من عبقها العاشق شيئاً إلى أنفي المشترِك، على الأكثر، في جوقة الشخير الليلي الذي نتبادل اتهامات قرع طناجرها صباحاً، خيوط العرق تنز بغزارة، لا تنفك أن تنقسم في مناطق ثم تلتحم في مناطق أخرى عبر مسارها نحو الأسفل, تتلاقى عند العنق كخيوط العنكبوت، تنسج عقدة أو ما يشبه بركة لزجة، أمسحها في ضيق فتخلف دبق الدم المتيبس، لونه لون الشفاه العطشى بعد يوم صوم طويل في لهيب تموز، وتموز بلادي ليس مثله تموز...

*      *      *

 يشترك في إيقاظي الحر الشديد المحمَل بشيءٍ من رطوبة البحر وصدح الشيخ حسان الجهوري بأقوى ما يستطيعه رجل في مثل عمره الخمسيني مؤذناً لصلاة الفجر، يضبط موعدها والصلوات الأخرى دون تقديم أو تأخير لحظة، على ما أظن، جاء بسماعةٍ كبيرة وثبّتها فوق مسند شرفته، ولكنه بعد فترة أضطر إلى رفعها، الجرح القديم هنا لم ولا أظنه سوف يندمل يوماً، مهما حاولوا مداراة ذلك، وفي حي مشبوه كهذا، خاصة بالنسبة للشيخ التونسي حسن الهيئة، حليق الشارب، وذي لحية رمادية تكاد لا تلفت الانتباه إلى التزامه المتشدد، لا أدري ما الذي دعاه للسكنى هنا، وسط شرائح مختلفة من الناس، منهم المهرب والتاجر أو الوسيط في تجارة غامضة، عادة ما تدار في الخفاء والأماكن القصية، غواني في بيوت دعارة مقرفة، وشواذ أيضاً، يود إشاعة دين الله وتعاليمه في هذا الخليط العجيب!!!... سأله مسعود مستغرباً فلم يجبه بغير ابتسامة أمِلها رغم وداعتها وصفائها، أستغرب أنا أيضاً لما أجد مجموعة من الناس يذهبون، ما استطاعوا، إلى شقته المتواضعة لأداء الصلاة جماعة خلفه في الصالة، ثم يجلسون أحياناً للاستماع إلى محاضرة أو درس وعظٍ ديني لا يخلو من التكبيرات والصلوات على الرسول بأصواتٍ زاعقة متحدية...

 القوام النحيل فقط هو ما يسهل علي التفرقة بين زوجته وابنته الشابة، لم أستطع رغم قرب المسافة بين شباكهم ونافذتنا من التدقيق حتى في عينيها، ولكن اهتزاز قدها المبالغ فيه عند نشرها الغسيل، الذي يخص الشيخ وحده طبعاً، ظل يعبر جلياً إلى ناظري، وكأنها تتغافل عن تمايله على نغم لحن قد تدندنه شفتاها المتواريتان خلف النقاب، لمحت تلصصي عليها بمكرٍ وفطنة أنثوية تمنت أن تبادلني النظرات الفضولية ولو على نحوٍ مخاتل قبل أن تنهرها استعاذة تعود بها إلى الداخل سريعاً، أم أنها لم تفطن إلى شيء، لم تنظر، لم تلمح، لم تشعر؟... ما بين هذا الترجيح وذاك صرت أستشعر اقترابي من سحر مغامرة ذات وهجٍ خاص، غير محمودة العواقب...

 أفتح عيني تارةً ثم أغمضهما تارةً أخرى مسترجياً نجدة النوم، نعاس شديد يتملكني ولكنه لا يرقى حتى إلى غفوة تمنع اختراق الأذان المتباطئ أذنيّ، أفكر أن أبلغ الشرطه إنه كان من ضمن المسؤولين عن تفجيرات سكك حديد مدريد حتى أتخلص من استيقاظي الإجباري هذا عند استبيان الخيط الأبيض من الأسود، ثم أعود إلى الاستغفار، أردد تمتمات مسعود المستند إلى حافة الشباك، يظهر الشيخ مثل شبح وسط الظلمة، مكوراً كفيه خلف أذنيه الكبيرتين نسبة إلى حجم وجهه، يمد له جسراً عتيدا يرجعه إلى حماة، عام 82 بالتحديد...

 الكلمات لا تستطيع وصف ما حدث، جثة أخيه هامدةً أمامه باستمرار، مرمية فوق جثة أخرى، وسط رؤوس مفجوجة وأوجه مشوَهة، مخترقة بالرصاص الحي على مرمى طريق يعج بالراكضين وزوابع غبار كثيف متصاعد، يعفِر بقايا الملامح المبصومة بجنازير الدبابات والمدرعات، كنت أصغي إليه ما أستطاع صوته التفلت من عبراته قبل أن تعاود سحقه نوبة بكاء فتى في الحادية عشرة من عمره، يتركني أطلق لخيالي العنان في وضع الرتوش القاتمة على الصورة الجمعية المتحركة، في حماة 82 أم في جنوب العراق 91؟... أغشي عليه بسبب كثرة الضرب من قبَل أحد مرتدي البذل الخاكية أو الزرقاء المرَقطة، لم يفق من غيبوبته إلا في ظلمات معتقل لا يطأه نور الشمس، تكاد جدرانه الحجرية تستصرخ طالبة العفو عن المعتقلين...

 لم يسمح له أخوه أن يكون من ضمن الجماعة، رغم تعلقه بجمعتهم وما يلتقطه من كلامهم، خافت الصوت دوماً، كان يرقب تلطيه في ساعات السحر بين الدور حتى تخفيه عنه الأزقة الضيقة، يهب للحاق به، لكن الخوف الشديد يعيده طفلاً بالكاد ترك مرحلة الحبو، في النهاية لا يجد غير الفراش مآلاَ لأحلامه وأفكاره التي تنتزع النوم من أجفانه فيتسلل إلى غرفة شقيقه الأكبر وقد ظفر بمخابئ كتبه وكتيباته مصفرة الأوراق، ينكب على قراءتها وإن عصي فهم أغلب ما يقرأ عليه حتى يسمع صوت المؤذن المبحوح يفترش باحة المسجد القريب من دارهم التي تحولت والبيوت الصغيرة الملاصقة لها إلى أكوامٍ من حطام في غمضة عين، يبحث عن شيء من عبقها في سوح البيوت أو حتى القصور الإسلامية الأثرية ذات الباحات المفتوحة رحبة المساحة، تتوسطها النوافير وعروش العنب، حيث كان يجلس الملوك والسلاطين وحاشياتهم وندماؤهم برؤوسٍ تخدرها الخمرة وغنج رقصات الجواري على أنغام الموَشحات الأندلسية الشجية، سواء لدى مرافقته للجولات السياحية أو تبختره بين أركانها العتيقة، بصحبة سارة...

 أعرف إلى أين يستعد للذهاب وقرص الشمس لم يزد عن حجم الكف في أقصى شرق السماء متماوجة الزرقة، لون عدستيّ عينيها المفضلتين لديه، الإجهاد وقلة النوم أمحتهما نسائم بكرة الصبح الندية التي تدفعه نحو الساحل، اليوم يوم عطلته، استراحة جسده من جلساته المتصلبة الطويلة أمام المقود، مع ذلك هو أكثر حيوية من أي يوم من أيام الأسبوع، فلا يترك فسحةً لسلطان النوم أن يستولي عليه، ببرم فرشته ويركنها إزاء الحائط، يغير ملابسه بسرعة، غير ناسٍ ارتداء المايوه، تتلقفه الشوارع بسرعة حتى يصل إلى حوريته، يشاركها أول غطسة في المياه المالحة، لم أستطع التخلص من كبح جماح فضولي، لأسميه الفني حتى أنجو من وخز الضمير، فتعقبته ذات مرة إلى الساحل وكأني أتحوَل إلى مخبر من المخبرين السريين الذين صرنا نستطيع تمييز وقع خطاهم عن بعد في بلادنا، اختبأت خلف صخرة خفت أن تتزحزح عن مكانها بعد دهورٍ من الجمود فقط نكايةً بي أمامهما، كانت تنتظره بالفعل، تلبس مايوهاً من قطعتين ورديتي اللون، متجانس تماماً مع لون بشرتها الزهري الفاتح، تمشي على الشاطئ ويبلل الماء قدميها الصغيرتين، مجرد انحناءة من قدها الممشوق لها الجرأة أن توقظ المدينة كلها من نومها الكسول، قامتها تميل إلى القصر، تقف أطراف شعرها الأسود المميَش المغطى بالكاب عند أسفل الرقبة، وجهها بارز الوجنتين يبدو ضئيلاً إلى جانب وجهه الخمري، عريض عظام الفكين، يميل إلى الطول وحدة القسمات في حالات الغضب، وهو سريعها، يختبئ كلٌ منهما بين أحضان الآخر في شوق من لم يلتق حبيبه منذ أعوام، يهصرهما عناقُ طويل وكأنهما مستعدان لاستمراره حتى وقت المغيب، يخفيهما الموج في تقلباته حتى يخلفانه منهكيْن، يجلسان مستندين إلى الأذرع أمام منظره المهيب مع تنامي ضياء الشمس، يقبل علينا بسخونة العشق المتغلغل في الشرايين...

 لم أنجح بإخفاء دهشتي من هويتها الصهيونية، ذات الأمر كان بالنسبة لها، مفاجأتها فاقت مفاجأة لوسيا عند معرفتها بجنسيتي...

«عراقي!!!... أنت من بلادي القديمة، جدي كان صائغاً، لديه محل كبير في... في..

أعنتها على التذكر حتى وصلنا إلى شارع النهر (نهر دجلة)... كانت كلماتها تتخبط ما بين العربية المكسّرة ـ بلهجة أقرب إلى العراقية ـ والإنجليزية التي تتحدثها بطلاقة الإسبانية والفرنسية ووو... حكت كيف أن جديها كانا يصران على التكلم بها وتعليمها ما استطاعا من مفرداتها، بيتهم كان بالـ...كررادة الشرق (الكرادة الشرقية)... حتى موته ظل يتحرق لرؤيته والاستلقاء على سريره الخشبي المتين والعالي، فغزاها شوقه الغامر ذاك للتشبع برائحة المكان وأجوائه المستوحاة من حكايات لم يكن يمل الإسهاب في تفاصيلها، وأيضاً علها تجد شيئاً مما خلفه جديها وراءهما ولم ينجدهما الوقت لبيعه بأبخس الأثمان في تلك الفترة الوجيزة التي منحتها الحكومة في العهد الملكي لليهود قبل نزع الجنسية العراقية عنهم وتهجيرهم إلى أرضٍ غريبة لا يربطهم بها شيء، كان جدها يوالي قول ذلك دون خوف أو توجس من سلطات الدولة الجديدة، حاول كثيراً الهجرة مجدداً بمعية زوجته وإبنهما الصغير إلى أي دولة تمكنه ظروفه، بما طرأ عليها من مستجدات، الاستقرار فيها دون جدوى... تفتح وعي والدها على أرض الميعاد والفرص المتنبأ بها في العهد الجديد، أعد له حياةً زاهرة، خاصة بعد حرب 67 التي وهبت آماله أحلاماً متجددة على الدوام، وإن كان من اليهود السفرديم، ذات مذهب والدتها الآتية مراهقةً برفقة عائلتها الإسبانية الثرية في أواسط الخمسينيات...

 تملك رواقاً فنياً (كاليري) شديد الأناقة، من ضمن ما ورثته عن والدتها، فالجد لم يبع كل ما يمتلك في مكان ولادته وترعرعه مهما تمتعت به وعود الوطن الجديد من مغريات، تعرض فيه لوحات لمختلف العصور والفنانين، وعدتني مازحةً أن تخصص ركناً للوحاتي المستقبلية، ابتلعتُ سخريتها الكامنة مغتاظاً دون أن يسكن وجهي أي تعبير، غير أن فورة دمي أنطقتني بشيء من التحدي الحماسي...

ـ أحلم إن أقمت معرضاً أن أقيمه في بغداد، أعشق جواد سليم وفائق حسن...

أجابت بقدرٍ من الدبلوماسية المصطنعة: ولكن فائق حسن جاء وأقام في مدريد حتى أعتبر من أفضل فنانيها وكذلك فعل الكثيرون غيره، هاربين من جبروت السلطة والقيود المفروضة على فنهم...

ـ غير أن بصمات بغداد ظلت محفورة في كل رسوماتهم وأغلاها، لأن...

 ظلت محدقة في وجهي حتى أكمل، غير أني لم أفعل لما وجدت نفسي أدخل في نقاشٍ تقليدي لا طائل منه سوى الثرثرة التي قد تعكر جو السهرة التي ضمتني ولوسيا ومسعود في شقتها الصغيرة التي تعطي ظهرها إلى مجمع ألندا كلاب ماربيا " مطلةً عن بعد على جانب من خليج نهر غوادالمدينا، وسط منطقة كوستا دل سول، أثاثها ذو طراز حديث، بسيط ومريح، يترك حيزاً من الفراغ في الصالة الفسيحة نسبةً إلى مساحة الشقة التي لا تضم سوى غرفة نوم واحدة، مطبخها ذو طابع أمريكي، كما لو كان جزءاً من الصالة أيضاً، غير أني لم أستسغ وجود كل تلك اللوحات السوريالية الكبيرة المعلقة على الجدران ناصعة البياض، بالكاد استطعت تهجي الأحرف الأولى من أسماء رساميها غير المعروفة، بالنسبة لي على الأقل، فلم تقنعني بتواؤمها مع المكان...

 تنقل جلوسنا بين الكراسي والكنب باسترخاءٍ ثمل لا يعين على النهوض، شربنا النبيذ الأحمر بلا وعي، هذينا في شعاب مواضيع تنسى بمجرد التعريج نحو أخرى لا علاقة لها بسابقاتها أو لاحقاتها، لهونا ورقصنا، وكل حين كنت أتبادل ومسعود فتاتينا في تناغم موسيقي منصهر في تلك الأنغام الصداحة من المسجلة العملاقة الموضوعة فوق بايوه صغير من خشب الزان المعّشق، أرجله القصيرة المتينة المتلوية تبدو كرؤوس أفاعٍ تتمايل على شدو ناي رخيم... جسدها اللدن يهتز بين ذراعيّ، يسرِب إلى عينيها لمعات إثارة تزيدني سكراً وتوهاناً شبق في ابتسامة شفتيها الباسمتين المطليتين بحمرةٍ ساطعة، أميل برأسي نحو كتفها، ألامس صدرها متوسط الحجم باشتياقٍ عتي غريب نبهني إليه ما بقي يلازمني من وعي، تمنيت أن يولي عني نهائياً...

 فجأة، وقبل أن يدرك الآخران ما يجري التفتُ نحو لوسيا، أنبهها إلى تأخر الوقت بالنسبة لعودتها، منتشلاً نفسي من خدرٍ أحمق راح يصّدع رأسي على مدى طريق مشينا المتهادي كرقرقة ماء الخليج حتى أوقفت سيارة أجرة ركبتها لوسيا وغابت عني سريعاً، قبلتها الحانية ظلت تندي شفتيّ المزمومتين، وكأن تياراً كهربائياً خفيف يسري متعرجاً بين ثناياهما ونور شقة سارة المتخلل ستارة نافذتها الحمراء الشفيفة، مثل قميصها المشجر الحريري، يودع فيّ رعدة برد وحمى عاصفتين حرمتاني النوم تلك الليلة، مولياً لصاحبي ظهري، أستبطئ صوت الشيخ حسان التونسي مؤذناً لصلاة الفجر...

*      *      *

 يصرَّ على إيقاظي مجدداً عند حلول موعد صلاة الظهر، صرت أميز صوته من بين ضوضاء الزقاق وما يحوطه، يخالطه رنين الهاتف الملحاح، استفيق كليةً هذه المرة، أتأفف من انفعال بودو الخشن، لاعناً إياه في سري وضرورة الرضوخ لأوامره، بل العمل لديه، والحق ينسحب مني في إبداء الرأي يوماً بعد الآخر، بلا أن أدرك صرت أبادله الصراخ لإجبره على الكف عن ثرثرة لعله ما كان لينتهي منها...

(رَح أكون عندك بأسرع وقت، بس إسكت وخلصني من رقة صوتك، أفففف...)

 أغادر مدخل البناية ذات اللون الأصفر الباهت المعكر بسنوات إهمال دهانه، يمر بي مسعود متطوحاً في مشيه نحو وكرنا قاتم الإضاءة، يحمل بين أطراف أصابعه زجاجة فودكا صغيرة، سوف تبقيه مثل الجثة الهامدة حتى حلول المساء ما أن يرشف جرعة حارقة منها...

 سيارة سارة اللاندروفر السوداء تقف عند ناصية الشارع العام... طرقتين خفيفتين على الشباك تنبهها إلى وجودي، تنزل الزجاج بضغطة زر تسمح لي أن أمد وجهي قليلاً نحوها، تضع نظارة بيضوية سوداء على عينيها، تخفي عني ما لم تتمكن نبرة صوتها المستكينة من إخفائه، مشاجرة جديدة من مشاجراتهما المستمرة، العنيدة العنيفة، لا تترك لديك أي احتمال بعودتهما إلى بعضهما في اشتياقٍ تتعدد بشأنه التسميات دون الوصول إلى حقيقة ما يصوغه من معانٍ، لعلهما أيضاً لا يدركان كنهها، سؤالي عما جرى بينهما بالتحديد خلال ساعات نومي الماضية تصعب الإجابة عنه لا سيما لدى وقوفي بمحاذاة سيارتها وبودو يتشَكى كالأطفال في انتظار وصولي، يبحلق في ساعة يده مذًهبة المقبض والمرصَعة بالألماس كل حين، يبدي من السخط ما يجعل قسمات وجهه الكاركتورية تبحث عن أية ورقة لسكناها، يمكن أن تكون صورة غلاف مجلة من المجلات الساخرة التي أزودها ببعض اللوحات التخطيطية من حينٍ لآخر، صرت إلى جانبها ما أن عرضت علي إيصالي إلى البزار غير البعيد عن رواقها ـ متحفها ـ الفني المندمج بكل لمسة من لمساتها، بل تلك الرائحة الزكية التي تهادت إلي مع أنغام موسيقا الإسرائيلي زوهرأرجوف، ملك الأغنية المزراحية ـ الشرقية، قرأت الاسم بالإسبانية على غلاف السي دي الملقى بين كرسيينا، إسم الأغنية برتسيلونيا (برشلونة)... الكلمة الوحيدة التي يتسنى لي ترجمتها من بين كل مقاطع الكلمات العبرية شجية اللحن، تظل تدوي من سماعات السيارة لمسافة قصيرة، تغلقه في انفعال بحركةٍ من ذراعها المكشوفة، أواصل الصمت المطبق على استثارتي من قبل تكوير ركبتها الطرية من جهتي، منبت صدرها تحت الفستان البيج المشدود إلى قدها الرشيق... أدعوها إلى التوقف عند الكافتيريا الصغيرة الملحقة بمحطة تعبئة الوقود الواقعة على جانبٍ من الطريق لأستفيق من سكرة مفاتنها وتستفيق هي من شرودٍ يختزن الكثير من الكلام، أشتري قدحي إكسبرسو بلاستيكيين، نرتشفهما ببطء، مع سيكارين رفيعين من سكائرها، تسعل قوياً جراء سحب أنفاسها ثم نفث الدخان في عصبيةٍ تلطم الهواء بتنهدٍ طويل يتكتم على صرخاتٍ حادة لم تصدر عنها سوى غمغمة بالكاد تُسمَع:

ما بال صاحبك؟... أحياناً أحس إنه بحاجة مستمرة لمن يحميه من نفسه...

ـ ولهذا كنتِ ترقبين من بعيد خطواته المتعثرة حتى انحرفت نحو الزقاق؟

ـ لم يقبل أن أوصله، بعنادٍ أحمق، أخذ يصيح مثل الأطفال المحبوسين، ظللت أتبعه من الشرفة حتى أوقف سيارة أجرة، غيرت ثيابي بسرعة ثم ركبت سيارتي حتى وصل ودخل بار كوباكيانا في هيئة تشبه المتشردين وقلبي يخفق نحوه بقوة لا أستطيع تفسيرها، كما لا أستطيع تفسير سر تعلقي العنيف به بالذات، رغم كل ما ألاقي منه، لو يعلم كم أحتاج إلى الأمان التام دون خوف من انقلابه لأبسط الأسباب وأغربها وأنا معه.

ـ ربما يسأل نفسه ذات الأسئلة ويتعبه البحث عن إجابات مقنعة لها.

ـ تتصور أن على أحدنا ترك الآخر ليرتاح ويريج؟... جربنا ذلك عدة مرات ولكن الأمر لم ينجح، وأنت تعلم... قد تجدنا مجنونين، ربما ينتهي بنا الأمر إلى تدمير بعضنا...

 مثل الطبيب النفسي، أصغي ولا أجيب بغير تعبيرات وجهي المتقلبة ما بين الاستغراب والتعجب والشرود... والابتسام، في يدي يتحرك القلم الفحمي بسرعة فوق الورقة البيضاء، أرسم مخطط جسد نصفي، ثم أنزل أربعة خطوط رفيعة مستقيمة متباعدة بعض الشيء بسوادٍ فاتح تبدأ من الجبين العريض، إثنان منهما يحاذيان منحدريّ الأنف والآخران يحاذيان حدقتي العينين الملحيتين عند جانبي الوجه، الخطوط المتوازية تواصل انزلاقها نحو الأسفل، متخللة منطقة الصدر والبطن التي يلتف حولها الساعدان، الكفان تقبضان على الخطين الوسطيين، فلا يظهر منهما إلا ظاهريهما متموجي الخطوط المتقطعة... أسلمها الورقة بعد وقوفنا على الجانب الأخر من البزار، ألمح بطارف عيني انزعاجها وتبرمها من صمتي وانشغالي، غير معير أدنى أهتمام بشكواها وعلاقتها بصاحبي غريب الأطوار، حتى بالنسبة لنفسه... بحلقت في الرسم ملياً، في نظراتها يكمن شبه شدوه وتساؤلات حيرى تلجم لسانها، تلح علي ألا أترجل من السيارة، قربت وجهي منها، ألثم وجنتها الدافئة بسرعة وأفتح الباب ثم أغلقه ورائي، ربما ظلت ترقب ارتباك تقافزي بين السيارات المغيرة في رواحها ومجيئها حتى تلقفتني عينا بودو من الجهة المقابلة للشارع العريض، يتفحصني بعينين تقدحان خبثاً، تسائلاني عن المكان الذي أتيت منه متلكئاً برفقة سارة التي لا تغريه أنوثتها بقدر ما تغريه علاقاتها بالمعروفين من الرسامين والنقاد الفنيين الذين يجعلون رواقها يعج بالزبائن المهمين، أكثرهم من الأثرياء، وفي كافة فصول السنة، هذا غير المشاريع التجارية الكبيرة الذي يبرز إسمها فيها كونها الابنة الوحيدة لعضو الكينيست الكبير موسى يعقوب، أرد ببرودٍ صامت أعرف أنه يلهب جمر فضوله ويضاعف من عدم ارتياحه لصلتها بي، والأكثر بمسعود وما يجري بينهما من أمورٍ خفية عنه، وما نحن إلا عاملين لديه، بيد أنه لا يود المبالغة في ذلك وإثارة ما قد يحرك زوبعة غضبها ضده، كما أن مسعود لا يمنحه فرصة التذمر منه، لا سيما في مجال القوادة، وكأنه يحاول بذلك خنق ما خلَفه فيه ماضيه، بأعصابٍ مشدودة متوترة، لا يؤتي بجدواه في مسار علاقته بسارة، إنما العكس ربما ما يحدث، أنشوطة مركبة يصعب خلخة عقدها المعقوفة من قبَل أيادي الزمن الغليظة...

 حان وقت استراحة الظهيرة وأنا حبيس قبو البزار الخانق، أوزع بأكثر ما أمكنني من سرعة وصبر رتوش لوحة من اللوحات الصغيرة التي نضعها لملء الحيز السفلي من الواجهة الزجاجية، العرق ينزف حاراً وحارقاً عند حدقتيّ، وجهي ممتقع قرفاً، منديل ورقي ناعم ومعطر يمسح القطرات المالحة، ألتفت فأجدها تقف بابتسامةٍ ودود إلى جانبي...

ـ سألتُ العامل الذي فوق عنك فأخبرني أنك هنا ـ حدقت في اللوحة التي تكاد تكون بحجم الكف ـ رسم جميل، أنت فنان بالفطرة...

باستخفاف: إنها ليست لي بل لهم...

 مشيراً إلى اللوحات مختلفة الأحجام والموضوعات والممهورة بمختلف الأسماء ذائعة الصيت، المركونة إلى جنب أو فوق بعضها بمحاذاة الجدران المطلية بطبقة بلاستيكية تمنع تسلل الرطوبة...

تتفاجأ بسؤالي وأنا أخلص أصابعي من زحمة الألوان: أنتِ صاحبة جالري مهم في ملكا، برأيك من يحدد قيمة اللوحة وأهميتها الفنية، إلا في استثناءات محدودة، الصورة بموضوعها وتمازج ألوانها وما تهبه من انطباعات وأحاسيس ووو... أم إسم الفنان التي تحمله؟...

 لم تجب رغم معرفة كلانا الإجابة...

أردِف: وغالبا ما تستطيعين وكذلك النقاد طبعاً أن تحددوا، ولو بشكلٍ تقريبي، كل لوحة لمن تكون، دون قراءة الإسم، من خلال المدرسة الفنية التي تمثلها أو الموضوعات أو حدة الخطوط ـ تهز رأسها بمعنى أنها تفهم مقصدي ـ وبرأيك هذا في صالح الفنان أم ضده...

 أرتكن إلى منضدة مستطيلة لا يتبين ما عليها من كثرة تنوع الأغراض بمختلف أحجامها وبعثرتها، أشعل سيجارة في انفعال، أصمت وأنظر في تعبيرات وجهها الحيرى بما أثرثر...

أحاول هدهة حيرتها ونزقي: لا عليكِ من هذا الهذيان، أعرف إنها مناقشة عقيمة وقديمة لا طائل لموهوم فن مثلي، كلما قرأ عن فنان يتصور نفسه ماضِ في نفس طريقه حتى وإن كان نحو الجنون، وقد أتقمص شيئاً من شخصيته بوعي أو دون وعي...

 يتزايد تحديقها بي، تقترب مني، تقف إلى جانبي، أمنعها أن تستند إلى الطاولة لئلا يتلوث شيء من ثوبها الغالي، المثير على جسدها بطريقةٍ تقبض على أنفاسي، بينما عطرها الفواح يتمتع بذات سطوته الأسرة عندما أوصلتني...

ـ وربما تكون شرارة ثورة الفنان الحقيقية الكامنة فيك.

تستغرب قهقهاتي المتلاطمة ما بين الجدران فترتد إلينا في رجع صدى مجسَم: كم صارت هذه الكلمة مستهلكة، إلى حد إثارتها للضحك وكأنها عنوان رئيسي لمسرحية هزلية، لا تنسي أني هارب من بلد الثورات...

تسند رأسها إلى كتفي كما لو كانت تريحه من وجع شديد: وأنا هاربة من بلدٍ... نتبادل النظرات: هربت من كل ما يحوطني من ثراءٍ واهتمام وأشياء كثيرة، وإحساس مقيت برفض كل شيء، الوطن الذي خلق من عدم، الأرض المسكونة بأشباح أناس قتلى لا أعرفهم، حتى من بيت جدي الذي كنت ألتجئ إليه في أوقات الضيق والكآبة وفقدان الهواء، أسكنوه فيه مرغماً، كان يحدثني عن الصراع شبه الهستيري الذي تسلط عليه في الفترة الأولى، عن أنفاس ساكنيه القدامى القابعة في كل ركن من أركانه، يجد أشياءً صغيرة مبعثرة هنا وهناك، لعبة طفل ممزوعة الرأس، ثوب نسائي، أنشوطة صبية، صور عائلية يحس إنها تتأهب لاغتياله، تسومه في مناماته فيستيقظ مذعوراً ورصاص الهاجانا يلعلع في السماء، ينطلق من الشوارع والأسطح ومن خلف البيوت شبه المهدمة و...

الشرود يقصي نظراتها عني لثوان قبل أن تستأنف كلامها: كثيراً ما أحلم أني طفلة ضائعة، أبحث عن بيتي وأهلي وسط الظلام فتتلقفني أيادٍ غليظة، لا أبصر وسط الظلام إلا وجوهاً ملثمة وأصواتاً مرعدة، تتوعدني وكل من أعرف بالقتل، يغرسون أصابعهم في ذراعيّ ويحملوني إلى حيث لا أدري، أصرخ، أستغيث، ثم أستيقظ مفزوعة، ذلك الفزع الذي ورثته عن جدي، أتلفت من حولي في الفراش، أضواء الشقة لا أطفئها أبداً حتى عند خروجي، ليستقبلني النور بدلاً عن وحشة الظلمة المخيفة، أتمنى وجوده إلى جانبي، أبحث عنه فعلا وأناديه، متناسيةً إصراره على عدم المبيت عندي لسببٍ أجهل تفسير حماقة، أحنق عليه وعلى قسوته معي، أبقى وحدي متكورةً على نفسي حتى يغلبني الإعياء والنوم...

ـ تكرهين بلدك إلى هذا الحد، أقصد...

تبتلع ريقها، ترمقني بنظرةٍ حادة وكأنها تستدرك ما أخذها الإسهاب إليه: إسرائيل؟... أنت قلتها رغم عدم تقبلك للكلمة، مثل مسعود تماماً، وإن كانت بحدةٍ أخف بكثير، بلدي... ولدت وتربيت وتعلمت فيه، لغات، لهجات، لكنات مختلفة، ثقافات وعادات متداخلة أو متأقلمة مع بعضها ـ أنقل إليها نظراتي المتشككة ـ ههه، أعرف ما يدور في رأسك من أسئلة حول تركيبة المجتمع الغريبة والفروقات الكبيرة ما بين الآتيين من كل اتجاه، في كل شيء تقريباً ـ تصمت فجأة وكأن هناك من يحثها على الصمت كل حين ثم تسألني: ألا يأخذك الحنين إلى ـ موسعةً حدقتيها ـ العراق رغم كل شيء ورغم تركيبته المعقدة، أنا مثلك تماماً ومثل مسعود الذي أجده أحياناً يفهمني ربما أكثر من نفسي وأحياناً أخرى... أشعر أنه غريب عني، لا يعرفني ولا يحب أن يتعرف علي حتى... نعم أحنُ إلى كل شيء هناك بمجرد مغادرتي تل أبيب أو... ههههه، سمها فلسطين، سمها الأرض المحتلة كما يصر، فقد ضقت ذرعاً بكل سخافات الذاكرة والتاريخ والقصص المتناقضة إلى ما لا نهاية...

تدير وجهها عني ثم تميل إليّ وكأنها تقبل على معانقتي: تظنني مجنونة، صح؟...

ضج القبو من جديد بضحكةٍ صدّاحة: ومن فينا غير ذلك، نحن مثل جذوع الأشجار الطافية على سطح الماء دون اتجاه محدد، يجرفنا التيار إلى المسار الذي يختاره...

 تخرج البورتريه الذي رسمته في سيارتها، تفرد الورقة أمامي...

ـ أوَ كلنا هذا، أو هذه... فكرة مدهشة وعميقة، بقيت أتأملها طويلاً دون ملل، بل كلما تمعنت فيها وجدتني أسرح مع ما تريد قوله أكثر، لمَ لا ترسمها في لوحة كبيرة وسوف أشتريها منك بأي ثمن، لا... أعرضها في الجالري، بل سوف أعلقها في صالة شقتي، لعله ينتبه إلى مضمونها هو الآخر ويفهم معناه... كيف ارتجلت فكرتها ورسمتها بهذه السرعة والدقة، وتقول إنك موهوم فن...

ـ ربما كانت بداخلي منذ زمن، ولكنها مثل أشياء كثيرة لا ننتبه إلى وجودها أبداً ثم نراها فجأة ماثلة أمامنا بقوة لا يمكننا التهرب منها...

 أطل حسن علينا من أعلى السلم الحديدي، بعينين متلصصتين ذئبيتين، يحاول ألا يصدر صوتاً، وكأنه يريد إيقاعنا في حالة تلبس غرامي، لم ترتح له سارة أبداً، كانت تتكلف في التعامل معه، تنفر من محاولات تقربه المتبجحة منها، حركاته، لمساته المموهة بالعرضية، نكاته البذيئة التي تجعلها تحرجه دوماً أمامنا بإجابات متحدية لاذعة تجمع ما بين صرامة الجد وسخرية الهزل، ما يجمعهما فقط اتفاق ضمني بمواراة حلبة صراعهما عن حبيبها وصاحبه، أجاب معاتبتي الغضبى من حماقاته الشيطانية معها برغبةٍ مقهورة لديه أن يضاجعها ولو لمرة واحدة فينسيها كل منطقة الشرق الأوسط، لا إسرائيل فحسب، وبذلك يقدم خدمة كبرى لصديقه الغافل عن خارطة الطريق برمتها...

 أبادل نظراته المتلائمة في سخريتها، المبتلعة للدهشة إزاء وقوفنا على جانب من القبو المشبوب بظلمةٍ خفيفة، وقد انزاح ضياء الشمس عن شباكه وتلاشت ظلال قضبانه الحديدية عن أرضه المعفَرة بالتراب، بنظراتٍ ثابتة قوية تتعاظم حدتها في وجهه لحماية أنثاي من تبجحاته... لا، إنها ليست أنثاي، ظللت أرددها في داخلي طويلاً حتى بعد خروجنا معاً من البزار فور انتهاء حديثها مع بودو، أمام حسن الذي ظل مأخوذاً بدهشته وضيقه، عن لوحات جوجان، أخبرته أن سائحا من الهندوراس سأل عن لوحاته التي رسمها في بلادهم بإلحاح، على أن تكون أصلية، بلا مجادلة في السعر الذي تحدده، كنت أعلم إنها حكاية مفبركة ارتجلتها سريعاً من أجل مشاكسة بودو الذي صار هو الأخر يبحلق في وجهينا الصاعدين إليه من جوف الطابق الأرضي ولم تطأ بعد أقدامنا الدرجتين الأخيرتين للسلم الحديدي الحلزوني الضيق والذي أجبر جسدينا على التلامس في أكثر من منطقة، تواطأت معها في لعبتها مع ابن قومي المتطفل على كل شاردةٍ أو واردة، لا ينبذها من تفكيره إلا عند تيقنه أنها لن تفيد أو تكون محل ضرر لأتفه مصالحه، بدوره لم يفوت فرصة استعراض عنجهيتة المصطنعة أمامها بالتشديد عليّ أن أذهب غداً صباحاً إلى السيدة بلقيس لمعرفة ما تريده من لوحات بالتحديد بعد أن أخذني اليوم لزيارتها في شقتها الكبيرة الفاخرة، بذات المجمع السكني الذي يقطنه وأسرته عند شاطئ سانت أنا بيتج" وسط المدينة...

*      *      *

 رحت أتسكع في الشوارع، أجلس على مصطبة في متنزَّه أو أخرى مواجهة للشاطئ، يحرقني تعذري عن مرافقتها لتناول الطعام بسبب مواعدتي لوسيا مساءً... اتصلت بي في بهجة صبية، تبشرني بنجاحها في امتحان قبولها كمضيفة في شركة ماربيا للطيران الداخلي، هديل حمام كان صوتها الفرح عبر الهاتف، سوف تتنقل في الفضاء الحر من مدينة لأخرى، وربما في المستقبل إلى الطيران الخارجي، متحررةً من قيود الأرض وضيق محيطها، دوما تحب الهرب، إلى أبعد ما تستطيع، قد أكون أنا نفسي جزءاً من ذلك الهروب الغامض الجموح...

قالت بسعادة راقصة: سوف أتغيب عنك لأهبك مزيداً من الحرية التي تعشق لأعود إليك أكثر اشتياقاً ولوعة، سأكون لوسيا ثانية، لم تعرفها بعد، فاحترس تفجرها أيها النمر الوحشي...

 ظننت أن الفرحة بوظيفتها، انعتاقها الجديد، قد أفقدتها عقلها تماماً عندما دعتني للاحتفال في شقتها مساءً، ضحكت بعبث فتاة اعتادت أن تكون البرية الخضراء مسرح لعبها، أخبرتني أن زوجها في رحلة عمل إلى مدريد، صمتت برهة لما سألتها عن ولديها، ثم قالت إنها قد اصطحبتهما صباحا إلى بيت جديهما في ضيعة صغيرة تنزوي في أحد منعطافات نهر غواداهورس ليمضيا عدة أيام برفقة أولاد أعمامهما، استغربت من قدرتها على ترتيب كل شيء كيفما تشاء، حتى العمل، حصلت على ما تصبو إليه بعد فترة وجيزة من ترك عملها في المعهد الثقافي البريطاني شديد السآمة والرتابة إلى حد الاختناق، تحكي متشّكية وكفها يلتف حول بلعومها، وكأن هناك من يقبض على أنفاسها فعلاً، بالإضافة إلى سماجة المدير وتحرشاته شبه المعلنة، حتى أخذها التوجس من اغتصابه لها على الكنبة الوثيرة المقابلة لمكتبه والمعهد شبه خالٍ من الجميع سوى من عمال النظافة الذين قد يسوقهم الخوف من فقدان وظائفهم إلى التواطؤ مع حيوانيته، أضحك فتستفزها سخريتي من ذلك الفيلم الأمريكي المفبرك، المدبلج بالتأكيد ككل ما تعرضه القنوات الإسبانية، بصورةٍ مضجرة...

 «الآثار المتبقية من سياسات فرانكو الانعزالية، مما جعل النسبة العظمى من الشعب الإسباني تأنف تعلم الإنجليزية إلا للضرورة القصوى...»

 حاجة قصوى ساقتني إليها، وبأسرع مما توقعت، ولجت العمارة ثم شقتها بخفة حرصَت ألا تثير انتباه أحد الجيران، فرحاً بهذه المغامرة والمراهقة، وأيضا عدم اضطراري للرجوع إلى تلك الغرفة الكئيبة ورؤية مسعود، بأي حالٍ يكون عليه، سكران يهذي بما لا يفهم أو متمتما لما أبقت عليه ذاكرته من آيات قرآنية بطريقةٍ ملائية تمد الرأس إلى الأمام ثم ترجعه للخلف، شبه مغيب عن الدنيا، بعينين غائمتين...

 لوحة فاتنة، تؤكد سطوة ارتسام تفاصيلها في التماع حدقتيّ الغاطستين في فتنة جمالها المنتصب في فضاءٍ من الإنارة الباهتة لثرية كريستالية صغيرة معلقة وسط الصالة المربعة متوسطة المساحة، بسيطة الأثاث، عتيقته، على المائدة كان العشاء المكوَن من أصنافٍ عدة، تتباهى أني لن أتذوق مثلها حتى لو أمضيت في الأندلس أعواماَ، يتوسطها شمعدان ثلاني من الفضة، يتراقص لهب شمعه على نغم موسيقى ناعمة مهدئة للأعصاب، كفاها الحنونان اختفيتا في شعر رأسي، كان نهديها المهصورين في قوس صدر جلبابها الشفيف مندغم اللون مع حليب بشرتها الصافي، قالت إنها لم تستطع مقاومة رغبتها بشرائه وأقسمت ألا ترتديه إلا لأجلي ما أن تحين فرصة لقائنا هنا دون أي مكانٍ آخر... تلتقط عنقود عنب من المائدة لتلقمني إياه حبةً حبة، تسابقها قبلةً فأخرى تتعجل اختصار خطوات حفل عشائها الراقص...

 أنظر نحو ممر ضيق قصير، تتلاصق على جانبٍ منه غرفتي نوم مغلقتي البابين ومطبخ وحمام تفوح منه رائحة الشامبوه الذي غسلت شعرها به على عجل قبل مجيئي، تمانع سحب يدي لكفها نحو إحدى الغرفتين في حرج...

 «مكاننا في الجهة الأخرى»

 تشير نحو كنبة ملاصقة للجدار ذي الشباك الذي كانت تطل علي منه وأنا أجلس على رصيف الكافتيريا المقابلة، كما لو أرادت لي تحدي تلك الجلسة المشاغبة، كنبة تُفرد ثلاثاً حتى تتحول إلى فراشٍ وثير، بعد إبعاد الطاولة الوسطية، تلاصقها عند الزاويتين طاولتان دائريتان صغيرتان وواطئتان، خشبهما باهت اللون ذو خطوط سوداء معربَشة، على كلٍ منهما تيب لامب متوسط الجحم بلونٍ يتواءم ولون الكنبة/ الفراش الأصفر، بينما دهنت الجدران والسقف بلونٍ وردي يزيد المساحة ضيقاً...

عرفتْ إلى ماذا ترمي سخرية نظراتي، تحني رأسها في حبور: أنا هكذا، قل عني ما شئت، ولكن هناك أموراً لا أرتاح لفعلها إلا بمنطقي الخاص...

أقبلها بحنوٍ يهوي بنا سريعاً إلى جزيرة العشق التي اختارت...

ـ وأنا لا أحب فيكِ أكثر مما أنتِ عليه...

ـ تحبني إلى هذا الحد حقاً؟...

ـ أحبك إلى حد أني لن أتركك حتى لو تجمهر حولنا كل سكان ملكا، بل شعوب الشرق والغرب، ورؤوا أحدنا يتبعثر في جسد الآخر...

 تتوراى قمتا رأسينا خلف الشباك المفتوح على هواء دافئ، حيث نستند إلى ظهر الكنبة معروقيْن منهكيْن، الشموع ذابت عن آخرها وانطفأت، يعاقر انتشاءنا سنا البدر المطل علينا من عليائه...

 أبصِر من مكاني شرفة غرفة سارة، عند وجودنا في شقتها ولدى مراقصتي لها كنت قد لمحتُ جزءاً من سريرها الأبيض الدائري، يتوسط غرفتها على الأغلب، حيث تسطع عليه الشمس صباحاً لتمنحها ابتسامتها الوضاءة، جسدها العاري يتلفع ملاءة حريرية مطرزة الحواف، تتخصَر مع ثناياه المتمايلة يمنةً ويسرة، فتبدو في غفوتها كعروس بحر لا قدرة للشباك على النيل من حريتها...

 تنهكني بحضورها، تخاتل جسد لوسيا في اشتعاله وانطفائه، بينما النبض الضارب فيّ بقوة يتخوف كشفها لما يُصلي جوارحي في لجة جسدها البض، بل توقعتُ سؤالها عن مدى تعلقي بعشيقة صاحبي المخدَر بدوره في ملكوت دنيا غادرها منذ زمن...

ـ لوسيا ـ لوسي ـ لوسيانا ـ نور ـ نوريتا ـ نوري أنا الذي لا أريد له الانطفاء أبداً...

ـ ههههه... صرتُ ألتفت كلما أسمع اسما من هذه الأسماء أو حتى مقارباً لها، وفي بعض المرات أختار لنفسي اسما واحداً لا أحب أن يناديني أحد بسواه فلا أجيب وكأن الأمر لا يعنيني أبدًا ـ تلتحم بي أكثر ـ حيرتني، جننتني، أنتم تحبون التدليل، ههه... في كل شيء.

ضحكتُ بقوة، مرجعاً رأسي للخلف: ولهذا العالم كله يسرف في تدليلنا منذ سنوات...

ولكن لا تنكر إن الكثير من كلماتكم مأخوذة من لغتنا.

ـ العكس هو الصحيح يا لوسيانا الجميلة.

ـ أوه... أنت تراوغ في كل شيء، ما رأيك أن نبحث في النت عن هذا الموضوع؟...

هصرتها إلي، عانقتها بنهم، قلت: لا، أفضِل أن يبقى الامتزاج كما هو، وياليته يزيد، ربما نجد لغة ثالثة يستطيع العالم كله التفاهم من خلالها بدلاً عن كل هذا الهراء الذي نحياه...

 ـ أو ننجو بصمتٍ يمكننا أن نعتمد عليه في كل ما لا يقال...

ـ يعني نفقد القدرة على الكلام؟

تمطَت ضاحكة فصارت أكثر إثارة من كل تصور، ثم قالت: يكون أحسن، ثم أليس الرسم والموسيقى يعتمدان على لغة الصمت قبل كل شيء ؟...

 جمدتُ أقرأ القصيدة في صمتٍ أخرس...

«عانقني... عانقني بحرارة

 أوقد في قلبي جذوة وجد لا يخبو سعيرها أبداً...

 عانقني بشغف...     

 يضيع مني لوعة الماضي الكئيب

 ينسيني ذاتاً لم أخترها

 أعِني على اختيار حياة أخرى، دنيا لم أعشها

 لم أشهق عبق بحرها

 لم أرتشف لذة خمرها

 إني أشتهي الثمالة منذ زمنٍ معتق

 عانقني، كملَك الموت...      

 من قال أني أخشى صعقة الموت؟... 

 ما أخشاه هو الصمت... توجعات الكبت

 شفتاك تنغرسان فيّ بحرفية لم أرَ لها مثيلاً، لا في الجبال الشاهقة ولا عند الساحل الآسر لكل الدنيا، إلا لي... أنا المتولهة العطشى

عانقني ولا تتخوف من تلاشي شمعي بين سمرة ذراعيك الصلبتَين، تخوَفْ فحسب من مفارقتي نبع شفتيك العذب.»

 قبيل امتداد الحركة في الشارع أنزلت رأسها نحو الوسادة وغابت في نومٍ عميق...

 استحممتُ بماءٍ بارد أنعشني بعض الشيء، ولكن صداع رأسي بقي في حاجة ماسة إلى قدح نسكافة، استطعت إعداده بعد بحث هنا وهناك في الخزانات المعلقة في المطبخ، وأنا أرشف منه على مهل وجدت دفتراً سميك لم أتمكن من صد فضولي عن فتحه وتقليب أوراقه سريعاً، تلقفت انتباهي تلك القصيدة دون سواها، أعرف إنها تكتب الخواطر من اعتصار حالة شجن لأخرى، ولكن ليس بهذا المستوى أو العمق و... الغرائبية!!!...

 ظلت كلماتها، صوفية اللمسات، تغور في رأسي بعد أن غادرتُ الشقة ونزلتُ إلى الشارع، أحرص أيضاً ألا ألفت الانتباه، يلازمني التنهد العميق الذي صدر عنها حين أيقظتها لأعلمها بضرورة ذهابي، جلستُ بمحاذاة رأسها، أدقق النظر في تكور جسدها ووجهها السابح في ملائكيته، داعبتُ خصلاتٍ من شعرها، لمحت في بؤبؤي عينيها النعستين رقرقة دمعٍ ترجوني عدم المغادرة وتركها بمفردها... ما لبثت أن فاجأتني بشهقة انعتاق ظافرة عندما ذكَرتُها بزوجها، تخبرني إنه لن يعود قبل ثلاثة أيام، وربما أكثر...

دون أن يخدش كلماتها أي تأثر قالت: يتعذر بأي حجة ليمضي مع صاحبته أطول مدة ممكنة على حساب الشركة التي يعمل فيها...

 انكسح ذلك البريق القرمزي عن وجهها، استباحه الشحوب القاتم حين سألتها عن ولديها وموعد عودتهما من الضيعة، أتتني كلماتها مغالية الغرابة موليةً ظهرها إلي...

«هما أيضاً لا يحباني، يظلان بعيديْن عني مهما حاولت الاقتراب منهما.»

 أدارت وجهها نحو تعطشي لرؤية قسماته النابضة بالألم والحنان، حنان غريزي أمومي تتشربه روحي قبل جسدي طيلة فترات وجودنا معاً، ومنذ أول انغلاق باب علينا...

 ألجمتُ أي كلمةٍ يمكن قولها أو قرارٍ متلجلج بالبقاء معها، أسير عالمها الذي اكتشفت أني أكاد لا أعرف عنه شيئاً... رفعتْ رأسها بعد نهنةٍ سارعت إلى وأدها، اعتدلتْ في جلستها فانزاحت الملاءة عن صدرها، صددتْ رغبة ذراعيّ المتشوقتين لاحتضانها بقوةٍ تعتصر كل الأنين الذي يسكنها واكتفيتُ بقبلةٍ ناعمة استنجدتُ بها للانصراف سريعاً...

يتبعني صوتها المتلعثم في انكساره: إذهب حتى لا تتأخر، ولا تنسَ أن تتصل بي حالما تفرغ من عملك...

*      *      *

 الوقت لا يزال مبكراً على ضغطي زر جرس السيدة أو الحاجة بلقيس كما أشارت لي أن أناديها، مما يسمح لي بتناول وجبة فطور مشبعة والتفكير في تلك التي تركتها تعاود نومها العميق في خمول من اعتادت تناول الحبوب المهدئة التي وجدت عدة علب منها لأكثر من نوع في صيدلية الحمام، حين أضجرني البحث عن حبة مسكنة للصداع...

 منظر البحر من بعيد وتحليق النوارس ضمن دوائر ملتفة حول بعضها يحفزاني على الارتماء في أحضان الموج لبعض الوقت، متجرداً من جسدي إن أمكنني ذلك... يصطفق هديره في أذني، فتجيبه روحي بصرخةٍ تثقل صدري بين فترةٍ وأخرى، صرخة تتوق للحرية المطلقة، تطلقها رنة الهاتف حسرةً طويلة وعميقة...

 يتحشرج صوت بودو بخشونة علامة استيقاظه من النوم لتوه، كأنه كان يحلم بي بدلاً عن الحلم بإحدى رفيقاته...

(صوت فيروز الصباحي يزقزق يا خلق)

يسألني عن سبب تأخري في الذهاب إلى الحاجة بلقيس، أخبره بنرفزة أن الصباح في أوله، يرد أنها تستيقظ منذ صلاة الفجر، لذا الوقت لديها الآن بمثابة الظهيرة...

ـ نظام عسكري يعني تريدنا نمشي عليه.

ـ وعلاش يا رجال معصب؟... قلت لك هذه جارتي وباعتبرها كيف أمي، و... في شغل بيني وبين ولدها، ولما حكت لزوجتي إنها تريد لوحات جديدة تزّين بيتها، ما لقيتش غيرك...

ـ نساخ لوحات حسب الطلب.

ـ لا إله إلا الله، وكأنك البارحة ما كنتش معانا.

ـ بصراحة ما استوعبت الفكرة بالتحديد، دار عراقي بملكا؟!...

ـ ولا فكرك إنها ما بتقدر تجيبش أحسن رسام ومن أي بلد بالعالم يا بيكاسو، لكنها تمسكت بك أكثر لما عرفت إنك ابن بلدها وهذه المخلوقة بالذات تأمر فتطاع، حتى من ولدها اللي ما يقدرش عليه أكبر شارب مثل ما بتقولوا...

ـ ههه حتى بودو؟...

تغاضى عن التلميح المخاتل في خبثه: إنت عارف من كان أحسن صاحب لزوجها المرحوم... حبيبك، سنيور فايكو.

اللعين، قصده فايق حسن طبعاً...

 فعلاً... توقيعه يمهر أكثر من لوحة في الصالة الواسعة، ضخمة الأثاث وكثيرة التحف الغالية، من ثريات الكريستال الجيكية حتى السجاد الأصفهاني الذي لم ترفعه عن الأرض المرمرية سمائية اللون رغم حرارة الجو، لم ألحظ هذا يوم أمس، كانت زيارة تعارف سريعة، ظهرت لنا ببشاشة وجهها الممتلئ وجسدها المائل إلى البدانة، رشيقة الحركة إلى حدٍ ما، وسع حدقتيها خفيفتي الكحل يقول لمن توليه نظراتها إنها تعرفه من قبل، ربما منذ سنوات، فيتوقع أن تسأله عن أحواله وسر طول انقطاعه عن زيارتها والاطمئنان على صحتها العليلة بغياب ولديها عنها، كلٌ منهما لاهٍ في عالم استولى على تفكيره تماماً، واحد في عالم المال والثاني في عالم الورق والكتابة... لم يكن صعباً استدرار معلومات كاملة عن حياة أيٍ كان من لسان بودو الثرثار، المحب للنميمة، ما دامت لا يمت لخصوصيات عمله المتشعبة بصلة... زوجها كان من الذين تأخذهم على يسارك ـ اليساريين يقصد ـ خفة دمه لا فكاك منها، كاتب ومفكر ومحلل ووو... مدوراً راحة يده، ومدقع الفقر حتى أنهى التفكير وسوء الحال عمره بسكتة قلبية... أرفف المكتبة الكبيرة الموجودة في الصالة، التي صممت على انتقالها من جحرهم القديم، وبذات طريقة ترتيبه للكتب المخيفة بضخامتها، كل ما خلفه تقريباً لهم...

 ابنها محمود الآن، ولا تسألني كيف، من أحسن رجال الأعمال الذين يمكن أن تتعرف إليهم وتستفيد منهم، ولكنك تكتشف بعد ذلك أن فائدته منك كانت أكبر بكثير، دوماً يركز نظره نحو ما لم تلتفت إليه أو يخطر لك على بال...

 قيس أكمل دراسته الجامعية في مدريد، تخصص في الفلسفة التي جننته أكثر، كما يصفه أخوه دوماً بعصبية، وكذلك بودو التي أطبقت عليه الثمالة دون أن تؤثر على حركة لسانه المستمرة والتي أفهمتني أن قيس بدوره كان ينظر إلى أخيه كتاجرٍ مراوغ نهم لا يمنحه الطمع مجالاً للتفكير في حياته كإنسان، وقد يجره إلى دروبٍ ظلماء لا رجعة عنها، صار يعمل إلى جانب دراسته في مجلة كمحرر ومحلل وكاتب قصة ورواية أيضاً، يرأس تحرير المجلة محدودة التمويل والتوزيع أحد رفاق والده القدامى... يقرأ له أحياناً لكن الملل يطبق عليه سريعاً كما تطبق أكلة سمك ثقيلة على المعدة ـ ما أسخف تعبيراته... باختصار هو ضد الجميع، الماضي والحاضر، الاحتلال والأحزاب، المقاومة والطائفية...

 القشة التي قصمت ظهر البغل ـ البعير يا... بودو ـ وأعلنت القطيعة بينهما معرفته بعمل أخيه مع الأمريكان والحكومة الجديدة، في المقاولات والتجهيزات العسكرية، لم يعد يكلم أحدهما الآخر أو يسأل عنه بعد عراكٍ عنيف أشبه بإحدى التفجيرات الجحيمية المتتابعة في العراق، تدخل بودو لفضها، وعملت زوجته على تهدئة الأم المنهارة والمشتتة بين الاثنين إلى الآن، تتنقل مواقفها ما بين تعنيف وتوَسل لكلٍ منهما على حدة، وجهاً لوجه أو عبر الهاتف، فمحمود لا يكاد يأتي حتى يعود للغياب في بلدان العالم، وقيس إذا أتى إلى ملكا يقيم في فندق، على قدر مقدرته، أو تسافر أمه إلى مدريد لرؤيته...

 يواصل بودو سخريته من ذلك الأحمق المتبطر على النعمة... يلح على أمه المسكينة أن تأخذ منه كل مرة شيء من النقود التي صرفها عليه أخوه عندما كان يعيش معهم أو يبعثها له، لا يدري كيف استطاع حسابها، ولكن الحاجة المكلومة تخفيها كما تخفي أحزانها عن الجميع، ما عدا زوجته ــ زوجة بودو ـ كي لا تزيد من حدة الشقاق بين ولديها، ويكفيها المشاجرات التي تشب بين محمود وزوجته عند عودته من إحدى جولاته المكوكية وتصادف وجودها وطفلهما في ملكا... هي الأخرى تكثر من السفر، خاصةً إلى أهلها المقيمين في هولندا منذ أوائل التسعينيات، ولما تعود يكون همها الأول الشراء وبإسرافٍ مستفز، دون التفكير بما تحتاج أو لا تحتاج...

 جنحت حدة خلافاتهما أكثر من مرة إلى هاوية الطلاق لولا تدخل والدته للحيلولة دون حصوله، ليس من أجلهما، فهما بالنسبة إليها فردتي حذاء، إنما من أجل طفلهما وديع الملامح، أشقر الشعر، أبيض الوجه وشديد الابتسام، طلبت مني البدء برسمه وبأكثر ما أستطيعه من دقة وإحساس حاولت أن تنقله رقرقة نظراتها الحانية إليّ، وافقتْ أن ينتقل مع أمه إلى شقة أخرى، شرط أن تكون في ذات المجمع السكني الفاره كي لا تحرم من رؤيته أكثر، الشقة التي صممت أن تسجل بإسمها، أبلغني بودو إنها أقرب ما تكون إلى فيلا، صرفت عليها بسفه وغباء تصيّده مهندس ديكور غريب الذوق والأطوار...

 تساءلتُ كيف فاتت هذه الفرصة على بودو، إن كان قد فوَتها فعلاً، لكن... وحسب وصفه لشخصية محمود ووالدته، من غير المرّجح إنه استطاع الحصول على حصة من غنيمة جنون تلك البلهاء المتعجرفة، دون أن تولي اهتماماً لصراخ زوجها المستشاط غيظاً باستمرار من شرهها المستعر في عناده...

 شاركتها ارتشاف الشاي المهيًل، المعَد على الطريقة العراقية التي علمّتها لخادمتها الفليبينية، أضع القدح الزجاجي الصغير مذّهب الحواف فوق لوح الزجاج المستطيل المحفوف بالخيزران، تصله بالأرض أرجل خشبية معقوفة الأطراف، نجلس إلى الطاولة على كرسيين من الخيزران أيضاً، يغطيهما فرش بني وثير في الشرفة الواسعة المطلة على منظر جد بديع ومتنوع في خضرة الزرع والشجر العالي وارف الظلال، المباني النظيفة متداخلة الألوان، شيء من زرقة البحر وتحليق النوارس فوقه لترسو عند صخوره كما ترسو الزوارق التي تبدو من بعيد أشبه بمراكب ورقية من تلك التي كنت أحب صناعتها في صغري... الناس يظهرون مثل حبات مسبحة منفرطة في كل اتجاه، تشجعني ضحكاتها على الضحك بدوري، إجابةً على سؤالها حول حال بودو معي ـ تفاجأتْ بمختصر اسمه لدينا ـ وإن كان يأكل حقي، وهل أنا مرتاح بالعمل معه...

ـ ههه، كلاوجي (محتال)... الله يعين زوجته عليه، أحترس منه في كل الأحوال...

ـ الحياة علمتني الاحتراس من كل الناس...

ـ حتى أقرب المقربين؟

ـ بصراحة، كانت أمي أقرب واحدة إلي، وماتت وأنا بعيد عنها، فما لقيت من أرجع إليه...

ـ وأبوك؟...

ـ هههه... تزوج، وأخيراً عرفت إن الله رزقه بولد، يتربى بعز الاحتلال...

 وكأني ذكرتها، الآن فقط، أن بلدنا محتل... تُسهم برهة في حزنٍ انبجست في أرضه القاحلة الكثير من الذكريات لديها، تعّدِل من حجابها، كما لو أرادت أن تداري به السنوات العجاف التي مرت عليها منذ غادرت وزوجها وولداهما بغداد، راحت تترحم على روح زوجها وتحمده تعالى أنه قد مات قبل أن يرى ما يحصل من بشاعات ومهازل، مكنيةً إياه بأبي قيس... ولدها البكر وثاني وجه تريدني أن أرسمه، متأكد أني قد رأيت صورته من قبل، في صحيفة أو مجلة، تدعم يقيني في مفاخرة الأم الحنون...

«هو كاتب وصحفي مهم، يكتب في أكثر من صحيفة، تصدر داخل وخارج أسبانيا.»

 تتكلم في ابتهاج عن مدى الشبه الذي يجمعه ووالده في أشياء كثيرة، ليس من ضمنها ملامح الوجه، على الإطلاق، بينما محمود ـ الأستاذ محمود ـ يكاد يكون توأماً لوالده، حينما كان في مثل عمره...

تتمتم مجدداً: سبحان الله، سبحان الله...

 (سبحان الله)... يكررها بودو ونحن نجلس إلى مكتبه في شركة السياحة، مأخوذاً بغرابة مطلبها الذي لم نستوعب شيئاً من فكرته البعيدة كل البعد عن تجارة فبركة اللوحات للمتباهين باقتناء الشهيرة منها... تحويل كل الصور الفوتوغرافية التي توحي لها بجمود الزمن إلى لوحات زيتية عميقة الألوان غائرة في تفاصيل ملامح الوجوه وتعبيراتها المختلفة، وكذلك رسم لوحة كبيرة تجمعها وولديها وزوجة محمود وولده هاني في عمره الحالي، وكأن أي فرقة بينهما لم تحصل ولا تعاني من أية وحدةٍ أو سآمة، بالإضافة إلى نسخ لوحتين من اللوحات الثلاث التي رسمها فائق حسن وأهداها لزوجها، تود إرسالهما إلى صديقتيها المقيمتين في أمريكا، قالت إنها كانت خمس لوحات، أحنت رأسها، ولظروف صعبة اضطروا إلى بيع أربع منها، بعد وفاة زوجها، ولكنها استطاعت استعادة اثنتين، وفاءً لشيء من ذكرى المرحوم، بأضعاف المبلغ الذي اضطروا إلى قبوله عند ذلك الاستغناء الاضطراري المستعجَل...

أواسيها أم أواسي نفسي: كلنا تجبرنا الدنيا خاصة بمثل هذه الظروف على التضحية بأشياء كثيرة، منها ما نقدر على استعادتها ومنها يصير فقدانها بحكم القدر المحتوم...

ـ ولوين ممكن تتجه أقدار العراق؟...

 حاولتْ من جديد مراوغة أحزانها التي بدأت تتكشف سواء من نبرة صوتها الحزينة أو توهج عينيها بحرقة الدموع

ـ هههه... أنا وصلتني إلى بودو..

تصر على العزف على أوجاع كمان عمرها المغترب: تتصور يمكن ينتهي كل هذا بيوم من الأيام؟

قلت باستخفاف هذه المرة: منو يعرف، يمكن نتفاجأ بوجبة معارضة جديدة، جوقة موسيقية مختلفة...

 عندها تشاركنا الضحك بصوت عالٍ حتى انهالت الدموع على خديها فعلاً...

*      *      *

 اليوم بدأت العمل الأول الحقيقي في حياتي والذي باغتني من حيث لا أتوقع... مفعماً بالعنفوان والحماسة أدخل الغرفة الفسيحة واسعة النافذة، كانت غرفة نوم محمود وزوجته قبل انتقالهما إلى شقتهما، كما فهمت من الخادمة الفليبينية، كل شي معد في انتظاري، لم يبخل بودو، على غير عادته، بتجهيز كل ما أمليته عليه ودونه في ورقة كبيرة، أرسلَ العمال ووضعوا أغراض الرسم في الغرفة التي أشارت إلها الحاجة بلقيس، مدرِسة الرسم القديمة، شاركت في بعض المعارض داخل العراق وهنا في أسبانيا، مما زاد من توجسي بعض الشيء وأنا أضع الخطوط الأولى لملامح وجه حفيدها الصغير، ولكنها أهملت الرسم منذ زمن ولم يتبق داخلها إلا روح المتذوقة الفنية التي تجد في اللوحات نافذتها على أحلامٍ تخلت عنها هي الأخرى...

 روح الفنان تتملكني هذه المرة بالكامل، تسَيِرني ناحية البحر، أنتعشُ فرحاً وحيوية يكادان يدفعاني إلى مشاركة الأطفال لعبهم على الشاطئ قبيل الأصيل وأنا لا أنفك عن التفكير في شخصية تلك المرأة الغريبة التي تعيدني إلى العراق بمجرد دخولي شقتها، وكأنها تعمل على تجديد روحي الممزقة بين عوالمٍ من سراب...

 سارة تقتحم شرودي من حيث لا أدري، سيارتها توقفت فجأة أمامي عند الرصيف المحاذي لجلستي... لا أدري إن كانت تتبعني في إصرار على استكمال حديثنا بخصوص علاقتها الملّغمة بمسعود، تدعوني إلى الغداء بإلحاح يغازل شوقي المتكتم إليها، تأخذنا الاتجاهات نحو مطعم من المطاعم الفاخرة التي لم أطأها يوماً منذ وصولي المدينة إلا بضع مرات، مع من أصطاد من سياح، يقضون عدة أيام من المتعة مغّيبي الأذهان عما يستنزف من جيوبهم... تدخل في صلب الموضوع بسرعة دون مقدمات، وكأنها لم تجد غيري لتفرغ أمامه ما في جعبتها من مرارة، بعد طلبها زجاجة ويسكي وغداء تركت لها حرية اختياره...

 كانت عائدة لتوها من اجتماع عمل منهِك، تفاجأت بطرقٍ مستمر على باب الشقة، دخل وأغلقها وراءه، ظلّ يتلفت حوله وكأنه يبحث عن عشيق لها سواه، لم ينطق بكلمة أو يرد على استفسارها عن سبب مجيئه في ذلك الوقت المتأخر، ساقها من ذراعها بسرعة وكأن هناك من يستعجله نحو غرفة النوم، تفوح منه رائحة السكر والعرق، لم يلقِ بالاً، كأكثر الأحيان، لِما يرتدي وما تبدو عليه هيئته، بانَ القرف على وجهها، لكن اشتياقها إليه تغلب على تمنعها عنه بضحكة دلال خادعت ريبتها من منظره وصرامة وجهه الآلي، رماها على الفراش وانبطح فوقها وكأنه مقبل على خنقها، حاولتْ دفعه، تهدئته، رد عليها باستفحال أشد مجوناً، تأوهت، حاولت الاستنجاد بأي شخصٍ قد تصله استغاثاتها من الجيران، ظل مسيطراً على جسدها فيما كان يخلع بنطاله ولباسه المنتفخ، مزقَ فستانها بغلٍ مشدود إلى وتد الجنون، عراها تماماً، فقدت كل مقاومة لديها، بل أي قدرة على الحراك... كان اغتصاباً، اغتصاباً بكل معنى الكلمة، وليس هوَس عاشق أمام حبيبة متذمرة يأخذها الغضب بمنأى عنه...

 سوطٌ لم تنتبه إليه من قبل، وكأنه ظهر بواسطة قوةٍ سحرية في قبضة يده التي عرفتها تفيض بحبٍ وأمان غامرين... راحَ يضربها على ظهرها وفخذيها، ظلتْ تصرخ قوياً حتى أدركت أنها على مشارف الموت وقد غاب عنها الجمود المتلبِس وجهه... تفيق من غيبوبتها عند الفجر، الضياء الأزرق يرتمي على الشباك، تتوجع بشدة، أحست بوجوده، كان يجلس على كرسي قريب من رأسها، خافت حتى من النظر إليه، كان مثل طيف في حلم، لا... كابوس، أبعدت نحيبها عنه مذعورة، مال عليها بأنفاسه المتهدجة ووجهه الممتقع، لصق في جبينها قبلة أب سهر الليل بطوله للاطمئنان على صحة طفلته المريضة مرضاً شديد، عند سماعها صوت غلق باب الشقة من قِبَله أخذت تتحسس بتأوه مواضع الدهان المرطب والدواء المصنوع من خليط أعشاب لتضميد القروح ومنع الالتهابات، لا تعرف إن كان قد أحضرهما معه أيضاً، متفكراً في أدق تفاصيل حفلهما الساهر، أم أنه نزل واشتراهما من الصيدلية القريبة من شقتها...

 كانا على الشاشة العملاقة أمامي في قاعة العرض ليلة أمس، سارة ومسعود، في إحدى النهايات المتصورة لدي لما قد تؤول إليها علاقتهما...

 أصغي إليها وأنا أكاد لا أصدق ما نتعثر به من مفارقات ومصادفات قد لا نعي شيئاً من دلالاتها إلا بعد حين...

 لم تكن المرة الأولى التي تضيع صرخاته هباءً في وديانها مهما طالت وتنوعت المداعبات والمساعدات من قبَلها... أرشف من كأس الويسكي وأصب حنقي على تتابع كلماتها المتشَكية في مباشرة جريئة، لا تختلف نبرتها عن جسارة حديثها في أي موضوع آخر، مع غمزة عين أو عبث ابتسامة أكثر مشاكسةً لنظراتي المعلقة بين شفتيها الناريتين...

«يظنني لا أعرف ما يفعله في كل سفرة لأني لم أفاتحه، صراحةً على الأقل، حتى لا أحرجه وأشعره بالإذلال، حتى في أشد حالات غيظي من رفضه لكل الوظائف التي آتيه بها، فقط لكي لا يعطي الفرصة لامرأةٍ، إسرائيلية، بل يهودية حتى، أن تكون صاحبة فضل عليه بأي شكل... حاولتُ تهدئته بأن هذه أمورٍ طبيعية لا ينجو منها رجل، التفت نحوي بعينين مشتعلتين جبروتاً غاضباً حتى أشعرني أني عاهرة أحكي له عن كل رجل أنام معه ليلة بعد أخرى...

 ذكرني طول صمته وتخشبه بالارتباك الذي راوده في أول ليلة، تصورَني راهبة، أو ابنة عمه المحجبة التي كان يفكر بالزواج منها قبل هروبه إلى هنا، نهض وارتدى ثيابه بسرعة، تركني أنبح كالكلبة في الفراش، أترجاه عدم المغادرة، وقف قريباً من باب الغرفة والتفت فجأة نحوي، طلب مني بلهجة أمرة مستفزة، وهو يعرف كم أكره لهجة الأوامر، أن أتخلى عن الجنسية الإسرائيلية وأكتفي بالأسبانية حتى أحدد موقفي بصراحة، ما دمت غير مقتنعة حقاً بقيام الدولة الصهيونية على أنقاض دولة أخرى، أجبته بانفعال يتحدى أسلوبه وطريقة تفكيره العنجهية وتلك النظرة الشرسة، كأني إحدى حريمه التي يجب عليها إطاعة فحلها بإيماءة رأسٍ، أني لن أفعل أو أفكر بهذا أصلاً، وتحت أي ضغط كان.»

تأخذ عدة رشفات ويسكي من كأسها، وتطفئ سيجارة لتشعل أخرى...

 «أحاول أن أرضيه ما أمكنني، حتى اللغة، كان يصر أن أتكلم معه عندما نكون بمفردنا بعربيتي الركيكة التي تعلمت أغلبها من الفلسطينيين اللذين يسكنون تل أبيب ـ عرب 48 ـ كانت تضحكه طريقة نطقي أحياناً وتنرفزه في أحيان أخرى كمدرسٍ متشدد، هه... وكله حسب الأهواء شديدة التقلب لديكم.»

لم أنجُ من لوم لوسيا على اختيار ذلك الفيلم الموتر للأعصاب، المثقل بالمآسي في نهايته: هذه هي مفاجأتك لي للاحتفال بأول مشروع فني لك، فيلم بهذه الكآبة؟... لمَ لا تكون كل النهايات سعيدة، على الأقل في الأفلام...

بقيت مأخوذاً بالصمت المتناثر في أكثر من اتجاه...

ـ شيء مقرف، مقرف، أن يذلك شخص ويعاملك بهذه الوحشية والقذارة حتى تدرك إنك لاشيء، لا شيء على الإطلاق، ولا حاجة لوجودك في هذا العالم إلا لإشباع غرائزه وهواجسه ورغباته المريضة...

 لمحت في عينيها لدى اقترابنا من أحد أعمدة الشارع المضاءة، لمعة دمع تنضح انتفاضة ألم مَن تعرضت لمثل تلك الهمجية... النشيج الكظيم الذي لمسته في عروق يدها لدى محاولتي احتوائها أوحى إلي بذلك الخاطر أكثر دون أن تراودني جرأة سؤالها، احتوت ذراعي خصرها مع سيرنا نحو شارع شقتها القريب، لترتفع أكثر نحو وجيب قلبها المتنهد.

"ترقص كارمن،

في شوارع إشبيلية.

شعرها أبيض،

وبؤبؤ عينيها براق.

يا طفلات،

أسدلن الستائر!

تلتف حول رأسها

أفعى صفراء،

وتمضي حالمة بالرقص،

مع عشاق لأيام مضت.

يا طفلات،

أسدلن الستائر!

الشوارع مقفرة،

وفي أعماقها نتبين

قلوباً أندلسية،

باحثة عن أشواك عتيقة.

يا طفلات،

أسدلن الستائر!"

 قصيدة رقصة ـ لوركا

 دندنتها للقصيدة وقصائد أخرى، ولعلها كانت مقاطع من هنا وهناك، تتخللها مقتطفات مما تسطره في دفتر أسرارها صوت ناي راح ينداح شجياً في صدري...

 رقصنا طويلاً دون موسيقى على جانبٍ من الكنبة المفرودة فراشاً يستعجلنا لإلقاء تحية الوداع، غداً يعود زوجها من السفر وتنتهي ضيافتها لي في مكمن ألغازها التي تقت كثيراً إلى دخوله، طردتُ عن خاطري أي سؤال حول شخصيتها وحياتها الملتبستين، وقد موّهني الظن أنها كانت قد كشفت لي حتى عما لا يهمني من خفاياها...

 سلمت لها جسدي لتعتصره رغباتها كما تشاء، وجلتُ بذهني بعيداً عن مخالب أنوثتها المغيرة بعد استكانة العذارى، أستلهم أفكار اللوحات المكلف برسمها، لا... سوف تكون لوحاتي أنا، تُمهَر باسمي، رغماً عن بودو وسخرية الدنيا من أحلامي التي قادتني إلى هنا كحصانٍ من أحصنة لوركا الجامحة، غير أني لن أتهاوى عن صهوتها أبداً أبدا...

 انطرحت لوسيا على الفراش، متعبةً لاهثة الأنفاس، وتركتني أهيم مع رسوماتي السابحة في فضاء الصالة بعد إطفاء المصباحين الصغيرين إلى جانبينا... غطتْ في النوم سريعاً، أولى كلٌ منا ظهره للآخر، تغطينا الملاءة البيضاء حتى أعلى صدرينا، ولكني لم أنم إلا بعد وضع اللمسات الأخيرة لمعرض العائلة المشتتة ... حسناً أنها حصلت على وظيفة مضيفة جوية، فأنا سوف أكون في انشغالٍ شبه تام عنها وكذلك عن ذاتي التي سأسكِنها هيئاتهم وقسمات وجوههم وابتساماتهم الحميمة...

 سارة أيضاً صارت في الآونة الأخيرة جد مشغولة بالاجتماعات المتواصلة مع رجال أعمال مختلفي الجنسيات، من أجل التحضير لمشروعها العملاق التي كانت تتكلم عنه بحماسة وإصرارٍ كبيرين... الحمّام الأندلسي، لم تبلغ مسعود عنه شيئاً لأنها تعرف جيداً رأيه بخصوص رأس المال الإسرائيلي المشارِك فيه، رغم أن حلمها ذاك يمكن أن يكون حجر الأساس لالتقاء كل مختلف، قالت ذلك بعينين تومضان تفاؤلاً وثقة، لم تشرح لي الكثير عن المشروع سوى أنه أشبه بمنتجع يحتوي على حمامات نسائية ورجالية، محلات أنتيكات، مقاهٍ ومطاعم، كل ذلك مبني على الطراز الأندلسي العربي القديم، مع كل ما تفرضه الحداثة من خدمات مختلفة...

 «سيكون أعجوبة العالم ويتوافد عليه السياح من كل مكان، ويشغل عمالة من مختلف الجنسيات.» أكدت لي أنها فرصتي الذهبية والحقيقية التي لن تعوَض، فأكثر جدران ذلك المنتجع العالمي الفاخر سوف تكون مغطاة بلوحاتٍ زيتية وزجاجية عملاقة، يتم الاتفاق على رسمها مع أشهر الفنانين من مختلف البلدان وسوف تكون مساعدتي لهم في أعمالهم المتحفية تلك أحسن من أي أكاديمية رسم يمكن أن يخالجني الحلم بدخولها في حياتي، لا معهد بيكاسو فحسب...

*      *      *

 ها أنا أقبض على حياتي في ريشةٍ تحرك الألوان على لوح القماش الأبيض وفي سرعةٍ تثير دهشة وإعجاب الحاجة بلقيس... وضعتْ كرسي خلفي لتجلس عليه كل حين، ترقب رسم الوجوه وملامحها وإيحاءاتها ثم تتركني أتنفس صعداء الحرية المطلقة، أسمع توجيهاتها بالإنجليزية لخادمتها المطيعة دائمة الابتسام، تجبرني على نفض كل شيء من يدي لأتناول معها وجبة الغداء الدسم، دوماً ما تعيدني أكلاتها إلى طهي أمي المتفرد في رأيي، خنقتني عبرة الذكريات فإذا بها تذرف دموعاً حارة، موجهةَ نظراتها الغضبى نحو صورتي ولديها... وأيضاً شاركتني الضحك، بعد نرفزة، لدى رؤيتها وقوفي جانب الشباك أدخن سيجارة، أخبرتها بتعنيف أمي الطويل لي عندما شاهدتني أدخن وأنا في المرحلة الثانوية ومن ثم أخدتْ العلبة مني وأخفتها، ولكننا بعد يومين جلسنا ندخن وهي تلعن اليوم الذي تزوجت فيه أبي بعد عراكٍ حامي الوطيس دار بينهما، غادر على إثره البيت فقط لأنه لم يجد صنف الطعام الذي يحب رغم أن سيادته قد أوصاها بطبخه صباحاً...

 تصيح بوجهي إن تعذرتُ بأي حجة وهي تعرف تماماً أني سأتناول وجبة سريعة في أي مطعم بمجرد مغادرتي عند اقتراب المغيب، منهك القوى، مصدع الرأس، أكاد لا أميز الألوان من حولي، الأمر الذي دفع لوسيا إلى التشَكي من قلة لقاءاتنا، فهي ورغم الرحلات الجوية التي تغيبها عن الأرض لساعات، كما كانت تتمنى، وما تعانيه من تسلط زوجها ومتطلبات ولديها يأخذها التوق لرؤيتي والاختباء بين أضلعي أكثر من أي وقت مضى منذ أن تعارفنا...

 أصابني الهوس ومنَيتُ نفسي بها كثيراً كما لو لم ألمس امرأة قط، إلا أني ورغم ما تسكِرني به من نشوة طاووسية لا أريد التورط في علاقة تكبلُني إلى ما لا نهاية، على عكس ما تحرص عليه من خلال تصرفاتها، ثرثرات كلامها وهذيانه، بل صمتها في بعض الأحيان...

 راودتني فعلاً خلال رعدة غضبٍ شرقية رغبة قوية بقطع علاقتي بها، ولكني ما جرؤت أمام دمعها، مثل فتاة مراهقة، غير أن أكرر قسمي بأني لم أملها، ولا أنوي تركها من أجل أي واحدة أخرى، وإن كل ما يهمني في شقة تلك العجوز التي أعتبرها بمثابة أمي هو العمل، النجاح، الشعور بالاستقلالية، فلا أريد أن أبقى من ضمن عبيد بودو، يربطني بسلاسله ويوجهني كيفما يشاء...

(أليس هذا ما كنتِ تتمنيه لي باستمرار؟)

 اضطربتْ لانفعالي ثم صراخي في وجهها عندما جاءتْ على ذكر سارة وأخبارها، أعرف إنها لا تحبها، بل تغار منها بشكلٍ واضح ... كان تلصص نظراتي مكشوفاً لديها أيضاً إلى هذا الحد، ولم يكن مسعود وحده، في غفلةٍ مني، من فطن إلى ذلك!! فاجأنا في الفترة الأخيرة بعدة قرارات حازمة لم يقبل نقاشها معي أو مع حسن، قريب القواد، كما صرخ في وجهه قبل اشتباكهما الدامي، تدخلتُ بينهما لمنع ضربات كل منهما الموجهة للآخر بضراوة، محتملاً نصيبي من اللكمات والركل المتبادل.. عاركَ أيضاً بودو بشراسة أمام الزبائن قبل تركه الشركة ... وقفا على ناصيتها يتقاذفان الشتائم، كل واحد بلهجته المبهمة لدى المارة، هدده بودو بحبسه، بترحيله إلى سوريا حيث تنتظره المعتقلات وربما حبل المشنقة، برميه في البحر، فما هو إلا نكرة لا يأتي على بال أحد السؤال عنه...

 احترتُ في سبب كل هذا الغضب الأهوج الذي يمكن أن يفقده كل شيء فعلاً، فأنياب بودو في كل مكان، وبإمكانه سحقه إن أراد، حتى لو تصدت له سارة بكل ثروتها ومعارفها. قال حسن مستنداً إلى الحائط، يمسح الدماء عن وجهه: ما بيكفيش الجريمة اللي كان ممكن يورطنا فيها. راح يقص علي مهاجمته إحدى زبائنهنّ، من يراها لا يقتنع أن عمرها أكثر من ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاماً، بمجرد علمه باتفاقها مع بودو بإمضاء ساعة معه في غرفتها وفي فندق ليس لمثله أن يعمل كحمال حقائب فيه مقابل خمسمائة يورو، صرخَته في وجهها وحدها أنزلت الرعدة فيها وكادت توقف قلبها الصناعي...

 بصق على الأرض يلعن عهر العجائز الشمطاوات المخادعات أنفسهنّ بعمليات تجميل لم تعد تجدي نفعاً مع ترهل أجسادهنّ النجسة وكل قحاب الدنيا وفي مقدمتهنّ سارة الإسرائيليةـ وما كنت تعرف هذا من قبل؟... قلت ساخراً.

 رد بعصبية كادت تقتلع عروق وجهه أن كل ما يهمها إخضاع عربي مسلم لها، لتتباهى بذلك أمام بنات صهيون...

ـ ويمكن العكس هو الصحيح، وهذا اللي كان يدور في راسك، مُلك اليمين يا شيخ مسعود...

 بالفعل كان يبدو مثل الشيخ بعد أن أطلق لحية خفيفة في الآونة الأخيرة، قبيل الفجر يرتدي جلبابه وطاقيته الأبيضين، يتسلل بهدوء، يحرص ألا يثير جلبة توقظنا من نومنا، أنصتُ إلى خرير ماء الحنفية الضعيف دون أن آتي بحركة، يومض في عيني النعستين شيئاً من هيئته لدى فتحه باب الشقة وتسلل نور الرواق الشاحب إلى الداخل... أضاء حسن النور بمجرد عودته في إحدى المرات، وكأنه يفاجئه بحفل عيد ميلاد، حمّد له على سلامة عودته من الحج ـ شقة الشيخ حسان، احمرَ وجهه كما لو تم ضبطه متلبساً بجريمة وحسن لا يكف عن سخريته السمجة والتي يعرف مسعود جيداً مدى حبه للتمادي فيها، في أي موضوع كان، حتى تصبح أشبة بلازمة له، لا يكف عنها عادةً إلا بكثيرٍ من الصراخ المتبادل وزعل قد يستمر أياماً، على حسب تماديه في إلحاحه المزعج... مسعود كان الأقرب إلي دوماً، بطيبته المغلفة بعصبية تراكمت داخله عبر سنوات إقامته المنعزلة في دار شقيقته الفقيرة، يمضي وقته ما بين الدراسة والاعتكاف في غرفته، يقرأ كثيراً كل ما يمكن إخراجه من عالمه المغلق ولا يلقي عليه شبهة انتسابه أو اهتمامه بشيء سوى حياته الخاصة حتى لا يجد رجال الأمن ما يدينه لدى تفتيشهم غرفته الصغيرة في أي وقت، وذلك ما لم يحدث حتى بعد حصوله على شهادة معهد المعلمين وتعيينه في مدرسة ابتدائية في إحدى قرى مدينة بانياس الساحلية... هناك راوده توجس غريب ومهلك بتعقب عناصر من الأمن كل حركة من حركاته البسيطة الاعتيادية، لم يستطع التخلص من هواجسٍ وأخيلة كان مصير معاندته لها الجنون دون سواه...

 سفهتْ مخاوفه فكرة تقديم طلب لاستخراج جواز سفر قد يلفت الانتباه إليه أكثر... في عمق الليل وجد نفسه في جوف صندوق خشبي مخزوق بعدة ثقوب صغيرة غير ظاهرة للعيان من ضمن صناديق كثيرة، أعده له خصيصا أحد البحارة الأتراك، تعرف عليه عبر صديق كردي، كان الوثوق التام به مغامرة كبرى لم يجد بداً من تحمل مخاطرة خوضها...

 أمر البحار الحمالين بوضعه على حدة لأن البضائع القابلة للكسر الموجودة داخله تخص أحد الساسة السوريين الكبار... لا يود تذكر الفترة التي أمضاها في ذلك اللحد، ولا مدى الجوع والعطش اللذين استبدا به، بالإضافة إلى الحر الرهيب، والصندوق الخشبي لا تفل براغيه إلا نصف أو ربع ساعة في اليوم، يقضي جلها في حمام قاصم للظهر، رائحته النتنة تزيد الحرقة في معدته التي لم تعد تتقبل إلا لقيمات من الطعام والبحار يصر على تناوله حبوب الإمساك وتجرع القليل من الماء كي لا تغالبه الحاجة إلى البول فتفضح رائحة اليوريا الحادة أمرهما لدى من يصادف مروره قريباً. ضاع في ظلمات محبسه كل أمل له في النجاة، كل ما يبصره في غياهبه الصامتة الجامدة إزاء أنين يتكوم داخله وجع كتمانه حبل المشنقة الذي ينتظره في قبو أحد معتقلات بلاده دون إعلام أخته التي ارتضت بيع مصاغها، بالإضافة إلى المال الذي تدبره زوجها بجهدٍ جهيد من أجل تأمين حياة شقيقها المأخوذ بحلم الهروب، يراوغه أفق البحر الرحب، عند مينائه فاجأه البحار بدس تمثال صغير في أحد جيبي بنطاله، لُف بعناية في أكياس من السيلوفان ذات الألوان الغامقة، رُبطت من أعلاها بشريط أحمر كما لو كانت هدية مرسلة من بلدٍ إلى آخر، وقبل الوصول إلى مرفأ إلبورت بانوس بساعات، أغلب ظنه، أجبره على ابتلاع حبوب منومة حتى لا يحس بشيء خلال عملية نقل الصناديق، أو يأتي صوت ينسف كل شيء...

 استفاق على فراشٍ حديدي وسط غرفة صغيرة مشققة الجدران، شباكها الضيق ملتصق بسقفٍ مائل، ملحقة بمخزن تتردد فيه أصوات كثيرة، بدت أول الأمر مشوشة ومتذبذبة في طنين أذنيه الحاد مع صداع رأس رهيب، عيناه ترمشان بتكاسلٍ ثقيل... لا يدري كم مضى على غيبوبته ولا أين استفاق بالضبط، في مخزن أو خمارة أو بيت دعارة لم يسعفه شَبَق أحلامه بمثل جمال فتياته ولا عريهنّ...

 أسعفَ التركي خموله بعدة منبهات ثم قاده عبر ممر يعبر بين صناديق كرتونية وخشبية مقفلة مختلفة الأحجام إلى حمام حقيقي، لا مجرد جحر مظلم، وقف تحت الدوش طويلاً، تشّرب مسام جسده الموجوع الماء الدافئ بنهمٍ كبير، طلب منه التركي من خلف الباب الاستعجال وحلاقة لحيته وتمشيط شعره، ثم عاد ودق الباب بخشونة لاستعجاله أكثر، لم ينشف جسده بالخرقة التي لا يعرف لها لون والمعلقة إلى الباب، ارتدى القميص وبنطال الجينز المعلقين تحتها بسرعة خشية خلع ذلك المعتوه الباب هذه المرة، خرجا من بابٍ جانبي لمبنى بدا له مثل شبح عملاق في ظلمة سماء ملكَا ـ إلى ذلك الوقت لم يكن يعرف في أي زقاق أو حي مهجور ولا حتى ضمن أي مدينة هو ـ أخذ يختفي عن ناظريه شيئاً فشيء، كما لو أنه يغوص في الأرض تماماً، عبّ من الهواء المنعش ما استطاع وبصوت عالٍ أضحك التركي سائق سيارة الجيب الصفراء سبعينية الطراز...

«سوف تشبع منه وتمله ذات يوم.»

قال البحار بعربيةٍ مضعضعة الأحرف...

 سأله مسعود عن التمثال فلم يجب، ولم يجب عن أي سؤالٍ آخر، مثل كيفية تدبر أمر بوليصة شحن الصندوق المهرّب، إلا بنظراتٍ ملزمة للصمت، ما فتح فمه إلا في شركة بودو، بعد رحيل البحار دون الإتيان بكلمة أو حتى إشارة وداع، بودو بدوره اختصر الكلام بمناداته حسن وتعريفه على شريكه الجديد في السكن...

 كثيراً ما اعتبرته بمثابة أخي الصغير حتى وإن أعلن نفوره من أي شعور بالتعاطف تجاهه على نحو مستفز...

أضاحكه: يا غبي، لا تنسَ أننا خضعنا لجبروت متشابه، وباسم نفس الشعارات...

حسن: أمة عربية واحدة، ذات رسالة ماجدة.

ـ يا سكران، خاااالدة، أختها التوأم...

عندها كادت الجدران تتصدع من فرقعة ضحكاتنا...

 لقب الشيخ مسعود أشعره باستخفافي منه والطريق الذي أراه ماضٍ فيه بسرعة لا تركن إلى أي كابح...

 قبض على تلابيب قميصي بخشونة ليباغتني بسؤاله: كم مرة نمت وياها، يا مغامر يا عاشق النساء المرتبطات، ما بتكفيك لوسيا، أخذتها من عيلتها وصارت عبدة لك، روح، روح مع سارة لإسرائيل، وساعدها ببناء مستوطنات جديدة، لو أنك ما بتعرف إنها المساهم الأكبر بشركة المقاولات، واحدة من شركات والدها عضو الكنيسيت، وكل شي باسمها تقريباً... هذا مش غريب عليك، تركت بلدك المحتل، الاغتصاب في سجن أبو غريب والقتل في كل مكان ما بيهمك، كل اللي يهمك الدفاع عن عشيقتك، وبالنهاية تختزي من تقديمك لأي حدا من أصحاب الطاقيات السود الصغيرة، وكأنك عار عليها، مثل ما أنت عار على أهلك...

 استمر في الهذر في نبرة صوت كاسيت مسجلة، عاجلته بخلاصي من خناق قبضتيه الصلبتين، دفعته عني حتى ارتمى إلى الحائط واندفعت نحوه فأوقعته أرضاً، حاول حسن الاقتراب لإبعادي عنه، صرختُ فيه محتداً فتراجع نحو فراشه، جلس متربعاً يشاهد عبر غمامة دخان لفافة حشيش المنظر في جمود، سمعت صوته يتمتم في هذيان سرعان ما يعرف طريقه إلى دماغه...

«هاهي إسرائيل تصدع صف الوحدة العربية من جديد.»

علا صوته كمذيع نشرة أخبار يثير الحماسة عند نشوب الحروب...

«والآن ننتقل إلى حلبة المصارعة الشرق الأوسطية.»

 رددتُ على إهاناته المتوالية بإهاناتٍ أكثر، واحتقار أشد... شَبهته بالجرذ لدى قفزه إلى سفينة النجاة هرباً من وساوسه وأخيلته المخبولة والآن يرفع سيف الشجاعة في وجوهنا كما لو كان مناضلاً سياسياً يزعزع اسمه قلوب مسئولي بلاده...

«يللا، روح وشوفنا شجاعتك، إرجع بلدك وإنتقم لأهلك وإعلن الثورة قبل ما تصب غضبك على سارة والصهاينة والأمريكان، غبي، غبي.»

 وجدت نفسي أصرخ بعلو صوتي حتى بعد مغادرته الشقة، الدموع تغشى عينيه وحقيبة ملابسه في يده...

 نزلتُ خلفه مهرولاً، فما لمحت منه سوى ظهراً محني ينتقل نحو منعطف الزقاق المقابل، يدخل البناية التي يقطن فيها الشيخ حسان، علمتُ من حسن أنه يعمل في شركة صغيرة تبيع وتشتري العقارات، لصالح العرب في الغالب، أصحابها أيضاً مجموعة من المستثمرين العرب... المتزمتين، لا بد أن مسعود صار يعمل معهم كذلك...

 انتقلنا نحن أيضاً إلى شقةٍ تتكون من غرفتين وحمام وصالة، مساحتها لا تتعدى الخمسين متراً، في حي شعبي من الأحياء المتوارية عن فتنة المدينة السياحية، ولكنها كانت بالنسبة لي إفاقة متأخرة على الحياة، كلام لوسيا كان جد صحيح بضرورة الانتقال إلى مركز المقاطعة، ندمت لأني لم آخذه على محمل الجد من قبل، تأسرني فلكلورية الحي... الموبوء كما أخطرنا بودو، وهو يحثنا على سرعة الرحيل عنه، أخذَ تحذيره طابع الجدية بينما صرت أضحك من سرعة تنبهه إلى ذلك، رد عليّ بانفعال أنه لا يقصد المهربين واللصوص والأشقياء وبيوت الدعارة ووو... إنما قصد معرفته، من خلال مصادره الخاصة، ببدء رصد جماعة متطرفة أخذت تنمو في الدروب الضيقة مما جعله أكثر عرضةً لمهاجمة البوليس من أي وقتٍ مضى...

«كله بكفة وشبهة الإرهاب بكفة، هنا وفي كل مكان، وكل واحد يختار سكته يكون مسئول عن قراره، الغربة عودتنا إنه لا بابا ولا ماما ولا صحبة، لا عواطف، ويمكن صاحبك هذا اللي خايف عليه يفكرَك مخبر سري، ويبلغ صحابه الجدد، وتصير الشيطان الأكبر قدامهم.»

 تنازعنا طويلاً بشأن غرفة النوم ذات الشرفة ضيقة المساحة، إلى حد إنها لا تسمح إلا لوقوف شخص أو شخصين، والمطلة على ميدان صغير تتوسطه نافورة على شكل زهرة بيضاء متفتحة، تتفرع من ساقها الاسطوانية أوراق بيضوية من الفخار الأخضر المسوَد، لا أعرف لأي قرنٍ تعود، في النهاية رضخ حسن ـ الطيّوب ـ لأهواء بيكاسو عصره، فهو يمضي أكثر الأوقات، والأيام أيضاً، في رحلاته المكوكية، أي أن الشقة التي تلوحها الشمس بصورةٍ جيدة تعد الآن بمثابة عالمي الخاص الذي أركن إليه وقتما شئت، مخلفاً كل ضوضاء الدنيا ورائي...

 ساعدنا بودو في تدبر مصاريف الشقة الجديدة، ولكنه تذمر كثيراً من طريقة إسرافنا على كل هفوةٍ تخطر في بالنا، كما نتذمر نحن من بخله وتقتيره في أجورنا وعمولاتنا بحجة إمدادنا بالأوراق الثبوتية التي تنئينا عن خطر الترحيل، رغم ذلك كانت مدخراتنا لا بأس بها ، دون أن نكشف له عن مبلغها الحقيقي طبعاً...

 لا أعرف ماذا فعل مسعود بمدخراته (الحرام) قبل تركنا وارتمائه بين أحضان الشيخ المباركة...

*      *      *

في أمسبة مغادرتنا كانت أصوات الدفوف والصلوات على النبي تخفق عالياً من قبل شباب وشيبة، أكثرهم يرتدون الجلاليب ويحيطون ذقونهم بلحى قصيرة، على مسافة غير بعيدة عنهم يخرج عازف الكيتار وجوقة من فتيات الغجر من البيت الشرقي، يرقصن على إيقاعات متباينة، حتى سدت اهتزازت أجسادهن ونهودهن الزقاق تقريباً، يشاركنّ في حفل زفاف مسعود على ابنة الشيخ حسان، غير منتبهات أو مباليات لجهامة الوجوه المحملقة بهن وبأزيائهن ساطعة الألوان، كان المنظر جد غريب، مضحكاً ومحزناً في آنٍ واحد، حتى موج البحر في ظلمائه صار يثقل الأنفاس، كأنه في حالة جمود تام أو حيرة كبرى تعلن استسلامها إزاء فهم عقول البشر وأسرار تقلبات أهوائها...

 هواؤه يهف علي عاتياً وأنا أقف عند نافذة غرفة الرسم في شقة الحاجة بلقيس، أتبادل وإياه النظرات وحكايا العلاقات المتفسخة مهما طالت وأيا كانت لحمتها، تفطن إلى شرودي من حينٍ لآخر دون أن تأتي بتعليق أو سؤال عن سر صمتي ثم تعود للتجوال في أنحاء الشقة الواسعة المفرّغة من الحميمية التي تتوق إليها شيخوختها، ترقب الجدران، عن قرب... عن بعد، تحدد في صمت مكان تعليق كل لوحة تعينها على مخادعة الخواء الذي تحياه، تستبق مخيلتها ألوان ريشتي في رسم الوجوه والقامات المتلاصقة والأيادي المسترخية على الأكتاف، بل ما يرتدي كلٌ منهم من ملابس غاية في الأناقة، وعلى أحدث صيحة في عالم الأزياء، لذا لم يفتها وضع مجلات الموضة أمامي، مؤشرةً بقلم أحمر قاني على ما تريدني أن ألبِس كلاً منهم، أومأتُ بالإيجاب في ابتسام فشلتُ في مواراته عنها، رمقَته جيداً حتى تفجرت ضحكاتنا معاً دفعةً واحدة...

«تفاصيل الأحلام، مهما كانت دقتها، لن تتحول إلى حقيقة كما تتمنى عجوزك الخرفة.»

 قالت لوسيا في سخرية بعد شرود نظراتها الطويل عبر شباك غرفة النوم وقد عاودتْ الوقوف بمحاذاته، مثلما فعلتْ أول دخولها، غير بعيدة عن الطاولة والمجلات التي أثارت فضولها، ترقب تراشق مياه النافورة الهرمة من جوف الزهرة باتجاه الأوراق متعرجة الأطراف في خريرٍ هادئ ثم هطولها نحو الحوض الحجري المستدير والذي أعيد ترميمه أكثر من مرة... كان زوجها عندئذٍ يجلس ضمن مدرجات الملعب الكبير، يتابع بحماس يُفقده القدرة على التحكم بأعصابه المباراة الحامية بين فريقي نادي ملكَا ونادي برشلونه الضيف، بين لحظة وأخرى يصلنا زعيق الجيران العالي وهتافات الفرح أو تأوهات الانكسار بينما تواصل كراتي الارتماء في مرامي شباكها...

 وغزني تعليقها واستغربته، كما استغربت سرعة تقلب مزاجها، قبل دقائق كانت تتقلب معي فوق الفراش في شَبَقٍ يترع من نخب لقائنا المنتصر على فترة جفاء علاقتنا. ظللت في همودٍ تام انصبَ على جسدي وذهني، فلم آتِ بجواب على ما تقول من تعليقات متقطعة حول الشقة وما تحتاجه، عملها وعملي، وأمورٍ أخرى لم أصغِ إليها سوى بإيماءات بينما كانت منشغلة في إكمال ارتداء ثيابها وتصفيف شعرها الذي عاد إلى شقرته الغامقة ووضع لمساتٍ من المكياج على وجهها ورش شيء من رذاذ عطرها الفواح...

 أخيراً سمعت صوت إغلاق باب الشقة وراءها دون تحديد موعد لقاءنا القادم...

 اتصلتْ بي بعد عودتها من السفر، كنتُ قد كتبت عنواننا الجديد على ورقة صغيرة أوصيت مساعدتها في الجاليري أن تعطيها إياها على أمل أن تكون زائرتي الأولى...

 كنتُ عائداً والشمس تشهد رحلتها اليومية نحو الغرب، وجدتها تنتظرني عند سيارتها أمام باب المبنى الحديدية، عاتبتني كما لو كنا على موعد، طلبتْ منى إنزال صندوق كرتوني متوسط الحجم والسير به أمامها حتى باب الشقة، استلت المفتاح من جيبي وفتحته، وضعته متهدج الأنفاس على طاولة الصالة التي عملت قدر جهدي على إنقاذها من فوضى حسن قبل خروجي في الصباح الباكر...

 مايكرويف؟!... أكثر ما كنا نحتاجه حقاً، شكرتُها وطعمتُ شفتيّ بمذاق خدها الطري ثم أخذنا نرشف من علبتي بيرة باردتين بتمهل والسؤال لا ينفك عن مراودتي حول ردة فعلها إزاء ما طرأ على حياة مسعود من تغير جوهري، أبلغتها دون أن تأتي بكلمة أني لم أعد أراه أو أسمع عنه شيئاً منذ أن اتخذ وبشكل فجائي قرار ترك الشركة وتركنا، سألتني ببرود من يود تمضية الوقت في أي حديث عن زوجته التونسية، فأخبرتها إني لا أعرف عنها شيئاً هي الأخرى...

ـ ترى هل رأى وجهها دون نقاب قبل العرس؟... كيف كانت ليلتهما الأولى، أكيد خبراته السابقة معي ومع المستأجرات بالساعة قد نفعته كثيراَ، ولكن مع فتاة مثلها؟... لا بد أن الأمر كان صعباً ومفاجئاً ـ غمزت لي ـ في البداية فقط هههههه...

تضاعفت حيرتي ببرودها المستفز: من أخبركِ بزواجه؟...

قربت وجهها مني، بصوتٍ خفيض على نحوٍ ساخر: الموسااااااد...

 توقعتُ تطافر الدموع من عينيها، يعقبها نشيج حاد يشكو غدره لها، لا أن تستلقي على الكنبة في وضع لا يخلو من الإثارة، تسند رأسها إلى وسادة إسفنجية عالية، تشرب علبة البيرة في انتعاش، تنَقل عيناها اللامعتين بين زوايا الشقة، توصيني أن أزينها بنباتات الظل والأفكار تتشكل مثل لوحة غير مفهومة في مخيلتي...

 حسبتها لن تكون فاجعة فشل عادية، ولكنها هي أيضا ليست بالمرأة العادية حتى أنتظر منها ردة الفعل المتوقعة من أي واحدةٍ سواها، مكلومة الفؤاد، تتوعد بالانتقام من رجلٍ هجرها، نفر منها كما لو أنه يرفس بغية على قارعة الطريق... ذلك السائق العربي المتغطرس، المتوحش، الـ... كم من الألفاظ والصفات، لا أعرف أي رد يمكن أن تسوقني إليه إن أفصح لسانها عنها، تدفنها في أعماقها كظيمة الغيظ...

 الاحتفاظ بحق الرد وسيلة من ضمن وسائل كيد النساء أيضاً، على صعيد العالم كله، ومنذ أقدم العصور، فما الذي يمكن أن ينتوي فعله ذلك الرأس الجميل بصديقي الأحمق؟؟؟... ما أكثر الأسئلة والتنبؤات التي ظلت تتلجلج في دماغي الممسوس بخمرة العلبة الثالثة، تعترض اهتمامي بمتابعة حديثها المشتد حماسة حول مشروع الحمام الأندلسي عند ساحل المرية المتعرج، الصرح العملاق الذي سوف ينضم ذات زمن إلى معالم التاريخ... انتهت تصاميمه الهندسية، وسوف تتولى عملية بنائه أكثر من شركة، إحداها الشركة التي يعمل فيها ماريو، زوج لوسيا، أما بدء الرسم والزخارف المتحفية الضخمة فسوف يأتي في مرحلة لاحقة، وفق تواريخ محددة، بالتأكيد عندئذٍ أكون قد انتهيت من رسم كل اللوحات التي طلبتها مني الحاجة.. الخالة بلقيس... أصرت ألا أناديها بغير تلك الكنية المزيحة عن قلبي بعض عفار الغربة ووحشتها التي تنضح في ذاتي بسرعةٍ غريبة، أبصرها في فراغ كل لوحة تواجهني لدى تعليقي لها إلى المسند الخشبي ثلاثي الأرجل المغروسة في بساطٍ ثقيل يمنع تزحلقها فوق الباركيه قهوائي اللون في تلك الغرفة العارية من الأثاث...

 بياض غريب يغيِب ذاكرتي عن كيفية تعرُج الحديث إلى أخبار العراق، غير أني أتذكر جيداً نرفزتها من طريقة معاملتنا لها كما لو كانت فعلاً تعمل في جهاز الموساد أو جيش الدفاع، وتتحمل ولو بعض مسؤولية ما يحدث في العالم العربي من مجازر وليس في غزة فقط، مع أنها انضمت ومنذ كانت تدرس إدارة الأعمال في الجامعة إلى الكثير من الحركات والاحتجاجات المنادية بالسلام، وكانت ضمن لوبي عربي ـ إسرائيلي يناهض سياسة شارون الدموية وكثيراً ما شبهوه بهتلر، ولعلّ ذلك كان أحد أسباب حبها للعيش هنا، خاصة بعد ما سببته لأبيها من إحراج كاد يلقيه خارج الكنيسيت، هو أيضاً من دعاة السلام، ولكن بصورة أقل مصارحة وحماسة، لأنه في النهاية من يهود السفارديم مهما بلغ حجم ثروته واتساع علاقاته في الداخل والخارج...

قالت بنفور: كلكم تفكرون بنفس الطريقة والعقلية التقليدية، المتوجسة من كل شيء، مع أن أكثر المؤامرات التي تتكلمون عنها تنطلق من بينكم، أو من قبل أنظمتكم الديكتاتورية و...

 عاجلت إسهاب حديثها المنفعل باحتواء جسدها وسط الكنبة على نحوٍ لم تتوقعه، عانقها سأمي المعتاد من نقاشٍ سقيم لن يفضي إلى شيء، لا أعرف كيف بالضبط استطاعت التملص من بين ذراعيّ، استقام ظهرها وأجبرتني على الجلوس مقهقراً فلول شهوتي إلى مكامنها، ابتعدت عني قليلاً نحو حافة الكنبة غير القابلة للانفراد... للأسف، تشبك أصابعها في خصل شعرها لترجعها إلى الوراء...

صمتُ وصمتتْ للحظات...

 جاء صوتها ضعيفاً وهي تنفث دخان السيجارة التي أشعلتها، سعلتْ وتنحنحت، ثم قالت بجدية:

- حتى لو كان هذا يمكن أن يحدث أو نفكر فيه فأعتقد أن الوقت غير مناسب أبداً، أنا ـ

واستنشقت نفساً عميقاً من سيجارتها ـ

- أنا متعبة الآن، مجهدة، وصديقك مسعود... هو أكثر من أخي هنا، ولكنه تاه الآن عنك وعنا في عالم آخر.

ـ وهذا أزعجكَ أم... أبهجك؟... ههههههه

 أرى وأهجس مشاكسة ضحكتها في كركرة النافورة النعسى، تمازحني بمكرها المعهود، تضعني في مواجهة لا فرار منها، تجاه نفسي ومسعود وعشق لوسيا المضطرب في ذاتي، وكذلك تجاه رغبات الخالة بلقيس الظمآنة للحميمية...

*      *      *

تتوقف نظراتها عند الرسم بتمعن من خلف النظارة الطبية سميكة العدستين، تلوح لها تلك النافورة كفتاة باكية مستضعفة، تنهمر منها الدموع بلا توقف، توصيني ملء الفراغ من حولها، بما توحيه لي الأخبار المتناقلة عبر الفضائيات بلا اهتمام، تسوطها بالسباب واللعن المغتاظ دون كلل أو مبالاة بارتفاع ضغط الدم...

 تعرض علي إحاطتها بـمجاميعٍ من ملوك طوائف العهد الجديد...

«أما نحن ـ تقول بتهكم أقرب إلى الولولة: لا جهة لنا.»

"في داخلي نفسي تموت، كالعنكبوت

 وعلى الجدار  

 ضوء النهار           

 يمتص أعوامي، ويبصقها دما، ضوء النهار

 أبدا لأجلي، لم يكن هذا النهار

 الباب أغِلق! لم يكن هذا النهار

 أبدا لأجلي لم يكن هذا النهار

 سأكون! لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان

 لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان"    

 لديها قابلية كبيرة على الحفظ، قصائد عبد الوهاب البياتي بالذات، أحد رواد المغتربين المشردين، تتأسف كثيراً على معاناته وشقائه حتى آخر حياته المهجّرة، تتذكر جيداً القصيدة التي واتته أولى مقاطعها لدى جلوسه معهم في شقتهم الصغيرة في مدريد، تضحك من إشفاقه الدائم على رجل المخابرات الذي يتعقبه أينما ولى وجهه، من مكان إلى آخر ومن بلدٍ إلى بلد، دعاه أكثر من مرة إلى مشاركته الطعام في أحد المطاعم البسيطة الشعبية لسد جوعه بأي طعام، لكن الرجل كان يأبى دائما بعنادٍ نزق، ربما لأنه يتخوف تعقبه، هو الآخر، من قبَل زميل له أكثر حرفية ودهاءً، أمثال تلك التعقبات جعلتهم يعتادون التنقل المتعاقب على مدار أكثر من عقدين، ولم تكن تعرف إن مدينة السحر السياحي سوف تكون نقطة الافتراق وتشتت العائلة المتأملة إعادة بعثها عبر ألوان اللوحات المنسكبة حنيناً متوهجاً من بين أصابعي، من حينٍ لآخر تعاود الشكوى، فما كنت بحاجة للتذكير من قبَل سلوى، زوجة بودو الجزائرية وصاحبة الحاجة المقربة، بالأحرى العلاقة بينهما ـ كما بدت لي، علاقة أم بابنتها الوحيدة التي تأتمنها على خفايا أسرارها ... تملك دار أزياء معروفة في ملكَا، وتقيم أغلب عروضها في مدريد وروما وباريس، تصمم العباءات المغاربية والخليجية بمهارةٍ وإتقان تصميمها فساتين السهرة وملابس الخروج البسيطة، من الغريب أن زوجها لم يرسلني يوماً إليها برفقة إحدى السائحات المولعات بالفلكلور الشرقي اللواتي ينفقنّ بخبلٍ يجلجل بقهقهته عالياَ... يصعب لمن يراها تصديق أنها أمٌ لولدين عشريني العمر يتمان دراستيهما في أمريكا، أنيقة طبعاً، ذات جمال يفور بحنطية الصحاري وشراستها، أرادت الحاجة بلقيس ألا أنساها باعتبارها من ضمن أفراد العائلة، رغم ما أتتْ به من فجاجة وسخرية لاذعة عند لقاءنا الأول، ربما تكون هي الطريقة التي اعتادتها لدى تعاملها مع بودو على مسار عشرتهما المثيرة للفضول...

 وخزَتها العجوز بنظرة لومٍ عندما سألتني باستخفاف أحمق عن مدى أهمية الريشة في مثل الظروف الوحشية التي تمر بها بلادي، فذكرتني باستهزاء مسعود...

«الحين وقت حمل سلاح لمحاربة المحتل، ما هو لحمل الفرَش وعلب الألوان، وإلا صوابعك الناعمة ما فيها حيل حمله؟.»

 لم أجبها بانفعال من يعلن بيان تبرئة أو استياء، أو بصوتٍ جهوري فيه غضب دفين، إنما اختصرت كل ما اعتصر في داخلي واستعصى عن النطق، أن للريشة عمر وللرشاشة عمر، فأيهما أكثر بقاءً وتأثيراً في تاريخ الشعوب؟... سؤال أنا نفسي غير متيقن من الإجابة عليه، إلا أني وجدته ينبثق عن لساني بسرعة استدارتي نحو اللوحة، مولياً لهما ظهري، إشارة إلى عدم رغبتي في مواصلة الحديث والانشغال بالعمل المكلف به، ولكني وجدت نفسي أقول إني لن أشتري بما يأتيني منه ومن سواه رشاشة أقاتل بها مع أي طرف ضد آخر، وفي النهاية "سأبقى دائما من لا مكان"...

 اعتذرت لي الخالة بلقيس بالنيابة عنها بعد خروجها، أخذتْ تشرح لي كم هي طيبة القلب ولا تتعمد أبداً إهانة أو إزعاج أحد مثلما فعلت معي ولكن...

أكملت بدوري بضحكةٍ ملول وعينين لم تبرحهما الحدة: اللي تعاشر واحد مثل بودو من الصعب أن تبقى متحكمة بكامل عقلها ـ أضحكت جملتي الخالة طويلاً فصارت تتمايل في وقفتها

ـ بس هذا يبقى رأي كثير من الناس فينا، صرنا نُعامل مثل الغجر، الكل يتصورنا ما نعرف غير الاستسلام والخنوع أو التقتيل ببعضنا.

 تحجرت نظراتها صوب انفعالي، أظن إنه قد أرجع ذاكرتها إلى كلامٍ مشابه، علها سمعته مراراً من زوجها المتوفى أو ابنها قيس، أو أنه بعض ما تحدث به نفسها خاصة لدى جلوسها الطويل أمام الأخبار التي تحَولنا إلى أقوامٍ تتعطش لسفك الدماء، رأيت هذا في أعين الكثيرين هنا، بل سمعته بنبرة استعلاء كريهة، أو متخوفة ممن أتى من بلدٍ عرّف العالم بكثير من المسميات الطائفية الغريبة على مسامع أغلب المثقفين والسياسيين في ظل الفوضى الخلاقة، كما عرفوا سجن أبو غريب ولم يكونوا قد سمعوا عن مهالكه شيئاً من قبل...

 بعد نحو ساعة من مغادرة سلوى، وجدتُ الخالة بلقيس تقبل عليّ بهاتفها المحمول تطلب مني محادثتها، أخذتْ تسرف في الاعتذار عما قالته، عللته بضغط العمل والتوتر العصبي الذي صار كثيراً ما يلازمها ثم تعود لتندم عليه سريعاً، كما أسرفت في تبيان مدى حبها واحترامها وتأثرها بمعاناة العراقيين، كلام صارت تبعثره بسرعة كأنها في برنامج سياسي حواري محدد الوقت، من جهتي كنتُ أحاول اختزاله قدر الإمكان وبشيءٍ من الانزعاج.

*      *      *

 كما كان يصلبها التوجس في محرابه من فترة لأخرى، وصل بيّ الملل مداه من رتابة علاقتنا، ترنيماتها، هلوساتها، هذيانها أثناء النوم، تشبُع كل منا بجسد الآخر حد النفور...

 أرمي في وجهها حبة الفياغرا التي تحتفظ بعلبتها في حقيبتها، وكأني لا أستطيع شراء أخرى لأستخدمها مع أخرى أو أخريات سواها، تتصور إنهن صرنّ يستلبنني منها، سارة في مقدمتهن... أقتلع بصلابة أنيابها الذئبية المستفرسة في كل جزءٍ مني، أرقب جفنيّ عينيها المرتجفين في شدوه من لا يعرف تلك الأنثى متناهية الرقة الخجول التي ما أصغت لنداءاتي إلا بعد إلحاحٍ أقرب إلى التوسل، تزداد ضراوة مرةً بعد مرة وشهقة إثر شهقة، تئن بصراخٍ مكتوم يخرس داخلنا آخر وجيبٍ للشهوة...

 أتركها مرمية على الفراش وأتجه نحو الحمام، لا تتحرك قيد إنملة من تحت الملاءة لدى خروجي ووقوفي أمام الشباك، لا أرتدي سوى الشورت بعد الاغتسال السريع، بشعرٍ وجسدٍ مبتلين، الهواء مرتفع الرطوبة يميل إلى السكون، أنفث دخان السيجارة بعنف وزهق، تتلجلج الكلمات في فمي بمفاتحتها أن ذلك الهيجان الوحشي هو مصافحة الوداع لعلاقتنا، شيء ما غريب الصرامة لا أعرف سره يمسك لساني عن النطق بأي حرف، كل ما أريده هو خروجها بأسرع وقت والاختلاء بنفسي في منأى عن هبوب أي عاصفة بكاء أو صراخ لا أدري كيف لي مجابهتها، أستدير نحو صمتها المستكين، أجدها تغط في نومٍ عميق، على خديها دموع متكاثفة، تزيد من حيرتي حيرة، تجاهها وتجاه كل شيء من حولي...

 أستيقظ من غفوتي على الكنبة مساءً، ألمح إشارة ضوئية متقطعة في شاشة الهاتف، أقرأ رسالة تطالبني فيها بعدم محاولة رؤيتها أو الاتصال بها، وكما التقينا على... حب، لنفترق وبيننا مودة وصداقة...

 ينصب شرر كلماتها في عينيّ المغبّشتين بالنعاس فأعاود إغماضهما على جمر الدهشة...

 لعل الطرقات المتتالية على باب الشقة يمكنها إفهامي، قد أصفعها صفعةً قوية توقعها أرضاً منهارة دامية الخد، أو أهصرها إلي بانفعالٍ عصبي لا يرد على تأوهاتها أو أسف جنونها، أو أطردها وأصفق الباب في وجهها ولا أفتحه

جفلت سارة أمام زعيقي...

(ماذا تريدين؟...)

 تجمدْ تعبيرات وجهي لا يترك لعينيّ غير النظرات الزائغة المشوبة بالحمرة، تدخل ورائي بعد تردد، تجلس على كرسي إلى جانب الكنبة حيث رميت بجسدي شبه العاري، العرق يتفصد عن جبيني وصدري، تهم بالرحيل بعد مشاركتي النظر نحو باب غرفة النوم الموارب، أشير إليها بنزق أن تظل في مكانها، فلا توجد واحدة في الداخل، لا لوسيا ولا سواها، ثم أمد ذراعي ناحية الطاولة وأطلب منها قراءة خاتمة العلاقة، تطيل النظر كما لو أنها تقرأ لغة بالكاد تستطيع فك رموزها، تسألني في دهشة عن السبب...

أهز كتفيّ بلا إيضاح ثم أعقب: لعلها تيقنت من عدم جدوى الإطالة أكثر من هذا، اتخذت عني القرار الذي لم تواتني الجرأة لمصارحتها به...

ـ بعد كل هذا الحب والتعلق؟

ـ ههه... شيء غريب عليكِ؟...

ـ أكيد أنت من دفعها إلى هذا اليأس.

اصطنعتْ ضحكة، أردفتْ بخشونة:

- كأنكم تتباهون بعدد النساء اللواتي تعاشروهن ثم تتركوهن بكل فخر...

ـ عقد نقص ذكورية ههههههه...

ـ وعربية بالأخص.

امتصْ استفزاز كلمتيها الأخيرتين بتعبير بارد أحطه على وجهي: ماذا، جئت تعلنين الحرب العنصرية؟... أرجوكِ، لا قِبلَ لي الآن بمثل هذا الكلام القديم الممل... تشربين نسكافة؟

ـ أنا سوف أعدها، تبدو وكأنك خارج من عراكٍ طويل...

 تتركني أقهقه بملء فمي مثل السكران وتذهب نحو المطبخ، تشعل الأنوار فتترك ضياءها الساطع يثقب عينيّ... أخذنا نرتشف من قدحينا ببطء وفي صمت يتوجع من أي كلمة يأتي بها أحدنا، في عينيها يقف الانتظار سئماً من صمتي المبهم لديها، علّي أنهيه بقص تفاصيل ما حدث بيني وبين لوسيا... نورا، نوري الذي بدأ يتلاشى من أمامي لأسباب أستطيع تكرارها واحداً تلو الآخر، دون أن أضع يدي على الوتر الحقيقي الصريح، الأكثر حدة ونفوراً في معزوفة ظلت تبحث عنها خلال أعوامها الماضية...

«إعزفني، وتخلل نغماتي، فإن لم تفعل أنت لن يفعل سواك.»

 من جهتي وجدتها لوحةً لا يمكنني تجسيدها على قطعة قماش مهما حاولت ريشتي استنطاق قسماتها وحنايا جسدها النحيل الناعم المسكون بدفء شمس المتوسط البهية.

صوت سارة الرخيم يتحول إلى صخب البحر لدى انفعالها الثائر على وجومي كالتمثال أمامها: لمَ لا ترتدي ملابسك وتركض وراءها إن كنت تحبها أو متعلقاً بها إلى هذا الحد، هيا... لا تضع الفرصة، ولا تترك الأمر معلقاً هكذا، لا تتصنع اللامبالاة لبتر آخر وريد ما يزال نبضه يخفق داخلك، وداخلها بالتأكيد.

 هي التي تتكلم، بأسلوبٍ لم أعهده فيها من قبل، أم حنيني الذي بدأ بمهاجمتي منذ الآن نحو امرأة ولجتني وغادرتني في لوثة اغتراب؟... أنظر إلى تشويح سارة بيديها كالمعتوهة، لا أدري مدى صدق مسعاها في حثي على اللحاق بمن تركتني أغط في نومي كالأطفال، تجوب الطرقات متكاسلة الخطى، وصلتْ إلى شقتها وحياتها المركونة على جنب طيلة وجودها معي، أم لم تصل إلى أي طريق يفضي بها إلى مكانٍ بعينه، تسير بمحاذاة الشاطئ ذابلة الوجه، تدندن بمقتطفٍ من موسيقى شوبان أو شعر لوركا؟.

أظلْ على ذات جلستي لا أحرك ساكناً، تنطوي سارة على الصمت مجدداً، ثم لا تلبث أن تكسر حاجز الشبرين الملتهبين بيننا بلمسةٍ رقيقة من يدها على ركبتي، تطرح عليّ فكرة مرافقتها في جولةٍ بحرية على يختها الصغير كما لو أنها تحايل طفلاً عكر المزاج...

 ما أحوجني لاستنشاق الهواء البحري بملء رئتيّ، تماماً مثل أول يوم وصلت فيه إلى هذه المدينة... ألاحظها تطيل النظر إلى مرآة السيارة المعلقة أمامها، عند كل مفترق طرق على الأقل، حتى وصولنا المرسى...

بعد بدء تحرك اليخت وابتعاده عن الشاطئ قلتُ: لا أظن أن مسعود سيتمكن من تعقبك هنا أيضاً...

ـ تسخر مني، أقول لك هي ليست المرة الأولى التي أجده يقف عند الزاوية المقابلة للجاليري، نبهتني كارلينا مساعدتي أول الأمر، ولكن هيئته تغيرت كثيراً، خفف شاربة وأطال ذقنه، غير معتني لا بشعره أو بهندامه، في عينيه نظرة مخيفة، محيرة وغريبة...

يبهتني كلامها، هاهو شيء من الفيلم الذي شاهدته مع لوسيا يتحقق...

سألتُ في تعجب: كل هذا لاحظته عن بعد، من غير أن تثيري انتباهه، أم أن نظراته تلك اشتبكت مع عمق نظراتك؟...

ـ لم تواتني الشجاعة لمواجهته، عندي نظارة معظَمة صغيرة، استرقت من خلالها النظر إلى صفنته المذهولة...

ـ هههه... لعبة مخاتلة جميلة.

نظرتْ إلي في امتعاض: اليوم ظل ساعتين على وقفته تلك، وكأنه يود التقدم وعبور الشارع حتى يكلمني دون توقف، ولكن هناك ما يُحجِره في مكانه، وقفة حيرى ومحّيرة، مثل مشاعري نحوه، لا تقبل الانفكاك لحد الآن من تناقضاتها...

ـ وقد يكون هذا حاله الذي لا يريد أن يفصح عنه أمام أحد، ولا أمام نفسه...

 تسند مرفقيها إلى سياج اليخت المعدني، تنعكس على خصلات شعرها وجانبٍ من صفحة وجهها أنوار السبوت لايت متفاوتة الألوان ما بين القرمزي والأزرق الداكن والأصفر الخامل، المطلة علينا من سقف الكابينة...

تضحك بشدة:

- وقد يصل هذا الحب إلى درجة القتل، لأني الآن جزء من نجاسته الذي يود نبذها عنه، مثلما أراد التخلص من هويته وذكرياته القديمة من قبل...

ـ أنتِ تضخمين الأمر كثيراً، مسعود في النهاية غير قادر على إيذاء أحد مهما وصل به الأمر.

ـ ولا حتى نفسه، أنا كنت بعض نفسه، وقد أكون لحد الآن كذلك... عموماً هناك رجال تستشعر حاستي تتبعهم المستمر لي، في كل وقت وأينما ذهبت وسافرت، بأوامر من أبي، رغم عراكنا المستمر لإصراره على فرض سطوته عليّ مهما حاولت التحرر من دنياه، يأمر بتبديلهم بعد كل مشاجرة، وهذا ما يخيفني عليه، ربما بذات درجة الخوف الذي يسببه لي...

 أواري سخريتي من رسالة التهديد التي تود إيصالها إليه عن طريقي بجرعةٍ كبيرة من علبة البيرة الباردة، أكاد أغص بها مثلما أغص بتساؤلي عن الأماكن السرية، غير المكشوفة حتى لديها، طيلة وقت مكوث مسعود في فراشها حتى يتمكنوا من صد الخطر في الوقت المناسب، وعن سبب رضوخ عضو الكنيست المرتحِلة عيونه المتلصصة مع ارتحال ابنته المدللة بين مدن الدنيا لمثل تلك العلاقة الشاذة منذ بدئها...

أرمي بنظراتي صوب ظلمة البحر اللا متناهية لناظرينا: أنا لا أعرف عنه شيئاً حتى من قبل زواجه، وآخر مرة رأيته فيها تعاركنا عراكاً قوياً.

تدير وجهها نحوي:

- بسببي؟...

ـ بسبب أمور كثيرة، وأنتِ تعرفيه عندما يبدأ بالسخافة...

ـ أقسم إنه اتهمك بمعاشرتي...

 ينضم صمتي إلى فلك السكون الذي يضمنا، خاصة بعد إخراسها هدير المحرك...

أجذبها إلي برفق، أهمس في أذنها مزحتي الشقية:

- وللأسف، لحد الآن أنا بريء من هذه التهمة...

تكركر وتدحجني بنظراتٍ معاتبة:

- أنا لست ابنة شارع حتى أتنقل بينكما، أم أنكم تعتبرون أن هذا حق مكتسب لكوني إسرائيلية؟

أرفع رأسي نحو السماء في تذمر: يا اللــه... أقسم إن عدد وسمك القضبان داخلك أكثر من التي في داخله بمرات...

 تميل بوجهها نحو البحر في صمت، تتنهد عالياً حتى أقبلها من خدها بخفة تجعل الكلام ينساب مدراراً من شفتيها رمانيتي الطلاء...

ـ البحر فقط يشعرني بحريتي... حرة من كل شيء، كل ما فرض عليّ ولم أختره، وما اخترته في طيشٍ أو غباء ولم يفدني الندم عليه... لمَ يتهمون البحر دوماً بالغدر؟... البحر ملاذٌ للفارين من قهر وبؤس اليابسة... صراعات وسفك دماء منذ أقدم العصور، نلقَن على حكاياتها منذ الصغر، تكبَل بتناقضاتها عقولنا من قبل رجال الدين وكتب التاريخ، الحقائق مشتتة وباهتة، موزعة في ألف اتجاه، وكل مسمى لدينا منها غير المصلحة زائف، صدقني، أما البحار فكلها متساوية، بقوانينها وبأسرارها وبقراراتها الصارمة، يعني لو هاج البحر وقرر الآن ابتلاعنا، في هجمة واحدة، هل سيفرّق بين ديني ودينك، معتقدي ومعتقدك، الجنسية، اللون، العرق...

ألفُ ذراعي حول رقبتها الرشيقة، فلسفتها البحرية تطّوح نبرة صوتي:

- البحر ينادينا الآن وبإلحاح، إياكِ والتغاضي عن نداءاته فيصب غضبه علينا...

 أسمعُ نداءها المتعالي مرة إثر أخرى، يتزايد اضطراباً ودهشة متوجسة وأنا أعابث الموج ويعابثني في دلالٍ واسترخاء عميقين، ذراعايّ تجمعان المياه وتفرقها برشاقة فرشاة تتلوى ضمن محيط لوحة دائرية الشكل، يتوهج بياضها بانسكاب ضوء البروجكتر الساطع فوق زرقة القماش الحريري، حيث تستدل عليّ...

تصيح معاتبة:

- أما اتفقنا أن تنتظرني حتى أدخل الكابينة وألبس المايوه، يا مخادع...

 أخذت ترشقني بالماء بقوة وأنا لا أكف عن الضحك والحملقة في حمالة الصدر الأرجوانية، تكاد لا تخفي إلا المنطقة المحيطة بحلمتيها البارزتين...

ـ يعني لو أغرقتك الآن من يمنعني، أنا سباحة ماهرة وقوتي في الماء تفوق قوتي على الأرض..

ـ لن يمنعكِ شيء يا حورية البحر، وأعدكِ أني لن أحاول الدفاع عن نفسي، أنا يا حبيبتي فاقدُ للهوية ولن يفتقدني أحد، لا هنا ولا في أي مكان، والمتوسط حبيب العرب، لا يمكنك عد الجثث التي عبث بها منذ الفتح العظيم ثم عادت أمواجه تجرجر خيباتنا إلى الطرف الآخر، والآن تلتقم قواربنا المطاطية المتسللة مثل خفافيش الليل في غمضة عين... كما أن رجال والدك الذين يحومون حولنا من تحت الماء مثل الضفادع البشرية يمكن أن يساعدوك بكل تأكيد...

لطمت وجهي وقهقهاتي بصفعة ماءٍ مداعبة:

- آه منك يا لئيم...

 في حلقة ذراعي المحاصرتين يهتز قدها الراقص على دفق الموج المتصافق من حولنا، جسدها كله يتماهى مع أطرافي في صعودٍ وهبوط مترقرقين، يهصراها إلي في شبقٍ يكاد يبلغنا رعدة النشوة...

تحط رأسها على كتفي:

- بهذه السرعة نسيتَ لوسيا؟...

ـ أما قلتِ إن البحر يحررنا من كل شيء؟ سطوته علينا جباااارة، جبارة...

ـ ولكننا من أهل اليابسة وسنعود إليها مرغميْن... أرجوك لتبقّ صداقتنا كما هي، ولو لأطول فترة ممكنة حتى لا تفقد الكثير من معانيها التي أحتاجها الآن أكثر من أي فترة سابقة...

 نلقي بجسدينا المنهكين عند مؤخرة اليخت على كرسيين من كراسي الساحل الخشبية، ذات المساند الظهرية المائلة للوراء والقابلة للاستقامة، مثبت عليهما فراشين إسفنجيين رماديين، ناشهما البلل قبل أن تجلب برنصين من الكابينة، لا أدري إن كان مسعود قد ارتدى أحدهما قبلي، أو آخرون سوانا، وكم مرة؟...

 استنزفت رقصاتنا الشبقية قوانا تماماً، الكلام يفر من شفاهنا ما بين إغماضة يستدرجني النعاس إليها وبحلَقة خاطفة في النجوم متأرجحة اللمعان بدورها في بحر السواد فوقنا، أتثاءب بقوة، فتتمنى لي الأنوار المضاءة من خلفنا نوماً هانئاً فوق السرير العملاق المتمايل بين هدهدة الموج دون حركةٍ كبيرة تصدر عنه... أستيقظ مع تهلل فضية ألوان الفجر المنعكسة على تكور جسدها المُشتهى، كما تخيلته تماماً وأنا بين أحضان لوسيا، كل شيء فيّ مستثار ومحبَط في ذات الوقت، يئن جسدي من تقلبات نومي غير المريح وحدة لسعات البرد المباغتة التي تعتقني من ترامي أحلامي بين الأوجه والأمكنة حتى وجدتني أرسو أخيرا عند موانئ تل أبيب... أخلع برنصي وأغطيها، فتومض في شفتيها ابتسامة امتنان لا تغادر سكنى النوم...

 صوت المحرك يوقظها، ترتدي ثيابها، تقّبل شفتيّ، تسألني إن كنت قد تمتعت بنومي مثلها، تمر قبلاتي على وجهها ممطوطة بامتعاض من وصل البحر وعاد يلهث بعطشه، تتفلت من بين ذراعيّ بغنجٍ وتدفعني عنها لتتولى القيادة بدلاً مني، أرقب الموج المنزلق على جانبي مقدمة اليخت حتى وصولنا المرساة، أهجس أني قد فارقت اليابسة أمداً طويلا...

 لا أحس باستقرار الأرض تحت قدمي إلا عند جلوسنا في كافتريا مطلة على الشاطئ من بعيد، نتناول وجبة إفطار بمتعة وشهية من لم يتناول طعاماً منذ أيام... أفضٍل المشي إلى الشقة مستمتعاً بزقزقة العصافير وخلو المدينة إلا مني وبعض المارة والسيارات، أمضي من حي إلى آخر بخطوة متصاغرة عن الأخرى، داخل رأسي يشب صداع يولده دوار، أو العكس، تنفرط الأوجاع في عظامي، أغالبها حتى وصولي الفراش، أتركها تواصل الأنين تحت غطاء أسحبه من مؤخرة السرير حتى يسعفني مسكِن النوم وأنا أهذي بوجوب نهوضي وذهابي إلى شقة الحاجة بلقيس لأبدأ رسم إحدى اللوحات، أصنامها التي تبعث فيها نفحاتٍ من الحياة...

*      *      *

«شنو ممكن أشوف من الدنيا أكثر من اللي شفته؟»

 جملة لا تنفك السيدة المكلومة عن ترديدها لدى وقوفها الطويل، المشفِق وغائر الحنق، عند صورة ولدها قيس المختطف في العراق، نقلت الخبر عدة فضائيات، في ذات وقت ولوجي دنيا سارة السحرية، ولم تعلن أية جهة لحد الآن مسؤوليتها عن اختطاف الصحفي الأسباني، عراقي الأصل...

 لم يخبرها طبعاً عن عزمه على السفر إلى هناك، بعد غياب عقود، ولا لماذا الآن بالتحديد. «وحتى لو خبَرني، كنت قادرة على منعه؟... لو كنت قادرة على شي ما كانت كل هذه الفرقة حصلت بينه وبين محمود.»

 كنت وسلوى عندها وهي تكلم محمود... تصرخ، لا حد لاستشراء غضبها بعد كل لحظة أو لحظات صمت، تلعن أعماله مع الأمريكان وغيرهم في العراق، تصر أنها السبب الحقيقي، وراء عملية اختطاف أخيه، غير مقتنعة بما يقول وما تنقله إلينا من كلامه... يقسم لها إن الأمر يخص عمل قيس وحده وخبال تخيله العنتري الذي تعرفه عنه جيداً، مع ذلك يعتبر نفسه المسؤول عن استرجاع شقيقه بأي وسيلة كانت... نصغي أيضاً لتكسر صوتها واختناقه، تتوسله ألا يخاطر ويذهب إلى أرض الجحيم هو الآخر، عندئذٍ يتضاعف رعب هواجسها من فقدانهما معاً، وأن يبقى في الأردن ليتابع الفاجعة من هناك عبر اتصاله الدائم بوسطاء أو موظفين لديه وهي لن تنفك عن الاتصال به، تبلغه إنه قد يفاجأ بها أمامه في عمان إن لم يتصل بها كل ساعتين على الأقل على مدار اليوم، ستمضي دقائقه عليها دهوراً لن يصمد أمامها مفعول أي مهدئ أو منوم، عويلها ولوعة بكائها عند كل نوبةٍ عصبية متوحشة ومستوحشة تنهر كل من يحاول الاقتراب منها أو تخديرها بكلمة صبر تفقد معناها بين شفتي قائلها...

 تنقل إلي صورة أمي الناحبة استشهاد أخي، تسترجي الأقدار إعادة النظر في قراراتها الحتمية، اعتزلتنا فترة من الزمن، وكأننا أضحينا غرباءً عنها، وكأنها لم تنجب سوى من فارقها الفراق الأبدي، تعد كم عاماً يمكن أن يمضي دون لمس وجهه وضمه إلى صدرها المتقيح أحزاناً لا تندمل، كم حلماً يرتسم في خاطرها لمستقبله المستباح من قبل دود الأرض... يتزوج ويجد من يسكن إلى صدرها، فما عاد حجرها بقادرٍ على احتواء رأسه المجهدة عند كل إجازة، ترقب حفيدها الزاحف أمامها على الأرض، يتمايل بتوجس عند أول وقوفه، يذهل أكثر مما يرتعب من صوت الطائرات المغيرة ودوي الانفجارات، لم تصدق أن الحرب يمكن أن تنتهي يوماً... عندما تم الإعلان ـ المتأأأأخر ـ عن وقف إطلاق النار من كلا الطرفين خرجت إلى الدرب وتبعها عدد من الجارات، المكلومات أيضاً، تزغرد وتولول في آنٍ واحد، تسح دموعاً ما أظن أنها قد انعتقت من ذرفها يوماً بمنأى عن تذمر أبي المستمر من تواصل نعيق الموت في دارنا دون كلل بينما فترات الحزن والانكسار لديه دوماً محدودة، أيا كان جلل المصاب لديه، يفر منه سريعاً، ربما لأنه تشرب كفايته منه بعد وفاة جدي المفاجئة والمبكرة، كانت والدتي ـ رحمها الله ـ تصفه فور خروجه الغاضب من الدار بغلاظة القلب، لا يفكر إلا بذاته وبملذاته، ينفق عليها في سفه المراهق المستزيد حماقة ورعونة كلما نمت تجارته وبانت شعرة بيضاء في شعر رأسه المعتاد على الصبغة...

 أنكرتْ اتهاماته بإهمالنا، بل نسياننا بالمرة، بحدة من يدافع عن حقة في البقاء... أكان استفزازه هو ما أفاقها من غيبوبة أرادت أن تقربها قدر الإمكان من روح ولدها الراحلة إلى عالم الخلاص، مشَبعة بما اختزن داخلها من حنوٍ أمومي مضاعف، تستمده منا قبل وهبه إلينا؟... عادت لتلتحم بنا بشكلٍ مرضي، احتملنا ـ المتزوج منا قبل غير المتزوج ـ ضيق رصدها تحركاتنا...

 انفجرتْ ذات ليلة عدت فيها متأخراً، وجدتها تجلس على أرض الطارمة محمرة العينين غزيرتا الدمع كما لو أنها تجهز لنصب مجلس عزائي، تخاصمنا عدة أيام، عادت خلالها إلى صمتها الغاضب المزري، ولما أردتْ مصالحتها وجدتها هي من تتعلق برقبتي، تقبلني بحرارة ما تزال تبث الدفء في وجهي وجنبات القلب، غافلتها لدى خروجي للالتحاق بوحدتي العسكرية قبيل غزو الكويت، كانت تنوي احتجازي بأي طريقةٍ كانت، حتى لو كلفها الأمر حياتها، حين عودتي من الحرب.ـ وجدتها طريحة الفراش، بالإلحاح والإجبار والتوسل ترضى تناول الدواء والقدر اليسير من الطعام والشراب، عنفتنني، لطمتني على خدي بيدٍ لا تكف عن الارتجاف، ثم ما لبثت أن قبلت إحدى يديّ المتشققتين، أخذتني إلى صدرها بأدمعٍ يمكن أن تزفر النفس الأخير مع استمرارية ذرفها، ولكنها لم تمنعني عند اتخاذي قرار السفر إلى ليبيا، لا شيء سوى ذلك الشرود العميق الذي يأخذها كل حينٍ إلى لجته، يستولي على عينيها كزاهدة متصوفة أدركت ألا فائدة من فعل أي شيء إزاء أي شيء، وأن بقائي سوف يلقي على عاتقها عبء تحمل مسؤولية ضياع سنوات متسكعة من عمري بلا عمل، أو فقداني في مغبة حربٍ جديدة لا تترفق بما خلفَته لها الفاجعة السابقة...

 متأكدٌ الآن إنها كانت على يقين بعدم رؤيتي ثانيةً، فلم ترضَ ذراعاها إفلاتي إلا تحت ضغط زمجرة أبي المتواصلة وزمور السيارة التي أقلتني إلى عمان، التي صارت تصر الخالة بلقيس على السفر إليها، ولو كلمها ابنها كل ساعة، يزودها بأخبارٍ مبهمة جوفاء تلهب حرائقها أكثر فأكثر...

 تتبعت تأوهاتها المبتعدة عني نحو غرفة النوم، بمعونة سلوى والفتاة الفلبينية المحتضنتين لها، تنشجان دموعٍ شاءتا لها الخرس التام والجئير الحاد يتحشرج في حنجرتها...

 فررتُ من الشقة الفارهة والجدران المقبِضة، من الأنوار التي أبصرتها شحيحة، تتلفع بغلالة رمادية، كوشاح الحداد المنسدل على أوجه الثكالى، فررت إلى دروبٌ أمضي فيها ولا أعرف لها اتجاهاً، الشمس تجنح كعادتها إلى المغيب، تمتد أمام بصري شوارعاً غريبة، لغات ولكنات ولهجات في عالمٍ مهجن، انبهاري به قد أوشك على النضوب، إن لم يكن قد نضب فعلاً، وكل ما أفعله الآن هو بمثابة التهرب من المنعطف التالي، الذي لا ألمح منه طيفاً يجذبني إليه... ليتني مثلك يا بيكاسو، عرفتَ جيداً متى تأتيك شهقة الموت فاستبقتها بشهقة حياة عظمى تأججت صيحاتها الأخيرة في حصن إحدى عشيقاتك، وكأنك وددت ـ أيها العجوز المكابر ـ أن تتسيد الحياة حتى اللحظة الأخيرة، لكن الناس في بلادي تسكنهم رجفة الموت كل ساعة، لا تمنحهم فرصة التقاط الأنفاس حتى، الحياة في وهج شموسنا تَزفرهم بنزقٍ مقرف، في صيحاتهم انهيارات المستسلم مسفوك الدماء تحت وقع أقدام الدنيا ... أما أدركتَ مثل هذه الفواجع، وربما أفظع، خلال حربكم الأهلية، وجلست تتفرج من بعيد، مأخوذاً بجنون وخيلاء الفنان فيك؟... لا تدع شيئاً يحيدك عن الطريق الذي سجلتَ أساطيرك فيه، ولكني لا أعرف الآن حتى طريقي إلى شقتي، الصداع والدوار يعاوداني، تتلبسني حمى الأمس الثقيلة، تلفني نسائم الخريف ذابل الألوان، أشم فيها رائحة المطر ولم يتشكل جنيناً في رحم السماء بعد...

 صمتها ودمعاتها في محجريها، شحوب وجهها وبروز تجاعيده يتمازجون مع الفصل متباين درجات الحرارة ما بين ساعات النهار والليل، يلوِح بالبرد ويهدد بانهمار المطر بغزارة تفرغ الشواطئ من عشاقها، الريح تشتد زوابعٍ تتناوش المدينة البحرية... صفقها يدوي في أذنيّ بينما كنت أعمل على إحدى اللوحات الصغيرة في قبو البزار، أسَجي وقتي الكئيب بمعزلٍ عن كل ما يحوطني...

 لم أتدخل، كالعادة، في الشجار الناشب بين بودو وحسن، يعلو ويزمجر ثم يرسو إلى السكون فجأة، أعرف إن بينهما الكثير من أسرار العمل التي لا أود زج نفسي فيها، وإن كانت تغويني رغبة قوية للاشتباك في أي عراكٍ شرس يصرخ بما رسخ من مخالب اتهاماتها بين جنباتي... جريحٌ كان انكساري أمام امتعاض وجه أمٍ مكلومة بضياع ولدها في عتو الطوفان الطاغي على كل شيء، أسعى في رجاء لدحر فكرتها عن طمعي في مالها بعد أن صارت تعاملني بمثابة ابنٍ ثالث لها لا رجل من رجال بودو، كل ما يربطني بها اللوحات وأثمانها ومحاولات التلاعب بكلفها، وما دام العمل قد توقف، إلى أجلٍ غير مسمى، فلا علاقة لي بأوجاع عجوز يقهرها الخوف من عدم تمكنها رؤية ولدها المختطف مجدداً... عجزي عن مواساتها في مثل هذا الظرف الذي يلّي الأذرع أكبر من قدرتي على الاحتمال بكثير، ولكني أيضاً لم أجد القدرة على مواصلة التهرُب من استنجاد وحدتها ووجع الفراغ المتوغل فيها كمرضٍ ينسَل إلى كل خلية في جسدها، دقيقة إثر أخرى... سلوى لديها أعمالها التي لا تستطيع تركها اليوم بطوله، كما أنها تحضِر لافتتاح عرض جديد، في النرويج هذه المرة، كَنتها تعذرت بمرض الحفيد والخوف عليه من السفر، وأيضا عدم قدرتها على تركه مع والدتها، كذبة رحبتْ بالتواطؤ على تصديقها، وإن أسر قلقها على صحة الصغير فيما بعد بعضاً من ذاتها الممزعة في أكثر من مكان، كانت تعلم تمام العلم أن لا فرق بين وجودها إلى جانبها في هذه المحنة من عدمه، ولم تكن لتسكت على أي تصرف يأتي منها أو كلمة انتقاد تنطقها تفاهتها بحق قيس، وهي تعرف إنها أكثر غلواً من زوجها في سخريتها وتعليقاتها السخيفة على أسلوب حياته وطريقة تفكيره...

 أدخلتني غرفته الأنيقة المرتبة، لا تكل من الإشراف على الخادمة لدى تنظيفها وتهويتها، رغم تأكدها أن عناده لن يلين يوماً، اصطنعتْ المرض خلال إحدى زياراته السريعة للمدينة الأندلسية، عسى أن يجبره ذلك على البقاء معها تحت سقف واحد، تؤنس قلبها أنفاسه القريبة منها، تحوطها سعادة سماع دبيب خطواته الحذرة ليلاً للاطمئنان عليها، سعاله الذي يحاول كتمانه كي لا يوقظها، يغالبه بين الحين والآخر نتيجة إسرافه في التدخين، لا سيما عند الكتابة، ما زالت تتذكر أول قصة فاجأها وفاجأ والده بها، مستوحياً أحداثها من المجلس الثقافي ـ السياسي المصغّر الذي كان يعقد عندهم كل فترة، يسبق مستوى كتاباته وقراءاته النهمة سنه بكثير، اضطراب اتفاقه واختلافه في الرأي مع هذا أو ذاك عدة مرات في الجلسة الواحدة قد ينال غضب أبيه، يحذره من حدة نقاشاته الجدلية بلا مراعاة لفارق العمر بينه وبين الجالسين، يجيبه أنه المخبأ الذي يستتر خلفه سريعاً من يجد إن الحجة المقنعة تتهاوى منه، يصفه بالمغتر المزهو بما يظن أن أحداً لم يسبقه في طريقة تفكيره وتحليله، انفعال ظل غمامته الكابي يزول عن الجلسة بسرعة بعد تذكير رفاقه له بحنقهم وتشددهم بآرائهم لما كانوا في مثل عمره، في المقابل ينزرع في وجهه خجلاً خفيفاً يعاجله بنكتةٍ تداعب الجمود المحزِز قسمات الوجوه، تحيله إلى قهقهات نادراً ما تسمعها من أسباني أو أوروبي...

«أحنا أستاذة العويل الصارخ والضحكات الخشنة العالية بلا منافس.»

 شهقة بكاء جددت التماع الدمع في عينيها مع ترديدها جملته الساخرة التي تتتابع أصداؤها في أذنيها... مع مضي السنوات صار يهزأ أكثر مما يحنق على جلّ ما يصادف في حياته وتجواله الصحفي...

 احترافه قراءة ما بين الأسطر وما ينتثر في أروقة السياسة هنا وهناك بالإضافة إلى انغماس بصمات شخصية والدته في عقله، كشفا له خدعة مرضها سريعاً، خيّرها عبر الهاتف، إما تسارع لارتداء ملابسها والذهاب للقائه، أو يركب أول قطار يعود به إلى مدريد، صرفت سائق سيارة ولدها الغني الفاخرة بمجرد وصولها المطعم المتواضع الذي اعتادت لقياه فيه تجنباً لمزيد من سخرية تعليقاته على رغد عيشها في كنف أخيه المليونير بعد عمرٍ من الاضطهاد والتشرد أمضته مع زوجها في غمار التجرد والمبادئ الاشتراكية التي ربياهما عليها، أخوه مغتنم الفرص الميكيافيلية المزدهية بأهوال بلدهم المهتوك جوعاً، تستسهل إقناع نفسها بردودٍ تستخف من عقم تفكيرٍ تخشى أن يستلب الانصياع إليه كل ما تتنعم به من ثراء حرمت منه عمراً بأكمله ثم لا تلبث أن تتسرب سخريته إلى كل ركعة صلاة تؤديها حتى في حرم الكعبة المقدس...

 تلتهب أمعاؤها مع كل لقمةٍ تأكلها، فترجِع آلام قرحتها الحادة وأكثر الأمراض التي تعانيها لأسباب نفسية لا خلاص منها إلا بعودتها إلى بغداد والمطالبة بتقاعدها ومبلغ تعويضي عن بيتهم المصادر ـ أفضت إلى سلوى بعزمها على ذلك الهروب أكثر من مرة ـ تمضي السنوات الباقية قرب من تبقى من أخوتها وأقاربها، دائمي الحسد على ما ترفل به من سعادة وطمأنينة في أجمل بقاع العالم، غير أن رغبتها تلك لم تجرؤ على مبارحة أفق الخيال، تعاود إخبار المرأة العجوز بعدم قدرتها على إحالتها إلى حيز التنفيذ، تتيهها في دوامات أكثر عمقاً وأوسع مدى، تثابر على تداركها بصلاة الاستغفار وترتيل القرآن المستمر، يداخل رهبتهما نحيب شبه مستمر خلف باب غرفتها الموصد، تشتري ما تشتري من تحفٍ فضية وكريستالية، لوحات وسجاجيد وبرفانات غالية، تشغل بالها وتزخرف الفرحة حياتها لبعض الوقت، ثم تضاعف حيرتها ووساوسها أوقاتاً وأوقات...

*      *      *

 سألتني سارة إن كانت تستطيع استعادة بيت جدها أو أخذ تعويضاً عنه، بورقة مهلهلة مختومة بختم الدولة العثمانية...

أجبتها ضاحكاً أهز كتفي: كثير من البيوت القديمة المصادرة باقية على حالها حتى اليوم، منها ما تحول إلى دوائر صغيرة، اذهبي وجربي حظك، فكل شيء جائز في العراق الآن، وكل شيء مشاع، إلا لأهله...

حدجت نظراتها الغضبى في وجهي:

- أنا من أهله، وأهله القدامى أيضاً...

 قطب الاستغراب وجه الخالة بلقيس من سبب تبسمي المفاجئ وهي تحدثني عن بيتهم القديم في منطقة اليرموك ببغداد ومدى حنينها المتزايد إليه، رويتُ لها ما تذكرته عن سارة عند أول تعارفنا، فأثارتني مفاجأة معرفتها بها عن طريق سلوى، رافقتها إلى الجاليري الثري بمعروضاته، استقبلتهما بترحابٍ شديد ورافقتهما في جولتهما بين اللوحات، مبدية كل إعجاب بذوق السيدة العجوز وذائقتها الفنية الراقية... عرضت تخفيضات تغري بمزيدٍ من الشراء، كما يفعل أي تاجر شاطر، وعندما أخبرتها عن بحثها الدؤوب عن التحف الفلكلورية عتيقة الصنع وعدتها سارة أنها يمكن أن تحضر لها كل ما يخطر لها على بال، من بغداد دون سواها، متلعثمةً في نطق سوق الصفافير بصورةٍ مضحكة...

 ما عرفت من سلوى إنها يهودية ـ إسرائيلية إلا بعد ذلك مما جعلها تتردد كثيراً في قبول دعواتها المتكررة لهما على الغداء أو العشاء في أفخم المطاعم، متذرعة بشتى الحجج حتى انعدم أمامها أي منفذ لقبول إحدى تلك الدعوات، كانت دعوة عامرة، عرفت سارة كيف تبهجها بحوارات ونكات وجدت الطريق لولوج قلب المرأة الستينية ذات الوجه حنون القسمات، على الأقل طيلة فترة جلوسهنّ المسترخية على ضفاف المتوسط، وإن لاحقها شيء من الدهشة، وربما التوجس، إزاء حفاوة الفتاة الودود المبالغ فيها بينما كانت سلوى تعتبر الأمر جد طبيعي إن أتى من قبل شخصية مثل شخصية سارة التي عانت اليتم منذ صغرها، إسرائيلية نعم، ولكنها منفتحة بقلبها على كل بني البشر... وجدت الحاجة نفسها مضطرة لدعوتهما على الغداء في شقتها بتوسل من سلوى، تلبيةً لمطالبات سارة المحرجة، على أن تعد لهما أكلة متفردة بعراقيتها... أكلت بشهية استغربتاها، أشادت بكل شيء في الشقة الأنيقة، وقصت عليهما أيضاً ذكريات جدها في بغداد وكل ما رواه لها عن بيته في الكرادة، بكل ما لها من قدرة على سرد التفاصيل، كما لو أنها أمضت فيه سنوات عمرها ولم تتركه إلا منذ مدة وجيزة وتستعد للعودة إليه في أي وقت، مما فاجأتهما بكلماتٍ عربية وبالعامية العراقية الصرفة ـ تكاد تتحكم بمخارج الألفاظ ـ التي يصعب على سلوى فهم بعض مفرداتها...

 كل تصرف عفوي تصرفته معها بأدبٍ جم، كان لا بد أن يدفعها لاحتوائها ومعاملتها كابنة لها، إلا أن الاعتذار والتهرب حتى من الرد على مكالماتها ظل يتواصل بحجة السفر أو الانشغال أو مرض النسيان أو أو...

ـ لأنها يهودية؟...

ـ إسرائيلية، بالعراق ما كانت عندنا أي مشكلة مع اليهود، بالعكس، ولحد الآن أعرف عوائل يهودية مغتربة وما لها علاقة بإسرائيل أحس كأنا بعدنا جيران بنفس المنطقة، بس هناك ثوابت تتربى مع الإنسان، صعب أو مستحيل تغييرها، و... هي بنت محيِرة، وغريبة، ويمكن مسكينة، تريد تجميع كل جزء متنافر من هويتها بهوية واحدة، شي داخل بشي، يصعب التعامل ويّاها، أراهنك... حتى هي بأوقات كثيرة ما تعرف من تكون ـ نظرت نحوي وكأنها تحذرني ـ واللي يقترب أكثر من اللازم منها ممكن يتعرض لمتاعب ما لها خلاص...

ـ وأحنا، كل العراقيين، لنا هوية محددة؟... هنا أو في أي مكان، حتى بالعراق نفسه، طوائف وأديان وقوميات وأحزاب وكتل ومليشيات...

صمتتْ لفترة حتى ظننتُ أني قد أغضبتها بانفعالي المفاجئ...

قالت: تتصور اللي خطفوا قيس يعاملوه كعراقي لو أسباني...

ـ المهم سبب خطفهم له...

 تتابعت دمعاتها، ترثي حلمه القديم بالحصول على جنسية عراقية حتى لو كانت مختومة من قبل حكومات التحرير، كما تندرَ بتسميتهم مرارا...

ـ الحمد لله أنه ما حصل عليه، يمكن جوازه الأسباني يعجل بالإفراج عنه، لأن صاحب الجواز العراقي بالعراق ما له ثمن، ما أحد يهتم له ولا سفارة تتابع أمره، ولا حتى يذكرون اسمه بنشرة أخبار...

«لمَ أنت هنا وهو هناك، في بلادٍ لم يعرفها إلا من خلال السمع والقراءة؟.»

 سؤال أو استجواب أخرس لم ينطق به لسانها، حشرجة صداه تتشظى داخلي طويلاً، لا تترك لي مجالاً للرد ونحن نتابع بحسرة تدافع أخرى خبر الصحفي ـ عراقي الأصل ـ وهو يتقهقر في الأعلام إلى خبر ثانٍ ثم ثالث ليتحول إلى مجرد حادث في مجرى سرد معلِق أو محلل سياسي، يتم حذفه بعد ذلك نحو الشريط الإخباري أسفل الشاشة، تعتبر ذلك تمهيداً إلى نسيان الأمر برمته أو إعلان خبر وفاته في ظروفٍ غامضة لا يجرؤ أحد على كشف ما يحفها من أسرار...

 وجهها جرِد من الحياة أو كاد، الجسد المتهالك في مقعده أمام التلفاز يمكن أن يفاجئك في أية لحظة بهيجان لا تملك قدرةً للسيطرة عليه، قد يتمكن الموت منه أخيراً، هاجسُ مخيف بشع، أنَحيه عن تصوراتي ما أستطيع، أتمسك بقوة إيمانها وصومعاتها الطويلة في غرفتها التي تتركني لأجلها، لا يصلني منها غير صوتٍ واهن مبتهل ما بين صلاة وترتيل للقرآن وتسبيح وأدعية، أدعية كثيرة وسريعة، وكأنها تسابق كل عذاب قد يتعرض له ولدها المختطف...

 صارت ساعات عزلتها إشارة توجب عليّ الانصراف احتراماً لرغبتها في عدم رؤية أحد، انفصالٌ تام عن الدنيا تتعطش له روحها بقدر استجدائها الحياة الضائعة في بلاد المهالك... أي طرف خيط متهالك أنساق وراءه إلى هناك، للكشف عن ماذا، وأي شيء لم يُكشف بعد في مسرح الفواجع، ماذا أرادَ أن يثبت، لنفسه ومن ثم للعالم المتابع أنهر الدماء سريعة الجريان لدى جلوسه على الكنبات الوثيرة زاهية الألوان؟... فارسٌ في ميدانه أم أخطل يحب لفت الأنظار كما يظنه أخوه قبل غيره؟... ولكن هذه المرة المقامرة جد خطيرة، والمراهنة عليها ثمنها حياته، وربما حياة أمه أيضاً، المرأة التي أتركها مخذولاً مطأطأ الرأس في الأمسيات الجريحة، لا أدري إن كنت سوف أراها ثانية أم أفجع بخبر وفاتها، راكعةً أو ساجدة، أو بين مزق ما رسمت من لوحات ركنَتها في صفٍ واحد إلى الجدار المواجه للنافذة في الغرفة، الممنوع عليّ دخولها، إثر نوبة هستيرية طاغية، حتى لو كنت موجوداً لا أعرف ما يمكنني فعله عند رؤية تقطيع أوصالي بين كماشتي يديها وتحت وطأة قدميها الثقيلتين حتى تأتي على آخر تحليقاتي الحرة، ربما تتمثل لها شواهد قبور تجمد أمامها طويلاً في نحيب متواصل، أو صفاً من معزين متلفعين بالحزن، يضمرون الشماتة والاستخفاف بنزوتها المجنونة، نذير الشؤم المستحضِر صيحة الأقدار الأخيرة فيها، أوصدتْ بابها في وجهي بحزم من يدافع عن سر من أسراره الدفينة، لم تردني أن أطأها بقدميّ أو أمسك فرشاةً تنغرز كالسكين في جسدها عند كل لمسة وحركة تحدد شيئاً من ملامح وجه أو ابتسامة تشتاق إليها أشد الاشتياق، ولم تعرف إن يديّ ملتحمة بذات الانفعالات التي تشلها، كانت ستتخشب تماماً ولن تحسن التعامل مع ظل جانب وجهٍ واحد رغم توق مشاعري للتفجر على آلاف اللوحات، لوحات تهزم البياض القاهر الذي راح يتلبسني، يود محوي كلونٍ باهت لن ينتبه إلى اختفائه أحد، يصادر منك الحياة وأنت تدب في مراميها، دون أن تخلِف وراءك أي أثر أو تبصر شيئاً من طريقك الذي تمضي فيه...

 شعور يكاد يلازمني كل مساء، يستفحل بي مع كآبة الغروب تحديداً، لا جماليته التي كانت تسحرني عند خروجي من بازار بودو الذي صار يحوِلني إلى آلة لا تعرف ما تفعل أو ترسم، ورغم عبوسي الدائم في وجهه كنت أرحب بذلك الاستنزاف في قرارة نفسي تهرباً من تلك الحالة المأزومة التي أرستني إليها مأساة العجوز المعقدة.

 صارت تملُني كما ملّت الجميع وقد لا ترضى الخروج لمقابلتي... أتركها تتصل بي في أي وقت تشاء، تخرسني بعتابها لعدم معاودتي إياها، وكأني قد تخليت عنها في صحراء مقفرة، تأمرني بصرامة ملتبسة برجاء كهولتها ومصابها أن أنفضَ كل شيء عني وأعاجل بالذهاب إليها، وأن أبصق في وجه بودو إن وجدتُ لديه ممانعة في ذلك، فكان الآخر يتوسلني ألا أفارقها كي أجنبه وابل شتائمها واتهاماتها له بمنعي من زيارتها لمجرد أن العمل في المعرض الخاص بها قد توقف، أجدها أكثر شحوباً، تأكل وتتناول الدواء مساقة فقط بأمل رؤية – قيس - من جديد، وإن شح ذلك الأمل مع الأيام...

 تنبسط تجاعيد وجهها عن ابتسامة تمر على وجهها كشهابٍ خاطف لدى وصولي السريع إليها حيث تتكرر ذات معاناتنا وبذات التفاصيل تقريباً حتى أجدني أسير صوتها في خشوعه الرباني، تتزاحف عليه رخاوة تلوي أعناق مخارج الأحرف المترسبة من شفتيها وعضلات وجهها المجهدة، تنهل من خمر الصبر ما تستطيع، أما أنا فلا أجد وسيلة للفرار من انسكاب مراراتها في صدري سوى ثمالة علب البيرة على الشاطئ بارد النسمات، دون ارتواء...

*      *      *

 فتيات الليل صرنَ أفاعٍ في فراشي، أعطيهنّ ظهري بمجرد سماعي أواخر أناتهنّ شبه المبرمجة أو المتأففة من العربي الذي لا يجيد المضاجعة، يشاركهنّ الفراش في امتصاص أكثر مائه، فجور الضحكات الصادحة في أذنيّ لدى خروجهنّ أمر لا يعنيني بالمرة، كما لو كنّ برفقة شخص آخر لا يمت لي بصلة ولا لعاشق لوسيا الماهرة في إعادة صياغة الأشياء ومزجها في خليط بلوري مشِع من الشعر والموسيقى والحب والشهوة، ترنيمات خاصة بها دون سواها، يا للوثة زهدي بها ولؤم هفواتي نحو سارة المتفلتة مني في البر كما فعلت البحر... تلاقينا بعد جولة اليخت تلك عدة مرات خاطفة، كل مرة أجدها في عجلةٍ من أمرها، سألتني عن سر اختفائي، فأجبتُها عن أزمة العجوز ومدى احتياجها لمن يلازمها أطول وقت ممكن، أبدتْ تأثراً مصطنعاً لا يخرج عن نطاق المجاملة أو الشفقة على حال زبونتها الثرية متذوقة الفن الراقي... كانت كعادتها، مشعة الجمال والأنوثة والحيوية، بالإضافة إلى فرط حماستها المتأججة مع بدء العمل الجدي وبخطى متواثبة في مشروع الحمام الأندلسي، إعلاناته كانت قد بدأت تنتشر عبر المحطات الأرضية والفضائيات بقوة، وكذلك في ساحات وشوارع المدينة، واجهات معدنية كبيرة تشع بضياء البروجكترات ليلاً وأشعة الشمس بتباين قوتها نهاراً، لا تنال الأمطار قوية الرشقات شيئاً من توهج ألوانها، بل تزيدها ألقاً على ألق، تحيينا بابتسامتها البارزة دون كلل... بالقرب من إحداها صادفت مسعوداً، يمشي عكس اتجاهي، على ذات الجانب الذي أمضي فيه، حسن الهيئة، مرتب الهندام، لا بد أن زوجته قد أنقذته من كي الملابس الذي لم يتقنه يوماً، لحيته خفيفة مشذبه وكذلك شاربه، لا علاقة له بالوصف الكاريكاتوري التقليدي الذي وصفته لي يوم جاءتني مرتابة من نظراته المبحلقة في واجهة محلها عن بعد... كم أوجعني أن تكون المسافة بين كفينا على تلك المقربة دون أن يصافح أحدنا الآخر، تجاوزنا بعضنا أمام النصب الإعلاني العملاق من غير أن تصدر عنا ابتسامة مخادعة حتى، بعد عدة خطوات استشاط بي الغيظ، كدت أدير رأسي نحوه، أهتف به، ألحقه، أشتمه، ولعلي أضربه، ثم أجبره على احتضاني... حمدتُ الله أني لم أفعل وأني قد تجاوزت تلك الهفوة الرومانسية سريعاً، فلا سبيل حقيقي لعودة صداقة ذلكما المغتربين المستدفئين ببطانية واحدة في صقيع برد كانون من جديد، ومن ناحيتها تجاوزتُ لهفتي في الالتحاق بورشة العمل الفني الذي أتضح إنه يوازي حركة بناء مشروعها وشركائها، لا يعقبها كما أخبرتني سابقاً، لم أذّكرها بما وعدتْ أو ألمح حتى فأبدو كمستجدي عمل أمامها، مقتنعاً بكلام بودو، المضمر تخوفه من استيلائها على مهارتي في التقليد منذ بداية تعارفنا، فمثل هذه المشاريع الضخمة المشتركة لا ترحب إلا برؤوس أموال أثرياء العرب، وأكثر الرسامين العمالقة جلبوا معهم مساعديهم وبعض تلامذتهم النجباء، وبالطبع مثل تلك الأسماء الرنانة لا يرفض لها طلباً، فلو حدث وتذكرتني ثم طالبت بإقحامي بينهم فلن أجد مكاناً حتى لمراقبة سحرهم الفني وبريق الإلهام لدى افتراشه اللوحات التي قد تكون بحد ذاتها معلماً أثرياً بعد عقود وقرون، متناغمة مع البنيان الشاهق شاسع المساحة في المرئية، عندها من سوف يتذكر أن العرب هم أول من شيدوا الحمامات العامة لدى دخولهم الأندلس، أخرها ما يزال قائماً بعبقة التاريخي في طنيطلة، وحسب منطق الشيخ مسعود: لا بد من منحنا ولو بعض ما تدره كل الآثار الإسلامية هنا من ثروات...

 سأكون كالطفل المهمل المسموح له فقط بإمضاء وقت فراغه هناك لصق جدار بعيد، شرط ألا يشعر بوجوده أحد، لن أمسك ريشة ولو لمجرد لفت الانتباه، أو أمزج لوناً بآخر، حسب النسب التي يأمرني بها هذا الطاووس أو ذاك، ربما أفضل فرصة يمكنني الحصول عليها تنحصر ما بين الحط والرفع، الدفع والجر، أو ساعي يلبي الطلبات، يحمل البارد والساخن من وإلى البوفيه المقام خصيصاً لهم داخل المبنى.

 سحقاً لتلك التخيلات الشنيعة التي رست في رأسي، لا تقبل مفارقتها حتى وصولي الحانة المقابلة للنافورة البائسة أمام العمارة التي أقطنها، واجهتها الزجاجية من الداخل تجعل كل وقت في النهار وقت انزياح الشمس عن عرش البحر متضارب الأمواج بقوة حفيف ريح الخريف (المتوسط ـ أطلسية) المشتدة، تثقل المدينة برذاذ برودة الشتاء المقبل بضراوة... أثار القِدم واضحة المعالم في المكان رغم كل لمسة تجديد بعثت فيه، يهبك شعوراً بالدفء والارتياح وإن لم تفعل شيئاً طيلة يومك المتثائب الضجِر، رائحة الكحول الرخيص المعفرة بأدخنة السجائر المحلية التي تكاد لا تفارق الشفاة حتى تعود إليها مسرعة بعد رشفة أو رشفتين حادتي المذاق، كذلك وجوه أغلب رواده تبدو معروفة جداً لديك، على اختلاف أعمارهم وهيئاتهم، تظن أنك تصادفها كل يوم أكثر من مرة وفي أي مكان، وإذ بالمدينة تختزل في خيالك إلى حارةٍ ضيقة لا يمر بها غريب، تثير فيّ حنيناً غريباً لحانة كوبيكانا في مربيا وبعض أجواء البيت الشرقي، أوتار كيتار الغجري استيانو التي تغازل جمود الطاولات قبل بدء العرض وبعد انتهائه، يختار كل لحنٍ راقصته الخاصة، ينساب جسدها اللدن مع أنغامه المتفاوته علواً وانخفاضاً، تشع رقصاتهنّ مرحاً وشجناً ناعمين كهفهفة غصن يانع في ربيع دائم على مدار السنة، في رقة غنجهنّ عفوية تهدهد جلبة الجالسين وثرثراتهم حتى ترنو إلى الإنصات التام، اشتقتُ إلى أمورٍ وذكريات كثيرة هناك وهممتْ أن أذهب أكثر من مرة لولا تحذير حسن لي من الذهاب، حيث أخذت الصراعات المتخفية في بطون الأزقة الضيقة والمتلوية تتزاحف نحو الزقاق الرئيسي، يطفو على السطح بعضٌ من مظاهرها فجأة ويعود للاختفاء فجأة بين جماعة مسعود المتطرفة وتجمعات أخرى مختلفة سكنتْ الحي منذ أمد طويل وتشعبت في حَوارٍ مغلقة عليهم، تحركاتهم أغلبها تكون تحت جنح الليل المعتم كالخفافيش، وكأن هناك اتفاقيات حرصٍ وحذر فيما بينهم تجنبهم الشباك الأمنية المتوفزة للانقضاض عليهم دفعةً واحدة، مع أن الرشى المدفوعة من هنا وهناك لها أثر غير قليل في تثبيط العزائم، قد يحتد الأمر إلى مناوشات واصطدامات دامية محدودة لا تنصاع لأوامر ضبط النفس إلا أنها لا تخرج عن نطاق السيطرة في كافة الأحوال، وقد يلجأ فريق إلى حماية نفسه من خلال حماية الآخر، والخائن جزاؤه معروف لدى الجميع، ولكن بعيداً عن المنطقة المحصنة لدى الجميع... عالم سري، أو عالم ما تحت الأرض كما يطلق عليه عادةً، يستمدون من قوانينه الخاصة والمتقنة بقاءهم وضمان استمراريتهم...

 كل كلامه لم يكن بجديدٍ عليّ، إلا أني سخرت طويلاً مما شاب نبرات صوته من ارتفاع وانخفاض مقصودين وتلويحات إيمائية وكأني أصغي إلى سرد قصة فيلم من أفلام الإثارة مع شيء من المبالغة المحبة للتباهي في استعراض المعلومات والثرثرة التي صرت أفتقدها خلال أيام غيابه درجة حبي للصمت والسكون لدى وجوده العبثي، يدخل غرفتي ضارباً الباب بقبضته أي وقتٍ يشاء، يسخر ويشاكس، يوقظني وينزع النعاس من عينيّ بصوته الأجش ويظل يحملق في رسم استنفذ تلاعبه بأعصابي جل ساعات الليل، يهزأ من شخبطاتي التي لن تعود عليّ بشيء ولا يغادر الغرفة إلا بعد صياحٍ وشتيمة تلحقها ضربة على رأسه الأصلع الذي أخذ الشيب يعلن عن وجوده في خصله المتفرقة عند جانبيه... ولكني بقيت واجماً في الفراش في أمسيةٍ حمل لي فيها نبأ سفر الحاجة بلقيس إلى العاصمة، ومن مطار مدريد "باراخاس" الدولي‏ تقلع بها الطائرة المتجهة إلى مطار أوهير في شيكاغو حيث تم نقل ولدها قيس إلى إحدى أكبر مستشفياتها في طائرة طبية مجهزة بكل ما يلزم من تقنيات، أقلعت بجراحه الغائرة، تتركز أكثرها خطورة في الساقين، من مطار بغداد الدولي بعد فك أسره من قبَل خاطفيه، أو خطافه، فقد تم بيعه وشراؤه أكثر من مرة مما ضاعف من مبلغ الفدية المطلوب...

(ماذا أفعل دون شبكة بودو وحسن الإخبارية؟)

"تخليص الصحفي الأسباني/ العراقي من آتون الجحيم"...

 خبر مختصر حول الإفراج عن قيس، تحاذيه صورته على الصفحة المواجهة، والمثنية بعناية، للصفحة التي يقرأ فيها الجالس على مسافة شبر مني أمام البار، يبدو أن قدرتي على التركيز قد اخترقت الجريدة بين يدي قارئها فانزاحت عن وجه قرمزي البشرة، يحف الشيب ذوائب شعر رأسه الأشقر، صوّب زرقة عينيه الغامقة نحوي لبرهة، ثم يعود في حركةٍ لا مبالية لرفع الصحيفة إلى وجهه المربوع متراخي العضلات، يتناول كأسه ليشرب منه جرعة خفيفة ثم يرجعه إلى سطح البار المرمري، ظننت أن الفضول سيدفعه إلى قلب الصفحة، وسيحاول الاستدلال على الخبر الذي ظللت أبحلق فيه... يفعل أخيراً، يعاود التطلع إلى ملامح وجهي وجبهتي العريضة الموشومة بعروق وطن حارت الدنيا في فك طلاسمه، فيرشني برذاذ شماتة ربما تعود إلى قرونٍ خلت، متفكهاً بسؤاله عن سر عدم حملنا أغصان الزيتون لدى دخولهم بغداد كما فعل أجدادهم من قبل لدى وصولنا (المسالم) إلى ضفافهم؟...

 يجرني إلى نقاش يحفزني على خوضه مزاجي العكر خلال هذه الفترة الضبابية من حياتي، نقاش من تلك النقاشات الجافة المملة التي طالما تهربت منها أمام سارة بالتحديد...

ـ ليت البحر كان جبلاً شاهقاً يفصلنا عنكم بدلاً من تلجلجه الدائم ما بين صدٍ ورد، ظننا أننا قد تخلصنا منكم للأبد ولكنكم عدتم من جديد بنوع متخفٍ ماكر من الغزوات...

ـ ما تقصده لم يكن غزواً، كان بناء حضارة تقطفون ثمارها، ولولا متانة جذورها لما بقيت شواهدها راسخة لحد الآن، وحتى المكان، الحي الذي نحن فيه الآن، لو دققت في مخابئه ودهاليزه جيداً قد تعثر على بصمةٍ عربية أندلسية هنا أو هناك...

ـ إشششششش... لا تكلمني أرجوك كما لو كنت تردد منهج من مناهج دروس التاريخ المحنطة في مدارسكم، أو خطبة من خطب الجمع التي تسكِر المصلين في حانات الماضي التليد لتهون عليهم، وبسذاجة الأطفال، بعضاً من بؤس الحاضر الذي يحيوه أو المستقبل الذي يتخوفون التلصص عليه ولو من خلال رؤية عرّاف...

 يترع من كأسه حتى الثمالة ثم يطلب آخراً...

تمط الكلمات شفتيه: حضارتكم التي تتباهى بها أمامي بنيت معظمها بجهود شخصية من قبَل علماء وأطباء وفلاسفة وشعراء، أما ولاتكم وسلاطينكم فلم يهمهم إلا الاستحواذ على الثروات والسيطرة وبناء الممالك الخاصة، مسجلة باسم الإسلام كماركة تجارية ليس إلا، ولكل زمن مسمياته البراقة، والحقيقة خيانات ودسائس وأطماع ألقت بكم في عرض البحر، وهاهو التاريخ يعيد نفسه عندكم...

 تأخذ ثرثرته مداها عما أهدِر من أموال المسلمين على بناء قصر الحمراء، أعجوبة العالم في ذلك الزمن، ولا أدري كيف تسنى لسكره ربط ذلك بحكايا ألف ليلة وليلة الشبقية والمنصهرة في أجواء الترف واللهو والمجون بقصور صدام التي استمر تشيدها في سنوات الحصار وعلى مرأى من الشعب الجائع المقهور...

 لمَ لا أرد على خصمي، المتنازع داخلي، بتذكيره بحربهم الأهلية المدمرة (1936 ـ 1939 ) وما كانت المذبحة التي شهدتها قرية الجُرنيكا والتي جسدها بيكاسو في واحدة من أكبر وأشهر لوحاته الجدارية إلا مثالاً على ذلك، انتهت أخيراً بحكم فرانكو الحديدي الذي استمر زهاء الخمسة وثلاثين عاماً، نسيت ذلك أم تناساه غيظي، وربما أنساني إياه سكري فحل مكانه برود يؤثر الصمت، حتى لما أراد استثارتي...

ـ إذا كان تاريخكم يشهد على وحشية الصراعات والاقتتال حتى بين الولد وأبيه أو أخيه من أجل إمارة أو عرش خلافة يعتبره ما وجد إلا ليؤول إليه ولذريته من بعده، فما الذي يمكن تصوره عن البشائر التي كنتم تحملوها إلى أرضٍ غريبة، لم تكن مهجورة بانتظاركم...

أجيب بخفة دم، مصطنعة طبعاً: إطمئن، نحن نستحل دماء بعضنا أكثر بكثير من دماء الغير، دماؤنا ونحن أحرار بها هههه...

 يتفاجأ المتبحر في قراءة الجريدة المعلقة بين قبضتيه، الذي ظل ملجَماً بالصمت طيلة فترة هذياني، كما لو كان تلميذاً يحضِر لامتحانٍ عسير، بدفعي حسابي وحساب ما شرب لحد اللحظة التي أغادر بها الحانة المخدِرة بخمرها وبأجوائها الناعسة، يجيب تحيتي النقدية (الغريبة) بتعبير بارد، فقط بحلقة تساورها ابتسامة بلهاء مع هزة رأس علامة الامتنان، لا يسألني عن اسمي حتى، وما شأنه به ما دام لن ينعشه بكأسٍ جديد مدفوع الثمن...

 هواء بارد مع تنميل خفيف يجتاحان جسدي بالكامل وأنا أدب خطوة تلحقها أخرى أكثر تراخٍ فوق الأرض المرصوفة بمربعاتٍ صغيرة متساوية من حجر رمادي صقيل، كجدائل مضفورة بعناية، تتفرع من محيط حوض النافورة التي تتوسط الساحة، أجلس على حافته المبللة فيرشق ظهري بعضٌ من رذاذها بينما ينصب على رأسي ووجهي مطر شديد ناءت بحمله الغيوم القاتمة فجأة، معه أطلقُ سراح قهقهات ما استطعت احتمال كتمان جلجلتها في صدري أكثر، نظرات بعض المارة ترمقني، تظن بيّ الجنون ثم لا تلبث أن تعود إلى التركيز على خطاها المتواثبة عند أطراف الساحة، مستظلين بشرفات الشقق وأغصان الأشجار وأوراقها المرتعشة ارتعاش الحمى، يتقافزون كالأطفال من هنا إلى هناك للوصول سريعاً إلى مساكنهم المدّفأة، يحتسون الشاي، البابونك، النسكافة، أو قهوة الإكسبرسو المفضلة لديهم، ربما برفقة عوائلهم أو أزواجهم أو عشاقهم، يستميلني تأمل المشهد الجميل ـ المضحك، تنفض آخر ضحكاتي زفرة ثقيلة تتحسر الوحدة التي أكابدها... مفعول الخمر يتبدد من عقلي، لا يخلف من هذيان محاضرة التاريخ ـ المتقوقعة في مخيلتي ـ غير اسم اللوحة الملحمية لابن ملكَا الهمام، حاول من خلالها تبرئة نفسه أمام منتقدي صمته المخيب للآمال تجاه ما تتناقله الأخبار العالمية عن بلاده وهو يضع قطناً طبياً في أذنيه حتى لا يسمع أي استغاثة، يتصومع في مرسمه مع عشيقاته الملهمات كي لا يؤذي بريق عينيه النفاذتين بشرر ألهبة نيران الحرائق المشتعلة في كل مكان...

 الثور يلوح لي من السماء في إقباله الجامح صوب فريسته، الحصان المتعثر في ركضه يبحث صهيله عن مأوى يحتمي به من هيجان الهجوم الأعمى، رأسٌ تصيح في المدى فجيعتها، وذراع تحمل مصباحاً شاحب الضوء، يلقي ظلاله الشبحية فوق مأساة أرواح تزهَق وأوصال تقطَع، تلبِس اللوحة حدادها الأسود الموّشح برمادية تتخفف من غمقتها الكابية بالتدريج وصولاً إلى حيز من البياض الناصع، تهفو عليه موجة رمادية أخرى تعيدنا إلى سوادٍ قاتم يحجب كل أثرٍ للطغاة عن المشهد العام، يتوارون ويرقبون عن بعد جريان الدماء المتفجرة حتى يطغى البحر بسطوته اللازوردية في النهاية على كل شيء، فالحروب لا تخلف إلا ضحاياها...

(الحروب ما تخلف إلا ضحاياها)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش: تم وضع نسخة من لوحة "الجُرنيكا" في مبنى الأمم المتحدة لمناهضة الحرب على العراق...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أحاول الانتصار على الوهن المتخلل ساقيّ والنهوض باتجاه البار ثانيةً، أبحلق في نعاس أضوائه المخفية داخل قناديل متدلية من السقف البلوطي، تتأرجح مع أي هبة ريح تأتي من الخارج عند فتح الباب أو غلقه، أواصل زعيقي في الوجه الخامل الغاطس بين صفحات الجريدة وأسطرها، أهوي بها عن وجهه كما لو أني أفعل ذلك بنصل سيفٍ بتار تقطع به الرقاب في بلدي المبتعد عني أفلاكاً ثم ترمى في المزابل...

(الحروب ما تخلف إلا ضحاياها، الحروب ما تخلف إلا ضحاياها).

 يجفل من كلماتٍ لا يفقه لها معنى، يفزع وصاحب الحانة وبقية السكارى الجالسين إلى أربع أو خمس طاولات لا أكثر، لا يجيبني أحدهم بكلمة، يستشرى فيهم صممه وخرسه الذي أشار إليه البارمان في غفلةٍ منه لما لاحظ محاولتي محادثته عند جلوسي قربه... بعد برهة لا بد لأحدهم أن يركل شدوهه بعيداً ويتناول نقاله بسرعة ليتصل بالشرطة، يرجوهم الإتيان بسرعة للقبض على العربي غريب الأطوار قبل أن يقضي عليهم بمسدس قد يخفيه خلف ظهره، أو قنبلة ربما يخبئها تحت كنزته الصوفية ليفجر بها نفسه في مغار خدرِهم المسالم وسط حيهم الفقير...

 لا أولي اهتماماً لزعيق توقف عجلات سيارتها المفاجئ أمام باب العمارة على بعد خطوات مني، فأنا كنت في أماكن شتى رغم أني لم أبرح جلستي الخاملة عند حافة حوض النافورة رجوعاً إلى تلك الحانة الهادئة الدافئة، حتى بعد طفَحه بمائه

*      *      *

 كنت أضع ساقاً على ساق، أحدق في السماء الغضبى، المياه المنسابة عن حافة الحوض دون توقف ينابيع ضامرة تتدفق من بين أصابع كفيّ المنفرجة، تراوغها على الانزلاق، تكاد تودي بي إلى قاعه لولا التفاف يديها حول معصميّ بقوة، جذبتني سارة من تلابيبي، تلفح حرارة أنفاسها المغالبة ضعف جسدها وجهي، تسترجيني كلماتها أن أعينها على القيام وتأبط كتفيها النحيفين، مجاهدة خطواتي المتلوية حتى الوصول إلى الشقة، بحثت بتأفف عن المفتاح في جيوبي، دخلنا ولم تمهلني فرصة الجلوس، دفعتني دفعاً نحو الحمام، أمرتني كأمٍ صارمة بخلع كل ما أرتدي والبقاء تحت الدوش حتى أفيق من سكري وهذياني، ظلت واقفة عند الباب تنظر إلى عريي في وجوم دون أن تلج عينيها لمعة استثارة والماء الساخن ينزلق من قمة رأسي إلى قدمي، تلذذتُ بامتصاصه زوبعة البرد الصارخة في عظامي، مدتْ لي يدها بالمنشفة الكبيرة، جذبتُها إليّ، وقد استبد بي عنفوان انكشف مداه جلياً أمامها، تمنعتْ صاحبة فكرة الحمام الأندلسي الذي صار يترأس قائمة طموحاتها منذ فترة عن مشاركتي الاغتسال في حمامي واطئ السقف وضيق المساحة بجدية لا مجال لتجاهلها، أغلقتْ الحنفية بعد توجيه مقبضها باتجاه الماء البارد، ساطني بجلدة مثلجة تبدد حمى أحلامي، أشارتْ إليّ في طريقها إلى الخروج أن أتنشف سريعاً ثم أذهب إلى غرفتي لارتداء ملابسي بينما تذهب إلى المطبخ لتعد ما نشربه ويبعث الدفء فينا.

(نسيت أن تأمرني بغسل أسناني قبل النوم)

 تمتمتْ في سخريةٍ تستبق سؤال سبب مجيئها المباغت هذا وإصرارها على أن أكون في كامل وعيي واسترخائي، تملَكني استرخاءٌ جميل بالفعل وأنا أغطس في الكرسي، أحمل قدح النسكافة الساخن بيد وباليد الأخرى سيجارة من سجائرها المالبورو، مع أنها تكون ألذ نكهةً مع الكونياك، قلت ضاحكاً لربما أحثها على الابتسام، المجامل حتى... وجهها المحتقن بالكتمان متجمد في مواجهة النافذة المغسولة بقطرات المطر، نقراتها الرتيبة رنت إلى تباطؤٍ رخو يثقل الأجفان بالنعاس، تململتُ، تثاءبتُ، رحت أعد بيني وبين نفسي الخطوات التي توصلني إلى فراشي لأغط في نومٍ عميق وطويل، أغمض عيني لثانية ثم أعاود فتحهما على البرونزية الطفيفة المنعكسة من ضياء الصالة الباهت على قسمات الوجه متصلب العضلات، متشنج الجبين، أمسى في ناظري تمثالاً تم نحته منذ قرون قبل أن تفاجئني برذاذ مطر مالح ينزلق على وجنتين ملتهبتي الانفعال، كم وددت أن تواتيني القدرة على رسمها في وضعتيها تلك، إلا أنها بالتأكيد كانت ستعلن نفورها من ريشتي ثم تفر من أمامي سريعاً بذلك الشرود القابض على ألق مقلتيها المعتاد، غير أن ذلك المشهد سيظل مختزناً في ذاكرتي، لا يرضى مبارحتها أبداً...

 لم يرضخ جفناي للنوم لحظة واحدة حتى انبلاج الفجر، عند بداية الشروق كنت أقف على الشاطئ، يطفو أمامي صندوق خشبي كبير يتقوقع داخله مسعود، يرفع على أكتاف الموج، يتدافع به نحو شواطئ بلاده التي جاء منها طريداً...

 أخرجتْ من حقيبتها رسالة مطواة طلبت مني فتحها، فركتُ عينيّ، فانفضت الغشاوة عنهما، كانت مكتوبة بالعربية، في خطٍ يجنح إلى الارتباك، تتناسق الأحرف حيناً ثم لا تلبث أن تعاود الاهتزاز تحت وطأة القلم الجاف، تناولني الاستغراب منذ الكلمة الأولى، هو خط مسعود لا سواه...

«أعرف إنكِ تقرئين العربية جيدًا، وأيضا تنطقيها أحسن بكثير مما تظهرين، لي بالذات، خبثٌ، مناكفة، عناد؟؟؟... نعم، هو العناد لا شيء سواه، جمعنا في البداية، وجلبني إليكِ الآن، عنادنا لأنفسنا ولكل ما فرض علينا وحاولنا الفرار منه إلى أقصى حدود، فإذا بنا نزيد حياتنا تعقيداً، كلٌ منا كان يغرز مخالبه في روح الآخر، قلبه، جسده، نزفر اللذة وجعاً لم يكن من سبيل لإنهائه إلا بابتعادي، صفعة ما توقعتِ مثلها أبداً من العربي البائس الذي عبر البحر مختنقاً، يتوق لنسمة حرية يستنشقها بلا خوف، كنتِ بالنسبة إليه حلماً ما خطر له على بال، أعلم أنكِ لم تكوني لتستسلمي لتلك الهزيمة، ومثلك لا وجود للهزيمة في حياتها، لم يمحق فرحتك جمود سؤالك عما دفعني إلى المجيء إليكِ ودون إخطارٍ مسبق، كما لو كنا على موعد، تهنئين نفسك بالفوز في تحدي رجوعي إليكِ، نشوة اقتناصي من جديد تشابه إلى حدٍ كبير التياع الشهوة لديك، أنستك كل هاجس وسوسه لكِ الخوف مني، ربما إلى حد الذعر وأنا أقف عند بابك، لم تفتحي بالتأكيد إلا بعد النظر عبر خرم الباب، كما هي عادتك، ارتعشتْ يدك على المقبض المذهب قليلاً، وقفنا لبرهة صامتين لا نتكلم، نظراتك المأخوذة بالوجل، انتفاض عروق رقبتك الرقيقة، صدحوا بالنداء في صدري أن أضمك، أعانقك بضراوة الفترة التي ابتعدتها عنكِ، تعلقتِ بي في شبه انصهار باكي، يسلبك بقايا الشكوك والظنون والاحتمالات الكامنة وراء سر فراري إليك، بغتة وفي وضح النهار.»

 قاطعت قراءتي التي أرادتها أن تكون بصوتٍ مسموع: كانت الألذ والأشقى لجسدينا وروحينا معاً، كم كنت أتغاضى عن روائح النساء اللواتي كان يعاشرهنّ، بسرعة كنت أمحوها كما أنفض رماد السجائر أو ذرات الغبار بنفخةٍ من فمي الذي يكاد يقضمه هيجان شفتيه، ولكن رائحة زوجته الحامل هذه المرة كانت موزعة في تفاصيل جسده، تندس تحت جلده، في شرايينه ومفاصل يديه اللتين كورتاني كزهرةٍ لم يشم لا هو ولا غيره عبقها من قبل، شيء أكبر من الاشتهاء وأعمق بكثير من الرغبة، لا أعرف كيف يمكنني وصفه لكَ، حتى اللحية، التي كان مجرد زغبها مثار جدل دائم بيننا، لم آبه لشكشكتها، كانت جزءاً من مداعبات أصابعه الرشيقة ومضاحكاتها الجريئة...

«لا أتصور أن مخبركِ السري ـ أول مخبر لا أريد كشفه أو التخلص منه والزوغان من تلصصه على أدق تفاصيل حياتي، لأنه يربطني بصورةٍ خفية بكِ، قد أخبرك عن النزاع الأخير الذي شب بيني وبين أحد رفاقي، يحرص دوماُ على تنبيهي عند كل كلمة أو حركة أو سكَنة آتي بها، دون السماح بإطالة الجدل مع الأكثر علماً منه، ومعه هو بالذات، لأنه يعتبر نفسه مسئولا عني وعن تصرفاتي منذ اليوم الذي انضممت فيه إليهم، وما كان دور الحاج حسان غير ممهد لطريق هدايتي، المشكلة ذاتها تواجهني في كل مرة، عقلي لا يستطيع أن يكون رهينة أحد، أياً كان، عبثاً ما تصورته عن قدرتي على التمثل بشخصية أخي، رحمه الله، ولم أعرف أن أصير نقيضه، العيش حياة حسن الجنونية، العربيدة، المتخلفة، الـ... صفيها بما شئتِ، بقدر مقتي لها بقدر ما أحسده على طريقة تفكيره في اللا شيء، وأيضا لا أملك مثابرة السعي وراء حلم كحلم محمد المهووس بالرسم، لا أعرف إن كنتما قد أمضيتما وقتاً سعيداً على ظهر اليخت، كما كنا نفعل أم لا، لم يعد مهماً هذا الآن، رغم حنقي الشديد عليه في وقتها لأنه قبل أن تستبدليني به وبتلك السرعة، مع أنكما الأنسب فعلاً لبعضكما، بماذا أهذي الآن، ههه... وكأني كاتب من أولئك الكتاب المترفين الذين ينزوون شهوراً عن الناس لكتابة روائعهم الأدبية، ولكل رواية طقوس معينة وأجواء مدينة غير المدينة التي تصومعوا في أطرافها سابقاً، أجلس في شرفة مطلة على بحرٍ أو محيط، في فمي سيجار هافاني وعلى المنضدة كأس بيرة أو ويسكي أو شمبانيا، أدون ما يتلبسني من أفكار قد أستفيد منها في كتابة رواية لم تتشكل ملامحها في ذهني الخامل بعد، ولكن فعلا رؤيتي للورق والقلم الموضوعين فوق ملف يضم بعض تصميمات حمامك الأندلسي المهووسة به ـ تلك النكتة التي أغضبتُكِ كثيراً بالاستخاف منها ـ على مائدة الطعام دفعوني للكتابة بسرعة وبلا تفكير، وكذلك زجاجة الويسكي في البار الصغير التي أغرتني بارتشاف جرعات كبيرة منها، قد تعيد إلي بعض الهدوء والتوازن النفسي الذي شقيتُ في البحث عنه في الآونة الأخيرة بلا فائدة ترجى، وليغفر لي الله العالم بما تضمر السرائر، ومن يدري، قد تكون كتابة هذه الكلمات آخر ما يمكنني فعله، فلقد ضيقوا علي الخناق كثيرا يا... محبوبتي، أهجس بمراقبتهم الدائمة لي، صدقيني تلك ليست أوهاماً أودعها داخلي الشعور الدائم بالاضطهاد، لقد واجهوني بترصدهم لي عندما حاولت السفر وفاطمة إلى تونس أو أي مكان أتنفس به هواءً نقياً بعيداً عن كل شيء، لا غاية لي إلا كسب الرزق الحلال وتربية طفلي القادم، حياة بسيطة هادئة لا تعرف الخوف أو سطوة التملك، في حقلٍ مكشوف للشمس نهاراً وضوء القمر ليلاً، بلا مراقبة أو ترقب أو وشاية من قبل أقرب المقربين، أصدروا لي أوامر صريحة أني لا أستطيع مغادرة البلاد ولا المدينة أو حتى الحي دون استشارتهم وأخذ الإذن وإلا... ما شأنك بإلا هذه، تلك أمور لن تفهميها ربما، وأنا لا أريد أن أكتب عنها حتى لا يباغتني هذه المرة شعور الجاسوس الذي يكتب تقريره المفصّل للجهة الأمنية التي يعمل لحسابها، الموساد مثلاً... هههه لا تحنقي عليّ هكذا فأنتِ تعرفين طبيعة مزاحي الغليظ في أكثر الأحيان وعلى كل حال ستتخلصين منه في أقرب وقت، فما أن تستيقظي من نومكِ الذي غططتِ فيه بعد أن اصطنعته لدى خروجي من الحمام حتى لا أسألك من كنتِ تهاتفين وتضطرين للكذب الهيِن عليكِ، عذراً لآخر وقاحاتي معك، كذبُ يمكن لي اكتشافة بسهولة هذه المرة وأنا في وضعي المرتاب هذا، لعلكِ تكونين قد اتصلتِ بجاسوسك الخاص ليفبرك لهم صدفة معرفته بوجودي في شقة عشيقتي الإسرائيلية القديمة، إمعاناً في تحديكِ لهم وإظهار قدرتك على إعادتي مطأطأ الرأس إليك أي وقتٍ تشائين، وأيضاً إتمام انتقامك مني على أيديهم، فكرة ذكية بالتأكيد، وإن كانت مكررة وقديمة، وها قد أعنتكِ عليها، فأنا أيضاً أود إظهار تمردي عليهم من خلالك وليذهب العالم الذي يسعون إلى إقامته إلى الجحيم، أو بعبارة أخرى لنقل إني أريد الانتحار على أيديهم بواسطتك، وفي النهاية تكون الغلبة لكِ... لقد أطللت من الشباك قبل جلوسي للكتابة مباشرةً ورأيت إحدى سياراتهم تقف على الجانب الأخر من الشارع، لا... لا تخافي، لن يجرؤوا على الصعود إلى هنا، فهم ليسوا بالأغبياء أبدا ليفعلوا ذلك ويثيروا زوابع لن تهدأ أبداً من حولهم، قد تمزق كل شباكهم الملغومة في كل أنحاء إسبانيا وليس الصبية المدللة ملكَا فحسب، بل في بلاد أوروبية أخرى، ولا تدعيني أثرثر أكثر إشششش... في ذات الوقت لا تتركي الغرور المغيظ وعنجهية آل صهيون المتغلغلين فيكِ، رغم تنكرك الدائم لأغلب مفاهيمهم، يقودانك إلى حتفك في ليلة شديدة الظلمة، أو يهويان بك وأنت داخل سيارتك من سفح جبل، أو أو أو... اللهم قد بلغت (حذرت ونبهت لا هددت وتعودت) اللهم فاشهد، والآن سأقوم لأقبلك فوق جبينك، دون أن أوقظك، وأطمئنُ على تغطيتك كي لا تصابي بالزكام في هذا المساء البارد، يا فتاتي الشقية، وأنصرف للقاء أصحابي، فقد طال انتظارهم لي وأنا طال توقي للخلاص.»

 تشابكت نظراتنا المحتارة لتعاود الانفصال ما بين فقرة وأخرى، جملة ترفع الحاجبين وثانية تقطبهما، رميتُ بالرسالة على الطاولة فصارت زاوية لقاء مسار أعيننا، تأففتُ عالياً، ترامت نظراتي بعيداً عنها هنا وهناك، ثم عدت برقرقة دمع إلى الجثة الملقاة أمامي، أرصدها بهواجس محقق جنائي، يلوذ به الشك في كل شيء وكل شخص يمكن أن تحوم حوله الشبهات، بمن فيهم المبَلِغ عن الجريمة التي يتجاذبها الغموض والوضوح المربك، كلماته المنزلقة على الورق مثل نزف الدماء تشي باللوثة التي توقعتها ذات يوم لصاحبي، إلا أني لم أكن أحسبها يمكن أن تأتيه بمثل هذا العبث المضحك حد البكاء... فعلاً وجدتنا نتشارك البكاء الصامت كما لو كنا قد شيعناه تواً إلى مثواه الأخير ومن خلفنا تسير زوجته الناحبة منتفخة البطن، يخترق اليتم رحمها، وجوقة من ذوي اللحى الخفيفة، مطأطئي الرؤوس، يتخفى بينهم جاسوسها السري الذي سلطّته عليه...

طلبتُ منها بنبرةٍ آمرة الاتصال به...

صاحت بي مستنكرة: أي مخبر وأي جاسوس؟... سوف تشاركه تخيلاته التي خلفتها لديه رغبته القديمة في كتابة القصص التي ظلت تسكن عقله فقط لئلا يقبض عليه متلبساً بجرم الكتابة؟... عيشكم في ظل الأنظمة المخابراتية جعلكم مرضى مهووسين، لا أنكر أني كنت أتتبع أخباره، كما كان يفعل، من خلال زميل له أو حتى مديره الذي يسعى ككثيرين غيره لأن نعطي شركته حق الوساطة في بيع أو تأجير المحال التجارية في المجمع الأندلسي...

ـ منذ الآن؟... ولكنها شركة إسلامية، كما يطلق عليها في السوق، وإلا ما عمل فيها مع نسيبه، ويعتقد البعض إنها واجهة لشيء آخر.

ـ لا تدعني أشك في ذكائك وأعيد عليك القول المعهود... المال بلا وطن ولا دين، وإلا ما استقروا في أي بلد أجنبي أصلاً، ومسعود كان يعرف هذا جيداً.

ـ ولعله ذلك كان سبباً مضافاً لمحاولة الهروب من كل ما وجد نفسه غارقاً فيه، ولكن أن يجيء إليكِ، شوقاً أو عناداً، ليفرض عليهم وعلى الدنيا رغبته واختياره للموت من خلالك وينصركِ عليهم في ذات الوقت، ويكتب كل هذا لك بما يشبه الاعتراف، اعتراف غريب، مضطرب، مشوش...

نهضتُ فجلبت علبة بيرة من الثلاجة وكرعت منها بنهم...

تنفستْ عميقاً ثم قالت في ضيق: جئتك لتفسر لي، لا أن تحقق معي؟...

ـ ماذا أفسر، ما بين السطور تقصدين، لا أرى إنه ترك لنا فرصة لذلك، أم أن بعض الكلمات استعصى عليك فهمها وتريدين أن أترجمها لكِ؟... أو تريديني أن أعيد قراءتها جملةً جملة، فتؤيدين هذه وتنفين تلك في استنكار، بالعربية الفصحى أم بأي لهجة عامية تختارين؟...

تناولتُ رشفة أخرى من العلبة بعصبية ونفور...

قالت: جاء إليّ وهم في أعقابه ليضعني في مواجهتهم وبهذا يكون الانتقام الحقيقي، منهم ثم مني، حتى لو كان هذا بعد تصفيته...

 اخترقت الكلمة سمعي كدوي رصاصة غادرة، أشعلتُ سيجارة، شردتُ مع ما ذهب إليه ظنها، فكرة الانتقام المزدوج بعد أن أنهكته الدحرجة بين أكف الحياة...

قلت: يجب أن تبلغي الشرطة؟...

شهقت: عن ماذا وعن من؟... مسعود الذي لا توجد ورقة رسمية تثبت أنه قد دخل إسبانيا أصلاً، كل ما لدي ورقة يعترف أنه كان في حالة سكر لدى كتابته لها، عن علاقتي المخبولة به، حتى اسمه في جواز السفر المزور الذي دبره له بودو عند بدئه العمل لديه أظنه هو نفسه قد نساه، ولا أعرف إن كانوا قد دبروا له جوازاً آخر أم لا، وهذا يدخلنا في حكاية لا آخر لها، ويفتح علي النار من كل جهة.

في استهزاءٍ منفعل: وفي النهاية لا يعني مقتله شيئاً بالنسبة للسلطات، فقد تم التخلص من مهاجر غير شرعي، وماذا إن ماتت ألف عَلَقة من أمثاله في يومٍ واحد وتلَقى البحر جثامينهم، لن يتحرك شرطي من مكانه لأجلهم بالتأكيد، يكفي أنهم قد أزاحوا عنهم عبء الترحيل، كل واحد إلى بلاده أو البلد الذي أتى منها...

ردت في ضجر: يكفي، هذا ليس وقت النواح العربي.

ـ هههه... ولا وقت أي شيء عربي.

ـ أوه، لا تدخل المواضيع في بعضها... أخفضت رأسها وصارت تعصر أحد كفيها بالأخرى ثم تابعت:

- ليته لم يأتِ، ليته استطاع أخذ منقبته الحمقاء والرحيل إلى أي مكان...

 توقعتُ إنها قد رأتها في مكانٍ ما وتعرفتْ عليها، أخبرَتها إنها عشيقة زوجها السابقة وسيعود إليها عاجلا أم آجلا؟... لم أسألها عن ذلك، وما نفع السؤال، وكيف لي التيقن من إجابتها في كافة الأحوال...

ـ كنتِ ستفرحين بذلك فعلاً.. يرحل قبل إثبات سطوتكِ عليه، في أي وقتٍ تشائين؟...

ـ أنا انشغلت في عملي وكدت أنسى وجوده تماماً في حياتي، وليس كما تظن وظنَّ في تباهٍ بذكورته وهيمنة فحولته على دنيايّ، نعم انتظرته في الفترة الأولى أن يأتيني معلناً ندمه على غدره بحبي له لأغالب مخاوفي الذي حكيت لك عنها، ولكن الخطط والجواسيس والمكائد التي ملأت عقله المضطرب... تلك طريقة تفكير مراهقة أو واحدة فاشلة خائبة الرجاء، لا طموح لديها سوى امتلاك رجل عاشرها ومضى بعقده وهلوساته، أنا لا أحتاجه ولا أحتاج جماعته الإرهابيين ليعيدوا لي ثقتي بأنوثتي، أفلام قديمة وأفكار متخلفة ترافقكم أينما ذهبتم...

ـ الآن تقولين هذا، بعد أن جاءك و... ثم فرقع قنبلة ملاحقة رفاقه وانتظارهم له في الشارع لحين انتهائكما، ودون أن يعرفوا ما أفشى لكِ من أسرار، أهذا كلام معقول!... ألم يعترف بسكره أثناء كتابته الرسالة؟...

ـ ووجدت زجاجة الويسكي قد نقصَ منها الربع تقريباً قرب الرسالة...

استرخيتُ أو افتعلت الاسترخاء بعض الشيء: إذاً لا داعي لكل هذا الخوف، ولو أرادوا التخلص منه لما تركوه يصلك أصلاً، على الأكثر هي هلوسة وأشباح الخوف التي سكنتنا كما قلتِ...

ـ حقا أنت غير قلق على صاحبك؟...

ـ لا أظنها مشكلتك، المهم لديك أنه لبّى وجيب ثأرك الحارق لكل أنثى مهما كانت.

ـ كأنك لم تسمع كلمة مما قلت، أنا...

 ارتاعت لصراخٍ ما ظننتُ أني قادر على الإتيان به تحت وطأة ما جثم على صدري وجسدي من إنهاك...

ـ أنتِ لديكِ أكثر من طريقة لحماية نفسك، يكفي حراس بابا المنتشرين حولك في كل مكان وفي أي بلد تسافرين إليه، وكما قال مسعود، هم أجبن من أن يصيبوك بخدش يثير الدنيا عليهم حتى لو سكنوا أعماق البحر، والآن اذهبي واحتفلي بنصرك في أرقى مطاعم أو ملاهي ملكَا، وإنسِ نزوتكما الحمقاء تلك... صاحبي، ضاجعي، وليسَق إلى الجحيم كما حصل لأهله من قبله، وإن حدث وسألك أحد بشأن اختفائه أو موته فيكفي أن تجيبيه بهزة كتف مستخفة مستنكرة مجرد التلميح لأي علاقة خاصة يمكن أن تربطك به أو بأي عربي يحمل مآسيه معه وينشرها كالعدوى في أي مكان يبحث فيه عن حياته الضائعة...

 أشفقتْ عليّ أم صعقتها هستيريتي بصدمةِ خرس لم يجرؤ لسانها على تحديها بكلمة؟... نهضتْ ومشتْ خطوات مبتعدة عن الكنبة، الدمع جامدٌ على خديها وغائر في حدقتيّ، ينتفض الغضب في صدري بشدة تيار الهواء البارد الذي ولج الشقة لدى فتحها الباب، تركتْ صدى صفعه وراءها يدوي في أذنيّ، اقتربتُ من النافذة، تابعتُ خروجها من باب العمارة، ركبتْ سيارتها، دارت بسرعة حول الساحة الفارغة عدة مرات، من فتحة نافذتها الضيقة تلقي في الفم الشرة لدوامات الهواء المشبعة برذاذ المطر مزق الرسالة، تتهافت كندف الثلج نحو النافورة والأرض الناقعة في بللها الملتمع بأنوار المصابيح الأمامية وأعمدة الشارع... تعود للدوران دورة شبه كاملة حول نفسها فوق الأرض المزحلِقة في صرير يخدش الأسماع كما لو أن المقود قد أفلت من قبضتيها حتى تجاوزت مقدمة السيارة حوض النافورة الواطئ... رجعتْ إلى الوراء بعنف ثم سكنت للحظات، ظننتُ أنها فقدت الوعي، ولكنها باغتتني بانعطافةٍ قوية نحو أقرب فرع يؤدي إلى الشارع العام.

*      *      *

 عجز تام أسفر عنه كل تفكير راودني، عجز عن معرفة إجابات لم أجد جدوى من طرح أسئلتها، لمن؟... الشيخ حسان؟... بالتأكيد لا، فمكر مثل هذا الرجل، رغم ما توحيه لك إيحاءات وجهه فور رؤيته من وداعة، أدهى من أن أستطيع تضليله ببراءة رغبتي في الاطمئنان على صديقي القديم الذي تذكرته فجأة لدى مروقي من أمام مبنى الشركة التي يعملان فيها، وبالتالي لن أصدق أي كلام يمكن أن يقوله خوفاً، مؤتمَراً بقدسية السرية والولاء وإن كانت على حساب رقبته لا رقبة نسيبه الزاني مع صاحبته الإسرائيلية... هذا إن كان على علمٍ بشيء مما حدث أصلاً، وقد يجدون في سؤالي، وفي هذا التوقيت تحديداً، أكثر من تأويل، ومن يعرف... قد أجد نفسي في مرمى اتهاماتهم وأحكام شرائعهم، مقاداً إلى ذات مصير صاحبي المجهول الذي ساقه إليه اضطراب عقله...

 اختار طريقه بمحض إرادته التامة... لم تتمزق أشلاؤه متفحمةً وتتناثر دماؤه على طول شارع دخله مصادفة في طريقه إلى عمله، أو بيته مستبقاً وقت حظر التجوال، لم يرشَق جسده برصاص ملثمين لا يعرفهم بسبب انتمائه لطائفة قد لا يفقه من أبجدياتها شيئاً، لم يفِق من نومه على صوت هلع زوجته وأطفاله لدى دخول مجهولين، بأي زيٍ كانوا، غرفة نومه وفي أيديهم رشاشاتهم ليقتادوه مختنقاً بسواد كيس القماش القابض على رأسه بالكامل إلى حيث لا يدري، كما لا يدري إن كان سيعود أم يصبح لأهله مجرد ذكرى تضاف إلى ذكريات وويلات عصية على النسيان...

 ارتضت نفسي تحليلاتها وتبريراتها وخضعت إلى مخاوفي من مغبة إشهار سيفي المكسور في وجوهٍ شبحية تتخفى في الظلمة الكامنة وراء شبابيك الجحر الذي صرت ألوذ إليه عند أول حلول المساء، فأين أنا من جنون وعربدة هوس الفنان يا مسعود؟...

 وجهكَ الحنطي يعود إلي كل حين، بشحوبه، بتضاحكه، بتجهمه وبصلفه، بحنقه وبهدوئه المستسلم لكل شيء، يرميني بنظراتٍ ملائكية تهيم بالكون كله، وجدحات شيطانية تقدح بشرر السعير... لوحات ولوحات، ومضات تخلف أخرى في سحيق أحلامي بسرعة تهاوي الشهب، لا تذر إلا هوامش البياض الموزعة بين جنبات الورق والقماش، لم تنُشها فرشٌ سبق تقصُف شعيراتها المتيبسة ولادتي بعقودٍ وقرون، أنسخ عوالمها العتيقة، أزمنة رسوماتها لها الأثر الأكبر في مدى رواجها، بلا فهم، بلا وعي، بلا تقدير لمعاناة خالقيها الحقيقيين عند وضع كل لمسة في مكانها المحدد ولا مقاصدهم منها، مجرد أجساد ملفوفة بمغلفات أنيقة، تباع وتشترى، تعلَق على جدران الصالونات على اختلاف أحجامها وأذواقها، شرط تواؤمها مع ألوان الأثاث، تقدَم هدايا أو رشى لمحبي جمع الأعمال والتحف الفنية، أصلية أو مقلَدة، قليلون من يمكنهم التمييز بين الحقيقي والزائف الآن، إلا عند التفاوض على السعر، وسعرك وسعري يا صديقي هو سعر الملح في أرض الملح...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 هامش: تم اشتقاق إسم ملكا لدى الفينيقيين من كلمة ملح نسبةً إلى تمليح الأسماك عند شواطئها...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 مذاقه الحاد يملأ جوفينا، يكاد يمزق أحشاءنا، من قبل الهروب إلى هنا بزمن، مذاق الصحراء التي تهت فيها ومجموعة من رفاقي، نتشتت في مجاهلها لدى سماعنا أزيز طائرة أمريكية، مع الموت المنهال علينا تتراشق الضحكات المزهوة بانتصاراتهم، يتفاخرون باصطياد زواحف البراري، لا نكاد ننهض، محنيي الظهور، حتى ننكفئ على وجوهنا المعفرة مجدداً، نترك ذرات الرمال تستبطن الأجفان فتذرف عيوننا أدمعها شديدة الحرقة وسط عاصفة غبارية تتموج في بؤرتها صورة القائد المنصور، حدة نظراته تفرض علينا المزيد من الاندحار في لجة الفلاة الأكثر عتواً وغدراً من عنفوان البحر، كفن الأجداد الفضفاض إثر تسليم مفاتيح غرناطة لملكيّ قشتالة والأراغون...

 قرر الانسحاب فجأة مقابل البقاء وكان الجيش آخر من يعلم... منّيت نفسي برسم موتنا التدريجي أكثر من مرة، أجسادنا هياكل عظمية، وجوهٌ مبهمة الملامح، ولكن كفي تعاندني باستمرار، ترتجف كلما أمسكت فرشاة وددتُ أن ترسو بأكثر من لون ومعنى في آنٍ واحد على اللوحة وجزمة فان كوخ المهترئة في مسرى الضوء الشاحب المار عليها تنعي عدمية حياة استطاع الفكاك من لعنتها بانتحاره في إحدى المصحات العقلية بباريس بعد عدة محاولات فاشلة لا تنفك عن مناوشة أفكاري، تضعني في مواجهة دائمة مع هزائم حروبنا وأحلامي المتتالية...

*      *      *

 الانتحار أو الجنون، نصفا حلقة أطبقت على وحدتي التي صارت تنهل من انكماش أهلي على الوهن القاطن في بغداد المرتجفة بين قبضات الموت، نفضتهما والخوف عني كمن زالت عنه حماه فجأة مع إطلالة صبحٍ شتائي تتجمد فيه قطرات الندى المنتفخة فوق تيجان الزهور وأوراقها... يلح علي إصرارٌ غريب أن أراها مهما بلغت ممانعتها أو تهرّبها مني أو ادعت نفضي عن ذاكرتها، سوف أحتمل صراخها في وجهي، نحيبها وتعنيفها المتحدي لوعة اشتياقي إليها، في النهاية لن تملك ـ شهرزادي الإسبانية ـ إلا أن تصغي لصمتي قبل كلامي، تتفهم سر تقلباتي البحرية ـ الشرقية، وتسمح لي أن أغفو بين أحضانها، كما لو لم أذق طعم النوم منذ عقود...

 نسيت مواعيد عملها تماماً... بل أني نسيت ألا مواعيد عمل محددة لديها وذلك كان سبباً من أسباب عشقها لعملها، ألا تثقلها قيود أخرى تزيد حياتها مللاً وفراغاً، مهما طال الوقت الذي كنا نمضيه في الفراش... في طريقي إلى المطار بسيارة بودو البيجو التي يستعملها لقضاء مشاويره الخاصة بالعمل يتهلل وجهي وروحي معاً وأنا أزداد ثقة بقدرتي على الظفر بها من جديد... ولكن لمّ لا تكون في البيت؟... تغدق على طفليها حناناً تفجّر اشتياقي إلى فيضانه بشغف مراهق يود عبور كل الحواجز للقيا معشوقته التي ابتعدت عنه طويلاً ليتأكد من مدى حاجته إليها، ما راودني ذلك الخاطر إلا عند اقتراب وصولي المطار...

 كنت على وشك الشجار مع موظفة الاستعلامات عندما لم تجد اسمها في كشوفات المضيفات الجوية، ولا الأرضية حتى... إحدى صديقات لوسيا المقربات والتي تعرف عن علاقتنا وتطوراتها ما لا يعرفه أحد سوانا تسعى إلي بخطواتٍ حثيثة لتتدارك تصاعد الموقف، وجهي كتلة من الغضب، امتقع حمرةً وأنا شبه متيقن إنها تتعمد ـ بعجرفةٍ عنصرية واضحة ـ الحيلولة دون لقاءنا بعد أن أكدَتْ لها ملامحي وطريقة نطقي للكلمات هويتي العربية... تسحبني المضّيفة الشابة قوياً من ذراعي وتتأسف من الموظفة متجهمة الوجه وشرر نظراتي يفترسها، يقسم لها لو أني رأيت حبيبتي أمامي الآن لما سمحتُ لشيء يحول بيننا، وإن كلفني الأمر الترحيل من إسبانيا، فلن أكون أول المرَحلين ولا آخرهم حتى يدور الزمن كامل دورته وتعود إلى العرب... أمنية مسعود التي كان يهدُر بها صوته في غرفتنا القديمة الضيقة المقبضة وهو يدخن سيجارة حشيش من سجائر حسن التي يتباهى بطريقة وسرعة لفها، وكل ظنه أنه يلقي خطبته الحماسية من فوق منبر عالٍ لا يختلف كثيراً عن منبر المسجد الذي كان يرتاده وأخوه قبل مجزرة مدينته....

 نظراتي وتعبيرات وجهي المستغرِبة تشتبك مع كل عبارةٍ تنطقها... تركت لوسيا العمل منذ أكثر من شهر؟... لم تعمل مضيفة جوية مطلقاً، بل موظفة في قسم الحجوزات!!!... ولم تكن حكاياها عن الأحداث والمواقف المضحكة أو غير العادية التي تواجهها سوى سلسلة أكاذيب، أو قد تكون إحدى زميلاتها قد روت أجزاءً منها وتركت الباقي لوحي خيالها المتدفق، تحملها إلي مع جسدها المتحفز للشهوة أكثر فأكثر، فقط لإضافة الإثارة على حياتها الراكدة والرتابة المتسللة إلى علاقتنا، دمرتها في حالة سكرٍ، أو وعي؟... لا أعرف، كما أني لستُ مضطراً إلى التفسير أمام دهشة نظرات صديقتها وهي تسألني ما الذي ذكرني بها الآن، وبهذا الإلحاح الشغوف!!!...

 تلفحني عيناها البراقتان بشيءٍ من القلق أو الخوف، توتر غامض تشعل لأجله سيجارة نمضي وراء أدخنتها نحو برد الخارج القارس مع ندفٍ هشة من الثلج لا تمَكنها الريح العجول من التجمع، أعرضُ عليها إيصالها إلى شقتها، فباص المطار كثيراً ما يتأخر تحركه لحين امتلائه، لا أعرف سر صمتها المتململ قبل إجابتها بالموافقة مع الشكر، لا عجب أن تكون من صديقات لوسيا المفضلات لسببٍ قد لا أستطيع تحديده بالضبط، ربما يكون التردد في اتخاذ القرار ولو بشأن أبسط الأمور... أحاول استنطاقها فتجيب بكلمات لا تفضي إلى معنى محدد مع ارتعاش برد لا تبدده نفحات الهواء الدافئة المتدافعة إلينا من فوهات التكييف حتى وصل بي الغيظ منتهاه عند نهر "Guadalmedina"... هددتها في عتهٍ ظاهر أن أخفيها في مكان لا يسمع عويلها فيه إنسٌ ولا جن، كلمة عارضة أرعبتها إلى حدٍ ما كنت لأتصوره، أخذت أسنانها تصطك وجسدها ينتفض من تحت معطفها الجلدي، إنها مهووسة مثل صاحبتها المختفية، بل أكثر، بذلك الإيمان المطلق بالجن والأشباح المختلط بالخرافات القديمة والحكايات الغرائبية التي كانت تثير ضحكي أحياناً، يوقفه بصرامة غيظها المهدد بمنع اقترابي منها حتى تخلصني من المس الذي يتملكني ويتلاعب مجونه بأهوائي تجاه أي أنثى أثناء فترة غيابها عني ولو لبضعة أيام، تمضيها إما مع ولديها أو... في رحلة من رحلاتها (الزائفة) التي ولجت حياتها في أواخر فترة علاقتنا، يتجدد خلالها ولع اشتياقها لكلٍ منا على حدة...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش: نهر "Guadalmedina"ـ وادي النهر، المدينة المنورة، نهر المدينة ـ يمر بمدينة ملكَا ويقسمها إلى شطر تاريخي وآخر تجاري ثم يميل في مجراه ناحية اليمين قبل أن يصب في البحر...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أستجيب أخيراً، كاظماً غيظي، لتوسلات البلهاء المنفِرة الجالسة إلى جواري، وهي ترفع ياقة معطفها إلى ما فوق أذنيها، أن أوصلها إلى مبنى سكناها...

 أضحى السير بطيئاً وأكثر صعوبة في شوارع المدينة المطلية بالبياض، لعلها أعتى عاصفة ثلجية تمر بالمدينة منذ أمدٍ طويل... في عصبيةٍ شرسة لم أفكر بما يمكن أن تسفر عنه شددتُها نحوي من طرف ياقة المعطف الأسود حتى أوشك على التمزق بين أصابعي التي حملت بندقية القتال وريشة الرسم، وجهها المذعور يتوسل الانعتاق من كماشتيّ واشتعال كلماتي مسعورة الوعيد للوسيا...

(إن لم تظهر أو تتصل بي خلال ساعات لا أيام فسوف أذهب لأطلع زوجها الغافل عن كل شيء على تفاصيل علاقتي بها)...

 أومأتْ بإيماءات سريعة قبل عتقي لها وهروعها إلى النزول من السيارة، تستعجل خطاها لبلوغ باب العمارة القديم، تجهش ببكاءٍ حاد خلفت بعض صداه في السيارة التي راحت تدوس عجلاتها الثلج الناعم بقوة...

 كدتُ أغص بثمالة قهقهتي من ذلك التهديد الطفولي السخيف، يذكرني بالأفلام والروايات الكلاسيكية... لعل سيناريو إحداها هو الذي يقود السيارة الآن للاستظلال بشجرة سرو عملاقة، يغازل اللون الأبيض خضارها المائل إلى الزرقة، تهتز أغصانها وأوراقها المتجلدة معقوفة الأطراف، يستكين بعضها فوق سقف السيارة في حركةٍ مستمرة تصدر صوتاً يشبه حشرجة عجوز أنهكه السعال، البحر أمامي أيضاً أعياه الهيجان في مواجهة الغزو الأبيض الغريب عن مدينته، ندف الثلج تقترب منه ككرات المنضدة، ما أن تلامس رذاذ موجة حتى تقذفها لأخرى فتتلاشى في طيها سريعاً، المنظر خلابٌ أمامي، لمَ نسيت في غمرة لوعة مجنونة تجاه امرأة فارقت حياتي كما ولجتها، هكذا... بكل بساطة، عادة تعليق الحقيبة الصغيرة إلى كتفي كلما فتحت باب الشقة للخروج كما كنت أفعل في مربيا...

 هل أنا الإنسان ذاته الذي كان هناك؟... ذات السؤال الغريب كنت أسأله لنفسي في تلك الشقة المحاصرة بالضجيج وعربدة السكارى وتهامس المهربين وغنج العاهرات ووعيد القراصنة والقتلة المأجورين، وقبل ذلك في مدريد، لدى انتظاري القطار الذي أقلني إلى هنا... كنت ذاته في طرابلس... في العراق؟؟؟...

 ذاتٌ متقلقلة، تحث جسدي دوماً على رغبة الارتحال، ولكن كل ما أوده الآن هو التلاشي ما بين شحوب تلك الغيمات الواطئة وندف الثلج التي تلوح لي عن بعد مثل نتف ريش تتساقط من النوارس التي تضِلُ أوكارها في مثل هذا النهار الرمادي المتشح بزرقة لا تستقر غمقتها على حال... لا، حتى لو وجدت معي الأوراق الخاصة بالرسم والقلم الفحمي أو أقلام الباستيل لما نفعوني بشيء، على العكس، كنت سأمسخ اللوحة متموجة الألوان التي تواجهني بكل ما توحيه من صور لا حصر لها، تجمعها في قدرةٍ عجيبة، تربكني، تحيرني، تنفرني من اليابسة على مدى اتساعها، من غطرستها المتجبرة في وجه نكرةٍ مثلي، لا شيء يخلفه وراءه سوى الخواء التام إذا ما قرر الترجل والخطو نحو الشاطيء الجليدي الرخو... أرمق اليافطة المعدنية، تحذر من الاقتراب بلونٍ أحمر فسفوري لا يأبه لقطرات المطر المنهمرة عليها، تتمايل مع زوابع الريح المخلبية، تواجه قهر نظراتي كما لو أنها تعرف ما أعتزم فعله، فلا أجد في ترنحها غير سخرية لئيمة، جافة وحادة...

 «إفعل ما تنتويه إن كنتَ جاداً مع نفسك، البحر أمامك، وأمواجه الخاطفة يمكن أن تكتم أنفاسك وتتراقص فوق جثتك المنحدرة نحو القاع خلال لحظات، مثلك مثل ندف الثلج المتطوحة من السماء، ولكن لا... المنتحر مثل قراصنة البحار، لا يفكرون قبل الإقدام على مغامرة من مغامراتهم المنتشية بسكرة الخمر والجنون وهم بالكاد يستطيعون رفع أجفانهم المحمرة وتحاشي ارتطامهم بالأرض مغشياً عليهم قبل امتطاء مراكبهم أو مراكب غيرهم، لا يعبئون بذلك أبداً، مجابهين غدر البحر بجسارةٍ لا تقاوم ولا يمكن لشخصٍ ولا أي قدرة على الأرض ثنيهم عنها.»

 لا لون يتمطى من حولي سوى البياض، يحجب البحر والمدينة عن ناظريّ بالكامل، يحف بالزجاج، بل كأنه يهم بتهشيمه في قوة قبضات دب قطبي هائج، لا أجرؤ على إنزال النافذة قدر سمك سبابتي لأتبين ما إن كان ضباباً كثيفاً أم ركاماً من الثلج غافل جموح شرودي نحو مستقر حذفي الأخير ليغطي السيارة بالكامل، رغم أن العاصفة الثلجية ليست قوية إلى هذا الحد وسريعة الزوال، حسب ما جاء في نشرة الأنواء الجوية... بدلاً عن مد يدي لتجربة إدارة المحرك أثبتُ أصابعي المرتجفة بعض الشيء بين نتوءات المقبض الأسود الدائري عند أسفل الكرسي، أرخيه حتى النهاية فيستوي سريراً وسط غلالة من ظلام تشوب البياض الذي رفعت وجهي عنه، نفوراً أم خشية؟... أم نعاساً غريباً صار ملاذي الأول للهروب في الآونة الأخيرة؟... لا أستطيع ولا أريد تحديد ذلك الآن والدنيا من حولي مثل دفٍ أندلسي كبير ينقر رذاذ المطر على نحوٍ متسارع لا تستطيع غجرية البيت الشرقي في مربيا التي أغوتني بهيجان رقصها منذ المرة الأولى أن تقاومه...

 ترقص... ترقص... ترقص بعنادٍ ودون كلل بما يشبه الابتهال، ثم تأتيني مترنحة مغتسلة بماء السماء، توشك أضلعها على الانجماد، تستبطن معطفي، متعريةً من ملابسها المهترئة المبللة، تلف ذراعيها الموشومتين برسومٍ دقيقة لا أستطيع فهم معنى لها أو معرفة لغتها المنقرضة، تغفو فوق صدري في استسلام يشاغب نعاس شهواتي، يتدفأ وجهها بصهد أنفاسي وتعرقي، شعرها ينسدل حول كتفيّ وشاحاً يتموج سواده مع كل زفرة نفس نطلقها معاً وكأنها تصدر عن شخصٍ واحد، تتمدد إلى تنهدات عميقة، أبخرتها المرتطمة بالزجاج الذي يسوِرنا بصمات ذات أشكال بوهيمية، تتلاحق مع تذبذب الوسن في أجفاني المحمرة المجهدة، صور بعيدة وقريبة، غريبة كأضغاث أحلام حلزونية، وهجومية مثل ألسنة لهب تتمادى نحوي بقوةٍ مخيفة، تتشبث بي الغجرية التي لم تجد لها مأوى غير توهاني خوفاً من سنا تلك الصور البراقة في رمادية سكنانا، رمادية واهنة متكاسلة، تسحبني إلى رقاد نومٍ هادئ عميق يستلب مني غجريتي ذات العطر الأنثوي الفواح عبر عصور التاريخ ويخفيها في ثنايا الثوب الفضفاض للوسيا ـ القديسة لوسيا... تتعمد ألا تستقر عيناها المكحلتين في عينيّ المأخوذتين بدهشة عدم تعرفها إليّ ولا سماعها صوتي المنادي ترنيماتها خافتة الصوت، تتنقل نظراتها مع تلويحات ذراعيها صوب الشرق مرة وصوب الغرب أخرى حتى تبدأ في التطوح والتوهان عما حولها، ثم عن ناظريّ...

 ظلام كثيف موحش يحل محل ندف الثلج الآخذة في الذوبان، المياه المنفكة عن جمودها تتدفق مدرارة من الأرصفة نحو الشوارع التي ينتشر فيها الضباب إلى درجة كبيرة لم يقلل من غَبشها فرك جفنيّ المضرجين نعاساً... بنَقِر رنين الموبايل فوق إغماضهما، الضوء المشع من شاشته يفتح ثغرة في حصار الظلمة الدامسة المنصبة فوقي، يداي تتلمسان الفراش منذ وقت لا أدرك مدته، متى عدتُ إلى الشقة ومتى نمت بكل هذا الإنهاك؟... لا، لا، أنا لم أغادرها أصلاً ولم أسلك طريق المطار إلا قبل فترة، وفي سيارة بودو (البيجو) أيضاً، لإيصال أحد أصدقائه إليه، بالفعل التقيت هناك صديقة لوسيا تلك، لم تكن تمت بأي شبه لمن أفزعتها في حلمي لاستدل منها على مكان عشيقتي، فجأة وجدتها أمامي تحييني بابتسامةٍ ودود فتذكرتها في الحال وتبادلنا بعض كلمات المجاملة ثم فاجأتني بطلب إيصالها في طريق عودتي إلى أقرب مكان من شقتها... هي من فتحت الموضوع حول لوسيا، دون التكلم عن علاقتنا المنتهية، إلا عن طريق التلميح، وقد جال في خاطري مكر رغبتها بجس نبض مشاعري تجاه صديقتها، أو معرفة مدى استعدادي لبدء علاقة جديدة، ولو من خلال غمزة ملاطفة من عينها، كيف لم أصغِ لتلك الأنوثة الطازجة من قبل رغم نظرات الغيرة الملوِحة بالحزم في عيني لوسيا، ما تلبث أن تتحول إلى غضب بركاني يحذر من محاولة اصطيادي لها، غير أني سارعت بالسخرية الخفية من غرور فحولة العربي المكتسحة تفكيرنا ما أن نطأ أي بلد أجنبي، هل واتى طارق بن زياد وموسى ابن نصير ومن معهم ذات الجنون الشهواني فور استقرار حوافر خيولهم في أرض الأندلس، مهللين بشعارات النصر ورايات الله أكبر؟؟؟...

 نعم دهشتُ حين علمت منها في سياق حديث حرصتْ ألا يبدو كشفاً مبيت النية لأكذوبة صاحبتها حول طبيعة عملها في المطار وأنها قد تركته منذ فترة... أرادت أن تسهب في الكلام إلا أنها صمتت فجأة متداركةً ثرثرتها بتغيير الموضوع بسرعة، لم ينتابني فضول لمعرفة ما استوقف كلامها، بصراحة خشيت أن يسوقها فضولها بالمقابل لمعرفة سبب انفصالنا بالتحديد والدخول في تفاصيل لم يكن لدي أدنى استعداد للخوض فيها، حتى تلك الدهشة التي بزغت في عينيّ لم تعصَ عن التلاشي وبسرعة، فما الجديد في كذبة من سلسلة أكاذيب اعتدنا التغاضي أو التغابي عنها فيما بيننا، وإن كانت أكثرها حدة ومكراً من جهتها، بل أني أهملت الأمر تماماً كجزءٍ من إزاحة الماضي القريب عن عاتقي، كما تقتُ أن أفعل بالماضي الأبعد ثم الأبعد ثم الأبعد، دون الالتفات إلى فلسفة العلاقة بين الماضي والحاضر، حتى وإن كنت أعيش في دوامات حلقاتها المتناسلة مثل صفارات غارات الجحيم...

 الرنين الرتيب يأبى التوقف عن استفزازي... بدلاً عن الضغط على زر إنهاء المكالمة أو إغلاق الهاتف حتى أتخلص من نفيره في أذنيَّ المشوشتين بلهاث البحر وأنفاسي أضغط على زري الإجابة ومكبر الصوت...

 يأتيني صوتها ملتهباً بالحنين واللهفة والانفعال والقلق...

 - وينك؟؟؟... ليش ما تجاوب، لا تقل لي إنك قررت الرجوع للعراق فجأة...

 تصدر عني قهقهة متعبة وشيء من الظن يساورني أنه جزء من الحلم الذي أعجز عن تذكر نهايته، غير أن الصوت الأتي عبر الهاتف يتخللني، هو صوت أمي العائدة من أمريكا لا سواها...

ـ ههه... توقعي مني أي شي...

ـ أقتلك والله...

 ضحكتها المنهكة التي أعقبت وعيدها حاد النبرة تشد ذراعي بقوة للجلوس على الفراش وأنا أغالب الخدر في جسدي وروحي...

*      *      *

 مغتسلاً، حليق الذقن، أجلس في الصالة بانتظار السائق التي أصرت الحاجة بلقيس أن يجيئني ليقلني بالسيارة الفارهة إلى شقتها، أتدرب على رسم الابتسام والبهجة على شحوب وجهي خاصة عند رؤيتي قيس الذي ربما يصفعني بجبروت سؤاله عما أفعله هنا بالتحديد، وحتى إن لم ينطقه لسانه سوف يبقى يزاحم نظراته أو طريقة تعامله التي حاولت الحاجة بلقيس تنبيهي إلى الاصطبار عليها قدر الامكان، واثقة بأني سأكون أكثر من يرتاح إليهم وبسرعة دخولي قلبها...

«مثلك مثل قيس ومحمود بقلبي.»

كلما سمعتُ مثل هذه الجملة منها أكاد أتقافز مثل طفل غيبه اليتم رضيعاً عن عالم الأمومة... أمثل هذا الشعور هو بعض ما كان يجنح بي إلى أحضان لوسيا وبصورة عصية على الإدراك أو المنطق؟!!!... من حنايا جسدها وروحها كان يتدفق حنواً غريباً لا حدود لدفئه، أهجس أحياناً أن حلمتيها سوف تنزان قطرات مسترسلة من حليبٍ اختزنته لأجلي وحدي، فأطبق عليهما شفتيّ، واحدةً تلو الأخرى، بقوة ويحوم لساني حولهما في ترجٍ محموم يضنيها ويزرع لهج أنفاسها الحارة في أذنيّ تصرخ بي ألا أتوقف... وفي أحيانٍ أخرى تحتوي راحتاها رأسي، تحطها فوق أحد تاجي وردتيها وتأخذ أصابعها بالضغط قوياً حد الإيلام المنسل إلى دماغي، بلا مبالاة مني، على أمل استدرار رحيق جنوننا قبل أن نبقى لوقت مغيّب عن دوران الأرض حول نفسها، منطرحيْن فوق الفراش مثل عجوزين أضناهما جهد تغيير اتجاه بوصلة الحياة، بلا جدوى...

 أليس هذا قريباً، ولو إلى حدٍ ما، مما فعلت منذ تركي مدريد؟؟؟... مأخوذاً بسحر حورية الفن والموهبة التي طُمرَت داخلي عقوداً وآن الأوان لإخراجها من القمقم الذي غُلّت فيه من أجل إبهار العالم بسحرها... خدعة هي الأخرى جمحت وراءها فوق بساطٍ سُندسُي لم أشأ أن أبصر له نهاية وكل ظني أنه أول خيار أتيح لي، بل أني من أفرضه على الدنيا...

 هو أيضاً ظن أنه قد وجد خياره الأكيد؟... باستقلاله عن عالم أخيه والعيش بعيداً عن والدته التي طحنت الغربة وعجالة الترحال والفراق أكثر من نصف سنوات عمرها، أخذته حدة الحماسة، ومكابرة العناد ربما، إلى سلوك طريق وطنه المجهول...

 لم يبتروا ساقيه، تركوهما جزءاً ميتاً في جسده النحيل، مثل خرقتين متدليتن ما بين عكازين يرتكنان على حافتي الكرسي إلى جانبيه، كفاه لا تكفان عن الحركة ما أن ينوي الكلام، وكأن هاجساً يوسوس إليه أن عجزه عن المشي قد نال من قدرته على النطق أيضاً، يتحدث بسرعةٍ يسوقها تسلط الانفعال، وبصوت يعلو فجأة حتى كاد يهوي بصينية أكواب الشاي الحار من يدي الخادمة على السجادة الأصفهانية التي تعثرت بها مرتبكة، غير مكترث بما يكسو وجوهنا وتتناقله نظراتنا من استغراب وتململ لا ننجح في مداراتهما عنه، خاصة وأنه أجبرنا على جلسة طويلة، في شحوب عينيه وحزنهما رجاء أن نسمعه، دون ملل أو تذمر، حتى لو كان عبر مداعبة من مداعبات بودو للتخفيف من حدة توتره، وتوترنا كذلك، وأن نصغي جيداً إلى كل ما يريد قوله ويمر على خاطره، وإن بدا كلامه غير مترابط بعض الشيء، لعله يخاف فقدان الذاكرة أيضاً، أو نسيان بعض التفاصيل مع مرور الأيام، فأراد أن نحفظ عنه ما قد ينتفي عن ذاكرته مستقبلاً... يكرر إنه يعتزم تأليف كتاب ضخم، ليس عما واجهه فحسب، بل عن أمور كثيرة وخطيرة، متشابكة ومعقدة، لا يمكن كتمانها بأي حالٍ من الأحوال، هي في نظره مثل وثائق ويكلكلس، لا... أعمق وأشمل، ويمكن أن تعد مرجع مهم لا غنى عن أهميته بالنسبة للصحفيين والباحثين والسياسيين والاقتصاديين ووو...

 أخيرا تقنعه والدته، في شيء من الحزم، افتقدتُه فيها، بتناول القرص المهدئ الذي أوصى به الطبيب وأصر على ضرورة الاستمرار في تناوله ثلاث مرات في اليوم... باغته الإنهاك والنعاس سريعاً، يستأذن للذهاب إلى غرفة نومه، دون أن يسمح لأحد بمساعدته، يظل نقر العكازين يصل أسماعنا نحو دقيقة حتى ينتهي بإغلاق الباب...

 لا تستطيع سلوى كبت دموعها أكثر، ترد على إشارة بودو العصبية الضجرة منها أن تصمت بهروعها إلى الفرندة، يعرف إنها مقدمة لنوبة كآبة تمضيها في عزلةٍ ونحيب يعبران بها البحر الأشم، يلقياها في فاجعات بلادها التي ظلت ترقبها طويلاً من مكانها هنا، تحتقن مدامعها بدماء أخويها المنحورين وعائلة أحدهما ذات ليلة من ليالي تلمسان الدموية...

 كالطفلة المرتعبة أصرت على السفر لتكون إلى جوار أمها ذبيحة الفؤاد، منعها بصرامة، ليس عن تعنت وعدم إحساس منه، بل بسبب خوفه الشديد عليها، وكما صارت تلح في التوسل بالحاجة بلقيس بدموع منهارة تكاد توقف قلبها عن النبض لتقنعه أو تجعل محمود يضغط عليه للسماح لها بالسفر وإلا باغتته هي بذلك غير مكترثة بانفصالهما الذي يتوعد به، كان هو أكثر إلحاحاً في ترجيه لها كي تحاول تهدئتها قدر الإمكان، يكرر في كل مرة قسمه أن يأتي بوالدتها إليها في أسرع وقت... تفاجأتْ الحاجة بعبد حميدٍ آخر غير الشخص الذي تعرفه وتقرف من أكثر صفاته وتصرفاته، هو الآخر كان طفلاً، أو... مراهقاً لم يتعرف على فتاة من قبل، مدى العشق الجامح الذي كان يطل من عينيه الواسعتين نحوها لم يكن ليتصوره أحد، ولا سلوى نفسها، ورغم ذلك لم تره إلا كنوعٍ من التعود الشـــره على وجودها معه رغم كل ما يعرف من نساء... عندئذٍ راحت الحاجة الوقور تحني رأسها وتنتقي كلماتها بعناية، مستبطئة النطق، يلوم الندم نبرة صوتها على انجرارها في الحديث على ذلك النحو المكشوف أمامي...

أوفى (رقيق المشاعر) بعهده، كاد يغمى عليها لما رأت والدتها أمامها في شقتها، بجسدها محدودب الظهر، متشحة بسواد البحر في ليلة دكناء، وترهل وجهها جاحظ العينين المغيّبتين مع فواجع الموت الجماعي التي شهدتها، يحوطها بودو بذراعيه، بل يكاد يحملها إلى حبيبته، وكأنه طار بها من بيتها، الذي أوصى بإصلاحه وإعادة دهانه باللون الأبيض من الداخل والخارج لمحو بصقات الشيطان القانية عنه، حتى حط بها أمامها...

لم تمضِ فترة طويلة في مدينة ساحل الشمس وضوء القمر، قررت وبعنادٍ ما ورثت ابنتها إلا بعضه العودة إلى مكانها الذي لم تألف غيره طيلة عمرها، قلبها فطري الحنان تحجّر بشدة وكأنها لم تعد تسمع شيئاً من كلمات سلوى المبتهلة بقائها كي لا تنحسر منابع الحياة عن شرايينها فائرة الدماء تماماً، ما عذرتها ولا طلبتْ غفرانها على عصبيتها وصراخها الباكي في وجهها إلا عند وصولها نبأ وفاتها بعد يومين من ولوجها بيتها الذي أوقف بودو حارسين مدججين بالسلاح على بابه بالإضافة إلى امرأة تقوم على رعايتها... كانت متيقنة من اقتراب أجلها، تسابق انسحاب الروح من جسدها في إصرار الغريق المتشبث بالنجاة، حضر الأقارب الجنازة وسلوى معتكفة في ذات الحجرة التي قضت والدتها أغلب أوقاتها نوماً على فراشٍ خلفت فيه عبق اغترابها وذلك الإعياء الذي تسلل إلى جسدها دون أن تشكو من أي علةٍ عضوية ...

 تصلنا نهنهاتهما من غرفة الحاجة التي سارعت لإدخالها إليها بعيداً عن صقيع الخارج، من لحظةٍ إلى أخرى تتعالى إلى نشيج حاد ثم ترنو إلى الخفوت، يتجمر وجها بودو ومحمود الذي حاول تجاهل وجودي منذ دخولي الشقة رغم ترحيب والدته الشديد بي وضمي إلى صدرها قوياً، تنتابها شهقات من بكاءٍ مكتوم، حيّاني ببرودٍ جليدي تلافى تأفف نظراتها في نزقٍ يلازم خروجهما إلى بار المطعم الملحق بالمجمع دون أن ينبسا بكلمة...

 يتمدد وقت جلوسي على مقربة من الباب الموصد على رسوماتي المسجاة في تابوت الوحدة منذ أشهر دون أن يغازلها لون أو تمسها فرشاة، صمته الخانق يوّدعني حتى خارج الشقة... أخلِف المجمع الكبير ورائي فتعاودني رغبة شديدة في الرجوع واقتحام الصومعة التي فررت من جمودها بجزع من ينأى بنفسه عن أشلاء عالم محطم لا قبّل له بترميم نثاره، فلوحات العائلة المتفرقة حتى في تجمعها ستبقى باهتة خالية من نبض الحياة، تعبيرات الوجوه فيها خرساء مهما استجمعت من قدرة لاستنطاقها...

 (اللوحات مرايا حقيقية، لا تقبل نقل الأكاذيب، أيا كانت درجة تجميلها أو فبركتها..)

 سأرد على الحاجة بلقيس بذلك إن طلبت مني معاودة العمل في ما استدعتني سابقاً لأجله، بكل صراحة وجرأة، وأنا أهيئ نفسي لانهمار حمم من غضبها في وجهي دون أن تعطيني فرصة تقديم أي عذر يزيد مآقي عينيها خذلاناً...

 رذاذ لطمات البحر الملحي ينوش الجانب الآخر من الشارع حيث أسير وليس في مقدوري إطلاق صرخة ترد على هيجان زعيقه الناعق في رأسي... كان في طريقي إلى كهفي الممسوس بالصمت والعزلة وتمزع الذكريات أم أن قدمي عرجتا بي إلى بابه الزجاجي المعتم، أسفل سلم المرمر عريض الدرجات الواطئة؟... ينفتح على نافورة من الأنوار الصارخة المزغللة للبصر وصخب الموسيقى الصداحة من السماعات الكبيرة المعلقة أعلى كل ركن من أركان ديسكو القمر الذي ولجته أول مرة مع لوسيا بدعوةٍ من سارة عندما كانت في تأجج علاقتها مع مسعود... بروجكترات صغيرة متحركة، تخفت وتعلو في زرقتها الضبابية فوق المرقص شبه الدائري المكتظ بالراقصين متلاحمي الأجساد تقريباً، كم من مرة ثار مسعود وتحفز للعراك مع كل من يلمحه يمرر يده بخفة تلامس مؤخرة سارة أو ردفيها أو أحد كتفيها، ربما عن عمد مستخف بشذر نظراته الصقرية غير المبالية بمحاولتنا التخفيف من ضراوتها، ولا بتهديد سارة له بقطع علاقتها به ما دام لا يستطيع التكيف مع إيقاع دنياه الجديدة والبعيدة كل البعد عن جمود العالم الذي كان يحجبه عن الحياة داخل بلاده، ولكن ما كان ذلك الانفصال يبدأ حتى ينتهي إلى مرفأ جديد يسلمهما إلى عباب بحر أكثر عتواً...

 تندفع إلى صدري... الراقص معها قام بحركةٍ حمقاء غير مدرَب عليها، مع عدم اتزان خطواتها نحوي يتلاشى وسط الضجيج تذمر صرختها في وجهه، تتلقفها ذراعايّ، فتتناثر خصلات من شعرها القصير على جبيني بتدفق شلال زكي الرائحة، يداي تحوطان صدرها خشية وقوعها، كفايّ تعترشان قمتي نهديها، لا ترتضيان إفلات ترجرجهما المحموم بين أصابعي الضاغطة على بلوزتها فاقعة الحمرة، نارٌ تحررها من بقايا صقيع الخارج، تنوش رأسي سكرة لم تنلها من كأسي الكونياك اللتين ارتشفتهما سريعاً عند البار، تلتفت نحوي بسرعة عصبية، أضمها إلي بقوة تتلافى يدها المرفوعة استعداداً لصفعي، تتوحد دهشة العيون، تتلامس الشفاه المبتسمة في قبلة، بل عدة قبل مرحبة باللقاء غير المخطط له، أرقص وسارة بهدوء على أنغام خاصة بنا وحدنا، أحرص على بقائنا متحاضنين ما تسنى لي ذلك وليذهب كل خاطر يمكن أن ينتزعني من فردوسي الذي وجدته على حين غفلة إلى الجحيم...

قبلاتي المتصاعدة حرارةً على خديها تسحب حبل الكلمات من بئر رغباتها المضطربة...

ـ عندي موسيقى هادئة في شقتي، تحب...

ـ طبعاً، طبعاً أحب وأتمنى.

أحتويها بقوةٍ أكبر وأدور بها دورة كاملة، دورة فرح وظفر غُيبا عني لوقتٍ طويل...

تستوقف انفعالي النشوان بكركرةٍ حسدت مسعود كثيراً على رقة جاذبيتها: ولكن احذر، أنا مجنونة الليلة إلى حدٍ ـ تدندن في غنج مطوحةً يديها في وجهي ـ لا لا ... لا يمكن أن تتصوره، رغم كل إرهاق العمل ورغبتي الشديدة بالارتماء على الفراش فور دخولي الشقة التي تحولت إلى كهفٍ من صقيع خفتُ أن أتجمد داخله...

ـ هههه... ووجدتيني في الوقت والمكان المناسبين، كالعادة، اختياري هو الذي يختارني دوماً.

قالت في نظرات متشككة: ماذا تقصد؟.

 أعود إلى التسريع من حركات رقصنا، وكأني أود الطيران بها إلى فراشها الوثير في إغماضة عين...

 أصرخ دون وعي مثل طرزان في أفلامه ولا أبالي أن يسمع صوتي الراقصين من حولنا...

ـ وأنا فيضان من ناااار، ممكن أن يحرق ملَكَا كلها.

 ضحكاتها الخجول تظهرها أمامي كما لم أرها من قبل، بسرعة تسحبني من يدي والدوار يرنحني يميناً وشمالا، نرتدي معطفينا ونهبط من القمر لنرتقي السلم المؤدي إلى الرصيف...

 تنزلق العجلات فوق بلل الشوارع، آه لو تداهمها ذات الفكرة التي أتمنى، بل أهوَس بتحقيقها، الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، نمضي ليلتنا الجامحة في غرفة فندق من الفنادق الكبيرة التي نمر من أمامها خطافاً ـ طبعاً على حسابها ـ غرفة تثير فيكَ طاقةً مضاعفة فور دخولك إليها ويلفحك دفء التكييف المركزي، الفراش بمساحة غرفتي تقريباً، نتقلب عليه دون خشية الوقوع منه، البانيو البيضوي يسمح بتلاعبنا ومداعباتنا الضاحكة والصارخة في زخم دفق تيارات مياه الجاكوزي الموجية دون وجود بحر يعينها على الإفلات من صخب جنوني، على امتداد أذرعنا نجد الروبين والمناشف القطنية البيضاء المعطرة، نرمي بالبطانية والفَرشة نحو الشباك المغبَش بالبرَد ونقرات المطر الضاربة بقوة على الزجاج... سرعتها المنهالة دون انقطاع تستفز حركة المساحتين المستمرة أمامنا، بلا أن تملك قدرة على سرعة صدها، كما تتراخى قدرتي على إغفال فكرة أني آخذ مكان رجال آخرين في سريرها، في مقدمتهم مسعود، بكل ما قد يفترسها نحوه من شوقٍ وغيظ لحد الآن...

 تباً لاستفاقةٍ في غير موعدها ولذة النشوة ما تزال عند أول هدهدة الهيام مسلوب العقل والإرادة، وما أروع مثل هذا الاستلاب وإن أسرَنا الندم بعد حين، لكن... ما شأني ببعد حين هذا، فأنا منذ مغادرتي مدريد قررت تسليم نفسي كاملاً للحظة التي أعيش فقط، قد يتغير كل شيء بعدها رأسا على عقب، الأحلام الفردوسية تحال إلى كوابيس لا سبيل للفكاك منها...

 إنه الواقع بكل صلابته وصلفه وعبثيته، يلطمني مثلما لطمها، أنير الضوء ـ سبوت لايت ـ الصغير، البارز مثل مقلة عين من بطانة السقف الجلدية فوق المرآة الأمامية المستطيلة... تبدو مثل إطار لوحة أسود تتوسطها قسماتها المنهارة، كم هو سريع تغير تعبيرات الوجه من النقيض إلى النقيض، لحظة خاطفة يصعب على أي رسام الإمساك بها، بشرته تكاد تتشقق عن جمرةٍ يتقاذف شررها من عينيها شاخصتي النظر نحو البعيد المجهول...

 أوقفتْ السيارة إلى جانب الطريق مع رنين هاتفها، لم تجب على محدثها بكلمة، لا شيء سوى كربة الصمت المهينة كرامتها، أحلامها، وجودها كله...

يطاوعها لسانها على النطق أخيرا بصوتٍ خافت متلجلج النبرة: فجروا المجمع في المريه...

ـ ماذا... كيف... متى... من فعلها!!!!...

تلتفت نحوي بنصف جسدها، عويلها الوحشي يصرخ بي:

- ومن غيركم...

ـ غيرنا...؟

ـ العرب، المسلمون، هربتم من معارككم الخاسرة في بلادكم المخبولة بالثرثرة الغبية الحمقاء وتجمعتم في كل مكان كالعناكب لتحرقوا العالم بنيران جهنمكم الموعودة لكل من لا ينتمي ـ من حسن حظه ـ إلى نزعاتكم المتخلفة...

 سبحان الله، ذات الكلام تقريباً الذي طعنتُ به مسعود لدى اتخاذه قرار هجر حياتنا، لا عشقها المحرّم فحسب...

 يكتوي وجهي بنفثات التنين المغيرة عليّ، تشعِل الحرائق في حرير الأنثى الناعم الذي كانت تتشرنقه قبل أن يصدر هاتفها رنته الجهنمية...

ـ بهذه السرعة حللتِ واستنتجتِ وحاكمتِ وحكمتِ، من قال...

بحدة متوحشة ولهجة عراقية لا تداخلها أي ركاكة تأخذ استغرابي إلى أقصى مدى: آني أعرف ومتأكدة من كل كلمة أقولها...

ـ تحجين عراقي بطلاقة، وتدعين إنكِ...

هيجانها يعلو ويعلو:

- أحجي بأي لغة وأي لهجة وقت ما أريد، ومو ـ ليس ـ من حق أحد يعلق على كلامي ولا على تصرفاتي...

 وصلت أعاصير حنقها إلى مرحلة التشكيك إن كان لقاؤنا محض صدفة، أم هو خطة مدروسة بعناية من أجل إبعاد شبهة مشاركتي أو علمي بالعملية الانتحارية في المريه، تذكرني في مكر المحققين بالجملة التي هذرت بها سكرة شهوتي لدى شبق رقصنا الطويل في وهج الأنوار الساطعة...

(أنا فيضان من ناااار، ممكن أن يحرق ملَكا كلها.)

*      *      *

 عدت إلى الشقة مرشوقاً بزخ المطر المتواصل وفحيح غضبها التي جعلتني أصفع باب السيارة قوياً لدى ترجلي السريع منها... لم أضئ مصباحاً، احتجت كثيراً إلى تلك الظلمة المخترقة بنثار ضياء عمود نور الشارع القريب من شباك الصالة، جلستُ على الكرسي الذي احتوى شرودي في انتظار سائق الحاجة بلقيس، في رأسي يتقادح شرر الأفكار، تنفرط شظايا، تتقافز من حولي ثم تعود مفخخة بأفكارٍ أخرى تكاد تفجِر جمجمتي وتلطم أجزاءها هنا وهناك، مثل المشاهد الحية التي تنقلها مختلف المحطات التلفزيونية، لا أكاد أستقر على واحدة حتى أتحول إلى أخرى، لعلي أفلح بخبر مكذِب أو مخفِف على الأقل من هول الحدث المفجع، الانفجار كان كبيراً جداً، خسف الأرض ببناء المجمع غير المكتمل، زلزل المدينة برمتها، مثير رعب الجميع، أحال كل المعدات العملاقة إلى كومة حطام، فحّم الكثير من الكرافانات والأبنية الجاهزة إلى يقيم فيها المهندسون وكل العاملين في المشروع، عدد الجرحى والمعاقين والمشوهين يكاد يصل إلى ضعف عدد الموتى غير القليل...

 "حملة أمنية كبيرة نجحت في القبض على معظم أفراد الشبكة الارهابية المسؤولة عن الحادث المروع في حي فقير يقع عند أطراف مربيا بعد نحو ساعة من تبادل الأعيرة النارية..."

 "الارهابيون جميعهم من العرب المسلمين المقيمين بصورة غير شرعية في البلاد، حاول البعض منهم اللجوء إلى بيت الغجر أو بيوت الدعارة في الحي، مستغلين ضيق الأزقة المظلمة وتفرعاتها المتشعبة..."

 "العثور على الكثير من الأسلحة الخفيفة والقنابل والعبوات والأحزمة الناسفة محلية الصنع، وأوراق خطيرة منها الخرائط الهندسية للمجمع في المريه، بالإضافة إلى جوازات سفر مزورة..."

"أنباء عن تورط عناصر أمنية في قضية تقاضي رشى من أيادٍ خفية تحرك المجموعة من الخارج"

 "هناك معلومات تشير إلى اتصال هاتفي تم من قبل مجهول، لم يرضَ الكشف عن اسمه، لكنته تدل على هويته الأجنبية، يرجَح أن يكون عربياً أو من أصلٍ عربي، ساعد كثيراً في الكشف عن معلومات دقيقة تخص المجموعة الإرهابية والأماكن التي يمكنهم اللجوء إليها، منها أقبية سرية غائرة القدم تحت الأرض، لا يعلم عنها شيئاً غير قلة من قياديهم..."

 "من الواضح أن المبلِغ المجهول قد انشق عنهم إثر خلاف جعلهم يهدرون دمه كما تقضي أعرافهم الوحشية..."

 "من يكون بالتحديد، أين يمكن أن يختبئ، يحضر لعملية أوسع وأخطر من أجلها قدم رفاقه ككبش فداء لإلهاء الجهات الأمنية عنها؟؟؟... علامات استفهام تتكاثر من ساعة لأخرى، من دقيقة لأخرى، تثير الريبة والفزع لدى الإسبان بانتظار ما يمكن أن تسفر عنه التحقيقات الجنائية..."

 في زخم ذهولي مما أسمع وأرى تناهى إلي صوت صرير باب غرفة حسن لدى فتحه، عسى أن أجد لديه قطعة حشيش تعينني على استيعاب زئير الموت والدمار الذي يلاحقني أينما وليت وجهي، وقف أمامي كشبح أبكم لا يجيب عن تذمري بكلمة...

ـ شفت اللي عمله صاحبك وجماعته المجانين، الله يستر من الأيام الجاية... انت نايم ولا على بالك، معك وحدة بغرفتك؟...

 ضوء الصالة الذي أنار أجاب على زجري صمته المستفز، حولتُ ناظريْ بينه وبين غرفة حسن عدة مرات كالأبله حتى جمدتْ عينايّ على صديقي الغريب عني منذ زمن... ظللنا مثل صنمين يطالع كل منهما ملامح الأخر الجامدة المتجهمة، لم يخالجني التفكير حتى بسؤاله كيف تسنى له دخول الشقة، كيف عرف عنوانها أصلاً، ومنذ متى هو هنا، مؤكد أني لم أترك الباب مفتوحاً تحسباً لمجيئه، غير المتوقع... أي أحمقٍ أنا لأشغل بالي بمثل تلك التفاصيل الصغيرة الآن...

 لم أسأله ما الذي اضطره إلى تلويث طهره بدنسنا، حتى بعد تنبهي إلى ما يرتديه من ثياب حسن، استغرق في النوم بمجرد دخوله غرفته، عطنة الرائحة على الدوام، واستلقائه على فراشه الملوث بآثار المومسات كما لو أنه قد أغمي عليه تماماً... قال ذلك في ذات سخريته من مبالغات الأخبار التي تبثها القنوات بتواثب مرتبك ومربك، خصوصاً حول مدى دقة وأهمية المعلومات التي قدمها المبلِغ المجهول عن الأقبية والأنفاق المدفونة تحت الأرض والتي يمكن أن تعود إلى زمن وجود العرب في الأندلس... مال برأسه جهة التلفزيون قبل أن يجلس على الكنبة ويطفئه من الموجه ضجَراً من الثرثرة المتواصلة حول رفاقه الذين كانوا يتوقعون إلقاء القبض عليهم في أي لحظة فسابقوا إلى تنفيذ العملية حتى لا يفنوا في بلاد الغربة وتذهب كل تضحياتهم سدى قبل أن تدوي صرخاتهم الجهادية في العالم كله، كان يتكلم بنبرة محيِرة في حياديتها، وكأنه يحلل الصورة عن بعد، دون أن تكون له علاقة مباشرة بها، لم يتطرق إلى التفاصيل، حريصاً على ما ينطق به لسانه وما يتوجب التكتم عليه، بالضبط كما لو كان يجري مقابلة تلفزيونية مقتضبة، يترك لي أطراف خيوط أسعى بكل جهد لجذلها، علي أنجح في التوصل إلى حقيقةٍ ما في حياتي، أخبرني بشيء قريب مما جاء في رسالته التي كتبها لسارة قبيل تركه شقتها، في عينيه يلوح يقين ـ وما أشد دهشتي من يقينه ـ قراءتي الكاملة لها، كان يتوجب عليه استعادة كسب ثقتهم به وضمان عدم هدر دمه لديهم، على الأقل حتى يضمن وصول زوجته الحبلى ووالديها إلى تونس وتأمين حمايتهم هناك، من قبل من؟... لم أعر أهمية لذلك، وأكبر امتحان كان عليه تخطيه هو موافقته بل تحمسه لما حدث في المرية، بينما ظل هاجس ترصدهم لكل خطوة وحركة يقوم بها لا يفارقه، سلم موبايله لأميرهم، كما فعل الجميع، وكما أقسموا أقسم أنه لا يملك سواه، كان ذلك قبل موعد التنفيذ الذي لم يبلغوا به... رغماً عني شاركته حدة ضحكاته العالية، لا من مدى غبائهم، بل من محاولة استغبائي بكذبةٍ أو سلسلة أكاذيب يوَشي بها كلامه كيفما شاء، أستطيع اكتشافها من خلال اختلاج نبرة صوته، زوغان نظراته التي ظللت ألاحقها حتى علقتا في شباك عينيّ المتغامزتين في استهزاء ليفهم مقصدي، وقد اعتاد تلك الحركة مني إشارةً إلى ضيقي من كذب محدثي إن تجاوز حد استمتاعي به...

ضحكت:

- المهم، استمتعت بآخر مرة كنت فيها معها يا... مَسو ـ كنيته لدينا ـ كنت أتوقع إنك تريد الانتقام من الطرفين بضربة وحدة، بس بهذي الطريقة؟... طبعا قصة السيارة اللي كانت تراقبك وتنتظر خروجك من شقتها كانت لعبة من ألاعيبك بأعصابها، بس حلوة، نجحت بحبكها عليها ببراعة، لكن آني ما أقدر أبلع قصة جمع الموبايلات وموعد التنفيذ اللي ما يعرفه أحد، وقبل هذا كله إنهم فجروا المجمع ودخلونا كلنا جهنم حرب الإرهاب من جديد بس حتى يختبرون ولاءك، اسمح لي... صعبة تدخل مخي.

نجحت في استفزازه أكثر مما كنت أتوقع...

بحنقٍ تكلم:

- يعني أنا اللي قنعت الجماعة بفكرة التفجير؟... الأمور مش بهذي البساطة اللي تتخيلها، التنظيم فيه تسلسل شديد التعقيد وأنا...

ـ ما تحب يتأمر عليك أحد، خصوصاً دون مقابل...

 لو تمكنَ من اقتلاع بؤبؤي عيني المصوبين نحو وجهه لفعل... أسندَ ظهره إلى الكنبة، حاول الاسترخاء، كما لو أنه يستعد لغفوةٍ جديدة تنئيه عن مواجهتي...

قال: لهذه الدرجة متعلق فيها، حتى لو نمتَ معاها، مش ممكن تكون أكثر من ليلة اشتياق لشريكها وحبيبها الجديد.

ـ حبيبها الجديد؟...

رمى نظرات نحوى بلؤمِ ضاحك:

- شو ما بتعرف؟... مليونير أو ملياردير فرنسي ـ إسرائيلي، اشترى حصص كل المساهمين، وصاروا شركا لوحدهم، يعني المجمع اللي شاغلك تفجيره إسرائيلي بالكامل... آه صح، تتذكر الديسكو اللي كنا نروح له، هو مالكه، يعني مش بعيد إنها كانت تعاشره من قبل تركي لها، وهي المسكينة اللي عملت نفسها ضحية مش قادرة على فراقي، بنات صهيون يابا...

تجاوزتُ صدمتي بما قال عبر ضحكة مستهزئة...

أجبته: وطبعاً ما قبلتها على نفسك، رحت لها حتى تشفي غليلك، وما اكتفيت فـــــ...

صرخ في وجهي:

- شو انت ما بتفهم، قلت لك إن تجمع مربيا صار أمره مكشوف، و... والحاج حسان له علاقاته بأخوة مجاهدين، الطاووس ههه... الأمير نفسه ما يعرف عنهم شي غير إيميلات، تتغير كل مرة، مبعوثة من أسامي وهمية، هي اللي تحركه وتنَطقه مثل عرايس القطن...

ـ كلفوك بمهمة تصفية... إخوانك، وبالتوقيت المناسب، ههههه... أحلى شي التوقيت المناسب...

عدتُ أرشقه بنظراتٍ تلوك الدهشة والاشمئزاز معاً...

أردفتُ في نبرةٍ متأسفة تدنو من الهمس:

- ولا صدام بزمانه، منو غيَرك أكثر، هي أو هم، أو الدنيا اللي غربتك من صُغرك...

تغاضى عما قلت متلجلجاً: لا تنسَ إن لكل صراع ضحايا.

ـ ههههه... صراع العشاق الأعداء؟...

أحنى رأسه في خجل ثم عاد لرفعه، إيماءات الحزن تلَوحه: المهم... كلها ساعات وأترك المكان، اطئمن، لا يمكن أعرضك لأي خطر...

 لم أهتم بسؤاله عن وجهته، لا بد إنه قد أعد للأمر جيدًا، باغتني الإنهاك والنعاس، اقترحَ عليّ أن أذهب للنوم في غرفتي وأوصد بابها تخففاً من عبء وجع الوداع الأخير، قال إنه سيستلقي على الكنبة حتى يحين موعد رحيله، ولكنه عاد ليستبق وصولي المتثاقل إلى الغرفة بسؤاله عن علاقتي بعشيقتي المجنونة...

*      *      *

 لوسيا... آه من مكركِ وحماقات الشعوذة المسيطرة على عقلك المخبول، ليس معي وحدي، بل مع كل عربي يقع كالأهطل في حبائل غرامك، من دمائنا المراقة على قارعة التاريخ تترجين تحقيق حلمك بإنجاب طفل لا يولد مختنقا بحبله السري، أو تكتسح الحمى أنفاسه بعد ساعاتٍ من ولادته، بهذا أخبرتكِ العرافة المكسيكية العجوز التي تسكن بيتاً هو أقرب إلى كهف في جبال سييرا نيفادا!!!... وكل حكاياتك عن ولديك وشقاوتيهما وما تمرون به من مواقف ومفارقات صاخبة وهزلية، ومشاجرات وعقوبات تفرضيها عليهما بصرامة رغماً عن قلبك المعتصر ببكائهما أو ترجيهما عفوكِ، دون أن تسمحي لزوجكِ بالتدخل في أي أمرٍ يخصهما، فهو بحاجة إلى من يربيه... ألم تكن تلك بعض آرائك في شخصيته غير المبالية بشيء سوى نفسه؟... كل، كل حياتك التي أولجتِني فيها كانت سلسلة من الأكاذيب، خيال قد لا يدركه ذهن كاتب قصص وروايات، أو حتى مؤلف مسلسل من مسلسلاتكم غير منتهية الأحداث الممطوطة!!!...

 رقم كم كنتُ بعد خروجكِ من المصحة النفسية ومعاشرتك صديق مسعود، التائب إلى الله؟... رآكِ أكثر من مرة معي في الحي القديم، ولكنه كان يتوارى عنك سريعاً، مستعيذاً من معاصيه معك ومع غيرك، ولتذهبي وحمارك الجديد إلى سعير الجحيم...

 تعرفَ عليها في المستوصف الذي كان يعمل فيه، بصورة غير شرعية طبعاً، أخصائي نسائية وتوليد، كل فترة تسارع إلى هناك، دون اللجوء إلى التحليلات المنزلية، لتتيقن من حملها وقد أدركتها أعراضه بقوة تكاد تشعرها بنمو أولى خلايا الجنين داخل رحمها، فيتكرر بينهما ذات الموقف وبأكثر تفاصيله في كل مرة... يؤكد لها كذب تلك الأعراض وإن ذلك يعود إلى هوَسها بالإنجاب سريعاً لتعوض فقدانها وليدها الثاني بعد الأول، ثم يشير عليها بضرورة مراجعة طبيب المصحة النفسية التي كانت تعالج فيها لعله ينجح في مساعدتها ما دام زوجها، كما فهم منها، لا يولي بالاً لها ولما تعانيه، تنتظره حتى يتم كلامه لتتهمه في ثورةٍ من الغضب بالجهل التام، وإن قابلة عجوزاً تسكن قرية صغيرة تفهم عنه بكثير...

 تخرج من غرفة الكشف كمن يفر من جريمةٍ وجد نفسه مكبلاً في وزرها، تخلِف وراءها طيفاً من قسمات وجهها جريحة الصرخات، نبرات صوتها المتذبذبة ما بين اختلاج الرجاء الكسير وهياج لبوة تود نشب مخالبها في أحشاء الدنيا، تفاصيل جسدها الذي استلقى أمامه مراراً أثناء الكشف، كما كانت تفعل عند إقبالي عليها... تلك هي لوسيا بإثارتها الملعونة التي تعرف ملاعبة غرائزنا جيداً، لعله كان مثلي أيضاً وغامره ذلك الهاجس الجانح إلى اليقين المادي إنها لم تكن المرة الأولى التي يجمعهما فيها سريرٌ واحد...

 اعتبرها من حقه وحده، زوجها هو الدخيل على حياتهما الهانئة (المتقطعة)... يزجرها إن أتت على ذكره أمامه، يشاجرها حتى يكاد يضربها إن تأخرت عن موعدٍ لهما أو لم تذهب للقائه بأي حجة تزيده غيظاً من ذلك الإحساس المنفِر بهامشية علاقتهما من جهتها... أظنه كان يهجس بإيلام سيطرتها عليه، رغم مكابراته البائسة لإبداء عكس ذلك، ليس بغريب أن يكون صديقاً لمسعود وذات عقدة الشعور بالنقص قد جمعتهما إزاء معشوقتيهما، إلا أنه كان أضعف من مسعود بكثير... لوسيا هي من أصرت على إنهاء العلاقة وفي حزمٍ نسائي شرس لم يحسب لكبرياء رجولته الشرقية أي حساب، ردت على كل تهديداته الصبيانية بإحالة حياتها إلى جحيم مع من تسميه زوجها بسخرية متلائمة من المهاجرين غير الشرعيين في إسبانيا وإمكانية ترحيلهم في أي وقت، فماذا لو إدعت محاولته اغتصابها مثلاً!...

 لم يتركها تغادر الغرفة التي كان يستأجرها للقاءاتهما قبل معرفة سبب قرارها المفاجئ ذاك... صارحته في نفور وهو يقبض على ذراعها الرخوة بعصبية شديدة، أنها لن تحمل منه أبداً وهو بمثل تلك الأعصاب المتوترة المهزوزة، تستشعرها مهما اشتد به الهيجان المضني لجسديهما، تؤكد لها إنه ليس الرجل الذي أوصت به العرافة المكسيكية ليكون صُلبه ضماناً لاستمرار حياة وليدها، كما أن الحب، أو بعضاً من حميميته على الأقل، شرط ضروري لحصول الإخصاب، وهي لم تعرف من بدائيته ولفح الصحراء المتوغلان فيه سوى الاشمئزاز الذي لم تستطع التغاضي عنه أكثر من الشهرين اللذين أمضياهما معاً... أخرجتْ من حقيبة يدها مبلغاً من المال ورمت بأوراقه فوق السرير المبعثر تعويضاً عن هدر كرامته المداسة بكعب حذائها العالي في طريق خروجها المستبق انتزاعه لوعيه من الذهول الذي حط عليه صاعقةً من السماء كادت تسحق رأسي المطروحة فوق الوسادة التي تشربت آخر حمى عرقنا قبل خروجها الأخير خائبة الرجاء من جدوى استمرارنا في علاقة تعرت من كل معنى، كذوب هو الآخر في أساسه...

 عن أي لوسيا حدثه ذلك المعتوه؟... لوسيا التي عرفت!!!... تلك العاشقة المتيمة التي فررتُ من غربتي إلى أحضانها فطافت بي ومن خلالي في عوالم قديسيها وحكاياها القديمة المهجّنة بسحر الخيال، تنثر من حولي ترانيم الشعر وشجن الأغاني المكسوة بطابعٍ أندلسي قديم، ووو... والآن يأتيني هذا الملعون لينقل إلي بكل دمٍ بارد إسهاب صاحبه في الكشف عن تلك الكذبة الكبيرة التي هندسَتْ تفاصيلها بدهاءٍ متقن يمعن في إيغالي في قاع العدمية البائسة، يحوطني بمرايا لا تعكس إحداها إلا الفراغ القانط في الأخريات... حاجز صلد يصدني عن العالم ويستنزف كل قدرة لي على التفكير أو التفسير، التفتيش عن ثقوب الصدق ـ إن وجدت ـ في خيام الكذب السلطانية التي أرقدتني فيها بعد سعيٍ حثيث من قبَلي للوقوع في مصائدها التي لفظت عشق الطبيب المتعصب سريعاً، أغلب ظني إنه قد تلاشى تماماً من ذاكرتها، كذلك تاه في ركام عقلي المفجوع سؤال رسول الحقيقة عن المناسبة التي أرغمت لسان صاحبه أخيراً على البوح بخيبته الشبقية، وفي أي حالٍ كان... أي نبرةٍ واكبت سرده الخجول، كما لو كان في مقصورة اعتراف داخل كنيسة، علّ ذلك يعينه على تخطي الوسوسة الشيطانية القابعة فيه رغم الثوب القدسي الذي يتبرقع بطهره للانعتاق من دنس الماضي، شأنه شأن مسعود...

*      *      *

 استفقتُ من نومٍ متقطع على صوت فتحه باب الشقة وانصرافه عند انبلاج الفجر، غادرت الفراش في وهن، أنوء بشقاءٍ لم أشأ كشف شيئاً من لدغ سمومه أمامه، وقد استشعرتُ لؤم التشفي يبحر في نظراته الموجهة نحوي بلا رمشة عين، ما بعث الشك لدي في مجمل رواية صديقه، وربما تكون روايته هو، كل شيء جائز وما من شيء يجعلني أستغرب جنوح تفكيره بعد كل ما حدث ورتب له بدهاء إبليس، ولكن... ليس إلى هذا الحد!... ثم ما مصلحته في ذلك من قريب أو من بعيد وهناك أمور مصيرية بالغة الخطورة لا بد وأن تشغل باله عن فبركة مثل هذه الحكاية المثيرة للغثيان...

 لا بد أنه كان ينتظر سائق السيارة التي لم يبن لي نوعها، حجمها، أو لونها، انطلقت سريعاً فور ركوبه، لم أطل النظر إلى الشارع المنفلتة منه، من غير أن يخترق ضوء مصباحيها الأماميين ضباب الصبح الكثيف... طرحتني مفاصلي المتوجعة على حافة الفراش، ضممت تحت اللحاف ارتجاف جسدي الناضح عرقاً بارداً...

 عند يقظتي مزكوماً في المساء، بالكاد أقوى على حمل كوب نسكافه بالحليب يبعث فيّ بعض الدفء، وجدت ورقةً على الطاولة في الصالة مكتوبة بخط يد مسعود...

 «نسيت أن أخبرك، على ما يبدو إن صديقي المفتون بعشقها لحد الآن رغماً عنه قد عاد به الشوق إلى ترصد أخبارها... لوسيا حبلى.»

 نسي إخباري أم لم يشأ مواجهتي بآخر ما في جعبته وهو يعلم إننا لن نرى بعضنا مرةً أخرى بعد إضرام نيرانه المستعرة في الجميع، بمن فيهم أنا، المفضوح لديه بطمعي في سارة منذ البداية... الأهم لديّ من كل شيء الآن كيفية مواجهة خداعها، وانتزاع الحقيقة كاملةً منها، بأي طريقة كانت، حتى لو... لو ماذا؟... ملّكتني شياطين الدنيا من رقبتها!... ولكن ماذا عن الجنين الذي قد يكون في أول طور تكوينه في أحشائها، ألا يمكن أن يكون من صلبي أنا دون غيري؟؟؟...

 ما سبيلي للوصول إليكِ وأنا محتجز خلف قضبان تغشى ناظريّ، الغريب أني ما دخلت معتقلاً أو سجناً في بلادي المكبّلة دوما بأصفاد الهلاك، راوغت الأقدار للفرار منها إلى الأبد وجئت أغرس بذور ما بقي لي من عمر في أرض الحرية الفسيحة... حرية مطلقة، معوقاتها روابٍ، تحفزني طاقة عظمى من التحدي والعنفوان لاجتيازها، ريحها تغور في دمائي، تحيي لدي فورة الشباب الأولى، وها أنا أجد نفسي متورطاً في تهمة تفجير مجمع المريه (الحمام الأندلسي) الإرهابي، أليس هذا أمرا مغرقاً في الضحك؟... ههه، هههههههههه... ما بالي لا أسمع أحداً يشاركني ضحكاتي سوى الصدى المرتطم بالجدران كالحة اللون، تنزوي في مسامعي لوعة أمي والحاجة بلقيس مثل كورال نحيب يائس من انفراج كربتي... لم يكن من المجدي بأي حالٍ من الأحوال الانصياع لإلحاحها الهاتفي المصر على انتظاري سائقها للإقامة عندهم حتى تخف حدة الهياج ضد العرب والمسلمين، ليس في ملكَا أو عموم المدن والمقاطعات الإسبانية فحسب، بل في كل دول الغرب النافر من محاولة احتلال الأندلس مجدداً بعد قرونٍ من هزيمتنا النكراء ورمينا في البحر الذي تسللنا عبره كالقراصنة ـ من ضمن ما راح يُردد عبر الصحف ومختلف القنوات الفضائية ـ أو أن أبقى قابعاً في الشقة ويصلني كل ما أحتاج إليه يوماً بيوم... كنت أجيب على ذلك الحنو الأمومي بالتفكه من إدمانها القلق لأبعد الخوف عنها وعني فلا تجد في النهاية غير الاستسلام لآهاتها المتذمرة من عنادي الأكثر حماقة من عناد قيس الطفولي الحرون...

 ألح عليّ بودو من جهته أن أذهب يومياً إلى البزار رغم ما أعانيه من إعياء وحمى الأنفلونزا، وأن أتصرف بطريقةٍ طبيعية تبدد أي شك قد يطالني بسبب صداقتي الوثيقة بمسعود، وإن انتهت على أيدي التعصب، ومن ثم يتجه صوبه، مطمئناً لبقاء حسن مع فوج سياحي غادر منذ عدة أيام إلى مدينة طريفا عند مضيق جبل طارق...

*      *      *

ربما عن طريق مبلِغ مجهول أيضاً علموا بإمضاء مسعود ليلته الأخيرة في الأندلس عندي قبل عبوره الحدود باتجاه فرنسا...

 مارس عليّ المحقق ضغطاً عصبياً شديداً دون أن يمل من تكرار شراسة أسئلته الملَوحة بجحيم غوانتنامو، إلا أني (ويا للغرابة!!!...) لم أتعرض إلى صعقة كهربائية أو صفعٍ أو ركلٍ حتى، كما أني لم أصادف أي سجين عربي ممن أتوا بهم جراء التفجيرات اللعينة أو سواهم، كنت في عزلةٍ لا تقطعها غير جلسات التحقيق المملة والمستفزة... في النهاية لم يثبت أن شقتي كانت وكراً لتجمع الإرهابيين في ملكَا، ولا اشتراكي في التخطيط أو التنفيذ، وأيضاً لم يأتِ إسمي في شيء من الأدلة التي جمعوها حول شبكة مربيا، حتى زكامي خدمني...

 استند المحامي الذي وكّلته من أجلي الحاجة الحنون إلى حجة أني لم أعلم أصلاً بوجوده، فقد وصلتُ شقتي في ساعةٍ متأخرة ملتهباً بالحمى، آويت إلى سريري وغططت سريعاً في نومِ عميق غيّبني عن الدنيا تماماً، لا عن شخص كان بالتأكيد حريصاً في كل حركةٍ يأتي بها كي لا يتنبه لوجوده أحد خوفاً من الإفشاء بسره...

 من حسن حظي أني تخلصتُ من الورقة التي كتبها لي بشأن لوسيا، فلم يجدوا ما قد يفيدهم لدى تفتيشهم الهمجي للشقة، بعد رفع البصمات من قبل فريق البحث الجنائي.، لم أجد مأوى لدنسها سوى حوض السيفون الذي سحبته على أخره... بالإضافة إلى عقد عمل، بتاريخ قديم، لدى شركة بودو للسياحة، طلبَ إمضائي عليه دون أن يسلمني نسخة أحتفظ بها أو يعلمني إن كان قد وثّقها أم لا، أبلغني أنه قد دفع من أجلها رشى كثيرة سوف يضيفها إلى ديوني السابقة، بالتأكيد لن يسددها الإهمال والخمول اللذان استسلمتُ لهما في الفترة الأخيرة... قالها مازحاً، ولكني أعرف جيداً مدى جدية أي كلمة يقولها تتعلق بالمال أو العمل...

 عن أي عمل يتحدث هذا الأحمق بعد كل ما حصل، وشبهة الإرهاب ستبقى تسومني للأبد... هو أيضا، وإن أعد نفسه إسبانياً منذ زمن ويتكلم ثلاث أو أربع لغاتٍ أجنبية، لا يستطيع التخلص من وصمة أصله العربي الذي قد يؤثر على مستوى أعماله رغم كل ما يتقن من ألاعيب بهلوانية وموهبة في عمليات النصب وتقليد اللوحات لهذا أو ذاك من الرسامين، ولم أكن أعرف أن زيف ما تفشيه الفرشاة من ألوان سيتسرب إلى حياتي برمتها...

 فن، موهبة، الدراسة في معهد بيكاسو الملحق بمتحفه، وربما مدريد أو باريس أو روما، شهرة، خلق، تجديد وابتكار... إلحقوا بسرب أكاذيب حياتي الهائمة مع الغيوم في السماء التي صرتُ أطيل تأملها وقيس في حديقة مجمع سكناهم شاسعة المساحة المحاذية للشاطئ، الحاجة بلقيس ترقبنا عن بعد، كما لو كنا أطفالاً دون سن العاشرة، أحاول التخفيف من حدة نرفزته جراء طريقة معاملتها المرضية على حد تعبيره ـ له بعد أن كان يتنقل من بلدٍ إلى آخر بكل حرية، دون أن تعرف في أي مدينة بات ولا في أي واحدة أصبح، مستمتعاً بكل لحظة من الاستقلالية التي وهبها لنفسه، ولو على حساب فراقها وقلقها الدائم عليه، تلك هي شخصيته التي لا يستطيع إقناع نفسه بالانسلاخ عنها، وكل ما كتبه ويكتبه ويفكر بكتابته لا يكسبه إلا جزءاً ضئيلاً من إحساسه بالحياة، صار يكتب في المواقع الالكترونية وأنشأ مدونة خاصة بمقالاته بعد أن امتنعت أغلب الصحف عن نشر آرائه حول الإرهاب وخفايا جذوره المغروسة في الغرب لا الشرق كما هو شائع... يسهب في شرح أسبابه، أشكاله، تداعياته، الهدف من تنميته ومن ثم كيفية استثماره لخدمة مصالح هذا الطرف أو ذاك و... كلام كثير على هذه الشاكلة، جدله يعم العالم منذ أمد بعديد ويستفحل كوحشٍ كاسر عند حدوث أي حماقة، لا قبل لي بصراحة على الخوض فيه ومناقشته مع شخصٍ في مثل ثقافته، خاصة بعد تجربة السجن التي أثقلت عمري أعواماً كنت أترجى الزمن استبطاء قدومها قدر الإمكان، بينما طرفيّ الصراع (الفراشي) لم يمسهما أي ضر، مسعود كان يعرف وجهته والمكان الذي يأمن فيه على حياته بالتأكيد، أما سيدة الأعمال الحسناء فقد أكسبها التفجير ثروة تعادل أضعاف الميزانية التي رصدتها للمشروع من خلال حملة تحدي قام بها أثرياء اليهود من كل حدبٍ وصوب، وليس فقط من قبل الرابطة اليهودية المرتبطة بالكنيس الكبير في ملكَا، طوّرتْ فكرة المجمع إلى قرية سياحية متكاملة، لم يعلَن عن اسمها ولكن على الأرجح لن تحمل اسم الأندلس بأي حالٍ من الأحوال، رغم أن الاسم من الناحية التجارية عنصر جذب للسياح، الأثرياء العرب منهم بصورةٍ خاصة، فالشخصية العربية عموماً تعشق مثل هذه الأمور الشكلية، بذلك أشارت سارة ذات مرة في نظرات بان خبثها جلياً، ثم أردفت:

- هذا جزء من تكوينكم النفسي ولا مجال لتغييره، حتى لو أظهرتم غير ذلك.     

 يقول قيس إن الحماية المخصصة لتأمين موقع العمل لو توفرت للعراق وبمثل ما هي عليه من تنظيم وجدية لما استمر طوفان الدماء لحد الآن...

 أتساءل إن كانت لا تزال تعتزم المطالبة بتعويض عما فقده جدها قبل قرابة الستة عقود في مدينة طالما ألحتْ بالاستفسار مني والحاجة بلقيس عنها وأنا شبه متيقن من تمام معرفتها بتفرعات كل شارعٍ ومنطقة فيها، وربما حاجز أمني أيضاً...

 بدأتْ أشك إنها ومسعود متفقان على العميلة برمتها، وليسخر قيس من شطحات عقلي ما يشاء، ومن جهةٍ أخرى عادت تتناوبني الشكوك ـ كما ظلت تفعل قبيل اعتقالي ـ بخصوص قضية لوسيا في الإنجاب من صلبٍ عربي...

 تردد مقيت يثني خطايّ نحو شقتها، كسر بابها واقتحامها إن لزم الأمر، كي أتوثق من الحقيقة من صاحبة الشأن وليس من قِبل شخصٍ سواها، وإن أوصلني ذلك إلى حبل المشنقة لا الحبس فحسب... ألعنُ بلادة المشاعر التي ربتها الغربة داخلي، رغم أن المدة الغائرة في صمت الزمن التي أمضيتها في السجن محقتْ كل حاجز يمكن أن يحول بيني وبينها ما أن أرى نور النهار أو المح النجوم المبعثرة في السماء ليلاً وأستنشق هواء المدينة البحري الذي يستمر في إرجاع صدى صوتها المضطرب بجملها غير المكتملة أو مبهمة المعاني والمتشرنقة في حزن معزوفات شوبان، وكأن أحدهما يكمل الآخر في صقل ملامح أنوثتها الغرب شرقية المثيرة، كنت أعد ذلك الغموض سلاح جاذبيتها الخاص، تتفنن في استعماله لإذكاء نيراني كلما أوجست فيها خبواً وما كنتُ لأفطن إلى ما تقودني إليه شياطين عرّافتها الحمقاء...

 رحلتْ بعد أن أدركها اليأس من الوصول إلى مبتغاها وقد ناشها بعضٌ من توتر الأعصاب وعدم الشعور بالثقة، لم تجرؤ على مواجهتي بخطتها الخرقاء... لعلها كانت ضمن ما تكتب في دفترها الصغير السميك الذي تلصصتُ على بعض صفحاته وقرأتُ فقرة أو اثنتين مما سطّرت، ليتني أخذته وخبأته في حقيبتي بينما كانت تغط في نومها على كنبة الصالة. أجلس إلى طاولة على رصيف كافتريا الجزائري منذ نحو ساعة بعد مغادرتي شقة الحاجة بلقيس والشمس تقبل على الغروب، أوصلتُ قيس حتى الباب رغم تذمره العصبي من ذلك، ككل مرة... نظرة الانكسار تكاد لا تفارق عينيه الجريحتين، تخاتلهما سخرية نعتي بجليس الأطفال، فأتحيّر في إيجاد كلماتٍ تجبره على إطلاق كركرة خفيفة يذيلها بتنهد أقرب إلى نهنهة صبي يجزع من رجوعه المبكر إلى البيت وضرورة امتثاله لأوامر ذويه...

 لا أدري أي شيء أنتظر بالتحديد أمام شبابيك شقق العمارة، رغم هذا أشعر إنها تبصر جلستي المتحيرة من أعلى.. أتهيب عبور الشارع والصعود إليها، تلتطم في رأسي الهواجس من مغبة لقياها، ومن جهةٍ أخرى أحسُ إن نظرات صاحب الكافتريا من مكانه في الداخل تخترقني وتستقرئ كل ما يجول في خاطري، يبدو أصغر مني بعقدٍ أو أقل... وسيم، رغم قصر قامته بعض الشيء والصلعة شبه البيضوية المحاطة بشعره الخفيف الكستنائي، يعتني بتشذيب شاربه ولحيته الخفيفين وانتقاء ملابسه زاهية الألوان، يرتدي حول رقبته ومعصميه أكثر من سوارٍ وسلسلة...

 كان أحد عشاقها هو الآخر، أم حاول معها، أو حاولت هي معه؟... وإن حدثت علاقة، كيف بدأت ثم انتهت، وكم من الوقت استمرت، هل سادتها ذات حميمية علاقتنا، أم كان يركنها إلى جدارٍ منزوٍ في كافتريته، أو ينبطحان على الأرض المرمرية الصلدة لدى انصراف الزبائن وإيصاد الباب معتم الزجاج من الخارج، يبدأ وينتهي بسرعة، مرة أو أكثر؟... ثم تخرج تتلفت من حولها، تنثر نظرات خاطفة إلى شبابيك العمارة التي تقطنها، والعمارات المجاورة أيضاً، تركض نحو المدخل وتصعد درجات السلم التي تبدو لي الآن كصخور جبل الفيرا المطل على المدينة، مصابة بشيءٍ من الغثيان، تسح الدموع، تبحث عن زوجها اللاهي عنها فلا تجده، وأي جدوى من وجوده إلى جانبها عندئذٍ، بل أي جدوى من مكوثي هنا في عجزٍ عن اتخاذ أي قرار قد يكون معبري إلى الحقيقة الوحيدة التي قذفتني أحلامي الهلامية من أجلها إلى هذه المدينة الأندلسية العتيقة...

 إحساسٌ خانق يجتاحني بأني عالق بكل ما عشقتُ فيها... فن بيكاسو، وقع أقدامه بين أحيائها وشوارعها وأزقتها، صخب أمواج بحرها المتلاشية عند ساحل الشمس، تطمس بصمات أقدار كل من مر فوق رماله في مخاتلةٍ زمنية ماكرة، حفيف هوائها المتنقل بشهقات الحياة بين جميع الأجناس من سلالات الحقب التاريخية المختلفة التي توالت عليها، بينما تراقص النجوم المتوهجة في سماء شعر لوركا غجريات، حسناوات من الطبقة الأرستقراطية، قديسات وحوريات بحر يجددنّ كل مساء ترانيم قصائد حريته المضرّجة بطعنات جزم مليشيات الجنرال...

 وأنا أكرع من قدح البيرة التي طلبتْ فأغصُ بضحكة أجيد كتمانها عن النادل والجزائري ـ أحد العشاق المرّجحين ـ الذي أوليته ظهري قبل أن يطرق تحديقي باب انتباهه، إذ فوجئت أني صرت أحاكي أسلوبها في الكلام، وكأنه جزء من عرضٍ مسرحي دربتْ نفسها جيداً على تأدية دورها فيه ببراعة، وبلا وعيٍ مني أقحمتني تحت جنح أفيائه الشعرية مسندةً إلي دور البطولة...

 يُسلَط الضوء الساطع على عري فحولتي المستثارة، ثم أغيَب فجأة في ظلمةٍ داكنة لا مجال لدفعها عن اختناقي، فيما تبقى هي مضطجعة على ظهرها فوق سرير المعاشرة المتأرجح في الهواء، تشده حبالٌ غير مرئية إلى الأعلى ببطء مع بدء تكور بطنها، تأتيني أصوات تأوهاتها من أفقٍ جد بعيد، أرقب تململها وتقلباتها القلقة في غمرة عرق ينز غزيراً من جسدينا المتباعدين، حتى تأتي لحظة تزامن صرخة طلقها القصوى مع اختلاج احتضاري...

 لا... لا يمكن أن أبقى على هذا الانكسار وقتاً أطول، وما من ضلفة شباك ترضى الكشف عن ضياءٍ أو حركة في شقتها ولا في أية شقة أخرى في العمارة عتيقة البنيان، الليل الهابط على المدينة ومصابيح الكافتريا وأضواء أعمدة الشارع مشعة الأنوار يحثوني، بل يجبروني، على النهوض والسير حثيثاً بأي اتجاه كان...

 الموج عند الشاطئ يردد قهقهات مخيلتي السكرى... أنا وغيري من ذوي العروق العربية نلتف حول سرير ترقد عليه في غرفة مستشفى، بين يديها وليدٌ مغمض العينين، ترضعه من أحد ثدييها المترعين بالحليب، تحملق أعيننا في وجهه الأسمر مبهم الملامح، ننتظر منها نطق كلمة أو إيماءة رأس صوب أيٍ منا، تستأذب حدقتاها، تضم الرضيع إلى صدرها بتوجسٍ يبكيه، تصرخ فينا بوحشية محارب انتزع الخوف من قلبه أنه ابنها، ابنها وحدها وليس لأحدنا أي حق فيه، لا يعني لأيٍ منا أكثر من مجرد هفوة غباء صرفَنا جنون اللذة عن الاحتياط لها... كم استشاطت غيظاً عندما أردتُ استخدام الواقي الذكري، انفجرتْ في البكاء والصراخ أنها ليست بعاهرةٍ التقطتها من زقاقٍ للبغايا مقابل مبلغ تحدد عقارب الساعة قدره، أما قدري لديها فلم يكن أكثر من سيل حيامن منوية محددة المهمة...

*      *      *

 يحاكمني سخطها بقسوة الثائر لجراحه المتجددة في ذات مستشفى الأمراض النفسية التي دخلتها من قبل، أدلَتني صديقتها أليسبرندا، المضيفة التي أوصلتها ذات يوم وكشفت لي أكذوبة عملها بين السماء والأرض... وكأن جزءاً من الحلم الذي جمعني وإياها يتحقق بعد موافقتها على الجلوس معي في إحدى كاقتريات المطار، عذرتُ توترها وقلقلها من إلحاحي في السؤال المباغت عن عشيقتي الحبلى بعد كل هذه المدة من القطيعة وإصراري أن ألتقيها في أسرع وقت ممكن وفي أي مكان، شقة أليسبرندا مثلاً، المهم ألا تعلم شيئاً عن ذلك، أجبتُ على دهشة نظراتها أني سوف أغادر المدينة وربما إسبانيا كلها ولا أريد سوى وداعها ومحو أي حقدٍ قد تضمره نحوي... ظلت متحيرة في مطلبي الغريب منها، ترشقني بالصمت المتململ وأنا على وشك الانفجار في بلادة وجهها... أخيراً ترفقتْ بي، أو ربما خافت ممن أُلقي القبض عليه على خلفية تفجير الحمام الأندلسي، رغم أن خبر اعتقالي لم تتناقله، أيٌ من وسائل الإعلام...

 تدفق حديثها مدراراً كما الأمطار الصيفية، أنهكني تتبع سرده الذي حاولتُ جاهداً تجميع شتاته في عقلي، قبل أن تصيبه لوثة هو الآخر، متقمصاً دور الطبيب المعالج بعد أيامٍ من دخولها المستشفى واستقرار حالتها العصبية بعض الشيء، حيث أخذت جملها المتقطعة تترابط، دون أن تتخلص من الارتباك السارح في مقاطع كلماتها متباينة النبرات ما بين اختلاج يبتلع الأحرف واسترخاء لا تمل ثرثرته...

 كان حلمها أن تهاجر وتلد هناك، في تلك الدولة العملاقة ـ اللقيطة، التي ما كانت لتوجد لولاهم، وهاهي إسبانيا العظمى بكل تاريخها وحضارتها ـ كانت تقولها دوما بغطرسة ملوك القرون الوسطى ـ تتذلل لها مثل بقية دول العالم وتنقاد وراءها إلى وحل حرب أفقدتها أخيها... لم يبالِ زوجها لأمر حملها (المريب) ما دامت سبيله للحصول على عقد العمل الذي طال انتظاره له لدى شركة مقاولات تتعدد أفرعها في أنحاء أمريكا ومقرها الرئيسي في فلوريدا، يملكها قريب لوالدتها، بمرتب يعادل أضعاف ما يحصل عليه من الشركة الصغيرة التي يعمل فيها هنا...

 لم تنكر شيئاً... واجهتْ تلويح يده العصبي أمام ناظريها فور عودتها من الخارج بظرفٍ يضم جوازها وتذكرة سفر في الدرجة الأولى بين صفحاته، بالإضافة إلى رزمةٍ من الدولارات مشدودة بلاستيك إلى إيصال تحويل من القريب شديد الثراء...

 تلك هي لوسيا شديدة المكر، وأيضاً اللاهية عن أبسط الأمور إلى حد نسيانها حقيبة يدها هنا أوهناك، دون جدوى لأي تنبيه أوجهه لها، تجيبني فقط بضحكة الفتاة الصغيرة ذات الهفوات الصبيانية التي لا تتخلى عنها أبداً...

 السفر إلى عالم جديد من حقها وحدها والجنين النامي في أحشائها سوف يولد ليحيى، لن تسمح أن تمتد إليه قبضة الموت لأي سبب كان هذه المرة، هو المسيح الخاص بها، أرساه الله في رحمها ليمدها بطوق الخلاص من حياتها معه، لن يحتاج إليه في شيء ولا لأي شخصٍ سواها، اتصلتْ بقريبها ما أن تأكدت من حملها ليؤمن لها كل شيء، كما أكدت عليه ألا يرد على اتصالات زوجها سوى بوعودٍ مطاطة تروي شتلات آماله الطفيلية عطشاً، ثم أردفت بذات الجسارة دون أن تمنحه فرصة زفر أدخنة سخطه المصعوق بما يسمع، أنها لن تكون سفينة كولومبوس التي تعبر به الأطلسي وبعد حين يرسل إلى صديقته للحاق به، أما هي فسوف يهجرها، أو قد يسوقه الشيطان لقتلها...

 الكدمات التي أصيبتْ بها كادت تأخذ مسارأ جنائياً لولا شهادة أكثر من جارة خرجنَ على وقع صياحها لدى محاولتها اللحاق به، دون أدنى التفاتة منه... أفَدنّ إنها تدحرجت من فوق السلم وذراعاها تلتفان حول بطنها بقوةٍ لم تمنع نزف جنينها ووعيها ورشدها قبل وصول الإسعاف السريع، فمن قد يبالي لكل ما ترويه عن صفعات وركل زوجها لها ثم محاولته خنقها لمنع هرولتها نحو باب الشقة مستغيثةً من إجرامه ووحشيته، ثم إن فاجعتها وقعت بعد أكثر من أسبوعين على تفجير المرية، على عكس ما ظلت تدعي!!!...

 غادر إحدى مستشفياتها ـ المرية ـ وعلى طول ذراعه وجانب من كفه الأيسر، بالإضافة إلى أجزاءٍ أخرى من جسده، تقيحات وتشوهات متباينة العمق، علمتْ أليسبرندا ذلك من مقر الشركة المساهمة في بناء مجمع الحمام الأندلسي بعدما أدركها اليأس من جدوى اتصالاتها المتلاحقة به دون أن تتلقى رداً... أخبرها زميله إنه قدم استقالته استعداداً للسفر مع صاحبته الأمريكية ـ ذات الأصول الإسبانية ـ إلى فلوريدا للعمل في شركة مقاولات كبيرة هناك، تشغل فيها منصب مندوب مبيعات، نجحت في عقد أكثر من صفقة بين الشركتين، بالإضافة إلى صفقتهما الغرامية...       

 لا فكاك من سلسلة أحاجيكِ الملتبسة، أيتها الغادرة المغدورة... تتهميني بالخذلان، شأني شأن كل الرجال، لا نهتم سوى بغرائزنا وشهواتنا ومصالحنا، لذا لا نصلح أن نكون سوى أدوات تخصيب، لا أكثر... تسألين عن الفرق بيني وبين زوجك الذي سال لعابه حال رؤيته عجوزه المتصابية، كل ما يبهر فيها مصطنع، رأيتِهما أكثر من مرة معاً، دون أن يثير ذلك أي نوعٍ من الغيرة لديكِ، تسخرين مسبقاً من فشله في أرض القراصنة، تعلمين إنها سوف تمل سريعا كسله وعربدته في غضون جسدها المداراة بعمليات التجميل فتطرده من حياتها والشركة الموعود بالعمل فيها ليعود بعد طول تسكع كالمتسول يندب حظه العاثر أينما ولى وجهه...

 صرختها المباغتة تجفلني وأنا أصوب نظراتي نحو السلسلة ذات القلب الذهبي محكم الإغلاق على وجهي الطفلين الشقراوين الضحوكين، الموضوعة على طاولة صغيرة لصق سريرها...

«أنتً السبب، لو كان منك ما كنت فقدته، لمَ أتيتَ إلى هنا وظللت تلاحقني، لتبتليني بعقمك؟ ... جئتَ تستنجد ببلاد مجدكم القديم، لعلها تعيد إليك ما سلبته منك نيران حروبكم اللعينة، أتيتنا تبحث عن نبتة الخلود وتجديد الروح يا... كلكامش؟»

 أنهكتني سكرة انفعالاتكِ المضطربة أكثر مما تتصورين، نضحتْ فيَ توتر هذيانك، اختطفتِ منى الكلمات قبل نطقها، فما سألتك عن والد الجنين المجهض، لم أتمكن أم أني لم أود أن أعرف؟... ارتحتُ، نعم ارتحت، تنفستُ الصعداء عندما تأسفتِ أنه لم يكن مني، رددتِ ذلك أكثر من مرة وأنتِ تلومين نفسك على التورط في سخافة العلاقة المراهقة التي جمعتنا، ولفترة جعلتك تتغافلين عن كوني عقيماً...

 حتى إن وُلِد وعاش وكان منكَ ووثقتَ من ذلك، ماذا كان ليحصل برأيك؟... أسّلم حلم عمري بكل بساطة لشخصٍ مثلك!... مهاجر يرتحل من بلدٍ إلى بلد ويتنقَل بين أجساد العاهرات بلا شبع، فيما أحلامه المريضة تسخر منه باستمرار...

 هي التي هذرت بهذا، في نوبة تشنج يتناحر مع حدة لغوها المتلاشي إلى صمتٍ يرسو في نظراتٍ شاردة عما حولها نحو عالمٍ لا يدركه عقل، أم نفسي من صارت تتمتم بما لم ينطق به لسانها عن عجزٍ أو اندحار يتوعدني بتسلل هذيان الجنون إليّ إن لم أفر من أمامها وأغادر المستشفى بأقصى سرعة أستطيعها؟... لا أدري بالضبط...

 لا أدري... ما أكثر استخدامي لهذه الكلمة المغروزة في أرضٍ رخوة تغوص فيها دعامات اليقين، سجادة تتزايد انعطافاتها وتعرجها، تتوالد ثناياها وتتمادى عمقاً على مرمى تيه خطوي...

*      *      *

 مستلقٍ على رمل الشاطئ الندي والشمس في إبكار شروقها، يجثم في رأسي صداعٌ ثقيل، عظامي تشكو قرابة ساعة من العوم المستمر في مسارٍ شبه عمودي تجاه الجانب الآخر، أسند رأسي إلى ذراعي اليمنى وأغطي عينيّ بالثانية، وشوشة البحر ترشق في أذني أسى تذمرها من عقمٍ لم يهبها ما تحيا وتصارع كالحرباء من أجل تحقيقه، تركتها تتحداني وتتحدى أقدارها بإصرارٍ معتوه، أحسدها عليه، تقسم ألا تنفك عن تكرار محاولاتها، مرةً تلو الأخرى، بلا اكتراث لما يمكن أن تسفر عنه غريزتها الأمومية الهوجاء في نهاية المطاف... صرخت بذات المعنى في وجه قِس الكنيسة التي كانت تحرص على ارتيادها والاحتجاب في إحدى مقصورات الاعتراف داخلها...

 أذاعت بين جدرانها العازلة للصوت سر علاقتنا، محتملة كل توبيخ وتهديد بالكف عن سماعها، أم أنها أرجأت ذلك إلى أجلٍ تتوجس اقترابه، مسلمةً أن لكل أمرٍ نهاية مهما تعاظم، فذلك جزء من إيمانها القدري الذي طالما احترتُ فيه!...

 عادها لمباركتها وبعث السكينة في نفسها ثم خرج مهرولاً يزفر الحسرات، يستعيذ بالرب من الشيطان الداعر الذي يسكنها، علّ القس مثلها، لم يعرف أن نزيفها حرَم عليها أي أمل في الإنجاب مستقبلاً، وإن عرف فليس بمستغرب أن يرجِع ابتلاءها إلى ما تستحق من عقاب إلهي، عسى أن يطّهرها من دنس آثامها التي لا يسعفها عقلها بالرجوع عنها...

 من العسير جداً التراجع عن أحلامٍ تتلبسنا يا سيدي، تنصهر في ذواتنا، تصير الجزء الأهم فينا، هويتنا الافتراضية التي لا غنى لنا عنها، إن لم نوفق في تحقيقها قد تضيع منا هويتنا التي نحن عليها ونستعجل الأيام من أجل تغييرها، أيام مضطربة ملتاثة، يغَيِب فيها العقل مثلما يغَيِب البحر جثة الغريق في ظلمة أعماقه...

 تزدحم سواحل المدينة بالمصطافين وقد بدأت الأفواج السياحية بالتوافد، على عكس ما ظننت إثر عملية نسف الحمام الأندلسي... لكنه ليس موجوداً ليثير إعجاب هذه وتلك بحيويته ومرحه ونكاته الخارجة، وأيضا بذاءات حركاته التي يتباهى بمعرفته كيف ومتى ومع من يستخدمها، ليس موجوداً لأحكي له وأنا واثق إنه لن يتذكر شيئاً في اليوم التالي مما تلوى به لساني في غمرة سكرنا وتدخينه لفافات الحشيش، أو أعاركه وأصرخ في حماقاته وسخريته من كل ما يستعصي عليه ولا يزعج نفسه بمحاولة فهمه لأنه وجعٌ للرأس بلا داعي، ليس موجوداً ليمطرني بوابلٍ من نكاته ومقتطفات من مواقفه القبيحة، غير مباليين بشكوى الجيران من بلاهة قهقهاتنا غير الواعية وتهديد الاتصال بالشرطة، تغور الحمرة في عينيه اللتين يغمضمهما كل حين كأنه يستعد لنومٍ لن يستفيق منه إلا بعد أيام، تفاجأني يقظتهما الكاملة عند ذهابه إلى الشركة مع إطلالة الفجر ليتولى القيادة عدة ساعات متصلة... لم تتسنَ لي فرصة إخباره عن ألاعيب ومخادعات مسعود وسارة ولوسيا، بعد خروجي من السجن تبادلنا عدة مهاتفات متعجلة، بالكاد كنت أستطيع النفاذ من توافد أسئلته المختزنة حنيناً غريباً على من عرفت منذ يوم استلامي العمل لدى بودو، لأول مرة يراود صوته مثل ذلك الاختلاج الحزين، خاف أن يتم الحكم علي أو أُرحّل دون أن تواتينا فرصة رؤية بعضنا للمرة الأخيرة... يشاكسني، يضايقني، يستفزني بسماجته التي أعتدتها منه، وكذلك أحببتها فيه، أغاظني كثيراً بسؤاله الضاحك في آخر مكالمة إن كانوا قد فعلوا بي ما فعله الأمريكان في سجن أبو غريب... قسمي بالبصق عليه ما أن أراه لم يخرس قهقهاته، إغلاقي الخط ما ألجم تناهيها إلى أذني، وما عرفت أن كركرته الضاجة المقطوعة تلك سوف تتردد نحيباً يشبه صراخ النوارس التائهة.

 بكيته... بكيته طويلاً، وقد تجسد أمامي كل ما في الدنيا من غبن مرة واحدة ليهشم جليد أدمعي على حين غرة، لم أستطع السيطرة على نشيجي في شقة الحاجة بلقيس لدى سماعي النبأ، فسرَبتُ إليها وقيس بعضاً من أدمعي التي صرت أذرفها بغزارة أتعجبها... سألته عن سبب بقائه في طريفا فتلافى الإجابة وكذلك فعل بودو الذي تم التحقيق معه بسببه ولكنه عرف كيف ينأى بنفسه عن القضية برمتها رغم شهادات من قبضوا عليهم المُدينة له بصفته المسئول الأول عن عمليات التهريب عبر البحر... أقسمَ لي أنه لم يكن يعرف بتخطيط حسن ضم أخيه الأصغر إلى مجموعة ذلك القارب الذي صار حطاماً قبل وصوله الشاطئ، أحد أصدقائه القدامى كان ممن مضوا يحاربون الموج حتى نجوا من خنق قبضاته، عرفه حسن بمعونة مصباحه اليدوي المفتش بين الوجوه، رغم تقاطر سنوات الفراق والإعياء الذي يمسخ الملامح، هرع إليه يسأله عنه فأشار إلى البحر دون أن يستطيع الكلام، فقد رشده، أو هكذا بدا لمن استطاع الهرب من شرطة خفر السواحل وأبلغ تلك التفاصيل لبودو هاتفياً، لم ينجح أحد في تكميم فمه لمنعه عن الصراخ قبل تماديه في كل اتجاه، وكذلك عجزوا عن إعاقة هرولته نحو البحر، يتحدى موجه الهادر أن يسلبه شقيقه، ظل يزأر باسمه ألا يخاف، فهو ماضٍ لنجدته ليبدآ معاً الحياة التي وعده بها...

 بصق بودو على هلاوسه التي صورت له إنه صاحب مملكة ويملك حق دعوة أهله للعربدة في جنانها كيفما شاءوا... وددت الانفجار في وجهه بكل الغيظ المرتجف في عروقي، ولكن ما كان رأينا فيه غير ذلك؟.. حشاش، عربيد، لا يفقه في الدنيا شيئاً أكثر مما يواجهه في يومه... أم ذلك ما تعمد أن يبديه لنا سلوكه المستخف من كل شيء، يحاول باستمرار مواراة ماضيه.

قد يكون الموت أقوى دلالة على مرور الإنسان في هذه الدنيا، لعلّ هذا ما يفكر به من يمضي لتفجير نفسه، ولكنه بالتأكيد لم يخطر في ذهن حسن لما قرر إلقاء نفسه في عباب البحر من أجل إنقاذ شقيقه، يأمره بالتشبث بالحياة حتى وصوله إليه، فما أرجع موجه أيا منهما، وأيضا لم يخطر في باله ما سيحدثه غرقه من صدمة حقيقية كان لها أثرها العاصف داخلي ولربما كانت أعنف من محنة الاعتقال وخداع لوسيا المؤلم المنفر ثم ما آل إليه مصيرها، بالإضافة ما عمقه من شرخٍ في علاقة بودو وسلوى ليوصلها إلى حد التهاوي التام بالنسبة إليها...

 حسمت موقفها هذه المرة فما قبلت أية محاولة وساطة من قبَل الحاجة بلقيس، اتهمته إنه لا يفرق شيئاً عن قاتلي أخويْها ومغتصبي قلب والدتها من بين أضلعها الهشة، ثم فاجأته بترك شقتهما الفاخرة وأخذ كل ما يتعلق بها، ولم تجب على مهاتفاته إلا عند وصولها مطار باراخاس في مدريد، تعلمه إنها عائدة إلى الجزائر، تسكن بيت أهلها الذي عمل على تجديده، تحذره من محاولته اللحاق بها وإلا سببت له مشاكل لا قِبَل له بها، خاصةً أمام ولديهما، تنصحه بالتفاهم مع قريبها المحامي حول الانفصال وتخليصها من عبء كل ما كتبه باسمها من أملاك بما فيها البزار وشركة السياحة للتهرب من خطر المصادرة إن حصل وتورط في قضية لا تقوى علاقاته أو رشاه على تخليصه من جرمها، كما عهدت إليه ـ محاميها ـ مهمة تصفية دار الأزياء الخاص بها، زاهدةً بما حققته من نجاح، وإعطاء زوجها ما قدرته من مصاريف تجديد دار تلمسان... دعت الحاجة بلقيس للإقامة معها، ولو لبعض الوقت، أسعفها الرد بذلك ـ هاتفياً ـ كملاذٍ أخير لها من زوبعة التعنيف المصدومة بما أقدمت عليه من حماقة ألهتها عن أمومتها لنا جميعاً، ولها بشكلٍ خاص، يفيض الدمع من عينيها لوماً على تفضيلها الانزواء في تلك الدار المجدَدة التي ستظل تنخر أساسها صرخات ودماء الموتى القانية المعبّقة برائحة البارود...

 نبرات كلام الحاجة كانت تُقتحَم بشرر حسد يتطاير تجاه من وجدت لديها القدرة على تحرير شتات روحها إلى مرافئ وطن ترسو عنده في الوقت الذي تتزايد أرجحتها بين غطرسة وغرور أحد ولديها وشقاء الآخر في صومعةٍ لم تنجح باختراقها حتى جائزة منظمة حماية الصحفيين العالمية التي بشره صاحبه بترشيحه للحصول عليها، على العكس، وجدها نوعاً من تكرار إهانة آدميته، كأنهم يدعوه فقط للتفرج على إعاقته التي أوصلته إلى منصة تسلم الجوائز، ابتلاؤه تحت رحمة أخيه مدحوراً بطعنات أحلامه، لا تغيب عنه لذة الانتصار التي تقدح في عينيه كلما كلمه، يحفزه لخوض شجار يكاد لا ينتهي حتى يعلن عن تجدده...

 سأل صاحبه ساخراً عن المكافأة المالية التي يمكن أن يحصل عليها لقاء كل ساق من ساقية المعطوبتين، وإن كانت كافية لمساعدته على العودة إلى استقلاليته وحريته المستلبتين منه رغم عيشة الأمراء التي يرفل فيها، تفقده كل أمل في إنهاء فصل واحد من الكتاب الذي ألهبته الحماسة لكتابته، مفضياً بتفاصيل ما واجه في بلاده...

«حتى لو اهتمت دار نشر هنا أو بأي بلد ونشرته، تتصور منو ممكن يهتم بقراءته بعد كل ما انكتب عن العراق قبل وبعد الاحتلال، وبعدين هسه بمختلف الفضائيات تلاحظ محاولة تجاهل كل ما حصل ويحصل... مثل فلسطين، شي صار وانتهى، صح أو غلط ـ هز كتفيه بابتسامة لها مرارة القهوة في مجلس عزاء ـ ما يهم.»

 ما من كلام أجده لمواساته ولا مواساتي، كلانا علقَ في شرك اليأس القاتل للروح، المبدد للحاضر والمستقبل المجهول، بينما الأحداث تمضي بسرعةٍ متواثبة ومفاجآت مثيرة. كثيرون شاركوني صدمتي بقراراته السريعة الصارمة، أبلغني وزملائي من العاملين لديه بها شخص آخر غير بودو الذي أعرف، شخص لا يحسن مداراة الوهن الغاص به، اضطراب هيئته يتبرأ من تلك الأناقة المبالغ فيها، المتصابية إلى حدٍ ما، والمتحدية قدرة من يراه على تحديد عمره الحقيقي... باع البزار وشركة السياحة وصفى كل ما لديه من ممتلكات وشراكات، ولم يُتح لي مزاجه العكر فرصة الحديث معه بخصوص ديني له... أبقى فقط على شقته، سلّم مفاتيحها للحاجة بلقيس قبل سفره، قال لها بانكسار طفل إنها شقة سلوى بكل ما تحتويه، ذوقها يسكنها بالكامل، وروحها أيضاً، ما من أحد يمكنه التعدي على شيء من لمساتها، ولها وحدها حق التصرف فيها كما تشاء...

 رجحتْ سفره وراءها إلى الجزائر، علّه يستطيع إقناعها بالعدول عن فكرة الطلاق، لكن محمود أخبرها عن نيته الإقامة في الدنمارك ليشارك بعض أصحابه وأقاربه مشاريعهم الضخمة هناك بعد أن صار اسمه موضع شك لدى السلطات هنا رغم نجاح محاميه وعلاقاته في إخراجه من قضية الهجرة غير الشرعية التي دمرت حياته الزوجية (الهشة) فألجأته إلى قبول الثمن الذي عُرض عليه في البزار وشركة السياحة، من قبل سارة!.

 حماقة تحطني في وكر أخرى، وها أنا أعود إلى تسكع البطالة، لم تطردني، لم نتواجه قط، وفرت على نفسي ذلك وما يمكن أن يسفر عنه أمام العاملين، كيف لي أن انسى هيجانها وعصبيتها ليلة تفجير المجمع وشكها في علمي أو مشاركتي بطريقةٍ ما في هدم حلمها الذي أُعيد جمع نثار حطامه ليكون صرحاً عملاقاً يدّوي في الأسماع، إلا أن تسكعي هذه المرة صار في هشاشة صخرة صغيرة ملقاة على الشاطئ، لا يجد تهافت الموج صعوبة في تفتيتها حتى تتماهى مع الرمال المبصومة ببلل الأقدام الحافية...

 كل شيء يعبس بوجهي في زخم ضجيج هذه المدينة الضحوك لدى استقبالها شره توقي للحياة... ملّت مني ومن طول ضياعي في وهج شمسها وأضوائها، البحر الذي أحتضن أسرار قرونٍ خلت سوف تنأى مياهه عني إن ابتغيت ولوجه، سخريته المتكبرة لن أجد فيها شيئاً من الرأفة على خذلانٍ يقتفي أثري عبر القارات... مدينتك حبيبة خائنة يا بيكاسو، لا تدخر مكاناً لمشرد مثلي في سوح عالمها، ما خُلِق إلا ليكون مضغةً في أفواه حروب الصحراء الوحشية، تستنزف دماءه حتى القطرة الأخيرة ثم تُركن بين الجثث عطنة الرائحة، تشيح عنها الأعين فور رؤيتها، وكأنها مجرد فضلات أفرزتها الدنيا في غفلة عن العالم المتحضر الذي وددت التشبث فيه ملء عزمي الغبي...

 أقف أمام باب متحفك مثل متسول مشرد يجهل على أي رصيف سيمضي ليلته متدثراً بالصقيع... لا أجسر على الدخول والتسمر مثل الصنم أمام كل لوحة، أتخيل الفرشاة بيدي، أحركها مع حدود الألوان في الهواء، أحرصُ ألا أحيد عنها قيد أنملة، حتى أفطن إلى النظرات التي تحوطني ما بين دهشة واستخفاف من شطحاتي الممسوسة بجِن الرسم الذي يتلبسني ـ كما كانت تقول والدتي ـ فأهمُ بمغادرة القاعة وولوج أخرى، غير أن جسارتي التي أوصلتني إلى هنا تأبى التزحزح عن مكاني في عنادٍ ليتني أستطيع الظفر ببعضه الآن...

*      *      *

(الآن أصابعي المتخشبة لا تحسن ضم فرشاة)...

 أخبرتها بذلك عند دخولنا كابينة يختها الذي انطلق بنا مع تحية شمس الصباح الأولى...

 أيقظتني برنين جرس مستبد في إلحاحه القارع في رأسي، عتّني من فراشي بغلاظة أيدي رجال أمنٍ عتاة لا يزاولون نشاطهم إلا عند مطلع الفجر، أزحت الستارة في ارتباك مجرم هارب، لم يلمح ذعر عينيّ الجامدتين أية سيارة شرطة أمام مدخل العمارة، فقط سيارتها الجديدة...

 حين ولوجي الهَمَر الحمراء انبعث فيَ هاجس غريب، أني في قبضة قوة أمريكية، أبصرُ من خلال زجاجها المعتم من الخارج شوارع مدينتي المفزوعة من انفجارٍ مضغ ضحاياه قبل لحظات وتترقب انفجاراً يزيد العويل عويلاً... ولكن يديّ ليستا مكبّلتين خلف ظهري ولستُ مغمض العينين، كما تم اقتيادي من أمام البزار بعد تفجير المريه الهائل، هي إلى جواري، تقود على مهلٍ وتتمايل على أنغام أغنية فيلم تيتانك لسلين ديون...

 ظننتها مخمورة لدى فتحي باب الشقة، تطل عليّ بابتسامة لقاء بعد فراق طويل وكأن ليل المريه الدامي لم يعصف بهوى أمسيتنا من قبل أن تبدأ... ترتدي شورتاً أسود يقبض على ردفيها وتيشيرتاً أبيض واسع فتحة الصدر، بحمالتين ترفعان نهديها الصلبين نحو الأعلى، لم تسأل عن سبب عدم ذهابي إلى البزار، ولا أدري كيف أقنعتني، دون أن تمنحني فرصة النقاش، بفكرة مرافقتها في رحلة بحرية أخرى...

 غيّرتُ ملابسي بسرعة ترد على استعجالها الآتي من الصالة بنبرةٍ تتأرجح بين التوسل والأمر وأنا بالكاد أسيطر على ذهولي من جنونٍ نفضَ عن روحي في لمح البصر وعبر إشارةٍ سحرية لم أجد مناصاً للإفلات منها كآبة الفترة الأخيرة وأتراحها المتلاحقة...

 وجدتُ اللوحة البيضاء موضوعة على الحامل الخشبي ثلاثي السيقان، إلى جانبه عدة فرش متباينة الأحجام وأكثر من عشرة عبوات ألوان لم تستخدم من قبل...

 توارتْ خلف حاجز خشبي مخرّم من حملقتي، نزعتْ الشورت والتيشرت في لحظات، تضوَع المكان بعطر شانيل الذي أغدقت برشه على جسدها العاري، أقبلت علي بروبٍ حريري أبيض ذي لمعة فضية باهتة دون حزام، قصير وواسع الكمين، تباعد طرفيه عند اضطجاعها على كنبة عريضة، تثني ساقاً بينما تترك الأخرى في استقامة عمود رخام روماني... نظرتْ إلي بعينين تتفحصان وقوفي الأخرق أمام غنج دنياها، لا جسدها اليانع في حقل ترف نزاوته الشهوانية فحسب...

ـ ألا تعرف إن صاحبك بيكاسو كان يتعرى تماماً عندما يرسم؟...

 أشارتْ إليّ بسبابة يدها اليمنى أن أنبذ عني ما أرتدي ففعلتُ بسرعة منفعلة ضاعفت من توتري بدلاً من أن تبدده وتترك الريشة تنساب في رسم تمايل جسدها بخفة الغيم السارح في السماء والهيام يختطفني إلى سحر اللوحة التي أيقظتني في عجالة وجلبتني إلى عرض البحر من أجل رسمها... تقليدية إلى حدٍ ما، غير أنها تعرف كيف تغني كل ما يخصها بذلك الضياء المشع الذي لا تجد سبيلاً سوى الانجذاب إليه، ولو تيقنتَ إن الاحتراق في بؤرة نوره الملتهب هو مصيرك المحتوم...

 أومأتْ لي أن أقترب... أقترب.. أكثر، أفسحتْ لي مجالاً للجلوس، أحاطتني ساقها المنتصبة على الكنبة من الخلف ومددتْ الأخرى على حجري، أظافر أصابعها الصغيرة توشك على ملامسة سرة بطني المتقوسة فيما عرفت استدارة الكعب الناعم موضع استقرارها جيداً، ترفلني برعشةٍ كاد تراقصها في جسدي مع غنج ضحكاتها المجلجلة يدحران وعيي تماماً...

«يجب أن تلج الصورة روحك حتى تستطيع بوح أدق تفاصيلها اللوحة، وصورتي ليست كأية لوحة يمكن أن ترسمها في حياتك.»

 صار جسدي إطاراً لها، يتسع ويتقوض مع رفرفة خلجاتها غير المستقرة على حال...

 في اليخت غرفة نوم صغيرة، فراشها أكثر اتساعاً ونعومة من الكنبة، ولكنها لم ترضَ الابتعاد عن عبق النسائم البحرية الهابة علينا من كل ناحية تقريباً، تشاركني الثأر من كل لحظة كانت فيها معي ولم تكن، وفي النهاية ما انزوت في ظلالي إلا في الوقت والمكان اللذين شاءتهما نزوتها المخملية...

 كل شيء طيعً لها، ليس للشوق والانتظار القلق المشوب بهواجس الوهم محطة توقف في حياتها، حتى فكرة اللوحة، وإن كانت مجرد حجة شهوة عابرة انجررت إليها بكل ترحابٍ صبياني، يمكن لها تحقيقها بغاية البساطة، ممهورة بتوقيع أشهر رسامي أوروبا إن شاءت... هي ليست الحاجة بلقيس التي ركنت ما رسمتُ من لوحات تنبض شوقاً للم شتات أسرتها بوجوه باسمة مشرقة في ركنٍ من غرفة نومها بمنأى عن سخرية محمود وانتفاضات قيس العصبية التي هددتْ بتمزيقها أو إحراقها أكثر من مرة...

 تمنيت لو كانت الكنبة مثل كنبة شقة لوسيا ـ تفرد فتصير فراشاً ـ لَما ارتطمتُ على الأرض، تداخلت قهقهاتها مع صيحات فقرات ظهري. مالت على جنبها نحوي، يتوّسد خدها ظهريّ كفيها...

 قالت بتحدٍ ماكر: ماذا، استنزفت كل قوتك يا هرقل، العجوز؟ هههههههههه....

 أدرتُ وجهي عن وجهها المنتشي صوب المرآة المستطيلة الواصلة إلى السقف... ملمسها الصقيل يصير لوحةً تبدأ من وسط شعر رأسي المنكوش، المشاكَس بالشيب، حتى أسفل صدري كث الشعر وصدرها المنهك من قبلاتي وكأنها كانت تبحث بين حناياه عما لا تود إيجاده أبداً، في موازاة استلقائها الناعس فوق الكنبة الواطئة يظهر تمددي المتوجع على الباركيه اللامع مثل شحاذ منبوذ من عرش سلطنتها، ملامحي موشاة بغضون العَجَز المقبلة مبكراً، فارق العمر بيننا لا تستطيع المرآة مواراته، بل أبرزته بروحٍ عدائية خبيثة استنهضت عزم قوايّ لمعاودة تسلق روابيها الفسيحة... قبضتْ يدايّ على طرف الكنبة فانتصبتُ واقفاً أمامها في ذات استثارتي الأولى...

ضحكتْ كأي غجرية عاشرتها في مربيا: دوامة البحر داخلك لم تهدأ بعد؟...

*      *      *

 صحوتُ عند الظهيرة، دخلتُ الحمام ورشني الدُش بدفق زغاريد الفرح بنشوة ترياق بواكير الشباب الذي وهبتني إياه عروس البحر الحبلى بالمفاجآت دوماً، حبلٌ مثمر، يعيش وليده وينمو، يصدح بالبهجة، ليس كأحلام لوسيا الميتة التي جنحت بها إلى منعطفات الجنون... ارتديتُ ملابسي التي تحررت منها بسرعة على مقربة من حامل اللوحة، أثارت انتباهي تلك الصحيفة، ممازحاتها العابثة التي أضحكتني فور استيقاظي، كانت تغطي عورتي الراكنة إلى الخمول بعد طول جهد، التقطتها عن الأرض حيث هويتُ بها، ملَطخة بعض الشيء، كانت صحيفة الليموند الفرنسية، يتصدر صفحتها الأولى مانشيت بالبونط العريض، لم أفقه من كلماته معنى، أسفلها ترَص عدة صور، منها صورة لشخصٍ اغتربت ملامحه عني ولكني لم أكن لأتيه عن شكله أبداً... إنه مسعود لا غيره!!!...

 وجدتها مستلقية على أحد الكرسيين اللذين أمضينا عليهما ليلتنا البحرية بعد قرار لوسيا إنهاء علاقتنا مباشرةً، ترتدي المايوه وتضع فوق عينيها نظارة شمسية صغيرة العدستين، أشرتُ إليها بالصحيفة في انفعال، أسألها عن فحوى الخبر...

ـ إنه سبب احتفالنا الطويل في الداخل ههههه... ألقوا القبض على مجموعة كان من ضمنها في ضاحيةٍ قريبة من باريس، بعد التفتيش والتحري والتحقيقات عرفوا إنهم كانوا يخططون للسفر إلى العراق من أجل الانضمام إلى الجماعات المتطرفة الإرهابية هناك... إجلس، إجلس وصب لك كأس شمبانيا، فهذا يومنا الذي يستحق فرحة النصر حقاً ـ لاحظتْ وجومي على الكرسي المحاذي لاستلقائها المسترخي، ـخلعتْ نظارتها ووضعتها إلى جانبها ونظرت إليّ في استغراب ـ حزين عليه بعد كل ما فعل؟... نسيت الذي حصل لك بسببه؟... ألا تفهم!... كان ينوي الذهاب إلى العراق ليمعن في الانتقام الذي صار جزءاً من شخصيته المريضة...

 تركتُ نظراتها الفرحة السابحة فوق زرقة البحر. مشيتُ حتى طرف من اليخت، قبضتْ يدايّ على سياج المركب المعدني بقوة، كما لو أني أخشى السقوط في الماء، دوارٌ شديد وغثيان تسلطا عليَ... أفرح أم أغضب، أم أرتعد غيظاً؟... البحر أمامي وادٍ سحيق قادر على استنزاف أعظم الصيحات والصرخات المستغيثة، ظلت مغروسة داخلي لدى إقبالها عليّ، مالت برأسها على كتفي وأرخت كف يدها فوق الكتف الآخر...

ـ صدقني، إنه شخصٌ آخر غير الذي عرفناه واستمعنا إلى كارثة أهله بكل إشفاق...

ـ ربما لأنه لم يطق أكثر سجن الإشفاق الذي تلبسه، مثله مثل ذعر هواجسه التي رمته في صندوق عبر به البحر إلى... إليكِ.

ـ تتذكر البورتريه الذي قصدته به؟.. مخطط جسد الإنسان الذي تتوسطه قضبان سجن...

ـ هو وحده؟... كلنا كذلك، يا... أية الألقاب تحبين أكثر، حورية البحر

أم سيدته، أو أميرته؟... كما أنتِ أميرة المرية وملكَا الآن، بل كل أندلوسيا...

أبعدتْ رأسها عني منتفضة من نبرتي الساخرة...

قالت منفعلة: لا تحملني سبب جنونه، وتذكر إنك كنت شاهداً على ما حدث بيننا، وهو الذي...

قاطعتها:

- هو قال وأنتِ قلتِ، أنا شاهدٌ مستمع، اعتدتُ الإصغاء لكل ما يقال، كما كنت دوماً في بلدي، تحركني الأحداث ولا تسمح لي بالإفلات من مساراتها، وحتى هنا انتهيت إلى نفس النتيجة...

بسطتُ كفي أمامي، مباعداً ما بين أصابعي، ظللت أنظر إليها ملياً...

قلتُ في سري ساخطاً: وكفي هذه أيضاً، خدعتني بجلبها لي إلى هنا...

(لا، أنا من خدعت نفسي...)

صرخت بالعراقية:

- أنا اللي خدعت نفسي بالتشرد على أبواب الفن، تعرفين السبب؟... لأني ما لقيت اللي أقتنع بيه كل حياتي، فهمتي؟...

 فهمتْ معاني كلماتي بكل تأكيد، فهي تنطقها مثلي تماماً وأفضل من الكثير من العراقيين المغتربين منذ عقود عن انكسار بلادهم، والانكسار يستدعي انكساراً في اللغة واللهجة أيضاً، ولكن نظراتها المستغربة لم تفهم ما أعنيه، وبدوري لم أبالِ بأية لغة ستتكلم، فآخر ما كان يهمني الدخول معها في مجادلة هي أشبه بمحاولة الارتواء من ماء البحر...

 كان القرار لنزعات شفاهنا المتحفظة على نطق كلمة تصد التحامها، على غير توقع منا، عناق رشف ذبالة حماقاتنا الاحتفالية في الداخل... نعم، أضحت كذلك بالنسبة لي وكأني خنت مسعود معها ولا أدري السبيل إلى مواجهته...

بعد دقائق من الصمت المتململ قطعتْ تأملي لسرب نوارس يحوم في الأفق وكأنه يوَدع السفن المبحرة بعيداً...

ـ ماذا تنوي أن تفعل؟...

فهمت مقصدها، قلت:

- لم يعد لي مكاناً في البزار كما تعرفين، أعرف إن وجودي لن يكون مريحاً ويمكن أن يسبب مشاكل، يكفي أني عربي ومشتبه فيه رغم إطلاق سراحي بغير شرط.

ـ لو كنتَ مشتبهاً به لما خرجت من المعتقل، في أحسن الأحوال كانوا قد رحلوك، شبهة الإرهاب لم تكن مراوغات محامي السنيورة بلقيس قادرة على إنقاذك منها... ولا علاقات ورشى بودو ـ أثقلت جملتها الأخيرة بالسخرية...

ـ فمن خلصّني من تلك المصيبة... أنتِ؟!.

ضحكت:

- وليش لا حبيبي...

ـ لكني ما سمعت أي شي حول شهادتكِ، لا من المحقق ولا من المحامي.

عادت إلى الإنجليزية:

- تم تسوية الأمر بصورة سرية، كما لو لم يُقبض عليك أصلاً.

بالإنجليزية أيضاً:

- خفتِ أن تثار حولك التساؤلات فتخسرين ما حصلتِ عليه من تعاطف ودعم، الملايين التي تماطرت عليك بغزارة تخمد نيران أشد الانفجارات؟...

ـ ومن أجلكَ أيضاً وإلا لأقيم عليك حد الخيانة من قبَل بقايا جماعته وما وجدنا أثراً لجثتك...

زفرتُ أنفاسي عالياً بما يشبه التوّجع، وقبل أن أتفوه بكلمة استطردتْ: - السبب؟... يقنعك إننا عراقيا الأصل...

ـ ولكني هههه... لا أحمل جنسية أخرى لأكون عراقي الأصل.

ـ بالتأكيد سوف تحصل ذات يوم على الجنسية الإسبانية أو أية جنسية أخرى، لا تقل لي إنك تنوي العودة إلى جحيم العراق بعد نجاحك في الفرار بتصميم...

قاطعتها:

- أرعن، مجنون.

ـ الآن تقول هذا، ولكن لو لم تواتِك الشجاعة، الرعناء المجنونة، لأمضيت عمرك في حسرة الندم على وقوفك عند الضفاف، لا تستطيع أن تأتي بخطوةٍ إلى الأمام أو إلى الخلف...

ـ ههههه... وها أنا وسط البحر، بنسمة ريح تتلوى الأمواج من حولي مثل أفاعٍ تنفلت من قبضاتي كلما حاولت الإمساك بها...

ـ فكرة قوية، لمَ لا تحولها إلى لوحة، إن أعجبتني أعدك أني سأعرضها في الجالري عند عودتي من تل أبيب.

ـ ستسافرين إلى تل أبيب؟

ـ غداً مع برنار.

ـ شريكك المليونير الفرنسي؟

ـ وهذا السبب الآخر لاحتفالنا، سوف نتم مراسيم الزواج هناك.

في سخرية وارت حنقي منها ومن العالم الذي يحطَّني في الدرك الأسفل دوماً:

- يعني أنا كنت حفلة وداع للعزوبية.

عادتْ للاقتراب مني، تركتْ كفها على صدري:

- وسوف يبقى دفئوك يتخللني وأنا معه.

أحنيتٌ رأسي في حركةٍ مسرحية وقلتُ متبسماً:

- يا للشرف الذي ميّزتني به مولاتي...

ـ أنا لا أخونه... هو أيضاً...

ـ يودع عزوبيته مع آخرى؟... وقد يحكي كل منكما للآخر تفاصيل أخر مغامرة ههه... تحضيرية...

قالت في نبرة تشي بالتحدي:

- أنا أحرص على الصدق والمصارحة أكثر مما تعتقد...

 ما عدتُ أثق أو أصدق شيئاً، فلمَ عليّ تصديق عبثها معي، خاصة رواية فضلها في إخراجي من السجن، فقط لأكون رهين نزواتها كلما هفوتُ لها على بال، شهوة تملك طارئة، أحد العشاق المتوارين في مخادع سيدة المشاريع الرابحة دوماً هنا وهناك؟!... ذلك ما لاح لي من كلامها، دون أن تعرِج إلى ضرورة رجوعي إلى البزار...

 لم أوغل خيالي في تفاصيل ذلك الجنون البائس الذي تخططه لنا نرجسيتها ولا ما يمكن أن تودي إليه من نهاية دراماتيكية، ولم أجد جدوى من الإلحاح في السؤال، فربما هي ذاتها لا تعرف السبب الحقيقي وراء موقفها البطولي في تخليصي من تلك التهلكة التي قادني إليها أعز الأصدقاء، هذا إذا ما أردت إقناع نفسي وسوْق عقلي إلى متاهات هوة الانتماء المنحوتة داخلها، دون أن تحسن شخصيتها الحريصة ألا يلج أحد مكامن أسرارها أو تلك الشخصية الجبروتية ـ المخملية التي تتقمص طمرها...

*      *      *

«ما هذا الخبل، هذا وقته، وبملابسك!... إرجع، إرجع... أقول لك إرجع يا أحمق وإلا عدتُ من دونك، أنا لا أمزح... تسمعني؟... الشاطئ بعيد عنا.»

 أُخلِف صياحها العصبي ورائي ونظراتها المشدوهة التي أطلت نيراناً من عينيها وهي تراني أرتقي القضبان الحديدية، بعد تملص قدميّ من حذائي المطاطي الخفيف، لأقفز قفزتي القوية نحو اليَم المسحور بلعنات القرون الماضية، نستجيب مسَلمين إليه مصائرنا متى ما نادى أقدارنا ليكون مآلها الأخير، ألم أشرح لها هذا من قبل؟... لمَ لا تستوعب، لا تفهم؟... نعم أنا متعب، بل شديد الإعياء، أشعر إن عظامي قد صارت برخاوة الماء الذي أصارع للوصول إلى اليابسة غير المنظورة، المسافة جد طويلة فعلاً، أطرافي ترفس بحركةٍ آلية سريعة لا أعرف من أين تأتي قوتها، وإلى متى؟...

 ألمً حارق يتنامى في معدتي، قد يعمل مع الموج الهادر على تشنج عضلات جسدي بالكامل... لا أسمع صوتاً ليخت أو قارب أستغيث به فينجدني من مصير مجهول، اخترته بملء إرادتي، عن حماقةٍ كما قالت؟... قرف منها ومني ومن كل شيء؟... أعانق البحر الهائج داخلي من قبل أن أراه عناق الموت حتى يكون قبريّ الفسيح، شأني شأن حسن وشقيقه وألوف ألوف المبعثرين في بلاد الطوفان الدائم، أم هي قبلة حياة تأخرت عقوداً؟!.

 أرنو من اليابسة أم أباعد بيني وبين النجاة؟... ضاع مني المسار أم أني أوهم نفسي تمهيداً لخيار الاستسلام وترك الخواء الشاسع من كل جهة يصقلني رايةً بيضاء قد تغور في الأعماق المظلمة خلال ثوانٍ تختزل كل ذكريات العمر الفائت؟...

 في شبه غيبوبة تحيطني أجنحة الموج، تسّلمني رفرفتها إلى جُرفٍ لا ينبئني شاطئه عن مكانٍ محدد، بالكاد أرفع رأسي المصدَع بأوجاع كل شهقةٍ أودعتْ رعدة الاختناق في صدري، السور الصخري المقوَس ليس ببعيد عن تكوُمي مضطرب الأنفاس، من خلفه تنتصب شجرة جوز هند ترسم ظلاً رمادي يشطر الساحل بصورةٍ عمودية إلى قسمين شبه متساويين، تدنو من مسامعي أصوات السيارات المارقة سريعاً، أنظر ناحية السور بعينين محمرتين أشعر بانتفاخهما، نصف جسدي ما يزال مغموراً بالماء، أنقلب على ظهري فتصيح فقرات ظهري ألماً حاداً، أعود وأميل على جنبي، بجهدٍ مضني أتمكن من الزحف نحو الشاطئ أكثر... أتكّور متجمد الأطراف، رغم توسط وهج شمس الصيف السماء، أتوسل بها أن تهبني نبضة دفء قبل أن يركنني الموت جثة هامدة في بقعة منسلخة عن صخب المدينة، قد لا تثير انتباه أحد إلا صدفة، بعد يومٍ أو أيام، أسابيع... وربما أشهر، وعندها يمكن أن يتخوف من مسؤولية الإبلاغ، وإن عثرتْ علي الشرطة فلن أستحق سوى الرمي في قبرٍ مجهول كشخصٍ بلا هوية، مبهم التاريخ والعائلة والوطن...

 مساءً أستعيد وعياً مشتتاً، مدينة نور القمر يحتجب عن سواحلها ضوء القمر هذه الليلة، البحر والسماء في لحمةٍ من السواد الدامس، وما النجوم إلا كومة من دبابيس فضية متباعدة في ستار الحداد العملاق هذا، حفيف الموج يتجسّم في أذنيّ على نحو مخيف وكأنه يتحين فرصة اقتناصي مجدداً، هذه المرة لن يتوانى عن منازلتي بكل ما تكمن لديه من شراسة لا تأخذها رأفة بمهاجر جذبه عشق الحرية إلى مراميه، أتلفتُ بسرعة من حولي فأجد ذراعاً ممتداً من ضوء مصباح عمود الشارع، يحثني على النهوض، أمضي مترنحاً بين الحصى والصخور الصغيرة، حادة النتوءات، المتناثرة في طريقي... أتشبث بحافة السور، أحاول رفع جذعي نحو الجهة الأخرى، مرةً تلو مرة، دون أن تثمر إلا عن سقوطي على ركبتيّ، أواصل كتم زئير الوجع ولا أمِل من تكرار محاولة عبور الحاجز الصلد، كما لو كان جبلاً عملاقاً لم يكتشفه متسلقٌ قبلي...

 أخيراً أستطيع الجلوس فوق سطحه في زهو انتصار الوصول إلى قمة إيفرست، تلامس قدماي بثبات أرض الرصيف، فما كان السور يعلو أكثر من شبرين عنه... أرقب السيارات في رواحها ومجيئها وحملقة المارة في هيئتي الملطخة بالطين على نحو مثير للاشمئزاز، أنظر نحو بنطالي الرمادي القطني القصير الممزق، قميصي متداخل الألوان الخفيفة غير المزرر وقدميَ الحافيتين المخدشتين فتجتاحني هستيرية غريبة من الضحك، يصفع سكرتها النيون متوهج الزرقة لديسكو القمر ليأخذ دوره في الضحك الصاخب من عرجي لدى مروري من أمامه على الجانب الآخر قبل عبور الشارع العريض في توَجس المطارَدين...

 أستند إلى جدار ثم آخر في رحلة سيري الشاقة وخيوط الدماء لا تنفك عن تتبع خطواتي اللاهثة، أجلس قليلا لألتقط أنفاسي ثم أنهض، أبصر الطريق الطويل الذي يمتد أمامي وكأنه قرر ألا ينتهي أبداً، أمضي بخطواتي المتخبطة في مسيرها نحو فرعٍ فزقاق شبه مظلم لأواري العري الذي تلبسني إياه دهشة النظرات التي أمر من أمامها قدر المستطاع... ظلت تلتفت إلى جلستي عند باب العمارة وأنا أنتظر المالك، علّي أجد معه نسخةً من مفتاح الشقة، من حسن الحظ أني قد نسيت الموبايل والمحفظة في خضم لهفتي لمرافقتها، أخبرتني زوجته العجوز لدى سؤالي المتلهف عنه بعدم وجوده، جفلتْ هي الأخرى من مظهري الغريب المقزز فأوصدت الباب في وجهي سريعاً وصوتها يأمرني ألا ألمس حائط الرواق بيديّ المسَخمتين، تأخذها ريبةٌ مضاعفة من العربي الذي جلب الذعر للسكان عند تفتيش شقته واستفسارات المحققين المستفيضة عنه وعن صديقه...

 فلتهنأ بالاً ولتفرح وزوجها بالخلاص من لعنة وجودي كما يحلو لهما... غداً سيكون موعد رحيلي الأكيد، دون وداعٍ يثقل الأنفس بجديد من الشقاء، مجيئها اليوم ومغامرة الـ... الحياة والموت التي ساقتني إليها كانت إشارة إلى ضرورة الإقدام على هذه الخطوة بلا تأجيل مخادع لا رجاء من أيامه أكثر، ولا أظنها ستهتم لأمر اختفائي كثيراً بعد عودتها من تل أبيب أو رحلة شهر عسلها التي لا أعرف أي رقم تحمل، ولربما هي ذاتها لا تعرف، فما أكثر النزوات التي يمكن لها تصيدها، ولكل نزوة جديدة لذة مختلفة تنشي غرورها المتمادي مع آفاق طموحاتها...

 أعود إلى مدريد بما تبقى لدي من مال، نعم... وهناك أجد أكثر من خيار، حقيقي وملموس هذه المرة، يمكنني اللجوء إليه، لأذهب أولاً وقبل كل شيء إلى البنك فلعلّي لم أفصل بعد، وإن فصلت أجاهد مع إدارته لإعادة تعييني، في المقر الرئيسي لا فرع ليبيا، وملفي يشهد لي بالكفاءة والانضباط عندما كنت في طرابلس... وأيضا سوف أذهب إلى صديق قيس الذي عرّفني عليه عندما أتى لزيارته، لقد أُعجب باللوحات التي رسمتُها لهم وشجعني على المواصلة وعدم إهمال موهبتي رغم محنة السجن التي تعرضتُ لها... هو فنان ناجح ويشارك في الكثير من المعارض، أعطاني كارته ذات مرة لشدة خوفه على قيس من فكرة الانتحار التي خمنَ إمكانية تفجيرها بديناميت كآبته المسيطرة على شخصية رُوضَت على التمرد الجموح، بأمكاني العمل معه والتتلمذ على يديه ولا أظنه يمانع، ولعلي... أستطيع ذات يوم السفر إلى فرنسا، باريس هي مدينة الفن الحقيقي في العالم كله، وفي كل زمن، بيكاسو نفسه أمضى أكثر سنوات عمره هناك، ولو بقي في ملكَا لظل محاصراً بالبحر وسلاسل الجبال الوعرة الشاهقة...

«لو لم تواتِك الشجاعة، الرعناء المجنونة، لأمضيت عمرك في حسرة الندم على وقوفك عند الضفاف، لا تستطيع أن تأتي بخطوة إلى الأمام أو إلى الخلف.»

 ملكتِ الحق في هذا يا سارة البارعة في فهم الحياة أكثر مني ومن كل من عرفتُ، وأنا بحري جنون الرسم الذي لن أقوى على مفارقته أبداً بعد كل هذا، وإلا فقدتُ كينونتي الحقيقية وما صلحتُ لفعل أي شيء...

 أرتمي على الكنبة في الصالة، لا قدرة لقدمي المتوّرمتين على إيصالي إلى الفراش والتدثر ببطانية تفك عن جسدي اصطكاك عظامه، فكيف يتسنى لي السفر فجراً و...

*      *      *

 هي من تطرق الباب طرقات قوية متتابعة؟... أتت للاطمئنان عليّ وقد أعلمتها أنوار الصالة المضاءة بنجاتي، من ثم العراك الحاد المتعجرف معي بسبب حماقة ما فعلتُ... سأستعطف تجهم وجهها أن تعتقني من كل تعنيف لأعاود الانزواء ولو على تخوم النوم وأنا أتناول يدها الناعمة لِتجس حمى جبهتي وتتنبه إلى قسمات وجهي المسحوقة وأتكائي على كل ما يقع تحت يدي ... كما أفعل لدى إقبالي شبه الزاحف لفتح الباب قبل أن تحطمه...

لقد جُنَت، أكيد أنها جنت، جنت، جنت، جننننننت!!!...

 أبقى أكررها بلسانٍ يمتنع عن النطق بأي لغةٍ أتكلمها وأنا مساق، شبه محمول بين قبضتي شرطيين تلتفان بقوة حول زنديّ الخائرين، خلف ضابط جاء لتنفيذ أمر ترحيلي بناءً على شكوى تقدمتْ بها صاحبة البزار الذي كنت أعمل فيه برخصة عمل مزورة، قبل ساعات من مجيئها بوجهٍ صبوح يتغنى ببشاشة الحياة لتدعوني إلى سحر التيه بين سفوح أمواجها اللؤلؤية.

 

ahmedabduljalil@yahoo.com

ahmedabduljalil5@gmail.com