يتتبع الناقد المصري آثار الحرب العراقية الإيرانية في روايتين إحداهما عراقية والأخرى إيرانية تكشفان تدهور الأحوال في البلدين جراء تلك الحرب التي استمرت ثماني سنوات، وأدت إلي مقتل نحو مليون شخص من كل جانب، فضلا عن الآثار المدمرة التي تركتها وما عاناه الشعبان. فالرواية هي المؤرخ الحقيقي.

خطايا صدام

في روايتي «بنات إيران» و «نساء العتبات»

شوقي عبدالحميد يحيى

أصبح في حكم المؤكد، أن الرواية هي المؤرخ الحقيقي لمعاناة الشعوب. حيث تنحت أوجاع الشعوب وآلامها وأفراحها، بعيدا عن جفاف الكتابات التاريخية التي لا يخلو كثير منها من التحيز، خاصة أنه في الغالب يؤخذ من مذكرات وتدوينات المعاصرين، والتي بدورها لا تخلو من الميول الشخصية، إن سلبا أو إيجابا.

ويعتبر صدام حسين من أكثر الحكام الذين تميزت فترة حكمهم بالدموية التي عادت علي شعبه بالكثير من الكبت والحرمان ومرارات الحروب وويلاتها، حيث دخل حربا مع إيران استمرت ثمان سنوات، وما أن خرج منها ليدخل في مغامرة غزو الكويت، التي جرت علي بلاده الويلات التي انتهت بتفتيت البلاد، وتشريد العباد. ولم يقتصر ذلك علي بلاده فقط، وإنما شملت تلك البلاد التي سعي إليها بالحرب، فكانت المعاناة ، وكانت المرارات التي عاشتها الشعوب من حوله. وهو ما حاولت الرواية التعبير عنه.

ونتحدث هنا عن جانبي الحرب العراقية الإيراني، من خلال روايتي "بنات إيران" و "نساء العتبات". آملين أن نتبعها بالرواية حول الحرب العراقية الكويتية، والغزو الأمريكي للعراق.

في "بنات إيران"[i] لم نكن في حاجة إلي تأكيد الكاتبة علي واقعية الأحداث في الرواية، فقد أكدتها التواريخ العديدة المرتبطة بالأحداث، بما فيها سقوط الشاه أو هروبه، وقدوم الخميني من منفاه، وما فعله بإيران، ثم موته.

فنحن إذن أمام عمل واقعي، أقرب للتسجيل، إلا أنه لا يحيد به عن كونه عملا روائيا. خاصة إذا ما تأكدنا من أن أي عمل إبداعي لا ينشأ من فراغ، وإنما ما علي المبدع إلا أن يغمس قلمه في مداد ما حوله، ليبدع واقعا جديدا، مبني علي أعمدة ما هو قائم بالفعل.

وفي "بنات إيران" نتعرف علي أسرة عميدها قاض سابق، يعمل بالمحاماه بعد عن تقاعد من القضاء، أي أننا أمام شخص ليس من عامة الناس، لا فكرا، ولا مستوي اجتماعي. وعلي الرغم من ذلك نجد أثر الأوضاع السياسية تسيطر عليه، ولم نكن بعد قد غادرنا فترة حكم الشاه، الذي منح السافاك( الشرطة) كل الصلاحيات التي تمكنهم من توقيف أي معارض، أو حتي قتله.، وهو منهج الحياة في كل بلاد الشرق، تحت الأحكام الفردية التي تمنح الفرد الحاكم، كل التقديس، وتفرض صوره علي كل بقاع الأرض التي يحكمها.

يتسلط الخوف، وترتعش الأيدي حتي من مجرد وجود كتاب في بيت، رغم ذلك المستوي:

{انتقلوا بعد ذلك إلي موضوعات أخري، أغلبها سياسية. وامتلأ صوت والدي بالتوتر. فانتقد الشاه داخل منزلنا لأنه منح السافاك الكثير من السلطة. كان بإمكانهم في اي وقت، أن يعتبروا أي شخص مذنبا، ويعتقلوه، بل وبعدموه لأنه تكلم ضد الشاه}ص66.

يخضع الأب للتقاليد الراسخة، التي تري تزويج البنات صغيرات، حيث كان سن الزواج تسع سنوات - وإن كان قد تم تعديله ليصبح ستة عشر عاما فيما بعد- فلنا أن نتصور طفلة تتزوج في سن التاسعة، الأمر الذي أدي بالكثيرات من هذه الزيجات، يؤدي بالضرورة إلي الطلاق. حيث نري العديدات من شخصيات "بنات إيران" يصل لمرحلة الطلاق، إلا ربما حالة والد الراوية ووالدتها "محترم" التي ظلت الأم فيها مع زوجها حتي الممات، ولأنها عاشت حياتها لا تخالفه الرأي، بل لم يكن لها من رأي في الأساس، إلا ما يراه (الرجل). وأمام تلك الصورة الرجالية التي فقدت فيها الراوية الأمل في الخلاص، تلجأ إلي الصور النسائية التي تنسج منها عمله.ا

وهنا تأتي صنعة "ناهيد رشلان" الروائية. فنجدها وقد صنعت من الواقع أعمدة لبناء روائي، حيث نجد أمامنا الأم بصورتها الواقعية، والتي قد ترمز بها إلي الوطن المستسلم لقدره. والأخت "باري" التي هي أقرب أخواتها لها، وتسعي هي الأخري للانطلاق والحرية، حيث تريد أن تصبح ممثلة، وتقرأ معها الكتب، وتتعاهد معها علي التمسك بالحرية، والوقوف في وجه الأب الفلرض قراراته عليهن، ورفض صورة الأم "محترم" والتي كانت علاقتها بالراوية "ناهيد" علاقة جافة، وغير ودودة، وكأنها ليست الأم التي تشعر بألم أو طموح الإبنة، في تصوير للفجوة بين الوطن، وأبنائه:

{قطعت إحدانا عهدا للأخري بألا نتزوج إلا بعد حب، وقررنا أن الزواج المدّبر{ كارثة. انظروا إلي والدي و"محترم"، علاقتهما أشبه بعلاقة الأب بانته منها بعلاقة زوج بزوجته. وانظروا إلي كل الفتيات في المدرسة مخطوبات إلي رجال لا يكدن يعرفنهم وعليهن أن يشاركنهم حياتهم. لم نشأ أن نكون حلقتان في سلسلة التقاليد الطويلة التي ترجع إلي أسلافنا. كان علينا أنا وباري أن نكسر هذا النمط}ص78 .

إلا أن الأخت "باري" تنهزم أمام ضغط الأب من جانب، وتخاذل الحبيب المستسلم بعد أن رفضه الأب من جانب آخر. فيكون مصير زواجها، الإصرار علي الطلاق، رغم الثمن الفادح الذي دفعته في سبيل ذلك، وهو فقدان ابنها وعدم رؤيته، حتي الممات.

والنموذج الآخر الذي ارتبطت به الراوية "ناهيد" هو الخالة "مريم" العقيم التي تنازلت الأم لها عن ابنتها "ناهيد" فكانت نشأتها الأولي "ناهيد" في أحضانها، وتشربها لمعتقداتها، القائمة علي ما يشبه العيش للأخرة، وفقدان الرغبة في الحياة الفانية، فكانت نموذجا لإيران المتمسكة بالعادات والثقافة الدينية، الباعدة كل البعد عن الأمور الدنيوية . حتي أنها عندما زارت الراوية في أمريكا، رمز الحرية والتحرر – في رؤية الراوية – لم تتأقلم معها وعادت إلي وطنها، غير عازمة علي تكرار المحاولة.

وإلي جانب صورة أخري للأخت "مانيجة" دلوعة الأم ، إن جاز التعبير، والتي ظلت علي خلاف مع الراوية، والتي لم يكن يشغلها إلا الزواج، وفق ما يقرره الأبوان لها، والتي بدورها فشلت هي الأخرين كما فشل زواجها الثاني. وإن كانت الكاتبة قد منحتها في النهاية دورا إنسانيا، هو رعاية الأم "محترم" والخالة "مريم" في سنهما المتقدة، عندما أصبحتا في حاجة لمن يخدمهما. وكأنها – الكاتبة – أرادت أن تظل شخوصها عند الحالة الإنسانية، لا مجرد رموزجافة.

وأمام تلك النماذج الطاردة، لم تجد الراوية خلاصا إلي في السفر إلي أمريكا، حيث تنجح في ظل الأوضاع الإيرانية غير المستقرة، وبمساعدة أخويها الذكور الذين سافروا إليها من قبلها، في إقناع الوالد بسفرها. وهناك تتعرض لعديد التجارب. ورغم تشوقها لتلك الحياة التي عايشتها من خلال الأفلام الأمريكية، وما قرأته من كتب، بعيدا عن أعين الرقيب الفارض سطوته، إلا أنها لم تستطع التخلص من إيرانيتها المتخوفة، وفي تعبير إنساني متعمق في جذور الشخصية نجدها تعبر عن ذلك في إحدي التجارب، وعندما عادت إلي بيتها في أمريكا بصحبة الشاب الأمريكي "جاك" وقبلها وبدأ في تجريدها من ملابسها ، وما يعني كمون الخوف وسكون الثقافة  في الأعماق، مهما حاولن الخروج منها:

{ من المدهش أنني حاولت اتباع نموذج النساء الأمريكيات في الأفلام السينمائية والكتب، ومع ذلك فإنني غير حرة في حياتي، وعلي الرغم من تمردي، كان الخوف العميق من فقدان عذريتي يلازمني....... لقد كنت راغبة في خوض تجارب جديدة، لكنني شعرت بانعدام الاستقرار ووجوب الحذر}ص184.

غير أنها – الراوية – تنجح في النهاية في تخطي كل الموروث بداخلها، وتتخطي كل العقبات والموانع التي يضعها، لا والدها فقط، وإنما المجتمع الإيراني من ورائه، فتتعرف وتتزوج من اليهودي "هاوي" ليصل التحدي مداه في الإصرار علي الثورة ضد الكبت والسيطرة، لتجسد التلاحم الإنساني العابر للتجنيسات والثقافات:

{وفكرت في حالنا. ما أغرب أن يقع هذا الرجل القادم من ثقافة ودين مختلفين في حبي أنا الإيرانية المسلمة}ص204.   

غير أن الإنسان لايمكن أن يتحرر كليا من جذوره:

...{ كنت سعيدة لعدم وجود عيون ترقبني، فلن يتفحص أحد ملاءات السرير في الصباح التالي بحثا عن دم العذرية}ص105.

تلك الجذور التي عادت إليها الراوية بعودتها إلي إيران مرات عديدة للبحث عن أسباب موت شقيقتها المقربة "باري" وهل هي انتحار أم قتل، أم قضاء وقدر، والبحث عن "مريم" التي تسكن بجوار الأضرحة، وقد أعجزتها الحركة، وعن الأم التي ما زالت علي قيد الحياة، رغم تقاعدها عن الحركة، هي أيضا، وفي حاجة لمن يساعدها. وكأن الكاتبة تجسد الحالة الإيرانية الهامدة في قاع التخلف، تحت ضغط التراث الجامد المشلول، والذي لم يتغير بتغير الأنظمة، الملكي في حكم الشاه، عنه في حكم الثورة الخومينية، الذي انتقلت به إيران من السئ إلي الأسوأ.

 فإذا كان التكميم والضغط قد وصل مداه في عهد الشاه إلي الحد الذي يخشي معه الأب من وجود كتاب مثل "الأم" لمكسيم جوكي في بيته فيقول:

{ إذا عثروا علي هذا الكتاب في بيتي سيسحبون رخصتي وأسجن ثلاث سنوات لامتلاكي هذا الكتاب...}ص140. ليشتغل عقل الراوي الذي لا يهدأ وتتساءل:

{ما أغرب أن تعتبر الكتب خطيرة  في ثقافتنا، وأن تعطي الكلمات المكتوبة مثل هذه السطوة، وأن يعد المرء مجرما لامتلاكه بعض الكتب أو قراءتها}ص86 .

غير أن كل تلك الإجراءات، لم تمنع أن يكون هناك أصوات ترتفع بالمعارضة، كالشاعرة "فوروخ فروخزاد" التي دأبت الأخت "باري" علي إرسال أشعارها لأختها في أمريكا، تلك الشاعرة التي{قضت فترة من الزمن في الأهواز، وتحظي بإعجاب الشعب وانتقاده علي السواء لصراحتها غير المعهودة في تناول قضايا المرأة ورغباتها الخصوصية المكبوتة جدا في إيران، تقول في قصيدتها، فيما يشبه المباشرة في التحريض:

انهضي وطالبي بحريتك يا أختاه

لمَ أنت ساكنة؟

طالبي بحقوقك يا أختاه

انفصلي عمن يقعدوك في ركن المنزل

لكي تتحرر حياتك }ص177

فإن الأمر لم يتخلف بعد هروب الشاه وقيام الحكم الإسلامي علي يد الخوميني، إن لم يكن قد ازداد سوءا. فنري كيف وجدت الراوية حين عودتها لإيران في أول زيارة بعد الخميني:

{وضعت غطاء الرأس الداكن ومعطفي الطويل أكثر من المعتاد الذي اشتريته للرحلة. وفي المطار دهشت من كيفية عرض صور الخميني المتجهمة في كل مكان، وإحلالها محل صور الشاه. كانت الآيات القرآنية المبروزة معلقة علي عدد من الجدران، بعضها إلي جانب صور الخميني، ووقف الحراس المسلحون والملتحون في نقاط مختلفة من المطار..... عندما غادرت المبني، لاحظت إشارتين علي مدخلين خلفي، واحدة للرجال والأخري للنساء........ }ص266.

تلك الصورة التي أودت إلي اليأس، بعد أن راحل الكثير من أجل الثورة علي فساد الشاه، ومن قتل في أثناء الثورة، أو من حكم عليهم بالموت بعدها، فراحت الناس تتساءل:

{تحدث همسا، وهو يدرك كيف كان الناس في ظل نظام الشاه. "الأمر ليس سهلا علي أحد هنا، رجالا ونساء، قاتلنا جميعا من أجل الحرية، وأوقعتنا في أشهر طويلة من الخراب، وما الذي حصدناه؟}ص285. 

وكأنها تتحدث بلسان الشعوب العربية الآن، والتي قامت بثوراتها، فلم تحصد إلا الشوك، والموت، والصراعات الداخلية والتفتت.

الشرق والغرب

مثل تلك المقارنات التي حاول عقدها يحيي حقي في "قنديل أم هاشم"، أو توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق" أو الطيب صالح في "موسم الهجرة إلي الشمال" أو سهيل إدريس في "الحي اللاتيني" ليظهر بها التخلف الذي يعيشه الشرق، في مواجهة ما عاشه رواتهم في بلاد الغرب، تعرضت "ناهيد رشلان" لبعض الصور من الحرية الشخصية، خاصة للنساء في أمريكا، والتي وضح بعضها مما سبق عرضه. عرضت صورة ناصعة لتلك الخصوصية التي يحافظ عليها في أمريكا، والتي قد تبين حتي من اسم احتفالية تجري هناك في الكلية، في يوم يسمي "يوم الأهل" حيث الجنسيات العديدة في الكلية، وعلي كل فرد أن يلبس الزي الخاص ببلده. فتصر  مديرة الكلية علي ارتداء "ناهيد" زي بلدها الرسمي "الشادور" أو النقاب رغم أنها لم تلبسه في بلدها. فتقول لها ناهيد:   {إنني لا أرتديه البتة في إيران}  فقالت – المديرة - وهي تبتسم بسرور، "مع ذلك أريد منك أن ترتديه في هذه المناسبة، لكي تظهري لنا القليل من ثقافة بلدك}ص160.

الرواية سفيرة فوق العادة

بعد أن تجاوزت الرواية مرحلة الاستنامة، أي استخدامها كأداة للتسلية، وجلب النوم. أصبحت الرواية الآن تعبر عن طبائع الشعوب، ونقل الثقافة لكل منطقة، وكأنها السفير الذي يمثل بلاده.

  ومن أهم ما قدمته "ناهيد رشلان" للتعبير عن ثقافة إيران، إلي جانب، النظرة إلي الأولياء والأضرحة، تلك العادات المصاحبة لواحدة من طقوس الحياة العادية، والتي تختلف من منطقة لأخري، حتي أصبحت من العلامات المميزة لتلك المنطقة، وهي طقوس الزواج، والتي تصفها الكاتبة بحميمية في:

{تلا تلك المرحلتان التقليديتان للزواج الإيراني، وهما عادتان مستمدتان جزئيا من الزرادشتية، ديانة إيران قبل الإسلام. ........

كان المفرش المستعمل للسفرة في هذه المناسبة موروثا من الأم لابنتها. فقد تلقته محترم(الأم) من "عزيز"(الجدة)، وتنوي استعماله في زفاف كل من بناتها. وهو مصنوع من قماش من الكشمير المطرز بخيوط ذهبية غنية. وضعوا علي السفرة أشياء رمزية: مرآة (للحظ)، وشمعتين (تمثلان الضوء الذي سينير مستقبل العريس والعروس)، وطبقا يحتوي علي سبع أعشاب والتوابل متعددة الألوان(لكسر التعاويذ والسحر)، وسلة من البيض المزين (ترمز للخصوبة)، وطبقا من الرمان، و"فاكهة الجنة (لضمان مستقبل سعيد)، وكاسة فيها نقود ذهبية(ترمز إلي الثروة والازدهار) وعطر الجو بكأس من ماء الورد المستخرج من أنواع خاصة من الورود الإيرانيية ، وكان هناك أيضا مخروطان من السكر المقسي، ليسحقا فوق رأس العروس....إلخ}ص99 ، 100.

الحرب الإيرانية العراقية

لم تكن الحرب العراقية الإيرانية، موضوعا رئيسا في "بنات إيران، قدر ما كان في " نساء العتبات". إلا كونه أحد الأسباب التي أدت إلي المزيد من ندهور الأحوال في إيران، فضلا عن الأثار المدمرة التي تركتها الحرب التي استمرت ثماني سنوات، وأدت إلي مقتل نحو مليون شخص من كل جانب. ذلك التدهو الذي شجع صدام علي الاعتداء علي جارته إيران رغبة في المزيد من التوسع :

{تراكمت الكوارث علي إيران. فقد استغل صدام حسين انهيار التحالف بين إيران والولايات المتحدة، وضغط علي إيران للتخلي عن نصف حقوقها في كل شط العرب. وطالب باسترجاع القناة حتي الشاطئ الإيراني، وأصرت غيران علي أن الخط الذي يجري وسط القناة هو الحدود الرسمية، كما اتفق عليه في سنة 1975. واعتبر صدام حسين أن النظام الشيعي الثوري يشكل تهديدا للتوازن السني- الشيعي الدقيق. استجاب الخميني المستاء أصلا من طرده من العراق في سنة 1977 بغضب. فأمر صدام بغزو إيران في أيلول/سبتمبر سنة 1980}ص259}.

وهو ما يوضح الوضع الذي كان عليه صدام من جبروت. فرغم استجابة الخميني لطلبه إلا أنه أصدر أوامر الغزو. بل إنه ما كاد يصل إلي هذا الاتفاق حتي فاجأ العالم كله بغزوه للكويت. وهو ما أدي إلي إيجاد ذريعة لأمريكا لتقود قوات عالمية لإنهاء هذا الاحتلال، وتدمير العراق، ما أدي لتفتيته، ووقوع العراقيين تحت نيران وجبروت القوة العالمية الجديدة، وهو ما كان موضوع رواية "نساء العتبات"[ii] للروائية العراقية "هدية حسين"، التي تروي عن تلك الحرب، وما عاناه العراقيون جراء تلك الحرب، وديكتاورية صدام، حيث تحكي إحدي السيدات، من الجارات الجالسات علي العتبات:

{كان لي ولدان، ربيتهما بدموع العين بعد وفاة زوجي، قتل الأول في معارك شرق البصرة في السنة الأولي للحرب مع إيران، فكرموني وأطلقوا عليّ لقب(أم الشهيد)وفي السنة الأخيرة من تلك الحرب رفض ولدي الثاني الانضمام للجيش الشعبي، كان قد أنهي قبل شهرين خدمته العسكرية وأراد إكمال دراسته.. وذات يوم داهم بيتنا رجلان من الأمن مع مسؤول من الجيش الشعبي في المنطقة واعتقلوه مع عدد من الشبان بتهمة التخاذل.. اختفي أثره لأكثر من شهرين حتي أخبروني بأنه أعدم وعلي استلام الجثة . قال لي ضابط من جهاز الأمن وهو يرفع بطانية عن ثلاث جثث في غرفة فارغة من كل شئ : من هو ولدك؟}.

وقد اقترب الرواية من المباشرة، فكانت أشبه بالتسجيل، حيث صورت إحدي نساء قادة الجيش العراقي، أحد المقربين من الرئيس، وقد فاجأها بضرورة الاستعداد للسفر حالا. وبالفعل تم تسفيرها، مثل نساء القادة جميعا، وكان سفرها إلي الأردن. وهناك لم يكن أمامها إلا الاستماع ومتابعة النشرات التي تتابع الحالة في العراق بعد الغزو الأمريكي لها، مع الإحساس بأنها تتمتع بميزة لم تكن تملها في العراق، رغم عيشتها في قصر، ورغم قرب الزوج من صدام (متابعة ما يجري علي القنوات التليفزيونية) حيث تقول خادمتها "جمار":

{هل كنا داخل العراق في نعمة، حيث لا فضائيات ولا موبايلات ولا نعلم عما يدور سوي من خلال تليفزيون الحكومة؟}.

ويتحدث والد السارد، رجل العلم، استاذ الجامعة، الذي لم يعفه مركزه ولا سنه، من الوضع تحت السلاح، حيث يتم استدعائه للحرب، فيصف حالة الإنسان العراقي:

{ نحن حطب الحروب وسنحترق بنارها لنضئ مجد الحكام الزائف).

وتعتمد الرواية في تصوير الأهوال التي عاشها العراقيون، جراء الغزو الأمريكي، علي متابعة النشرات، التي أطالت في تكرارها ، حتي أنها تنقل أكثر من نشرة أو متابعة في اليوم الواحد، طوال أيام الغزو وحتي سقوط  بغداد. وصولا إلي المشهد الختامي، بعد سقوط بغداد:

{* فادة العالم وشعوبهم يتابعون ما يحدث بذهول شديد، الكل يتساءل عن هذا السقوط المريع واختفاء الجيش وفرق الحرس الجمهوري.

 * بغداد لم تصمد بملايينها الخمسة أكثر مما صمدت (أم قصر) ذات الأربعين ألف نسمة في البصرة.

* الصليب الأحمر يعلق عملياته في بغداد.

* المدافع والأسلحة مرمية علي الطرقات والصواريخ مثل جثث بين البيوت.

* دبابات وعربات تابعة للحرس الجمهوري متروكة في الشوارع.

وهكذا .. خمسة وثلاثون عاما من الحكم تنتهي في ساعات قليلة.}.

والحيلة الروائية (الوحيدة) التي لعبتها الكاتبة، هي تخيلها أن كاتبة مجهولة كتبت سيرة حياة الساردة، بتفاصيل مذهلة وكل عائلتها، لتصل بذلك إلي أن هذه ليست سيرة فرد أو عائلة وحيدة، وإنما هذه سيرة حياة كل العائلات، وكل الأسر في العراق، خلال حكم الديكتاتور صدام، الذي وضع شعبه تحت نيران الحروب لسنوات طويلة، من أجل المجد الشخصي الزائف.

 

Em: shyehia@yahii.com



[i] - ناهيد رشلان – بنات إيران – ترجمة عمر الأيوبي -  دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان 2008   

[ii] - هدية حسين – نساء العتبات – موقع الروائي العراقية – كانون الأول/ ديسمبر -2012.