يشيد القاص المصري في قصته عالم المرارة التي تعيش فيها المرأة حيث تسحق بصمت في بيئة الشرق بتقاليدها وأعرافها وثقافتها الرجولية، لا صوت للمرأة وللرجل الحكم المطلق، والكثير من النساء يستسلمن لمصيرهن المر، فليس كل النساء يستطعن التمرد. هذه القصة تصور عذاب زوجة تستسلم لوضعها البشري المأساوي.

ابنـةُ الصَّمْـت

السـيد عبد العليم

شُكرًا لَكُم ..

شُكرًا لَكُم ..

فحَبيبَتي قُتِلَتْ .. وصار بِوِسْعِكُم

أن تَشْربوا كأسًا على قبرِ الشهيدة

و قصيدتي اغتيلتْ

وهل من أمـةٍ في الأرض..

-  إلا نحنُ - تَغْتالُ القصيدة ؟

                           نزار قباني

 

حينما حَملها بين يديه للمرة الأولى؛ بَهَرتْه تلك الفاتنةُ بجمالها .. : الشعيرات الذهبية المتناثرة على رأسها الصغير، كحقول سنابل القمح التي شاركت الشمس أشعتها؛ فاستعارت لونها الذهبي في انتظار أيادٍ تحصد... غاص في زُرقة أمواج عينيها؛ فأسكنته فسيحَ سماءِ نهارٍ صيفي ، تتناثر سُحُبُه القطنية هنا وهناك... تاه بين حلم وواقع اللحظة، لا يكاد يستوعب.. يتلمس بأصابعه الغليظة حريرَ جلدها الرطب... يغمض عينيه ويفتحهما على تلك اللوحة التي بين يديه.. ويسبح خالقه الذي أبدع.. تبادل نظراتٍ سريعة مع الأُم في فراشها، لكنه عاد يتأمل تلك القطعة منه، يضُمها لصدره بقوة، غير مصدق..

يآآ بعد كل هذا العمر ؟! بعدما شاخَ وشاخ مع أيامه المتسارعة حلم العمر بأن يحمل طفلًا من صلبه!..

عندما بدأ المهنئون يتوافدون، كان يتلقى تهانيهم بابتسامة، ويحول عينيه إليها.. يحتضنُها بقوة والسعادة تغمر كيانَه.. لم يتخيل للحظة أن كل هذا الجمال سيتحول " للعنةٍ "، تُدمر ما تَبقى من سني العُمُر! ..

لم يكن في البداية يلمحُ علاماتِ الدهشة في وجوههم، ربما يتعمد ألّا يواجه نظراتِهم؛ كي لا تقتل فرحة اللحظة التي يتمنى أن يظل حبيسَها... ومع الوقت، أخذ إحساسٌ قاتل يتسلل لكيانه، وبمُدية الشكِّ يتمزق قلبه ومعه سعادة الحلم؛ نظراتُ زوجته الصامتة، الاتهامات التي يلمحها ويقرأها في أعْيُنِ كل من شاهدوها .. هو نفسه، يقف أمام المرآة متسائلًا :

" أَنَّى لكل هذا القبح أنْ يُنجبَ ملاكًا كهذه ؟! "

****

لطالما صبَّرتْ نفسَها متناسيةً مظهره الغريب، تتجاهل كلمات صديقاتها :  " كيف تقبلين بهذا المَسخ زوجًا؟ ". ترتسُم ابتسامة رقيقة على ملامحها الفاتنة: " داخله إنسان حساس هادئ متأمل ..."         

 (زواجٌ عادي).. تَردُّ على كل مَنْ يسألها، لا تُبدي تذمرًا أو شكوى ولا حتى فرحًا.. ، تستشعر جمالًا مختبئًا بداخله.. تتلمسُه علَّها تكتشف نورًا يُزيل ظلماتِ أيامها.. تتمنى لو يبوح لها, ينثر مغاليقَ ذاته بين يديها ... حتى اعتادتْ صمتَه القاتل، و...

يتلاشى الأمل .. يزداد عالمُه الصامت الغامض إبهامًا.. انغلق على نفسه أكثر ازدادتِ انحناءةُ ظهره.. ندباتُ وجهه وبثوره الغائرة بَدَتْ جلية؛ لتُنَفرَ كلَّ مَنْ يُناظره.. تلك المشية البطيئة المتكاسلة، أصبحتْ سمةً لقدومه الموحش من بعيد..

حكى لها ذات مرة عن مشيته في الصغر: كان ينظر لرجليه أثناء المسير، قال له أبوه وهو يخطو بجواره: ارفع رأسك؛ وإلا ستتعثر خُطاك.. ظل يرفع رأسه حتى نظر للسماء.. ضحك الوالد: "هكذا ستسقط أيضًا".. فعاد برأسه، يمُدُه للأمام، وينظر تحت أقدامه، مع انحناءة ظهره وهو يدفع جسمه ببطء.. وظلَّتْ تلك المشية المنكسرة تلازمه، ويزداد انحناءً مع التقدم في العمر .

****

ما عاد يحملها بين يديه ولا يلاعبها بغياب نشوة الفرحة.. في البداية لم تُعلق.. وحين مزَّقها الألمُ تكلمَتْ :

"لمْ أتصور بعد صبر كل هذه السنين، أن تعامل وليدَنا بهذا الجفاء !" .. لم يَرُد؛ شعرتْ بغصة، حاولتْ أن تستخرج منه أيَّ شيء، وتمنت أن تسمعَ الآن منه؛ فهي أحوجُ لكلماته النادرة أكثر من أي وقت مضى ... حاولتْ ..

فانفجر صارخا .. :

"أتعتقدين أن خطيئتكِ تَخْفى عني ؟! أتظنيني بهذا الغباء لأُخدع؟ "... لم تسمع بعدها شيئًا، بُهِتَتْ تتابع بصمت وعينها على حركة شفتيه الغليظتين دون أن يصلها من كلامه حرفًا.. كل ما تذكره بعض عباراته المتناثرة : " كم أكرهك وأكرهها! ـ إنها ملعونة مثلك.. دليل خطيئتك التي ستظل تطاردُك في الدنيا والآخرة .. ملعونةٌ أنتِ.. "

مصدومةً تتلقى كلماته، بلا وعي تتساقط دموعُها غزيرةً .. تهوي كلماتُه سياطًا على جسدها الحُر.. طال انتظارها ليُنهي كلامه... بعد زمن انتهى، حاولتْ الردَّ لم تسعفها كلمات.. أتقِفُ الآن مضطرة للدفاع عن شرفها ؟! وهل من قول يشفع؟ أيُبَرِؤها أن تُقسم أنها ما عرفتْ غيرَه، لا قبله ولا بعده ؟!...

****

تَقدَّم قبله الكثيرون.. جميلةٌ هي، عريقةُ النسب.. كانت ترفض؛ ففي خيالها إنسانٌ مختلف.. يؤلمها أن تلمس السطحية في حوارها مع كل مَنْ تقدم لخطبتها. شدَّها صمته في المرة الأولى التي جلستْ معه في حجرة الاستقبال..

قالت لنفسها: "هذا الصمت.. يسكن خلفه إنسان متأمل".. منذ صغرها ترى أنها تختلف عن بنات جيلها، فتَحِنُّ بشوق أن يشاركها العمرَ إنسانٌ مثلها، كلماتُه المعدودة أسرتها، قالت: " ذاك هو.. متأمل، يفكر بعمق، قليل الكلام، يغرق في صمت الخيالات.. نعم هو ".. سوف تستمتع باقتحام عوالمه وتأمُلاته؛ غموضه أثارَ فيها رغبةَ أنثى - تنتشي- وهي تقتحم المجهول تستكشفه...

بخيبة أمل.. تكتشف - سريعًا - أن هذا القبح الذي أمامها وتعاشره، يحمل داخله قبحًا أشدّ وأكبر.

تَذْكُر - فيما تذكر- حين دخلتْ أحدَ الأماكن معه، شدَّها منظر الغروب، قرص الشمس يتلاشى بدفءٍ تدريجي، يلامس بعذوبة المساء مياهَ البحر.. وقفتْ تحتضن الكون، تتأمل بكل كيانها.. لم ينتبه لغيابها ومضى يشقُّ طريقَه.. وعندما لاحظ ؛ عاد إليها معنفًا، أشارت برأسها: انظر! حوَّل بصرَه تجاه إشارتها.. وماذا هناك ؟! لم تجد ما ترد بهِ عليه.. هيا، وانطلقتْ أمامه متألمةً؛ لهذا الذي لا يعرف للجمال معنًى..

****

تغيرتْ.. أهملتْ جمالَها وزينتها، لم يلاحظ .. حتى تعاملها البارد معه، لم يسألْها سببًا.. اكتشفت بمرارة أنه يحيا فقط ، مجرد أنه يعيش... كانت تهضم الأحزانَ فيها ويقتلها سكوتٌ خانق .

****

أفاقتْ على طعم دماء ساخنة في فمها، آلام مبرحة.. تحرك رأسها بصعوبة في أركان الغرفة تبكي؛ علَّ عينها تقع عليها.. تجدها ملقاةً بجوارها "صامتة".. هذا ما ورثته عنها.. تحاول الوقوف؛ عجزتْ قدماها عن حَمْلها، ضمتْ صغيرتَها لصدرها؛ تتحسس عن لبنٍ للذابلةِ بين يديها، وتهدأ من جديد.. ويطـول عنـاءُ سكــوتها .

****

كسرتْ صمتَ الأيام: " إنني أحاول نسيانَ ما قلتَه؛ لكن صدقني لن أسامحَك ما حييتُ.. دمرْتَني، صِرتُ - بسببك - بقايا امرأة.. حتى حينما ابتسمتْ لي السماءُ بعد موتي؛ وتهبَني لحظاتِ أمومةٍ.. حرمْتَني - أنت بلا رحمة - سعادةَ أمٍّ تضمُ وليدَها بعد شوق..أتظن أني قادرة على تسميم جسد ابنتي، بلبنٍ لوَّثتَه بقهرك وقسوتك ؟! "

لم يسمع مما قالت شيئًا.. قام مسرعًا بلا تفكيرٍ وأخذ يُمارس ما اعتاده.. لكن، هو نفسه يتساءل لِمَ كل هذه القسوة وهو يضربها ؟! يتعجبُ من تلك الرغبة المفرطة، في إيصالها لأشدِّ حالات الألم؛ وكأنه يجد متعةً كلما زاد من عذابها.. هذه المرة وهو يضربها في كل مكان باطشًا برجله وأيِّ شي يقع بين يديه، يكتشف أنه كلما زاد عنفًا، ازدادتْ استسلامًا؛ فينهال بطشًا أعمى.. اندهش من رغبته الجامحة في إحداث عاهات وندبات، خاصة في وجهها.. كلما اندمل جرحٌ، سارع لإحداثِ غيره.. ويهرب من التساؤل.. وتغيب الإجابات؛ فيواصل

****

  لأولِ مرةٍ في حياتِهِ يضرب ..

طالما كان منعزلًا في سني الدراسة، لا يخالط أحدًا، لا يذكر أنه دخل شجارًا، ولا حتى نزاعات الصّبا العادية، الآن شعر بلذة عجيبة وهو يضرب، ولذة أكبر كلما رأى دماءَها، ويزداد قسوة كلما سمع كلمتها: "إنها ابنُتك، اقسم" ... فينهال ضربًا، يلكُم فكَّها بقبضته، يُســدِّد ركلَهُ بقوة.. ويصـــرخ في توحش : " اخرسي ".. فتُسلم جسدها للعذاب من جديد.. وكل ما يشغلها أن تضم "ابنة العام والنصف"، التي بدأتْ تذبل ويضمُر جسمها.. بينما تلوذ "هي" غرقًا في صمتها المعتاد.. طاويةً عليها جسدها المنهك .

****

على وقع خطــاها يرفع بصره نحــوها، وقد اقتحمتْ عالمَ صمتِــه بلا تردد : " لماذا لا تُجري تحليلًا؛ لتتأكد أنها ابنتك وأني لم أخُنْك ؟! " كأنه لم يسمع.. كررتْ.. لم يُرد سمــــاع المزيد.. فكم يخشى النتيجة! .. وكم يزعجه صوتها!.. صمتتْ للحظات، تتنفس بعمق، قالت بحزم وجدية بادية في عينيها الشاخصتين .. تتحدى صوتها المرتعش: " إنّها ليستْ ابنتَك.. نعم ، ليست ابنتك.. "

لم تنتظر ردةَ فعله.. أكملتْ مسرعةً تلتقط أنفاسَها الغائبة :

 (إنها ابنَةُ دُعـــاءِ ليليَ الطــويل.. ابنةُ ابتهالاتي وتراتيـــل أسحاري الباكية.. ابنةُ أحــلامي المؤجلة.. صبر عمري.. وهمهمة جوفِ الليلِ الآخر " ربِ لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين ".. إنها استجابةُ السماءِ لهمسات دموعي المتواصلة، لنداءاتي المعذبة.. والتي لا تعلم عنها شيئًا، رغم قُربِك البعـــيد)

انطلق نحوها كالثور الهائج؛ فارتطم بها في جدار الغرفة..انهارتْ على الأرض، أخذ يسحقها بقدميه يقفز في الهواء؛ ليهوي على بطنها ورأسها دون أن ينطق.. ولا يشعر بأي رغبة في التوقف، بينما استسلمتْ لا تُبدي حراكًا ولا مقاومة سوى آهات مكبوتة، تُقابل بها وجعَ الضربات..

شعرت بسخونة سائل لزج دافئ يتسلل ببطء داخل عينيها؛ يحجبُ الرؤية، أغلقتْ عليه جفونَها وأسلمتْ نفسَها؛ فأحستْ براحة شديدة وقد غابَ عنها الألم.. بينما يذرع بها الأرض شدًا من شعرها.. وضرباتُه المتوحشة لازالت تتوالى..

****

سريرٌ يميل بجسمها للأمام، ملاءةٌ بيضاءُ تغطي نصفَها الأسفل، الذي فقدتْ الإحساس به.. الكثير من الأنابيب تخترق جسدها، أسلاك موصولة بأجهزة معقدة تُصدر أصواتًا روتينية متقطعة.. على يديها خطوطٌ بارزة ملونة بآثار حزامه الذي انهال عليها به، تقرير مُطوّل معلق على سريرها، جروح وكدمات بألوان مختلفة تملأ وجهها - الذي كان جميلًا -.. تعجزُ عن تحريك أعضائها الممدة مستكينة.. بصعوبة بالغة تفتح أجفانَها المتورمة..

بطرف عينها - عاجزة عن الالتفات - بحكم الجبيرة المحيطة برقبتها، تلمح مَنْ يقفون دامعين يتأملونها خلفَ زجاج العناية الفائقة.. كل ما تتمناه أنْ يفهمَ أحـدُهم حيرة تســاؤلاتِ عينيها الغائرة؛ فيطمئنها (عليها)، ولـو بإيماءة.. تفهمهــا لترتــاح .