مع الرواية الثانية من الإثنى عشرية (خرائط الروح) نتعرف على بعض ملامح التردي وأفراحه الآثمة في مسيرة ليبيا من البداوة والصحراء إلى إشكاليات التحديث والتبعية والمعاصرة.

أفراح آثمة (رواية)

الرواية الثانية من خرائط الروح

أحمد إبراهيم الفقيه

لابد من ممارسة الفعل الثقافي الذي لا يسير في هذا الاتجاه (الموالي للدولة ) من اجل ان تنتصر سلطة الثقافة بدلا من ثقافة السلطة                                                                            امين مازن



  
مفتتح الرواية الثانية
سحرته المرأة ذات الجمال الفاتن. وقع صريع المدى الازق في عينيها، وغواية الورد الاحمر في وجنتيها والكرز في شفتيها، وفواكه العنب والتفاح والكمثرى في بستان جسمها، ولمعان جدائل الذهب التي تتهدل في كراديس مبهرة على كتفيها، عندما رآها ترفل في اثوابها الفاخرة، التي تجر فوق الارض، وجواهرها التي تزين العنق والصدر والمعصمين واصابع اليدين، عطرها الفواح الذي يفعم القلب بالفرح والغبطة، ويبدى استعداده لوضع شبابه واملاكه وحاضره ومستقبله تحت قدميها، من اجل الفوز بها زوجة له، ولم يكتشف الا ليلة ان بنى بها، وادخلها مخدع الزوجية السعيد، ان لمعشوقته الفاتنة ساقين غير بشريتين، لها ساقا وحافرا حمار.  

هناك في حياة كل انسان يوم واحد بلا غد، هو آخر ايام العمر

 

 

 
(1)

 

مهووس ماريو باسواق اللحم البشري الرخيص خبير بدهاليزه واسواقه وغاباته إلا أنه هذه المرة صار يماطل ويتمنع بحجة انه يريدك ان تفي بالعهد الذي قطعته على نفسك، بتقديم امرأة عربية من نساء الشارع له، فمن اين لك وانت الذي عاش بعيدا عن هذه الاجواءان تجد له مومسا ترضي فضوله الجنسي لتذوق اللحم العربي؟ تمنيت لو كنت تستطيع الاهتداء إلى تلك المرأة التي جاءت تعرض أمامك مفاتنها في دكان الاحذية عندما كنت غشيما وصغير اليس فقط لأنها ستحل مشكلتك مع ماريو، ولكن لأنك انت أيضاً تشتهيها ونادم لأنك اضعت فرصة ان تمسح وجهك في مخمل نهديها كم هو مؤسف انك لا تعرف طريقها، وان عليك ان تبحث عن امرأة غيرها باية طريقة، حتى لا تبقى مطرودا من جنة ماريو المليئة ببائعات الهوى من حوريات الشاطىء الشمالي للبحر
فكرت في ان تغامر بالذهاب آلي سيدي عمران، لتبحث داخل بيوت الدعارة الرسمية، عمن يرضى الخروج معك، إلا أنك لا تعرف هذا الشارع ولم تزره من قبل، ولا خبرة لك باسلوب التعامل فيه، وليس أمامك من حل غير ان تذهب لعبد المولى الشحات، من أجل ان يعينك في العثور على هذه المراة، لأنه سبق ان حكى لك عن مغامرة له مع احدى المومسات، وهو وحده، بين معارفك، من يستطيع ان يكون دليلك لعالم البغايا والساقطات، وعندما عقدت العزم على هذا الرأي سألت ماريو ان يتجه بالسيارة الى حزام الأكواخ بمنطقة بورتا عكاره، حيث كوخ عبد المولى، واثقا من انك ستجده نائما في عز الضحى كما يفعل الوجهاء والاعيان لاسباب تفرضها طبيعة العمل. الصباح ليس موعدا مناسبا للتسول لأنه لا احد يحب ان يبدأ نهاره برؤية الشحاذين يعرضون أمامه عاهاتهم واسمالهم المرقعة ونتانة روائحهم، وغير ذلك من مؤهلات التسول. 

عبرت بكما السيارة حي سيدي خليفة ببيوته الملتصقة بالأرض وشوارعه الضيقة المتربة المزدحمة بالاطفال ومرت بكم أمام زاوية الكتاني حيث قرأت الفاتحة على صاحب الروضة، وانت تشعر بالاشمئزاز من نفسك لأنك ذاهب تسعى في مقصد فاسد، دون ان تأبه لهذا الولي الصالح، سيدي الكتاني الذي يعترض طريقك، انك لو كنت تمشي على قدميك لما تقدمت خطوة واحده على هذه الطريق، ولارغمتك قباب الزاوية والروضة ومئذنة الجامع الذي يتبعها على العدول، إلا أن للسيارة سرعتها التي تسبق سرعة التفكير، ولسائقها دوافعه ومنطقه وافكاره التي تختلف عن افكارك، ولا يعني له سيدي الكتاني ما يعنيه لك من معاني الصلاح والتقوى، فمضى يقود السيارة، يعبربها الطرقات المتربة، وهي تثير زوابع الغبار، ثم سرعان ما هاجمتك رائحة مدبغة الجلود التي تفصل بين المساكن العربية وحي الأكواخ تثير الغثيان والتقزز، وتنسيك فكرة العدول عن هذا المشوار التي شغلت فكرك، لأن الفرار من هذه الرائحة، هو أقصى ما تريده في هذه اللحظة.

وابدى ماريو تأففه من رائحة المدبغة واستخدم احدي يديه في سد مناخيره حتى تنتهي الرائحة وزاد في اندفاع السيارة لتخرج سريعا من مجال تأثيرها إلا أن الرائحة الكريهة لا تنتهي بمجرد اجتياز المدبغة وانما تزداد قوة بظهور تلال القمامة المتكومة أمام الأكواخ لأنه لا وجود لاحد يهتم بجمعها وحرقها. واعداد كثيرة من الجرذان تتقافز عند مرور السيارة، متجه نحو الأكواخ كانه صار طبيعيا ان تشارك الناس حياتهم. والمياه القذرة التي لا تجد تصريفا، تصنع بحيرات وجداول تعبرها السيارة، فيتطاير رذاذ مياهها الخضراء ملطخا حديد السيارة وزجاجها، وتتطاير في ذات الوقت، الشتائم واللعنات من فم ماريو، ويصيبك شيئ منها، عقابا لك لأنكلم تجد مكانا تصطاد منه النساء غير هذا المكان الحقير، فيكون ردك عليه بانه ليس للعرب احياء يعيشون فيها غير هذه الاحياء، واذا كان ماريو لا يطيق رؤية قاطنيها فليعد إلى مومساته الإيطاليات، من قاطنات احياء طرابلس النظيفة الراقية. الا ان ماريو يقول ان احتجاجة ليس على فقر الاحياء ولا اكواخ الصفيح والقصدر ولكن على فقر الروح الذي يجعل الناس لا يفعلون شيئا ازاء هذه القذارة وهذه النتانة. لانه كما يقول عن نفسه انه ولد وعاش وتربي في افقر احياء باليرمو لكن الناس كانوا يغرسون اشجار الورد وسط المساحات الفاضية بين تلك البيوت المتهالكة القديمة الفقيرة ولم يكن هناك في حي الاكواخ الا ما يؤيد كلامه ويحرمني من تقديم أي دليل ادفع به عن بني وطني تهمة فقر الروح وبؤسها.  

فعلى جانبي الطريق وبين اكوام القمامة وجداول المياه القذرة كان سكان الحي يتحركون في شئون حياتهم اليومية كانهم لا يرون هذه الاكداس من القذارة بعضهم لا يتحركون، وانما يجلسون متجمدين أمام اكواخهم، خاصة المتقدمين في السن من رجال ونساء اشبه بالهياكل العظمية، يتكئون تحت ظلال الأكواخ وقرب اكداس القمامة، تاركين الحركة والنشاط لسحائب الذباب، تحلق فوق رؤوسهم وتطير وتحط فوق وجوههم، يتطلعون ببلادة إلى السيارة العسكرية التي تسللت عبر اقواس البؤس، إلى حياتهم واقتحمت حرمة مزابلهم. ولا ينافس الذباب في نشاطه الا الاطفال الذين يجرون حفاة باسمالهم المهترئة البالية التي تحول لونها إلى سواد قاتم بسبب القذارة، يحاولون ملاحقة السيارة ومجاراتها في سرعتها وهم يمدون ايديهم يطلبون حسنة لله ولابد ان امهاتهم البدويات ما زلن يحملن تقاليد البادية في الخوف من استهلاك الماء فلم يجدن داعيا لازالة السواد عن قمصان هولاء الصبيان رغم فائض الماء في المدينة. تختلط توسلات هؤلاء الصبيان وصيحاتهم بنباح كلب في هذه الجهة أو ثغاء جدي أو تيس في جهة أخرى. 

وبرغم انه سبق لك ان زرت هذا الحي أكثر من مرة، وبقيت به في كل مرة بعض الوقت احسست اليوم، وانت تدخله راكبا سيارة إيطالية صحبة السنيور ماريو، كأنك تراه لأول مرة، وقد جعلته عينا ماريو المندهشتان، ووجهه الذي انطبعت عليه علامات الاشمئزاز والقرف، وهو يطلق تعليقاته القاسية، يبدو عالما شديد القبح والقذارة يستحق ان تشعر بالخجل من انتمائك للجنس الذي يسكنه. خطر ببالك سؤال وانت تمرق بين هذه الهياكل العظمية وأكداس القمامة التي يجلس الناس فوقها وحولها، تغطي وجوههم سحب الذباب هو:
- هل خرجت حورية من مثل هذه البيئة، وذاقت طعم هذا البؤس؟

قبل انتقالها مع امها للإقامة في مستشفى كاتانيا كانت حورية تقطن حي الأكواخ الواقع على اطراف شارع ما كينه والذي يمثل صورة طبق الاصل من هذا الحي، وبسبب قربه من مركز المدينة تمت ازالته لبناء حي جديد للإيطاليين، تتوسطه الكاتدرائية العملاقة ليصبح أجمل حي في مدينة طرابلس.

وكأن ما حدث لأرض هذا الحي من تحولات نقلتها من بؤس التخلف والفاقه إلى افق التقدم والغني والحضارة، حدث مثله لنبتة انبتتها هذه الأرض اسمها حورية، انتقلت من قاع المجتمع الى مشارفه العالية. انك لا تكاد تصدق الان ان جمالها المتوهج كشمس الضحى، المليء بمعاني الشموخ والكبرياء، والذي يعطيك احساسا بانها ولدت في قصر ملكي، وما رأيته يحيط بها من اجواء البذخ واضواء السلطة والجاه والنجاح، يمكن ان يوحي بادنى صلة أو علاقة لحورية بهذه البيئة، وهذا المحيط، فلماذا اذن يتأفف السيد ماريو قائلا بان نفسه عافت الاتصال بامرأة تسكن هذه القاذورات؟ ماذا لو رآى محظية سيده بالبو وعرف انها خرجت من علبة صفيح تشبه هذه العلب؟ هل تراه سيصدق ذلك؟ ولكن هل لابد لمن اراد الخروج من عالم الجوع والقذارة إلى العالم السوي النظيف الذي يتوفر فيه الغذاء والكساء والسكن اللائق بالبشر ان يمر عبر هذا الطريق الذي سلكته حورية؟ اما من طريق أكثر نظافة يمكن ان يسلكه الإنسان لينجو من حياة الزواحف والديدان؟

سارت بكما السيارة عبر الطرق الموحلة الضيقة بين اكواخ الصفيح حتى وصلتما إلى كوخ عبد المولى الشحاذ، وقبل ان تهبط من السيارة، رأيت راس عبد المولى يطل عبر انفراجة صغيرة في باب الكوخ، وقد بدت نظرته حائرة مرتبكه يحاول ان يعرف سب الضجة التي يصنعها الاطفال الذين ظلوا يصيحون ويركضون خلف السيارة وقد افزعه دون شك ان يرى سيارة عسكرية تضع انفها في باب كوخه، اسرعت تناديه باسمه، قبل ان تذهب به الظنون مذاهب أخرى، فرد وهو يرفع يده وي - بسطها أمام وجه ليحمي عينيه من وهج الشمس، يحاول ان يتبين صاحب الصوت الذي يناديه:
- من؟ هل هذا انت يا عثمان؟
كانت هناك أوجه كثيرة تطل هي الأخرى في فضول من الأكواخ المجاورة
- نعم يا عبد المولى اريدك في كلمة سريعة.اختفى لحظة خلف الباب قبل ان يخرج وفي يده مكنسة من جريد النخيل، صار يلوح بها في وجوه الصبيان الذين تحلقوا حول السيارة يمدون ايديهم يريدون صدقة لله، فابتعدوا مسافة قليلةعن السيارة، ووقفوا يطلبون الصدقة من بعيد غير خائفين من مكنسة عبدالمولى، وجاء هو يتكيء على نافذة السيارة قائلا:
- هيا ادخلا لتناول الشاي.
- لا نريد شايا.
- اذن ما الذي تريدانه انت وهذا الرومي؟
- ماريو مجرد سائق يعمل معنا في المعسكر.
- انعم واكرم، وما سبب تشريفكم لحي الأكواخ ببورتا عكارة؟
- بصراحة ودون كلام زائد، فقد جئنا للبحث عن امرأة.
- ومن تكون هذه المرأة؟
- ليست امرأة بعينها.
- وما شأني انا بمثل هذه الامور أو بمثل هذه المرأة؟
- اقصد امرأة كالتي قلت انك احضرتها لهذا الكوخ.
- وهل وصل بك السقوط إلى هذا الحد؟
- لا تفهمني خطأ.
- كل ما تقوله خطأ، وجئت للرجل الخطأ، في المكان الخطأ لأنني لا اعمل قوادا، وبورتا عكارة ليس حيا للدعارة. هيا انصرف قبل ان اضربك بهذه المكنسة. استغربت لهذه الثورة التي استقبلك بها عبدالمولى الشحاذ، والتي لم تكن تتوقعها، وحاولت ان تشرح له الموقف إلا أن ماريو العجوز وقد احس بحرج الموقف، ورآى غضب الرجل وتهديده لك بعصا المكنسة، ادار محرك السيارة، واندفع بها عائدا من نفس الطريق
- بوركا ميزيريا.أطلق شتائمه، وضغط بقدمه على دواسة البنزين، وقاد السيارة بأقصى ما لديها من سرعة، غير عابىء بالاطفال الذين مضوا يركضون ويتقافزون فوق أكداس القمامة، يتفادون السقوط تحت عجلات السيارة، أو الدجاجات التي ارغمها على ان تستخدم اجنحتها لأول مرة في الطيران، حتى تنجو من موت محقق، يهددها به هذا الوحش الحديدي الذي انقض عليها، وجاء مسرعا نحوها بهديره ودخانه وغباره. مضى ماريو يقود بك السيارة عبر الطرق المتربة وهو يرسل شتائمه البذيئة حتى أوصلك إلى باب المعسكر، حيث أوقف لك السيارة كي تهبط، دون ان يقول لك شيئا له معنى غير قذائف الشتائم التي تتناثر من فمه، وعندما سألته وانت تهبط من السيارة عمن تراه يقصده بكل هذه الشتائم، رد باقتضاب:
- لا اقصد احدا غير هذا الحلوف الذي أمامك، الذي هو انا.

في نفس اليوم واثناء استراحة الغذاء، جاء عبد المولى الشحاذ لزيارتك في المعسكر، لم يطق حسب ما قاله ان يراك تترك كوخه غاضبا هذا الصباح، فاسرع بالمجيء إليك لترضيتك قائلا بانه لميكن بامكانه، وأعين الجيران تحاصره، واطفالهم يلتقطون ما يدور أمامهم من حديث، إلا أن يتصرف معك بتلك الطريقة خاصة وانه فوجىء بما تطلبه منه، ولم يستطع ان يصبر على شرحك لما تريد منه، لأن الموقف لم يكن يسمح بتبادل الحديث، ومعرفة الدوافع والاسباب، فوجود سيارة جيش إيطالية أمام كوخه يمثل في حد ذاته شبهة في اذهان قاطني هذا الحي الشعبي، فما بالك بكلمة يلتقطها احد الناس عن مثل هذا الموضوع، ليضيف بذلك شبهة جديدة إلى الشبهة الأولى، كان لابد ان يطردك انت وصاحبك، لينفي عن نفسه الشبهتين، وها قد جاء مسرعا يطلب منك الا تغضب، وان تشرح له في هذه الجلسة الهادئة ما لم تستطع شرحه اثناء تلك الزيارة. افهمته انك لم تكن غاضبا منه، لأنك مدرك ان ماحدث جاء نتيجة سوء فهم، وان ليس في الأمر الذي ساقك إلى حي الأكواخ ما يمس كرامتك أو كرامته، وان احتياجك لامرأة من هذا النوع لا يدخل في دائرة السقوط كما ذهب في ظنه، وأوضحت له علاقة العمل التي تربط بينك وبين ماريو، والمغامرات التي قمتما بها مع نساء إيطاليات كان ماريو هو الذي يتدبر احضارهن وكنت محرجا أمامه وهو يسألك ان تساهم مثله في ترتيب هذه الاجواء ومن أجل ذلك ذهبت إلى كوخه بحثا عن امرأة كتلك التي سبق ان أخبرك عنها وبدأ بان اقسم باغلظ الايمان انه لم يتعامل بمثل هذه المواضيع مع احد من قبل، بل انه لم يسمح لاحد ابدا بان يخوض معه في مثل هذه الامور حتى من باب الهزل، ولأنه يعرفك معرفة وثيقة ويعرف انك صادق فيما قلته، فانه يعطيك عنوان امرأة تسكن زنقة صغيرة اسمها زنقة البهلول، محاذية لشارع سيدي عمران عند السور الغربي للمدينة، وحيث ان اغلب البيوت في سيدي عمران بيوت بغاء علنية، فهو لا ينصحك بالذهاب إليها لأنها تجلب الشبهة لصاحبها، زيادة على ان نساء هذه البيوت لا يقدمن هذه الخدمة الا داخل بيوتهن، ولا يستطعن الخروج ابدا لأنهن خاضعات لحراسة الشرطة، ولذلك فهو يعطيك عنوان هذه المرأة التي تعمل وسيطة في مثل هذه الامور وفي ذات الوقت فهي تدير فرقة من " الزمزامات" وتتفق باسمهن على احياء الاعراس رقصا وغناء، اسمها شريفة، ولم ينس وهو يعطيك عنوان البيت ان يزودك ببعض النصائح، اهمها ان تذهب إليها في زي غير هذا الزي العسكري لكي لا تعتبرك مندوبا للحكومة، وان تدعي في البداية انك قادم للاتفاق معها على احيا ء حفلة عرس والا تبوح لها بمطلبك الحقيقي الا بعد ان تعرف انها اطمأنت إليك. 

وانتظرت حتى جاء موعد ذهابك إلى ماريو فاخذت ملابسك المدنية تحت ابطك لأنك لا تسطيع ان تخرج من المعسكر مرتديا اياها وتخفيها في سيارة ماريو، وما أن تنتهي حصة التدريب حتى تبحت عن موقع آمن قريبا من سور المدينة تقود إليه ماريو ليوقف فيه السيارة كي تنتهي من ارتداء طقم الملابس العربية الذي ستقابل به مطربة الاعراس السيدة شريفة. على ان ينتظرك ماريو بالسيارة في نفس المكان عند خروجك بعد انتهائك من عقد الصفقة كان البيت واحدا من بيوت المدينة القديمة ذوات الطراز العربي المؤلف من طابقين وصحن مفتوح، ودلفت من الباب الخارجيإلى سقيفة طويلة، تؤدي إلى ذات الفناء الداخلي، ولكن قبل ان تصل الفناء، ثمة غرفة صغيرة اعدتها صاحبة البيت لاستقبال الضيوف، حيت جلست على مندار مفروش فوق الأرض.

واحتلت بجسمها البدين العريض نصف الغرفة. انتقلت بسرعة من الحديث عن العرس الوهمي إلى الغرض الحقيقيالذي جئت من أجله، بعد ان وجدت تشجيعا منها، واستعدادا جميلا لتقديم الخدمة التي جئت تطلبها فاجأتك الاسعار العالية التي تريدها مقابل هذه الخدمة عرفت منها ان هناك تسعيرة للمدة القصيرة داخل البيت وتسعيرة اكبر للمدة القصيرة خارجه وتسعيرة ثالثة لا يقدر عليها الا اصحاب الدخول الكبيرة للمدة الطويلة التي يقضيها الزبون مع احدى نساء الوقت الجميل سواء نائما في هذا البيت لليلة كاملة أو مصطحبا اياها إلى بيته.

وجدت ان ما يناسبك الان ويتفق مع النقود التي في جيبك هو امرأة واحدة تأخذها في نزهة قصيرة خارج البيت ودون مساومة أو مماطلة اخرجت الفرنكات العشر واعطيتها لها. اعجبها حسمك السريع لهذه المسالة المالية ومبادرتك إلى دفع ما قالت دون ابطاء، فرفعت صوتها تنادي نورية وفوزية وخدوجة لكي تعطيك فرصة للاختيار بينهن، فاخترت الأولى لأنها أكثرهن طولا وامتلاء واقلهن تزويقا ومكياجا. عادت نورية إلىغرفتها لكي تهيء نفسها للخروج معك بعد ان أخبرتها رئيستها بان خروجها ستكون لمدة ساعتي. نوكنت ستواصل الجلوس في غرفة صاحبة البيت انتظارًا لنورية. ولكن طرقات على الباب الخارجي، جعلت السيدة شريفة تسألك ان تنتقل لانتظار نورية في غرفتها، لأنها لا تعرف من يكون القادم الجديد، ولا ترى من الحكمة ان تستقبلك في حضوره. فوجئت بان الغرفة التي صعدت إليها في الطابق الأول غرفة واسعة، نظيفة، تحتوي على سرير كبير، ودولاب للملابس يغطي كامل الجدار، وطاولة للزينة لها مرآة عريضة ادركت ان للتسعيرة الغالية اسبابها، وجلست على طرف السرير في حين جلست نورية أمام مرآتها تمشط شعرها وتكمل زينتها قائلة بانها ستمنحك خدمة افضل لو رضيت بالبقاء داخل البيت حيث الدفء والامان والنظافة والماء الساخن، وحيت السرير المصنوع من الاسلاك الحديدية المطاطة "الموللا" التي تجعله يرتفع وينخفض اثناء العملية الجنسية ويتحول إلى ارجوحة تضاعف متعة الجنس.

ولم تتردد اثناء ذلك من استخدام مفاتنها لاقناعك بجدوى البقاء في البيت، ولم تكن غريزتك الجاهزة للاستنفار تحتاج لغير تلك اللحظة السحرية عندما لامس نهدها كتفك دون قصد، وهي تخطف منديلا معلقا فوق مشجب وراء ظهرك لتؤمن على صحة قولها، وتدرك الحكمة الكامنة وراء اقتراحها. تبقى المشكلة الوحيدة بينك وبين الامتثال لما تأمر به نورية هو التزامك مع ماريو، فقد اتفقت معه بان يعود لانتظارك تحت السور بعد نصف ساعة، وكان يمكن ان تخلف موعدك معه لولا ان بذلتك العسكرية موجودة الان في سيارته، ولا سبيل لدخول المعسكر الا بها، وتفتق ذهنك عن فكرة ترضي المرأة وتطفيء نداء الغريزة لديك دون ان تخلف موعدك مع ماريو. كان كل ما تبقى من نقود في جيبك هو خمس فرنكات بسطت بها يدك لنورية داعيا اياها ان تأخذها حلالا بلالا دون علم رئيستها مقابل مضاجعة سريعة فوق هذا السرير، مع احتفاظها بحقها في النقود التي استلمتها شريفة، ثمنا للنزهة المتفق عليها، ترددت نورية قليلا قبل ان تمد يدها للنقود، ثم وافقت بعد ان اخذت منك عهد الا تطيل فترة جماعها لكي لا تتخلف عن رئيستها، فتشك في امرها وتأتي لمعرفة سبب تأخرها، وتكتشف بالتالي امر هذه الصفقة الصغيرة التي قامت بإبرامها معك من وراء ظهرها، فهي لا تريد مشاكل مع صاحبة البيت. وبسرعة امسكت بيدها تجرها إلى السرير لتنطرح فوقه وتقفز انت فوقها بكامل ملابسك، فلا تمض غير دقيقة واحدة حتى تنتهي المهمة.

 

 

اخذت نصيبك منها قبل ان ترتدي رداءها وتخرج وراءك للالتحاق بصاحبك الإيطالي المشوق لالتهام رطل من اللحم العربي الأنثوي الحي، لم تكن هناك لغة مشتركة بين ماريو العجوز وبين نورية. ولذلك فقد كان دورك طوال هذه النزهة هو ان تقوم بدور المترجم بينهما، عدا اللحظات القصيرة التي اختفيا فيها داخل الدغل ليتخاطبا بلغة أخرى هي لغة الجسد. اخيرا وجد ماريو ما يرضي فضوله، إلا أن غياب اللغة المشتركة بينه وبين نورية، وهو الرجل الثرثار الذي لا يستطيع ان يستمتع باي شيء لا تصاحبه كمية كبيرة من الكلام، جعلته زاهدا في تكرار التجربة معها، في حين كان بيت الزمزامات في زنقة البهلول، اكتشافا بالنسبة لك، وانقاذا من مغامرات الغابة التي يحبها ماريو، ولم تكن تتفق مع خجلك القروي وحبك للطهارة والاغتسال، فغرفة النوم هي البيئة الطبيعية لطقس شديد الحميمية والخصوصية مثل هذا الطقس الذي يصبح أكثر جاذبية مع وجود هذا الاختراع العجيب الذي تعرفه بيوت المدينة منذ اقدم العصور، دون ان يصل إلى الارياف والبوادي، وهو السرير الوتير الهزاز الذي يتماوج مثل ماء البحر، والذي جاء اختراعه ليجعل ممارسة الحب أكثر امتاعا ولذة. 

(2)

 

كنت قد توصلت مع نورية إلى اتفاق يقضي بان تأتي لزيارتها مرة كل أسبوع، لتمكث ساعة واحدة معها مقابل المبلغ الذي ذكرته لك شريفة وهو سبع فرنكات، بشرط واحد هو الا تعترض نورية على عدد المرات التي تقوم فيها بالممارسة الجنسية معها خلال المدة المحددة. كنت خلال رحلات الغابة قد تأكدت من قدرتك الجنسية وعدد المرات التي يمكن ان تقوم بها بالفعل الجنسي خلال فترة قصيرة، موقنا بان اداءك سيكون افضل كثيرا، وانت تنتقل من ممارسة هذا الشيء فوق الرمل والحصى والعشب، إلى سرير تغطيه الحشايا والمفارش القطنية الناعمة. ولم تنتبه نورية إلى مدى ما يلحقها من اجحاف بسبب هذا الاتفاق الا بعد أول ساعة قضيتها معها، ورأت مدى ما يمكنك ان تقوم به من ممارسات جنسية خلال هذه الساعة فابدت احتجاجهاعلى ذلك، وعمدت في المرة الثانية وفي اخلال واضح بشروط الاتفاق، إلى تحديد عدد الممارسات، وجعلتها خمس ممارسات في الزيارة الواحدة، ورغم انها، كما تقول، رأت رجالا لهم فحولة مثل فحولتك، إلا أن ذلك لم يمنعها من ابداء استغرابها لوجود هذه الحالات النادرة، كما تسميها، التي تتخطى بمسافات كبيرة السلوك الجنسي العادي لبقية الرجال، وكان جوابك انه مادامت المرأة قادرة على احتمال عدد كبير من المضاجعات، فمن العدالة وجود رجال يملكون القدرة الجنسية التي تتكافأ مع قدرة المرأة، ليتوفر لهذه العلاقة ركن المساواة. 

لكن نورية لا ترضى بهذا الكلام ولا ترى ان هناك وجود في عالم البشر لما يسمى عدل ومساواة. وان وراء كل امرأة تعمل بهذه المهنة مأساة صنعها لها الرجال. وإلا فلماذا لا نجد مقابل شارع سيدي عمران المليء بضحايا المآسي الاجتماعية من نساء يتاجرن باجسادهن، شارعًا مثل هذاالشارع للرجال، يعرضون فيه اجسادهم للبيع كالنساء. ومازحا قلت لها بانك ستكون أول الملتحقين بمثل هذا الشارع لو كان موجودا، لتبيع فيه قدراتك الجنسية للنساء وتصبح اغنى اغنياء طرابلس، كنت تقول ذلك ضاحكا ردا على الكلام الذي تقوله نورية بطريقة جادة حزينة طالبا منها ان تضحك وتفرح. وانت تذكرها بانك أكثر استغرابا منها لحالتك، ولا تدري من اين تفجرت لديك هذه الطاقة الكامنة فيك، التي كانت نائمة لمدة تزيد على عشر سنوات، أي منذ ان وصلت سن البلوغ، ولم تعرف بها، أو تشعربالحاحها عليك، وضغطها على جسمك وروحك الا مع أول ممارسة جنسية في حياتك. لم تقل لها انك صرت الان تدرك، ادراكا فاجعا مؤلما، انك لن تستطيع السيطرةعلى هذه القوة القاهرة العاتية التي تدفعك نحو الطريق إلى حي الدعارة كل أسبوع، ولا قدرة لديك على محاربة هذه الغريزة عندما توقد تحت ضلوعك نارها التي لا تنطفيء، الا بارتكاب مزيد من الاثام. ولم يعد بامكانك العودة إلى طهارة السنوات الماضية مهما فعلت. ولا يبقى الا مداومة الصلاة والتسبيح وطلب العفو والمغفرة وسرعة الاغتسال من الجنابة عقب كل زيارة إلى بيت الملذات. 

اقتصرت علاقتك مع ماريو على اخذ الدروس، إلى ان جاء اليوم الذي ابلغك فيه بانه حدد لك موعدا في ادارة المرور والطرقات لأداء امتحان قيادة السيارة، ولأن ماريو أوصى عليك بعض معارفه في تلك الادارة، فلم يستغرق الامتحان غير ساعة واحدة، اخذت بعدها بطاقة تحمل صورتك، وتجيز لك حق قيادة السيارات. 

اعتبر زملاء العنبر ان حصولك على هذه الرخصة التي لم يحصل عليها احد قبلك من المجندين الليبيين، مناسبة للاحتفال. وما أن انتهت ساعات التدريب داخل المعسكر، حتى كان طبق الحلويات الشرقية، الذي اشتريته من باب الحرية جاهزا، كذلك سخان الشاي الذي احضره احدهم ساخنا من مطبخ المعسكر. وابدى الشاويش عنتر الذي حضر الحفل، حفاوة شديدة بك واعتزازا بنجاحك، باعتبارك تلميذه النجيب، وبالغ في التودد إليك قائلا لبقية المجندين، بان عليهم ان يفرحوا لأنه اضحى لهم مندوب الدى الدوائر العليا، فاجبته مدعيا التواضع، بانك لا تنتمي لاية دوائرعليا، وان مكانك سيظل في هذا العنبر، تحت سلطة الشاويش عنتر. 

بادلته مجاملة بمجاملة، ولكن كلماته نفخت في قلبك جمر الطموح، واعطتك احساسا بتعاظم اهميتك، فانت تدرك ان للرجل حاسة شم قوية، تجاه مراكز الحكم والسلطة، وانه لم يكن يقول كلامه اعتباطا، وانما بوحي من هذه الحاسة التي تعرف ما ينتظرك من صعود في مدارج النفوذ والنجاح. 

في اليوم التالي اثناء ذهابك إلى بيت السنيورة حوريه لتقديم نفسك لها، وابلاغها بانك جاهز لاستلام الوظيفة، خطر لك ان تمنح نفسك يوم اجازة، تقضيه مع نفسك أو مع من تحب وتفعل فيه ما تريد، دون ان يستطيع احد في المعسكر الانتباه لأنك اخذت هذا اليوم لنفسك. ولأنه لا احد لديك تحبه أويحبك في هذه المدينة غير ثريا، فقد اتجهت إلى بيتها بعد ان تسكعت قليلا في الشوارع، مستمتعا بما تحقق لك من نجاح في اجتيازالامتحان، والحصول على هذه الرخصة التي لم يكن ممكنا لاحد من اسلافك ان يحلم بالحصول عليها. 

لأنه ببساطة لم يحضر تاريخ اختراع السيارة، واذا حضره فهو لم يحضر تاريخ وصول السيارة إلى أولاد الشيخ. ذهبت باتجاه بيت ثريا دون ان تناقش الأمر مع نفسك أو تحاول ان تجد تبريرا لمواصلة هذه العلاقة التى لاوجود لرابطة شرعية أو عائلية تسندها. مررت بدكان لبيع الحلوى فاشتريت طبقا للاحتفاء بنجاحك مع ثريا واسرتها، ومسوقا بشوق عارم لرؤية عينيها، والالتقاء بجمال الكون في ابتسامتها، طرقت الباب منتظرا ان تفتحه لك هي، مثل كل مرة تختار فيها المجيء صباحا حين وجود شقيقها في المدرسة القرآنية. لم يأت احد لفتح الباب، فاعدت طرقه بقوة أكثر، وواصلت الطرق إلى ان بدا واضحا انه لا وجود لاحد في البيت، اعتراك قلق من ان حدثا س-يئا قد حل بأهل البيت، مثل ان يكون الوالد قد مات واخذوه إلى قريته تاجوراء ليدفن في مقبرتها بجوار اسلافه. أكثر من فكرة سوداء طافت بذهنك، قبل ان تترك باب البيت عائدا إلى الشارع العام.

لم تشأ ان تطرق باب احد من الجيران لكي لاتقلقهم، ولا تثير زوابع الكلام حول الزائر الغريب لبيت الحاج المهدي، ورأيت بانه اذا كان لابد من السؤال فلتسأل احد اصحاب الحوانيت المحاذية لدكان الحاج، فهؤلاء اصدقاء الرجل ورفاقه، ولن يثير سؤالك عنه اية شبهة لديهم، لأنهم يعرفونك ويعرفون علاقة العمل التي ربطتك به، إلا أنك لم تكن تحتاج لأن تسأل احدا، لأنك ما أن وصلت إلى هناك حتى فوجئت بدكان الحاج المهدي مفتوحا، وهو جالس في مكانه المعهود وسط الدكان، منهمكا في العمل، المطرقة في يده، وصندوق المساميربجواره، وقطع الجلد الأحمر تتناثر حوله، يضع احداها فوق السندان الصغير ويطرق فوق طرفها، طرقا واهنا ضعيفا لكي يلين الجلد. احسست بمزيج من مشاعر الفرح والاسى، الفرح لأن الرجل قد تعافي واجتاز ازمته الصحية بعد ان ظننته قد مات، وقد استطاع ان يستأنف العمل في الدكان بكل ما يعنيه ذلك من دفع شقاء البحث عن لقمة العيش في هذه الظروف الحالكة السواد التي تمر بها هذه الاسرة الكريمة الت يفتحت أمامك بيتها، واعتبرتك ابنا ثانيا لها. اما الاسى فلأنك لن تستطيع بعد ان عاد الاب الي دكانه ان تدخل بيته اثناء غيابه، أو تجلس، كما كنت تفعل اثناء مرضه معه و مع ابنته وزوجته وتتبادل اطراف الحديث معهم. استدرت باتجاه الدكان تلقي التحية وتهنىء الحاج بشفائه وتجلس على الكرسي الصغير الذي يستخدمه الزبائن في مواجهته. لم يكن الحاج قد تعافى تماما من مرضه، ولكنه ما أن رآى نفسه في حالة تسمح له بمعاودة فتح الدكان، وجلب قليل من الرزق حتى تحامل على نفسه، وجر جسمه ليجلس في دكانه. وافهمك دون ان تسأله سر البيت الذي لم تجد فيه احدا يرد على طرقاتك، لأن زوجته وابنته ذهبتا مع اسرة فتحي لزيارته في المعسكر، فلو بكرت بالمجيء قليلا، يقول لك الاب الشيخ، لكنت عونا لهم ودليلا يصحبهم إلى هناك.

ولكنك لا تشعر بأي اسف لأن هذا المشوار قد ضاع منك، فانت تعرف بانه سيكون مستحيلا ان تجد مكانا قريبا منها في مثل هذا الزحام، ثم ما حاجتك لمثل هذا المشوار إلى المعسكر اللعين لكي تقودها إلي زوجها بعد ان اصطحبتها إلى الكورنيش، وعبر كورسو سيشيليا، وميدان إيطاليا، وميدان الكاتدرائية، وشارع الملك فيتوريو ايمانويل، واكتشفت معها طرقا أخرى ومسالك لا تتسع لغير اثنين: انت وهي. وسيتجدد ذهابكما معا إلى تلك الطرق والمسالك داخل السيارة التي ستقودها بدءا من الغد. رأيته مجهدا يضع المطرقة جانبا ليتلقط انفاسه ويتبادل معك الحديث، فاقترحت عليه، بدافع الاشفاق على صحته، ان يكتفي بالجلوس وبيع ما لديه من احذية جاهزة، دون حاجة إلى ارهاق نفسه في صنع احذية جديدة، حتى يتماثل تماما للشفاء.لوح بيده، كانه يعفيك ويعفي نفسه من الحديث في هذا الموضوع، ومضى يسألك عن احوالك وانت تعيش تحت ظلم وبطش هؤلاء الكفرة. حمدت الله ان صهره فتحي لا يعرفك ولا يعرف صلتك باصهاره، والا لنقل إليهم صورة حقيقيةعن طبيعة عملك، باعتبارك سوط هؤلاء الكفرة، واداتهم في البطش بأهلك وأبناء جلدتك. انت لا تكره ان ينفتح أمامك طريق جديد كهذا الذي تؤهلك له رخصة قيادة السيارات، لكي يعفيك من مهمة جلد هؤلاء التعساء، التي صارت مصدر حرج لك حتى وانت تتحدث مع شيخ بعيد عن معرفة ما يحدث داخل اسوار المعسكر، ولكن الشيخ يواصل حديثه لاعنا أولئك الذين وضعوا انفسهم في خدمة الطليان، متطوعين للعمل في وظائف تسيء لأهلهم وبلادهم، ضاربا المثل ببعض الذين كانوا يبلغون عن الشباب الهاربين من حملات التجنيد، ويدلونهم على بيوتهم ليأتوا وينتزعوهم من احضان امهاتهم - انهم ينسون انها بلاد ترابها ساخن، ولأولياء الله الصالحين قبور في كل ركن من اركان هذه البلاد، وهذا التراب الساخن سوف يحرقهم، وسينالون عقابهم في الدنيا قبل الاخرة، فيا ويل ابن هذه البلاد الذي يظلم أهله، ويجلب الضرر لبلاده. 

احسست برعشة تنتشر في جسمك كله كأن الرجل يعنيك انت بهذه الكلمات. اردت ان تهرب من هذه المواجهة، وتمضي إلى حال سبيلك ولكن صدر الرجل كان ممتلئا بكلام ضد الإيطاليين، لا يستطيع ان يبوح به الا لأهل الثقة، وقد اعتبرك منهم فواصل حديثه عن اللعنة التي تطارد المتعاونين معهم:
- سيظل يلعنهم كل عظم من عظام أهلنا الموتى، قبل لعنات الاحياء. 

ثم انتهى بتوجيه اللوم لنفسه ولكل من بقي في مقيما في البلاد راضيا بالحياة في ظل حاكم كافر، لأنه كان يجب ان يتدبر طريقة للهجرة وفقا لما جاء في كتاب الله: "الم تكن بلاد الله واسعة فتهاجروا فيها". ولو كان يملك امكانية للانتقال إلى بلد اخر لما بقى يوما واحدا هو واسرته يتجرعون غصص الاستعباد، ويضرب كفا بكف حسرة واسى، قائلا:
- ولكن الله غالب، اليد قصيرة والعين بصيرة.
فلم يكن أمامك الا مجاراته قائلا:
- لا غالب الا الله. 

وتنفست الصعداء، عندما انتقل بحديثه الى موضوع آخر هو حرب الحبشة باعتبار هذه الحرب دليلا واضحًا على فجور هذا الحاكم الظالم الغادر، الذي يسوق الناس عنوة ليغزو بهم بلدا آمنا. انها جريمة في حق الشعبين الليبي والحبشي، ثم سأل في ختام تعليقه عن مدى قرب اليوم الذي ستسافرون فيه إلى الحبشة انك لا تعرف، ولا احد من الرؤساء يرضى بان يقول لكم، ربما لأنهم هم أيضاً لا يعرفون، أو لعلهم اعتبروه سرا من اسرار الحرب. قلت للحاج ذلك واضفت بان موعد الذهاب لن يتأخر كثيرا فيما ترى، اذ سينتهي قريبا موسم الامطار في هضاب الحبشة ويصبح الجو صالحا للعمليات الحربية. كان الحاج يظن مثل الاخرين ان للتأجيل علاقة بما حدث فوق هضاب برقة لا هضاب الحبشة، وربما كانت صدمة له ان يعرف ان اخبار النار التي اندلعت في الجبل الأخضر مجرد امنيات ليبية ماعاد هناك من يستطيع وضعها موضع التطبيق، لأن الإيطاليين سيطروا سيطرة كاملة على مقدرات البلاد وعلينا القبول بالأمر الواقع والاعتراف به مهما كان مؤلما مرا.  

لم تشأ ان تنتظر حتى يأتي الحاج المهدي على كامل ما لديه من تصورات حول الظلم الذي تعاني منه البلاد على ايدي المحتلين، فقد سمعتها منه أكثر من مرة، وتعرف افكاره عن الافلاك التي تواصل دورانها في قبة السماء، وانه لا ثبات لشيء، ولا سبيل لأن يركن احد من البشر إلى بقائها تدور لصالحه دائما، واذا كانت تناصر الإيطاليين اليوم فانها لن تكون في صالحهم غدا، ولابد لباطلهم من ان ينتهي لتعود الأرض إلى اصحابها بمشيئة الله وقدرته. كلام يقوله ليعزي به نفسه، وهو يرى حياته تنهار وعالمه يتقوض وأرضه تسرق منه. لم تشأ ان تعود مباشرة إلى المعسكر، وان تدع يوم الاجازة الذي منحته لنفسك يتسرب من بين أصابعك هدرا، ودون ان تجد شخصا قريبا من نفسك يحتفل معك بنجاحك. ولم تكن تحتاج لاطالة التفكير، فالاختيارات أمامك محدودة جدا. ولذلك اخذت طريقك دون ابطاء إلى زنقة البهلول، رغم ان اليوم لم يكن هو اليوم المخصص لزيارتك، ولم تكن نورية تستقبل فيه احدا من زبائنها، لأنها تخصصه لاستقبال ابنتها "وردة" ذات الاعوام السبعة. لم تكن موجودة اصلا في البيت عندما وصلت إلىهناك، فقد اكترت كروسة تتنزه فيها بابنتها وتشتري لها العابا وحلوى. كنت قد قفلت راجعا عندما رأيت العربة قادمة لتقف أمام البيت، وتهبط منها نورية وطفلتها. كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها وردة، بعد ان سمعت احاديث امها عنها.

وكان شيئا مألوفا في حي البغاء، بقسميه العلني والسري، ان تسعى المرأة التي تجد نفسها حاملا، إلى تسجيل مولودها عند انجابه، باسم واحد من صبيان الحي، وعددهم اربعة يطوفون دائما بين بيوته ويسهرونعلى خدمة نسائه، وحمايتهن من عنف الزبائن الذين يأتون سكارى، مقابل اجر معلوم، فهم يقيمون في الحي ويقضون ليلهم ونهارهم فيه، يقومون باعداد الشاي وشراء الحاجات وحمل القمامة إلى المزابل، وجلب الماء الى بيوت الحي، وغير ذلك من الأعمال. ولكل واحد من هؤلاء عشرة اطفال أو أكثر، مسجلون باسمه من نساء مختلفات. وهناك اجراء معروف يتم بمقتضاه تحرير عقد قران بين الرجل والمرأة الحامل ثم إنهاؤه بعد تثبيت نسبة الطفل لهذا الاب الزائف. قدمت لها علبة الحلويات، وهنأت الام بابنتها الجميلة داعيا الله ان يحفظها لها، واردت ان تواصل طريقك عائدا إلىالمعسكر فلا مكان لك في مثل هذا الجو الحميمي بين ام وابنتها. إلا أن الام دعتك ان تبقى لتشارك في الاحتفال بقطع تورتة الشيكولاته التي تحبها ابنتها، واردت ان تعتذر، ولكنها قالت ضاحكة ان الإنسان بمفرده لا يصنع احتفالا وسيظل ناقصا بوجود اثنين فقط اما ثلاثة أشخاص فهم الحد الادنى الضروري لاقامة أي حفل. ولا شك انك لا ترضى بان تحرمها وتحرم ابنتها من توفيرالنصاب القانوني لاقامة الحفل كما تقول. اعجبتك روحها المرحة المنطلقة، فوافقت على البقاء واعترفت لها بعد ان دخلتم غرفتها، انك ما جئت الا لكي تبقى وتحتفل بمناسبة أخرى هي نجاحك في امتحان قيادة السيارات. ووعدت بان تأخذها قريبا هي وابنتها في نزهة بالسيارة علىامتداد شاطيء طرابلس من تاجوراء إلى جنزور.

فرحت المرأة وابنتها بهذا الوعد، ولم يكن الوقت مناسبا للحديث في أي شيء آخر مع نورية، أوالتفكير في الاختلاء بها لأنها ليست على استعداد لأن تظهر بأي وجه آخر أمام ابنتها غير وجه الام الحنون، تحولت هي الأخرى إلى طفلة تشارك طفلتها التهريج واللعب والغناء، وانضممت أنت إليهما تغني معهما اغنية الاطفال الشهيرة:
- طبعك غدار يا قطوسه طبعك غدار سرقت من حجرتنا فاريا
قطوسة
وقبل مغيب الشمس، جاءت امرأة زنجية في منتصف العمر تأخذ الطفلة وتعيدها الي بيتها في منطقة ابي الخير. فقد جرت العادة على ان تعهد نساء هذا الحي باطفالهن إلى مثل هذه المرأة للعيش معها بعيدا عن اجواء العمل الذي يحترفنه، مقابل اجر زهيد، كما هو الحال مع وردة التي تعيش في كنف هذه المرأة وتعتبرها اما ثانية لها. ذهبت الطفلة وانتهى اللهو البريء، وخلا لك الجو مع نورية لممارسة لهو آخر يرضي شهوة الجسد، وعدت بعد ذلك إلى المعسكر وانت أكثر استعدادا لأن تخلع ثوب العمل القديم. تغتسل من الجنابة، وتمنح السوط اجازة وتستقبل حياة جديدة بدءا من شروق شمس الغد.  

(3)

كان اليوم الأول في العمل الجديد عامرا بالاثارة بدأ بتسجيل اسمك لدى قسم السائقين في قصر الحكومة واستلام الزي الجديد الذي لايرتديه الا السائق التابع لقصرالحاكم العام، بلونه الازرق الداكن والحواشي الفضية التي تؤطر زرقته، و القبعة التي تشبه قبعات الضباط. ثم استلامك لسيارة الالفا روميه ذات اللون الرصاصي اللامع والابواب الاربعة، والسقف المتحرك، والتي اعطيت لك جديدة على الزيرو كما يقولون في لغة السائقين، وكان ماريو بصحبتك طوال الوقت، يعينك على استكمال الاجراءات، ويوصي بك العاملين في الجاراج الحكومي، ويقضي ساعات معك، لتعريفك باسلوب قيادتها. اما مصدر الاثارة الاكبر، فهو وجودك قريبا من امرأة حباها الله بكل هذا الجمال، وجعلها صورة طبق الاصل من اسمها حورية. والتي شاءت ربات الحظ السعيد ان تضعها في طريقك وتجعلك تابعا لها، بدلا من ان تبقى تابعا ذليلا للشاويش عنتر. فالحمد الله الذي ابدل لك الفلس الساقط بدينار ذهبي، على رأي المثل العربي الشهير. تسكن حورية في الطابق الأول من عمارة بشارع البلدية ولهذا الطابق مدخل خاص به يقع في شارع جانبي هو شارعميكيلا نجيلو حيث اتخذت فيه موقعا لسيارتك عندما لا تكون مركونة داخل الجاراج في طابق ما تحت الأرض، ومكانا لانتظارك جالسا اغلب الوقت داخل السيارة تنتظر أوامر السنيورة.  

ورغم الراحة التامة التي فرحت بها في البداية، لأنها تاتي مخالفة تماما لعملك في المعسكر الحافل بالتدريبات الشاقة والتمارين القتالية الصعبة، علاوة على المهمات الجانبية من اشراف علىالعنبر، ومشاركة في التأنيب ثم ساع  ببريد المعسكر ورسائله إلىالادارت الحكومية، فانه بعد مرور الأيام الثلاثة الأولى دون حدوث شيء مثير، صار ينتابك قليل من الضجر، وانت جالس لا تكلم احدا، ولا تفعل شيئا، سوى التحديق في الفراغ. لم تجرؤ وانت في أيامك الأولى ان تأخذ اذنا من السنيورة لاستخدام السيارة في أي مشوار من مشاويرك الخاصة. تأتي مع الصباح راكبا الحافلة أو الشريول، وتعود مع انتهاء النهار بذات الطريقة، بعد ان تضع السيارة في الجاراج, كل ما فعلته في اليوم الرابع، هو انك استبدلت مكان وقوف السيارة من الشارع الجانبي الخالي من الحياة، إلى الزاوية الأخرى التي تقع في الشارع الرئيسي، حيت الحياة والحركة وزحام الناس أمام المتجر الكبير الذي يبيع الملابس بانواعها، سواء تلك التي تخص الرجال أوالنساء أوالاطفال، والذي يتردد عليه زبائن من مختلف الاعمار، أكثرهم من الإيطاليين، واقلهم من العرب واعضاء الجاليات الاجنبية بطرابلس، يهود ومالطييين ويونانيين. وبين الحين والاخر يظهر فوج سياحي من حاملي الات التصوير بعد ان أصيحت طرابلس - ومنذ ان تسلم المارشال بالبو الحكم - مركز استقطاب سياحي، وكان هذا المتجر، والمحلات الصغيرة المجاورة له، ومنها حانوت لبيع التحف وآخر لبيع المأكولات الخفيقة، وطاولة منصوبة على الرصيف لبيع الصحف والمجلات وما يتردد على هذه المراكز التجارية من زبائن، تشكل جميعها مشهدا صالحا للفرجة ومحاربة الضجر، تراه وانت جالس أمام مقود السيارة، بل لا يعدم أحياناً ان تجد امرأة تعبر الشارع يثيرها مشهد السيارة الأنيقة الجديدة، والسائق الجالس فيها بزيه الرسمي، فتلقي نظرة فضول ثم ت مضي. وقد يقع حادث أكثر اثارة هو ان ترى زبونا يحاول ان يستغل فرصة انشغال اصحاب المتجر بزبائن اخرين، فيحاول ان يضع قطعة ملابس تحت سترته، ويتسلل خارجا بها دون ان يدفع الثمن. ويفاجأ بالباب يصدر جرسا عند خروجه، واذا باصحاب المتجريخرجون للقبض عليه، وجره الى مركز الشرطة، وتشعر بشيء من الاستغراب لكون هذا السارق ايطاليا، وكانت نظرتك للإيطاليين انهم جميعا موسيرون اغنياء.

مر أسبوع وانت في خدمة حورية دون ان ترى الحاكم العام يأتي للقاء عشيقته في شقتها، ولم تر كثيرين غيره يطرقون بابها. رأيت ساعي البريد، وممرضتين عرفت انهما كانتا تعملان معها في مستشفى كانيفا، احداهما إيطالية ترتدي ملابس السوريلات، والأخرى يهودية تعلق نجمة داوود في عنقها، شديدة النحافة كانها مصنوعة من عظام فقط . كانت مشاوير حورية صغيرة محدودة، ذهبت بها إلى متجر لتفصيل الملابس النسائية في ميدان الكاتدرائية، وإلى مستشفى كانيفا حيت كانت تعمل، واخذ تها مرة إلى المدينة القديمة، وإلى مدخل زنقة شائب العين، حيث اتجهت إلى بيت الولي الصالح سيدي البلبال، الذي يعيش مع امه في ذلك البيت، وانتظر تها حتى خرجت بعد برهة صغيرة، دون ان تعرف الغرض الذي ذهبت إليه من أجله. فهي ليست المرة الأولى كما تقول، مع ذلك خرجت من الزيارة مليئة بالانبهار من كرامات الشيخ، وعلى غير عادتها عندما تجلس صامتة في الكرسي الخلفي، تكلمت هذه المرة لتقول بانها قبل ان تطرق الباب، وجدت ام الشيخ البلبال تفتحه وتقول تفضلي ياحورية، مع انها لم تخطر الشيخ انها قادمة إليه. وعندما سألت الام كيف عرفت، قالت بان ابنها ابلغها بان حورية قادمة وسألها ان تقوم فتفتح لها الباب. ولم يزد حديث السنيورة حورية عن كرامات هذه الشيخ سوى انه اعاد إلى ذهنك كلام الحاج المهدي عن أهل الصلاح من أبناء هذه البلاد، وعن ترابها الساخن، وعن العقاب الذي يذخره هؤلاء الأولياء لكل من يرتكب شرا في حق هذا التراب.

رغم ان العمل سائقا لدى حورية يسغرق نهارك كله، فان ما يبقى لديك من الوقت، يكفل لجزء من روتينك القديم دوامه واستمراره. تعود قبيل حلول الظلام إلى المعسكر، فتلتقي لبعض الوقت مع صاحبك سالم قبل ان تتجه معه إلى المطعم وتنضما إلى بقية المجندين، وانت تدرج بينهم بزيك المميز، الذي جعلك الان معروفا لدى كل أهل المعسكر من عرب وطليان، ومن جنود وضباط. انك صرت واحدا من العاملين بقصر الحاكم العام. مهمة مؤقتة، كما يعرف الجميع، إلا أنها ستزودك بخبرة وعلاقات ومعارف من ذوي المراتب العليا، وستضمن لك موقعا متميزا بين المجندين عندما يحين موعد السفر إلى بلاد الأحباش. ولأنها مهمة مؤقتة، فانت مازلت محتفظا بوضعك العسكري داخل المعسكر، لك ذات السرير، وذات المهمة الليلية الاشرافية كعريف للعنبر، خاضعا للتفتيش كل ليلة من قبل الشاويش عنتر. وظل يوم الاحد هو يوم عطلتك الأسبوعية، حتى وانت تعمل مع حورية، لك ان تقضيه حيث تشاء، شرط ان تحتفظ بساعة شاغرة بعد الظهر، تكون من نصيب نورية، المرأة التي اكتفيت بها عن بقية النساء، لتكون وحدها الوعاء لافرازاتك الجنسية. ولم تبحث عن اية امرأة غيرها منذ اهتديت إليها، حتى عندما كنت تلتقي بماريو العجوز صدفة، اثناء دخولك وخروجك من المعسكر، ويعيد تذكيرك بمغامرات الغابة، وامكانية معاودتها سويا كنت تعتذر بانشغالك الدائم في العمل الجديد. محتفظا بسر هذه العلاقة لنفسك، فلم تشأ ان تأتي على ذكرها في احاديثك حتى مع صديقك سالم، ولو بالتلميح، تاركا اياه يعتقد بانك مازلت ملتزما باستقامتك محافظا على طهارتك التي جئت بهامن الارياف، حريصا على ان تصلي معه صلاة المغرب وتجلس بجواره فوق العشب، بعد انتهاء الصلاة لمباشرة الدعاء والتضرع لله بان يسبل عليكما ستره ويرزقما بخير الدنيا وخير الاخرة.  

ورغم تحفظات سالم على عملك الجديد، إلا أنه لم يعد كثيرالانتقاد لسلوكك، والسخرية منه كما كان يفعل سابقا، لأنه يرى ان عملك هذا بكل ما فيه من ضعة، انقذك من اعمال الشر التي كنت تقوم بها كواحد من جلادي المعسكر. قلت له وانت تقدم له لفافة صغيرة من الورق الفضي، بها بعض الفطائر المحشوة باللوز والعسل التي جلبتها من مطبخ حورية:
- اردت ان اطعمك من طعام السنيورة شيئا لم تذقه في حياتك من قبل، لكي تعرف قيمة الحياة في المجتمع الراقي.
مد يده يأخذ الفطيرة ويضعها في فمه قائلا:
- هذه نعمة لا يجوز رفضها.
- انها مكافأة لك على حسن سلوكك معي في الأيام الاخيرة.
- لم اشأ ان اضيف إلى همومك هموما أخرى.
- انزع يا اخي عن بصرك الغلالة السوداء التي تحجب عنك نور الشمس. الا يمكنك ان ترى في الدنيا غير الهموم والاحزان؟ هل شكوت إليك من هم أو عناء؟ انني اعيش أجمل أيام حياتي فمن اين جئت بهذه الهموم التي تنسبها لي؟
- وهل تعتبر حياة الذل التي نعيشها تحت حكم الطليان، وسوقنا كقطيع الاغنام إلى مذابح الحرب حياة سعيدة؟
- ها قد عدنا إلى الموال القديم. انك دائما تنظر إلى الصورة في شموليتها، اما أنا فآخذها قطعة قطعة، واعيش حياتي يوما بيوم. انني سعيد بهذه البذلة الجديدة التي ارتديها، وبالسيارةالأنيقة البديعة، التي اقودها، وبالغذاء الشهي اللذيذ الذي احصل عليه في بيت السنيورة، وسعيد أيضاً بان تتكحل انظاري كل صباح بأجمل امرأة في الدنيا. نعم، هذه هي الحقيقة، حتى وانت تجيد اخفاء محنة الوطن وراء ستائر ذات الوان بهيجة، فانت صادق في اقبالك بحب وحماس على حياتك الجديدة وعملك سائقا للسيدة حوريه التي تزداد حبا لها، وفرحا لوجودك قريبا منها، مع كل يوم يمر. يسوقك الشوق كل صباح إلى باب بيتها، حيث يبدأ دوامك هناك عند الساعة الثامنة لتجد حواء، الطاهية ومدبرة المنزل، تفتح لك الباب، وتدعوك لدخول المطبخ، لأن هناك دائما افطارا جاهزا بانتظارك، افطارالم تكن قد عرفت له مثيلا في حياتك. كان الافطار في المعسكرامتدادا للافطار كما عرفته طوال حياتك، وكما هو لدى كل أهل البلاد، كوب شاي مع كسرة خبز، اما هنا فهو شيء آخر اصناف من الجبنة والزبدة والمربى والعسل والحليب ساخنا وباردا والزبادي وفواكه الموسم بكل اشكالها، غير الشاي والقهوة ومشروب الشيكلاته الساخن، مع انواع من الخبز والفطائر بعضها مخلوط بالجوز واللوز والبندق. وعصائر ومشروبات تتناول منها ماتشاء، ثم تأخذ مفتاح السيارة وتهبط الجاراج، حيث تجد السيارة نظيفة، لامعة الحديد والزجاج بعد ان قام العم مختار حارس الجاراج باستخدام خرطوم الماء في غسلها ثم تنشيفها، وتأتي انت لتقودها عبر سقيفة الجاراج إلى مكانها أمام العمارة، وتجلس في مقعدك الأمامي جاهزا لتلقي أوامر السنيورة حورية.  

ومهما كانت المشاوير التي يريدها العمل، سواء تلك التي اخذت فيها حورية لبعض شانها، أو الأخرى التي ارسلتك بمفردك لقضاء حاجة من حاجاتها فانت غالبا ما تكون موجودا ساعة الغداء، لتجد في انتظارك وجبة أخرى لم تخل ولو مرة واحدة من اللحوم، غير اطباق أخرى تصل إلى ثلاثة واربعة اصناف تتناولها في المطبخ، أو تأتي حواء بالسفرة إلى الجاراج ليشاركك مختار العساس الغذاء وأحياناً الصبي مرجان، فكيف لا يريدك سالم ان تكون سعيدا بهذه الحياة التي لا ينعم بمثلها الا وجهاء البلاد؟ لعله اراد بكلامه ان يعبر عن حالته هو، وعن بؤس حياته وحياة غيره من الليبيين داخل المعسكر، ناسيا انك حفرت بأظفارك طريقا يختلف عن طريقهم، فلم تسلم نفسك للصدفة العمياء، تفعل بك ماتشاء مثلهم، وانما وضعت خطة تستطيع بها ان تساهم في صنع مصيرك، وصياغة احداث الواقع الذي تعيشه، ليكون اقل بؤسا وتعاسة، ان لم تنجح في تغييره إلى واقع ابهى وأجمل لعل بعض هؤلاء المجندين يرى في سلوكك تخليا عن واجب الوفاء للرفقة التي تجمعكم، ولكنك تراها رفقة بائسة لا تستحق ان تحافظ عليها، أو تكون وفيا لها. وترى من حقك ان تنطلق مغنيا و مغردا خارج سرب النائحين البائسي. وان تمضي بمفردك باحثا عن خلاصك الشخصي.

انك سعيد بوجودك في خدمة السنيورة حورية، ولا يأتيك الكدر الا عندما يمر اليوم دون ان تراها، فهي تبقى نائمة في الصباح إلى مابعد ان تأتي انت لاستلام عملك وتناول افطارك، لتهبط بعد ذلك، وتلتزم بالبقاء في مقعد السائق بالسيارة تتصيد الفرص لدخول البيت مرة أخرى، واذا لم تأت هذه الفرصة يبقى املك الوحيد هو ان تراها قد فتحت باب السيارة لتجلس في المقعد الخلفي وتسألك ان تأخذها لبعض مشاويرها، فتعمد من فورك إلى تعديل المرآة التي تعكس الجزء الخلفي من الشارع، لكي لا تعكس لك الا وجه حورية، مرددا بصرك بين الطريق الذي أمامك وبين صورتها في المرآة، واذا انطلقت وفتحت الحديث، انسكب صوت هذه الحورية في وجدانك، كأنه خمر سماوية تدير الرأس بنشوة لا مثيل لها الا في فراديس السماء. لا يكاد يمر يوم دون ان تجد ذريعة لمعاودة الصعود إلى الشقة بامل ان تكتحل عيناك برؤية حورية، قد لا تراها رغم هذا الجهد، ولكن لابد ان تصعد حتى لو افتعلت الاسباب افتعالا. كان مرجان هو الذي يذهب لاحضار المجلات الإيطالية التي تحب حورية قراءتها، فسعيت حتى حصلت انت على هذه المهمة لينصرف مرجان لمهمات أخرى، من بينها جلب ما يحتاجه البيت من حوائج خاصة بالطعام والشراب والادوات المنزلية.  

تذهب كل صباح إلى بائع الصحف الذي ينصب طارمة في الشارع يعرض فوقها الصحف والمجلات الإيطالية فتجده قد اعد لك الوجبة اليومية التي امرته بها حورية من هذه المطبوعات، وكانت اغلبها مجلات الرسوم الساخرة والقصص المصورة وبعض المجلات النسائية التي تتحدث عن الموضة. فهي لا تحب الصحف السياسة الكثيرة التي تأتي من إيطاليا ولا تشتري من هذه الصحف الا الصحيفة المحلية التي يصدرها مكتب المطبوعات التابع للحاكم العام بعنوان جورنالي دي تريبولي التي تمتلىء صفحتها الأولى بصور بالبو وتنقل احاديثه واخباره. هوايتها التي تشغل بها أوقات فراغها هي قراءة هذه القصص المزينة بالتصاوير الساخرة والملونة بالاضافة إلى الاستماع للاغاني الإيطالية. ورغم انك تعرف ان هناك اختراعا اسمه الراديو واخر اسمه الجرامافون تنتج عنهما تلك الموسيقى الصاخبة التي تنطلق من المقاهي والمطاعم الإيطالية فانك لم ترهما مراى العين الا بعد ان انتقلت للعمل مع حورية. حيث شاهدت ولمست وعاينت هذين الاختراعين الجديدين بما لهما من اثر سحري في النفوس. والاعجب من ذلك انك سمعت كلمات عربية وغناء عربيا يصدر عنهما وكانت حورية تضحك وهي ترى استغرابك وجهلك بطبيعة عملهما. واذا كان الجرامافون ينقل صوتا مسجلا على هذا القرص الأسود الذي يسمونه اسطوانة، فمن اين يأتي الراديو بكل ما يقوله من كلام وما يذيعه من غناء وموسيقى؟ تحاول حورية ان تختبر ذكاءك فتسألك ان تخمن كيف لكنك تفشل في العثور على اية فكرة أو تصور لأن اقرب اختراع يصلح للمقارنة هو التلفون ومع ذلك فان للتلفون سلكا يوصل بين السامع والمتكلم. وهذا الاختراع يغني ويتكلم ويعزف الموسقى دون اسلاك ولا توصيلات.

ولم تحمل كلام حورية محمل الجد عندما قالت ان الأمر يتصل بجني استطاع العلم الحديث ان يعرف كيف يصطاده ويسخره لخدمته. فالكهرباء موجودة في كل شيء حتى في الإنسان ولكن الصدفة قادت احد المخترعين ان يجعل هذه الكهرباء تسري من طرف موجب إلى طرف سالب فيكون التقاء الطرفين هو الوصفة السحرية التي يتم بواسطتها القبض على الجني فيتوهح ويضيء كما في مصباح الكهرباء. ان الجني هو هذا الشيء الذي يسميه الاجانب الطاقة وهي ذات الوصفة التي يشتغل بها الراديو. فالذين يصنعون هذه البرامج في محطات الارسال يبعثون بها عبر هذا الجني الموجود في موجات الكهرباء ليضعها في الراديو وعندما استرسلت حورية في الكلام ادركت انها لم تكن هازلة وهي تتحدث عن الجني. فهي تقول دع هؤلاء الاجانب يسمونه علما أو دوائر مغناطيسية وموجات كهربائية وانتقال ذرات ودبدبات عبر الاثير. فهذا كله لا يفسر ان يلتقي سلك بسلك فيظهر النور أو تتحول الذرات إلى كلام وأوضحت لك كيف ان في إيطاليا محطات اذاعية ترسل هذه البرامج وتتبع شركة اسمها "الراي" ثم وقفت قرب النافذة تشير إلى مقر المعرض التجاري في شارع الكورسو دي سيشيليا إلى هوائي كبير يعلو سطح المعرض قائلة بان المارشال بالبو ادخل محطة الاذاعة إلى ليبيا كجزء من برنامج التطوير والتحديث الذي يتبعه في الولاية. وان الارسال العربي الذي يبثه الراديو قادم من ذلك المبنى واسمعتك في يوم آخر اغنيات عربية من جهاز الجرامافون بدأت الاسطوانة الأولى بذكر اسم المطرب الاستاذ محمد عبد الوهاب الذي غني "يا وابور قوللى رايح على فين" وبدأت الاسطوانة الثانية بذكر اسم المطربة كوكب الشرق الآنسة ام كلثوم التي غنت "على وطني المحبوب وديني" وكانت المفاجاة التي قدمتها السنيورة حورية لك ولخادمتها حواء وخادمها مرجان هي اغنية ليبية لشركة فهمي فون كلمات والحان وغناء الفنان بشير فهمي الذي غني «يا بنت العم يا ماحلاكي» ثم وضعت اغنية أخرى لنفس الفنان عن علاقة الحب التي نشأت بين امرأة ليبية ورجل زنجي من اصل افريقي لاقت اعجاب حواء ومرجان يقول مطلعها «الحرة اللى عشقت في وصيف» وهما اغنيتان قصيرتان جميلتان بالحان شعبية سريعة الايقاع وكلمات ليبية بسيطة ذات طابع ساخر. 

خلال أسبوعين من العمل سائقا لها احسست انك تعلمت اشياء كثيرة ماكان لك ان تتعلمها لولا فرصة وجودك قريبا من هذه المرأة التي صرت تعرفها الان معرفة المعايشة اليومية بعد ان عرفتها معرفة الزيارات العابرة. فازددت ولعا بها واعجابا بشخصيتها. هناك شيء مبهج في هذه السيدة شيء لا تستطيع تحديده لأنه أكثر من مجرد البهجة التي يخلقها الجمال في البشر والمشاهد الطبيعية شيء يصنع لها حضورا ساحرا ويحيطها بدائرة من الالق والفرح ويجعل مجرد رؤيتها كفيلة بان تزيل أي احساس بالضيق أو الكدر كان يلازمك حتى لتبدو في عينيك وكأنها احتفال دائم أو عيد يتجدد كل نهار. ها انت تنتهز فرصة انشغالها بتقليب مجلة الرسوم الساخرة التي احضرتها لها والتي انهمكت في مطالعتها بابتسامة لا تفارق شفتيها، واخذت تتفحص ملامح وجهها محاولا الاهتداء إلى سر بهائها أو بالتحديد سر هذه البهجة التي يصنعها حضورها. فلعل السر في هذا الالق الذي ينبعث من عينيها أو عذوبة الابتسامة التي تضيء وجهها أواشراقة الجبين وشفافية البشرة، أوفورة الأنوثة التي تتفجر من دوائر جسمها أو لعله خليط من هذا كله ولكنك ترجع وتقول انه ابعد واعمق من هذه الملامح الخارجية مهما كانت هذه الملامح شديدة الفتنة بالغة الجمال والجاذبية انه يتصل بجمال آخر هو جمال الروح الذي لايمكن تحديده لأنه اشبه بالعطر أو الضوء أو نور الكهرباء الذي يسري في الاسلاك وتنسبه حورية إلى القوى الخفية المجهولة التي لا أدرى ان كان بالامكان ان ننسب نورها وجمالها الى هذه القوة التى لا سبيل إلى الامساك بها. جمال له جذوره في حليب الام التي أرضعتها وليلة الحب التي قضتها مع الرجل الذي زرع بذرة التخلق لهذه الطفلة الجميلة في رحمها والسلالات التي انحدرت منها، والطفولة التي لابد انها كانت رغم الفقر والفاقة عامرة بالحب والحنان واشعاع القمر الذي لثم وجهها وهي لا تزال طفلة في قماطها. ولسنوات النشأة في مستشفي كانيفا التي جنبتها امراض فقر الدم التي لا يسلم منها كل من عاش وتربى في الاحياء الشعبية الليبية. تتوقف حورية فجأة عن مطالعة المجلة وترفع عينيها لتضبطك وانت تنظر في نهم إليها تهرب انت بنظراتك خجلا وتتجه بعينك إلى الأرض نادما على الاثم الذي ارتكبته انها تدرك بالتأكيد ان نظرتك مبعثها الاعجاب والانبهار ولذلك فهي تبتسم لك قائلة دون كلام بانها قد صفحت عنك. تنسحب انت بسرعة من أمامها، وتعود إلى الجلوس في السيارة لاهيا عن الدنيا التي حولك، لأنك ما زلت واقعا تحت تأثير المجال المغناطيسي الذي يحيط بحورية ويجعل كل من يقترب منها يدور بها مسلوب الارادة غير قادر على الفكاك من اسرها.  

الجاذبية في أكثر اشكالها شيوعا كما قرأت في كتاب الشيخ جلال الدين السيوطي شيء يراه المحب في وجه من يحب. انه نوع من الجاذبية ينجذب إليه إنسان ما لأنه يرى في الشخص الذي يحبه اشياء لا يراها الاخرون. هذا بالضبط هو حالك مع ثريا، انها جذابة بالنسبة لك لأنك رأيت فيها شيئا يخاطبك انت بمفردات لا يعرفها ولا يتلقطها احد سواك. ولكن جاذبية حورية شكل آخر ولجمالها لغة يعرفها كل الناس، مفردات تخاطب كل القلوب. ولذلك فانها تحظى باعجاب ومحبة كل من اتصل بها حتى لو كان هذا الاتصال سريعا عابرا كما كان حالك في بداية تعارفك بها وانبهارك بجمالها وشخصيتها. ولاشك ان هذه الجسور المفتوحة بين جمالها وبين البشر جميعا هو ما يجعل حورية امرأة عزيزة المنال. لأن كل من راها من الرجال لابد وان تكون قد روادته امنية الفوز بها ومهما كان عدد الرجال الذين خطبوا ودها أو حاولوا الوصول إلى عتبات انوثتها فهي في النهاية لن تستطيع ان تختار غير رجل واحد وهذا الرجل لكي يكون جديرا بها وقادرا على الفوز بحبها لابد ان يكون في حوزته من المؤهلات ما يجعله يتفوق على كل أولئك الرجال الذين رأوها واحبوها. فمن تراه يستطيع ان ينتصر في هذا التحدي ويفوز بقلب سيدة الحب والجمال الأولى بين بنات جيلها غير الرجل الأول في البلاد ايتالو بالبو، ليس فقط بسبب ما لديه من سلطان وثراء وهي مؤهلات مهمة بالتأكيد، لكنها لا تكفي وحدها في موازين الحب والقبول. فزاد عليها ما لديه من وسامة وشباب واناقة وشخصية يتفق الناس جميعا على ما تمتلكه من ظرف واريحية وحب للناس والحياة. ولهذا فانه لم يكن غريبا على مثل هذا الرجل ان ينتقى أجمل زهرة في حدائق طرابلس ويعلقها في عروة ثوبه.  

للمارشال بالبو نساء الأرض مشرقا ومغربا لأن كل الحدود تسقط وتتهاوى اما الطائرة التي يقودها والتي يعبر بها القارات والمحيطات في مسابقات دولية حيث يكون ختام هذه المسابقات حفلات تكريم لرائد عصر الطيران مارشال الجو وفتي إيطاليا المدلل ايتالو بالبو. وهو واقف وسط الاضواء تحيط به النساء الجميلات وايدى الملوك والأمراء والرؤساء تتقدم لتضع حول عنقه اكاليل الغار، اما في عاصمة ملكه طرابلس فان انوار المهرجانات التي يقيمها ويدعو إليها امراء العالم واميراته ونجوم التمثيل والغناء لا تنطفيء الا لتضاء من جديد ويكون حلم كل ضيفة من ضيفاته العازبات الجميلات ان تسمع كلمة عشق من مضيفها الوسيم يهمس بها إليها وسط ليل الصحراء المفعم باريج الشرق ونفحاته. ولذلك فان اختياره لفتاة ليبية مثل حورية وتفضيله لها على كل هذه الحشود من جميلات العالم لتكون صديقته الثابتة الدائمة التي يأوي إلى مضجعها آخر الليل لم يكن امرا جاء بمحظ الصدفة. وانما حدث لسبب وجيه هو ان حورية تملك شيئا تفوقت به على جمال كل هؤلاء الجميلات القادمات من اركان الأرض الاربعة، هو ذلك الحسن الاخر الذي لايعرفه الا من اقترب منها وتعامل معها والذي لا يمنح نفسه للاخر دفعة واحدة، لأنه أكثر عمقا ورحابة وثراء من الحسن الجسماني الذي لا شيء لديه يضيفه للرائي بعد النظرة الأولى. انه ذلك الجمال الذي كلما زدته نظرا زادك هو من خزائنه التي لا تنفد، وكلما تعرفت عليه أكثر وتعايشت معه مدة اطول كافأك بفيض دائم من كريم عطاياه. 

كان باستطاعة حورية ان تستغل علاقتها الخاصة بالحاكم العام فتحيط نفسها بابهة الحكم وتجعل لنفسها نفوذا وسلطانا على رقاب الناس وتختار لاقامتها قصرا تحيط به الحدائق بدلا من هذه الشقة الأنيقة الصغيرة. لأن ذلك كله لا يتفق مع سماحة طبعها أو يناسب ما تتميز به من روح البساطة واليسر والسهولة في شخصيتها وابتعادها عن الافتعال والتكلف والتعقيد. فقد ارادت ان تعيش حياة بسيطة هادئة بعيدة عن مظاهر السلطة والقوة في ظل الرجل الذي احبها واختارها لتكون المرأة الثانية في حياته بعد دونا مانو زوجته وام اطفاله الثلاثة التي تقضي اغلب اشهر العام في روما. كل الدلائل في حياتها تشير إلى ان حورية وهي تدخل حياة رجل خطير مثل بالبو وتنتقل للاقامة في بيت واحد معه كانت سعيدة بهذا النقلة في حياتها راضية بمكانتها كامرأة الظل لرجل له زوجة تحمل اسمه، وتظهر في المحافل باعتبارها قرينته، رغم ان بالبو لم يبخل عليها بالظهور معه في بعض المحافل والمناسبات. ولكن كيف تراها تفكر في علاقاته النسائية الكثيرة الأخرى التي يتناقل الناس اخبارها وتنشر الصحف تلميحات عنها مرفقة بتصاويره وهو يتقاسم الانخاب مع جميلات العالم اللاتي يتواثبن في الفنادق الجديدة الجميلة التي بدأ في بنائها حكام سابقون واكتملت في عهده كما حدث مع مشاريع أخرى كانت توقفت بسبب الازمة المالية التي عانت منها البلاد، ولم تحل الا مع مجيء بالبو لحكمها مفوضا بسلطات قوية ومدعوما بميزانيات استثنائية من زعيمه موسيليني، فانطلق يجعل من طرابلس حاضرة تنافس الحواضر الأوروبية، ويجعل من افتتاح هذه الفنادق والمشاريع مناسبة لاستضافة جميلات المسرح والسينما في العالم. 

كان واضحا ان حورية افلحت في ان تنأى بنفسها وتوصد أبوابها أمام أي شي يقلق حياتها الهانئة مع المارشال. فمثل هذه العلاقات والمغامرات التي يتحدث عنها الناس وتأتي على ذكرها المجلات الفنية المصورة التي تهتم بصور النجوم والمشاهير شيء لا وجود له بالنسبة لها، لأنها ببساطة لا تقرأ هذه المجلات ولا تسمح بدخولها إلى بيتها. اما الناس فعلاقتها معهم محدودة إلى أقصى حد ممكن، بحيث لا سبيل لأن تصل هذه الشائعات، رغم شيوعها إلى بيتها. واذا ما حدث ووصلت إلى بيتها كلمة أو تسللت صحيفة تحمل صورة أواشارة تربط بين المارشال وبعض من يدعوهن إلى طرابلس من جميلات العالم فهن بالنسبة لها نساء عابرات وطارئات في حياته. لا ينازعنها مكانتها الثابتة والدائمة التي لا تتكافأ الا مع مكانة الزوجة، بل ولعلها ترى في هذه العلاقات التي يقيمها مع اقطاب العالم من نساء ورجال، ما يراه بعض محبيه ومؤيديه بانها جزء من ضرورات المنصب الذي يتولاه وتأتي منسجمة مع سياسته التي تهدف إلى اعطاء انطباع جميل عن ليبيا، باعتبارها أرض المرح والترفيه والاستقرار. والمكان الذي يقصده اغنياء العالم والمشاهير من نجومه ونجماته للراحة والاستجمام كما قرأت انت شخصيا في عدد من مجلة ليبيا المصورة في اسطر وضعتها تحت صورة لسفينة سياحية تزور البلاد. ما يؤسفك طبعا انها تعيش معه بالحرام وكنت تتمنى لامرأة عربية مسلمة من بلادك تملك روحا نبيلة واسلوبا راقيا في معاملة الناس مثلها لو ان حياتها مع هذا الرجل كانت حياة مبنية على شرع الله الذي احل الزواج وحرم الزنا. ولكن مثل هذا الحل لن يكون متيسرا لها مع رجل مثله. فليس في ديانته مايسمح بزوجة ثانية، ولا في وسعه ان يتحول عن ديانته. فماذا تراها تشعر ازاءعلاقة يدينها والمجتمع الذي تنتمي إليه؟ انها ليست امرأة من بنات الروم ليستوي لديها وجود عقد الزواج أو عدم وجوده، واذا كانت قد اقنعت نفسها بان الحياة بلا زواج مع بالبو خير من الحياة الزوجية مع واحد من عامة الناس، فكيف استطاعت ان تنسى امومتها وان تسكت في اعماقها شوق الأنثى لطفل يملأ حياتها ويحقق لها ركنا أساسيا من وظيفتها في الحياة؟ هل اجبرت نفسها مرة أخرى على تقديم هذه التضحية؟ وهل يسمح رصيدها من الهناء مع بالبو وحبها له، بمواجهة كل هذه الديون والمستحقات مع نفسها ولحظة الانصات للنداءات الصادرة من ذاتها الحساسة الرقيقة، والقناعات التي وان غلفتها بنظرة عصرية إيطالية لا تأبه لتعليمات الدين، إلا أن ما تبديه من ايمان بالروحانيات وكرامات الأولياء يكشف عن عمق البعد الديني في شخصيتها. 

مرة أخرى تضبط نفسك وانت جالس أمام مقود السيارة شارد الذهن، مشغولا بقضايا لا علاقة لك بها، ولا حق لك في خوضها، لأنها تتصل بحياة وخصوصيات امرأة لا تربطك بها اية رابطة، ولم تطلب هي منك ان تفكر لها أو تعاني وتتألم بالنيابة عنها، أو تختارك وليا لامرها أو مسئولا عن اسلوب حياة هي التي اختارته بارادتها الحرة. انها تحيا هانئة مع عشيقها، وما أنت إلا مستخدم صغير لديها بل انت اقل شأنا من كل العاملين في خدمتها لأنك هنا مجرد سائق احتياطي ستنتهي مهمته المؤقتة فور مجيء صاحب العمل الاصلي، فلماذا تنسى نفسك وتنسى موقعك بالنسبة لهذه السيدة؟ تتاسف من أجل امرأة مثلها بينما أنت الطرف الضعيف البائس المهدد بان يلقى بك في اية لحظة خارج هذه السيارة ويشحن في باخرة ليلاقي موتا مهينا في حروب الطليان، انت ايها المسكين من يستحق الشفقة والرثاء وليست هي، فاحفظ مشاعرك وهمومك لنفسك، وابحث عن طريقة تفتح بها فرجة في الطريق المسدود الذي يواجهك. ها قد اتيحت لك فرصة لم تتح لاحد غيرك من المجندين الليبيين هي فرصة وجودك قريبا من الحاكم الاعلى للبلاد في المجالين العسكري والمدني، فلماذا لا تستفيد من هذا الموقع الذي اهدته لك الملائكة، في ايجاد سبيل ينجيك من المصير المرعب الذي يتهددك؟ لماذا لا تكون هذه الوظيفة المؤقتة وظيفة دائمة باذن الله وقرار الحاكم العام؟ تضمن لك البقاء في طرابلس وتفادي السفر إلى بر الأحباش، والبديهيات تقول ان الحكومة الإيطالية في ليبيا لن ترسل كل جنودها الليبيين إلى تلك الحرب لأنها ستحتاج دائما لمن يبقى داخل الحدود يحفظ الامن ويحرس البوابات ويقضي الحوائج للضباط الإيطاليين، فلماذا لا تسعى لأن تكون انت أيضاً ضمن هؤلاء المحظوظين الموعودين بالبقاء؟ اذ من تراه اجدر منك بهذه المعاملة؟ فليذهب إلى هناك من شاءت له نجوم النحس ان يذهب، اما أنت فلابد ان تبقى في طرابلس لا تغادرها الا إلى اريافها، أو قضاء اجازة بين أهلك في أولاد الشيخ، ثم تعود إليها سليما هانئا بعيدا عن اهوال المعارك وكوارثها. هذا ما يجدر بك ان تسعى لتحقيقه وتبدل أقصى جهدك في اقناع الحاكم العام بجدوى خدماتك له ولعشيقته كسائق وساع لا يملكان الاستغناء عنه.  

قد لا يبدو ان هناك طريقا واضحا سالكا خاليا من المشاكل والعراقيل يقود إلى هذه النتيجة، ولكن عليك ان تحاول حتى تهتدي إليه، وهو امر ممكن شرط ان تدع عقلك لا ينشغل باي شيء آخر غير خلاصك الشخصي. حورية هي بابك الذهبي لاقناع الحاكم العام، وهي التي سينصرف جهدك لنيل رضاها إلى ان تبدو في عينيها افضل من سائقها عياد الفزاني فلا تقبل بسائق سواك، ورضا حوريه سيقود بالتالي لنيل المكافأة العظمى، وهو نيل رضا الحاكم نفسه، هذا هو الهدف الذي ينبغي ان تشغل به نفسك بدل ان تشغلها بأوهام الشقاء الذي تعيشه حورية، وهي التي تنعم بهناء يصعب ان تنعم به امرأة غيرها في هذه البلاد، بدليل انك لا تستطيع ان تدعي انك رأيتها ومنذ ان التحقت بخدمتها تعاني لحظة واحدة من الضيق والكدر. هاهي عربة نقل يجرها حصانان تلاحقها صفارة الشرطة وتطردها من الشارع الرئيسي المحظور على مثلها من العربات فتمر عبر انعطافها السريع بمحاذاتك، ويتطاير غبار أسود من حمولة الفحم التي تنقلها يلوث زجاج السيارة وترسل انت شتائمك إلى السائق المغطى بالسواد الذي يمضي دون ان يلتفت إلى الوراء، وتكتشف كيف تسلل هذا الغبار الأسود إلى الكرسي الخلفي حيث تجلس حورية عبر فرجة في زجاج النافذه فلا يغنيك الغضب والشتائم التي لاحقت بها صاحب العربة حتى اختفى، عن جلب الممسحة وازالة هذه الأوساخ من فوق الكرسي وتلميع السيارة وتنظيفها بأقصى سرعة ممكنة. لأن السيدة حورية قادمة بعد قليل مع احدى صديقاتها لكي تقوم بنقلهما إلى الاحتفال الكبير الذي يقام في ظل السراية الحمراء تحت اشراف الحاكم العام. 

لم تكن تعلم وانت قادم من المعسكر إلى بيت حورية سبب هذا الاحتفال، فقد وجدت الشوارع تزينها الاعلام والحوائط مغطاة بصور الدوتشي، وعندما اقتربت من شارع البلدية، لاحت لك فرق الموسيقى وسمعت انغامها تتصاعد من مركز المدينة وعرفت بعد ان وصلت البيت، ان الحاكم العام سيستقبل اليوم باخرة قادمة من سيراكوزا تحمل اربعمائة عائلة إيطالية من طلائع المستوطنين الذين سيجدون في انتظارهم اربعمائة مزرعة حديثه اعدت لهم جنوب شرق طرابلس كما تم بناء مرافق على الطراز الإيطالي لتقديم الخدمة لهم مثل السوق والمدرسة والمركز الطبي والكنيسة والنادي الرياضي الاجتماعي الفني وقاعة السينما أنها واحدة من مستوطنات كثيرة تحت الانشاء ثم انتزاعها من الاراضي القريبة من العاصمة التي كان يستخدمها الليبيون للرعي. جاءت السنيورة حورية ترتدي قبعة تزينها الاشرطة البيضاء وفستانا وردي اللون تتخلله نقاط بيضاء وفي جيدها عقد من الذهب الابيض وتضع فوق عينيها نظارة شمسية لها اطار من العاج، وفي يدها حقيبة نسائية ذات لون فضي، وحذاء ابيض تزينه وردة مصنوعة من القماش في كل فردة منه، اما صديقتها الممرضة الإيطالية فقد جاءت ترتدي كعادتها دائما رداء السوريلات تحمل في حضنها حزمة من الورود الحمراء لكي ترشق بها القادمين الجدد. انطلقت بهما عبرالشارع الرئيسي الذي ازدحم على الجانبين بالبشر الذاهبين للاحتفال، حتى وصلت إلى ميدان القلعة حيث يقام الحفل، فانزلتهما قريبا من منصة الضيوف، وقادك افراد شرطة المرور إلى المكان الذي هيأوه لسيارات المدعوين بمنأى عن الحشود الهائلة التي غص بها الميدان، وعدت بعد أن أوقفت السيارة لتأخذ مكانك ضمن اعضاء الحراسات الواقفين قريبا من المنصة، تقف بينهم، وتكون قريبا من حورية وصديقتها عند انتهاء الحفل لتأخذهما إلى السيارة، وغير بعيد عنك اصطف طابور الشرف من جنود المراسم وفرقةالموسيقي العسكرية لتحية القادمين. 

كانت المساحة التي وضعت فيها الكراسي المخصصة للمدعوين تمتد من مسرح الميراماري إلى سور الكورنيش وفي مواجهتها وبمستوى اعلى من مستوى الكراسي ارتفعت المنصة المخصصة للحاكم العام واعوانه وعلى جانبي الطريق الذي يقود إلى المنصة وقف جنود ليبيون من سلاح الفرسان، يرتدون فوق ملابسهم العسكرية البرنس الليبي المقصب بخيوط الذهب والفضة، وقد تمنطقوا باحزمة رشقت فيها السيوف. وعلى جدار القلعة العتيقة علقت لوحة من القماش غطت كامل الجدار تحمل صورة رسمت حديثا للدوتشي، وفوق رأسه خُوذة حديدية رصاصية اللون، وعلى صدره نياشين وأوسمة متعددة الالوان، رافعا راسه باستكبار ناظرا من عليائه للحشود الزاحفة على الميدان، وقد رفع ذراعه لتحية الناس. إلا أنها تحية اشبه بالتهديد بسبب اليد المقبوضة وكانت المفاجأة التي اذهلت الحشود وجعلت صيحات الدهشة والاستغراب تصدر عن كل واحد منهم عندما تحول موسيليني المرسوم علىجدار السرايا إلى شخص حقيقي. فقد تحركت يده تلوح للناس بقبضتها التي تدل على العزيمة والقوة، ولمع الشرر من عينيه وتحرك فمه بكلام ينقل تحيته للحاضرين، ويرحب بالمستوطنين القادمين، ويهنئهم بسلامة الوصول، ويعبر عن ثقته في ان يكونوا رسل الحضارة الرومانية للبناء والتعمير وصنع الحياة في هذه القفار.

كان الموضوع كله مجرد لعبة مسرحية اتقن الفنيون اعدادها، فهي لم تستمر الا بضع دقائق كانت كافية لتحريك مشاعر هذه الحشود فانطلقت حناجرها تهتف للزعيم وتدعو له بطول العمر:
- فيفا ايتاليا، فيفا موسيليني.
وراسية على الشاطيء قريبا من القلعة بدت الباخرة لقادمة من صقلية كأنها قلعة أخرى، بالغة الارتفاع والطول، تغطي خط الافق وتهيمن على فضاء المدينة وقد اطلت من طوابقها الاربعة الطافحة فوق الماء حشود المهاجرين يصفقون ويلوحون بايديهم للمستقبلين ويرددون معهم الهتاف بحياة الدوتشي بعد الاستماع لكلماته التي ترحب بهم، وينتظرون لحظة الهبوط إلى الأرض الموعودة. انها ليست المرة الأولى التي يأتي فيها المستوطنون الجدد لتعمير الشاطىء الرابع كما يسمون الشاطيء الليبي، فهذه هي الدفعة الرابعة أو الخامسة في عهد المارشال بالبو، والتي يحرص الحاكم العام في كل مرة، على ان يجعل منها مناسبة لاقامة اعظم الاحتفالات، وكأنه يدشن عصرا جديدا لإيطاليا التي تستأنف مسيرة الامبراطورية الرومانية وتعيد ضم المستعمرات القديمة التي كانت رمز عزتها وقوتها. نفخت فرقة الموسيقة النحاسية ابواقها وضربت صاجاتها وانطلقت في ذات الوقت ابواق الباخرة ترسل تحياتها للمارشال بالبو الذي وصل في موكب كبير تتقدمه الدرجات النارية، إلى مقر الاحتفال وقد اختار لنفسه سيارة مكشوفة وقف بداخلها رافعا يده بالتحية الفاشية يرد بها على تحية الجمهور الذي تعالت هتافاته بحياة إيطاليا وزعيمها موسيليني. 

هبط بالبو من سيارته وسار فوق البساط الأحمر وسط عدد من اعوانه وتحت الاضواء التي تبرق لعدسات المصورين ذاهبا باتجاه البوابة الكبيرة للباخرة ليكون في استقبال أول فوج يهبط من ركابها ويرحب به في الأرض الجديدة. ثم انتقل مع عدد من ضيوفه إلى المنصة مستهلا مراسم الاحتفال بخطاب حماسي عن ليبيا الجديدة التي تجسد حلم الحزب الفاشي وزعيمه موسيليني في استعادة امجاد الماضي وبناء إيطاليا الكبرى التي تقود مسيرة الحضارة والتقدم في العالم. ورحب بالمستوطنين الإيطاليين في وطنهم الجديد واعدا اياهم بحياة زاخرة باحتمالات النجاح والرفاه منوها بجهود الشركات التي استصلحت الأرض وقامت بانشاء المزارع وبناء القرى الحديثه لتكون جاهزة في انتظار هؤلاء المستوطنين الذين عاد يناشدهم ان يبذلوا جهدا مضاعفا لتعمير الأرض وبناء المستقبل الزاهر لأنفسهم وللأجيال القادمة من ابنائهم واحفادهم. لأن نجاحهم في مهمتهم سيرفع رأس بلادهم ويؤكد ثقة الزعيم الذي فتح لهم الامصار واتاح لهم فرص العمل والانتاج في هذه الديارالتي يرفرف فوقها العلم المثلث الالوان، دون ان ينسى الاشارة إلى الليبيين الذين اسماهم أبناء ليبيا الاصليين الذين سينتفعون بثمار الحضارة ومشاريع النهضة وحالة الازدهار والسعادة التي انتقلت إليها البلاد منذ ان أصيحت جزءا من إيطاليا. اعقبه عجوز إيطالي قدموه بانه شاعر شعبي فالقى قصيدة عن هؤلاء الرواد الذين جاءوا من إيطاليا الام وتركوا وراءهم أهلا وبيوتا وقرى تآلفوا معها طوال العمر من أجل تأسيس امتداد عمراني وحضاري للوطن الام في هذه الأرض الجديدة، ونقل رسالة البناء والتشييد والتمدن إلى الشاطىء الرابع عن طريق عزق الأرض واخراج الكنوز الكامنة فيها تلبية لنداء الزعيم الملهم الذي سيبقى على مدى الزمان شمسا لا تغيب. وقام بالبو يسأل القادمين من إيطاليا ان ينتشروا بين الناس وان يتعرفوا على المعالم الرئيسية لشوارع وميادين طرابلس حيث اقام لهم في كل ركن من اركانها كشكا يوزع المشروبات والمرطبات والاكلات الخفيفة هدية من المقيمين الأوائل لاخوتهم الوافدين الجدد. واختار من بنات المدارس الإيطالية عددا من الصبايا الجميلات لكي يقمن بتقديم الخدمة لهؤلاء الضيوف ولكل من جاء للمشاركة في هذا الحفل. ثم دعا احد القساوسة لقيادة هذه الجموع في صلاة صغيرة للوطن تختم بها مراسم الاحتفال. 

خرجت حورية من الحفل مبتهجة بما رأت تتحدث لصاحبتها بحماس عن اجواء الالفة التي افلح بالبو في خلقها بين الليبيين والإيطاليين. ثم تحولت من اللغة الإيطالية إلى العربية وهي تخاطبك اثناء رحلة العودة إلى البيت:
- اما سمعت المارشال وهو يتوجه بخطابه إلى الليبيين أيضاً، قائلا بانه يريد ان تكون ليبيا محلا للسعادة المشتركة بين أبناء ليبيا الاصليين والمحدثين، وانتفاعهم جميعا بثمار التقدم والحضارة. 

ابتسمت لنفسك ابتسامة لا تستطيع ان تراها حورية وهي جالسة في مقعدها الخلفي، وقلت لها في سرك بانك تريدها ان تكون شاهدة على هذا الوعد بالسعادة التي قدمها بالبو لليبيين لأنك ستطالبه بحصتك من هذه السعادة والانتفاع بثمار التقدم والحضارة، ولا تريد ان تجد نفسك منبوذا ومطرودا ومسجونا في بواخر البؤس والموت المتجهة إلى بر الأحباش، ووعدتها من جانبك وبصوت عال هذه المرة، بان تسعى لتحقيق ارادة المارشال في ان تحصل على حصتك من السعادة التي دعا أهل البلاد الاصليين للحصول عليها. وكما فعلت معك حورية في مرات كثيرة سابقة وانت تعيدها إلى البيت فتحت شنطة اليد الفضية واخرجت عشر فرنكات دفعت بها إليك وصرفتك مبكرا لتمكينك من الاستمتاع بالاجواء الاحتفالية التي تغمر المدينة. تسكعت قليلا في الشوارع العامرة بضجيج الإيطاليين وموسيقاهم، ورقصات بناتهم وصبيانهم، دون احساس قوي بالبهجة، فانت تعرف ان هذه الاحتفالات ليست لك، وان هذا العالم ليس عالمك، بل ثلاثة ارباع هذه المآكل والمشارب لن تستطيع ان تستفيد منها، لأن المشروبات اغلبها مشروبات كحولية والوجبات اغلبها بلحوم غير مذبوحه، أو يدخل الخنزير في طهيها. حتى هذه الرقصات التي يرقصونها ليست لك ولا مجال لأن تكون طرفا فيها، انه عالم هؤلا ء الإيطاليين الوافدين وافراحهم وسعادتهم هم، رغم حديث بالبو عن السعادة المشتركة التي لا وجود لها. 

 

 

(4)

 

لم يعد يدهشك الا تجد عربا يشاركون في هذه الاحتفالات رغم انها مفتوحة للجميع، ورغم حاجة المعوزين منهم للاستفادة من هذه المشروبات والحلويات وانواع الاكلات الخفيفة التي يقدمونها مجانا، لأنهم يعرفون انها ليست احتفالاتهم وانما احتفالات شعب آخر ياتي من وراء البحر في موجات متتابعة لينتزع الأرض من تحت اقدامهم. تمنيت ان تلتقط عيناك وجه إنسان واحد تعرفه عربيا أو إيطاليا، يخفف قليلا من وطأة احسساك بالاغتراب في هذا الزحام، ولكن لا أحد. وقفت أمام حلقة رقص صنعها المتسكعون في الشوارع من نساء ورجال إيطاليين دون ان تجرؤ على المشاركة فيها. كان منظر النهود المترجرجة الراقصة، غواية صريحة تتحدى رجولة الرجال. ولم تكن تكره ان تكون جزءا من هذا المشهد الراقص وشريكا فيه، ولكنك تصورت وجود جدار لامرئي يمنعك من المشاركة، فبقيت متفرجا وحيدا متحصنا بوحدته وعزلته، متوجسا ان يتقدم إليه أي إنسان يسأله عن سبب وجوده في هذا الحفل، لأنه ليس واحدا من المدعويين، وهروبا من هذه الهواجس تسللت خارجا من الشوارع والميادين الرئيسية باتجاه الطريق الذي يعود إلى معسكر بو مليانة.

كنت تعلم ان المجندين مشغولون الان بتدريباتهم العملية، بعد انقضاء فترة الغداء وكنت تتطلع لأن تتكيء على سريرك بمفردك في العنبر الكبير، ومعك بعض الوقت تقضيه في التأمل والتفكير بحثا عن افضل السبل التي تضمن لك البقاء في خدمة المارشال بالبو، وقبل ان تصل العنبر بمسافة قليلة اعترض طريقك الشاويش عنتر:
- أهلا بمندوبنا لدى الدوائر العليا . ماذا لديك من اخبار؟
- اخبار عن ماذا؟
- عن حرب الحبشة التي يقولون ان موعدها صار قريبا.
- من قال هذا الكلام؟
- جريدة " البوستا دي تريبولي" في عددها الصادر اليوم كما يقول جندي الحراسات.
- لست معنيا بهذه الحرب، ليذهب من يذهب، اما أنا فباق في طرابلس.
- ليتك تفلح في اعفائي انا أيضاً من الذهاب إلى هذه الحرب ولكن هيهات، فلا امل لي ولا لك، لأن اسمك يأتي مباشرة بعد اسمي في لائحة الذاهبين إلى هناك.
- شكرا لهذه البشارة، ولو، ساسعى بقوة، وسانجح في اعفاء نفسي باية طريقة، وعليك انت أيضاً ان تحاول.
- لا تمنِّ نفسك كثيرا، فهذا امر يحتاج إلى استثناء من القائد الاعلى نفسه، وهو اعفاء لم يصدر بحق أي عنصر من الإيطاليين فما بالك بالعرب امثالنا، عدا اعضاء الحزب الفاشي الذين هم فوق القانون والمحاسبة كما تعلم، فهل انت زميل للمارشال بالبو في الحزب. 

ارسل الشاويش عنتر ضحكة عالية وهو يقول جملته الاخيرة ولكن الفكرة رنت في ذهنك رنينا قويا دون ان تتفوه باي تعليق. عضوية الحزب الفاشي، كيف لم يخطر على بالك الانضمام للحزب، ان ما يقوله الشاويش عنتر عن عضوية الحزب الفاشي باعتبارها امرا بالغ الصعوبة يصدق على الإيطاليين فقط. قد انتهى الفرز بالنسبة لهم وصار متعذرا على من فاته الانضمام اثناء وجوده في إيطاليا ان يصبح عضوا زميلا لبالبو بعد نزوحه الي ليبيا، ولعله في إيطاليا نفسها سيكون امرا صعبا خاضعا لاختبارات قوية لابد ان يمر بها كل من جاء لكي يستفيد من سلطة وقوة ونفوذ الحزب، وتأخر في الانضمام إليه عندما كان يخوض صراعاته الشرسة ذات الطابع العنيف في اغلبها مع القوى السياسة الأخرى، مثل من يسمونهم بالشيوعيين والتقدميين وغيرهم، الأمر يختلف اختلافا كاملا بالنسبة لليبيين لأن سياسة بالبو تجاههم تقوم على الاحتواء والاستقطاب. واحدى أولويات هذه السياسة، خلق قاعدة من الليبيين للحزب الفاشي، ولقد قرأت بنفسك إعلانا في مجلة ليبيا المصورة يدعو الليبيين إلى الانضمام إلى الشبيبة الفاشية فما الذي يدريه رجل امي مثل الشاويش عنتر عن هذه الاشياء، انت شخصيا لا تعرف شيئا عن مباديء هذا الحزب، ولاتحتاج لأن تعرف ذلك الان لأنه لو صح منك العزم على الانضمام إليه فانت لن تذهب اقتناعا بمبادئه، أوايمانا باهدافه وافكاره انت تذهب من أجل شيء واحد، هو خدمة مصالحك الشخصية وتعزيز فرص النجاح أمامك في العمل والحياة. فكما عرفت ورأيت سواء في الحياة المدنية اوالعسكرية فان عضو الحزب يحظى بمكانة متميزه تجعله أكثر اهمية حتى من رؤسائه في العمل وهذا ما ستحصل عليه انت أيضاً، اذا نجحت في الانضمام إلى الحزب، انه امر تحتاج إليه حتى لو اخفقت في تحقيق حلم البقاء في طرابلس، لأنه سيضمن لك في حالة ذهابك إلى الحبشة مكانة متميزة علي كثير من الإيطاليين انفسهم. 

ظل جهدك لأكثر من يومين منصرفا لتحقيق هذه الفكرة اشتريت الصحيفة العربية، واستمعت في المذياع إلى الحصة التي تذاع باللغة العربية، وعرفت ان هناك نشيدا للطليعة الفاشية من الشباب الليبي تذيعه الاذاعة مع معلومات عن تاريخ الحزب وانجازاته، فاستمعت اليه عبر مكبرات الصوت التي تنقل الحصة العربية والمعلقة في بعض الاماكن من بينها برج الساعة، وفكرت في ان تسأل السنيورة حورية ثم عدلت عن الفكرة، لأنك تريد ان يكون القرار قرارك انت الذي تتخذه بمبادرة حرة منك، لا لأن شخصا نافذا امرك بذلك أو استحثك عليه، عرفت ان للفرع العربي للحزب مقرا في مبنى المعرض التجاري بجوار اذاعة "الراي" حيث يخصصون وقتا لمقابلة المستجدين كل مساء بعد الساعة الخامسة فانهيت عملك مبكرا وذهبت إليه. كنت مترددا مشككا في سلامة ما أنت مقدم على عمله، مدركا انه يشبه قفزة في الظلام، لأنك حتى وان عرفت شيئا عن المزايا التي يحصل عليه عضو الحزب فانت لا تعرف بالضبط ما يجب ان يؤديه من خدمات مقابل هذه المزايا. دلفت إلى ساحة كبيرة تشبه ساحة المدرسة عبر بوابة مفتوحة كتب فوقها "الطلائع الفاشية الليبية" راودتك فكرة العودة من حيث اتيت، والعدول عن قرار الانضمام عندما رأيت في عمق الساحة فرقة اطفال يتمرنون على الالعاب السويدية لا تزيد اعمارهم عن العاشرة يرتدون قمصان الحزب السوداء والبنطلونات القصيرة فوقفت ترمقهم وهم يفرغون من العابهم وينتظمون في طابور وسمعتهم وهم يؤدون قسم الولاء للزعيم، ثم سمعتهم ينشدون نشيدا عربيا يمتلىء بكلمات التمجيد للحزب وشرف الانضمام إليه. 

كنت قد ادرت لهم ظهرك، عائدا ادراجك متنازلا عن أحلام القوة والمجد القادمين في ركاب الحزب بعد ان ادركت مما رأيت، انك تجاوزت المرحلة العمرية المناسبة لرضاعة حليب الفاشية، عندما وجدت قبالتك شابا إيطاليا يماثلك في السن ويرتدي القميص الأسود يسألك عن الخدمة التي يستطيع تقديمها لك. تشجعت بسبب لهجته الودودة، وسألته ان كانت عضوية الطليعة الليبية تقتصر على الاطفال، لأنك لا ترى في الساحة غيرهم.
- لعل وجود هؤلاء الاطفال يمسح الانطباع الغالب في اذهان الناس باننا حزب يعتمد على الشدة والقسوة في تسيير اعماله.
- نعم.
- تعمل سائقا مع الحكومة، كما يبدو من الزي الذي ترتديه.
- نعم.
- هل جئت لنقل احد أبناء المسئولين الليبيين؟
رنت في اذنك كلمة المسئولين الليبيين رنينا غريبا فهل هناك داخل الادارة الإيطالية من ينطبق عليه وصف المسئول الكبير؟ هل هناك حقا من حقق هذا الاختراق لدوائر النفوذ والقوة الذي تحلم به وتسعى إليه بوهم انك رائد الرواد في هذاالمجال؟ ضاعت عليك الريادة اذا، وما بقى لك الا الحلم بان تكون احد المقلدين والتابعين لمن سبقوك على الفوز برضا الاسياد وحظوتهم. اذا هاهو كلام الرجل يسوق إليك الدليل على ان هناك اناسا ليبيين صار المنصب الكبير في الحكومة الإيطالية واقعا بالنسبة لهم، لا مجرد حلم يحلمون به. وأكثر من ذلك فهم يعدون اطفالهم منذ هذه السن المبكرة لمراكز الحكم والنفوذ لأنهم يعرفون ان مستقبل البلاد اضحى مرتهنا بايدي هؤلاء الطليان. فجاءوا يرتبون حياتهم وحياة أولادهم على هذا الأساس.

هؤلاء هم اساطين المكر والدهاء الذين يجب ان تحذو حذوهم وتنتهج الطريق الذي قادهم إلى النجاح. اردت ان تسأله إن كان هؤلاء المسئولون الليبيون أعضاء في الحزب الفاشي مثل أولادهم، إلا أن الرجل استأنف حديثه عن الحزب، فلم تشأ ان تقاطعه، قائلا بان هناك عدا هؤلاء الاشبال نخبة ممتازة من الشباب الليبيين ممن يشكلون النواة الأولى في ليبيا لهذا الحزب. شارحا وهو يقودك إلى مكتبه كيف ان الانضمام إلى الحزب الفاشي يشبه تماما الانضمام إلى احد الأندية الرياضية، لأنهم هم أيضاً يعلمون اعضاء الحزب مختلف الرياضات مثل السباحة وركوب الخيل والعدو والرماية، وهناك طبعا حصص للتدريب على السلاح لمن لم ينل تدريبا من قبل. وإعطاك اثناء وجودك في مكتبه مجموعة من الكراسات الارشادية بعضها مكتوب بالعربية تتضمن معلومات عن الحزب وتاريخه واهدافه مع كراسات أخرى تضم خطب الدوتشي في المناسبات التاريخية وتحليلاته للسياسة الدولية، كما ساعدك في تعبئة نموذج طلب العضوية الذي سيعرض على امانة المكتب الفرعي للحزب. وعندما عرف انه بجوار عملك سائقا في قصر الحاكم العام فانت منخرط في الجيش، واكملت مرحلة التدريب الأساسي طمأنك بان الموافقة على الطلب مضمونة في مثل حالتك، فهي لن تأخذ وقتا كما يحدث مع طلبات أخرى تحتاج إلى تحريات كثيرة، لأن أي تحريات بالنسبة إليك لن تكون غير مسالة روتينية لا تستغرق يومين أو ثلاثة أيام واضاف مجاملا بانه يمكنك ان تعتبر نفسك عضوا في طلائع الشبيبة الفاشية الليبية منذ هذه اللحظة.  

لم ينس الرجل اثناء توديعه لك، ان يحييك على هذا التفكير الصائب الذي هداك إلى اختيارافضل الطرق لخدمة الدوائر الثلاث المهمة في حياة أي مواطن يقطن هذه البلاد دائرة الوطن الكبير إيطاليا، ودائرة الوطن الصغير ليبيا، ثم دائرة الذات بسبب ما يتيحه الحزب من فرص النجاح أمام أعضائه. وإعطاك معلومة اخيرة لاسعادك وهو ان المارشال بالبو، باعتباره أعلى مسئول في الحزب قرر اعفاء الاعضاء الليبين من رسوم الاشتراك في هذه المرحلة تشجيعا لهم على الانخراط في الحزب. قلت وانت تصافحه مودعا:
- جزى الله المارشال كل خير عن اخوته الليبيين. 

لم تكن ساذجا لتنخدع بكلام الرجل عن الدوائر الثلاث فقد جئت عارفا ما أنت مقدم عليه ولم تكن بحاجة لغواية احد أو تنفيره لك، كما لم تكن بحاجة لهذا الغطاء النبيل عن خدمة الأوطان كبيرها وصغيرها، فانت لم تكن معنيا بغير دائرة الذات التي اشار إليها تبحث عن خلاصك الشخصي، اما الوطن الذي تنتمي إليه، فان خدمته لا تكون بالانضمام للحزب الفاشي، ولا تقول في هذا الشأن الا ما قاله جد النبي لابرهة الحبشي عن الكعبة فالوطن مثل الكعبة له رب يحميه. بل ان الانضمام لهذا الحزب شيء مدان من الناحية الوطنية. ولكن من تراه يملك هذه الأيام شرف التطلع لخدمة القضية الوطنية بعد ان وقعت البلاد بكاملها تحت نعال المحتلين. عبد المطلب سعى لاسترداد نياقه تاركا امر الكعبة لخالق الكون، واحرص ما يحرص عليه أي إنسان ليبي مثلك، في ظل هذه الظروف شيئ ربما أكثر تواضعا من ذلك، وهو ان يتمكن من البقاء على قيد الحياة، فلا يقتله ابرهة الإيطالي، أو يدفعه إلى الموت لأنه لايجد طعاما أو علاجا أو مكانا يأويه. انك لم تفكر في حمل البطاقة الفاشية الا بهدف النجاة من الموت في حرب الحبشة، هذا هو هدفك الذي لا هدف لك سواه ان تبقى في وظيفة سائق كما أنت، وان يرفع اسمك من لائحة الذاهبين إلى الحرب، بل انت حتى الان لست واثقا من ان اللجوء إلى الحزب الفاشي سيحقق لك هذا الامل، انها مجرد محاولة أو مقامرة ربما تكسب وربما تخسر.  

الخطوة التالية التي تنوي اتخاذها وتعرف انها أكثر تاثيرا وأهمية رغم انها ليست محملة بهذه الحمولة السياسية الثقيلة لعضوية الحزب الفاشي هي البحث عن وسيلة لاقصاء عياد الفزاني عن الوظيفة بمعنى ان تمارس عليه نوعا من الضغط يرغمه على طلب البقاء في مرزق، مثل تلفيق اشاعة كاذبة ترسل الخوف في قلبه، فلا يأمن االمجيء إلى طرابلس، ويضطر مرغما للاعتذار عن مواصلة العمل مع حورية، بسبب ظروف قاهرة تجبره على البقاء مع اسرته. وبمجرد الاهتداء إلى هذه الفكرة ذهبت مسرعا إلى عبد المولى الشحاذ تترصد له أمام جامع ميزران وواعدته على اللقاء ظهر اليوم التالي في حديقة البلدية، فهو أكثر دراية منك بالاماكن التي يتردد عليها أهل فزان ووكالة السفر الخاصة بهم. اقتر ح ان يأخذك إلى مقر الوكالة بالقرب من سوق الثلاثاء لتتولى بنفسك السؤال عنه، والبحث عمن يبلغه الرسالة التي تريد. فافهمته ان المهمة تحتاج إلى رجل مثله لا يرتبط بدوام رسمي مثل ارتباطك، وشرحت له ما تحب ان يفعله، فهي رسالة في منتهى الخطورة ويجب ان تصل إلى صاحبها في أقصى سرعة ممكنة وعليه وفقا لذلك ان ينتظر مهما طال انتظاره حتى يجد رجلا يستعد للسفر إلى عاصمة الجنوب في التو واللحظة ليأخذ الرسالة إلى عياد الفزاني، واقترحت عليه الا يكتفي بمبعوث واحد يحمله الرسالة، وانما يسعى للعثور على عدة رجال، حتى اذا اخفق احد في ايصالها، أوصلها الرجل الاخر، مع ابلاغهم جميعا بانها رسالة في غاية السرية يجب الحرص على كتمانها، ونقلها بمنتهى الحيطة والحذر إلى صاحبها. 

وفحوى هذه الرسالة انه نتيجة لما يحشده الأحباش من جيوش في مواجهة الحملة الإيطالية قرر الجيش الإيطالي مضاعفة عدد الاليات التي سيدخلون بها الحملة لمواجهة التفوق العددي للاحباش، ولذلك فقد صدر الأمر لسلطات الولاية بجمع كل السائقين من اصحاب الخبرة، وفي مقدمتهم السائقين العاملين في الدولة لارسالهم إلى الحبشة. ولكي يضمن لنفسه النجاة من موت محقق في تلك البلاد البعيدة، فان عليه ان يبقى مع اسرته في فزان، والا يحاول المجيء إلى طرابلس باحثا عن أي مبرر يعفيه من العمل كسائق في قصر الحاكم. تقاسمت معه الفرنكات العشر التي منحتها لك حورية وانت تلح عليه الحاحا شديدا ان يذهب على الفور لاداء هذه المهمة الإنسانية دون ان تخبره بحقيقة الموقف، وانك اختلقت هذه القصة اختلاقا من أجل ان تبعد عياد الفزاني عن عمله، كي تأخذه انت. تظاهرت بانك تفعل ذلك خدمة لصديق تعرف انه صاحب اطفال، سيواجهون احتمال التيتم والتشرد في حالة سفره. لكن الشحاذ صار قادرا على الانصات لتلك التيارات العنيفة التي تتصارع وراء مظهرك الوادع بفضل ما حدث من تواصل وتعاون بينكما منذ نزوحك من القرية، ولم يكن صعبا عليه ان يعرف حقيقة الدوافع التي تختفي خلف هذه المهمة الإنسانية، لأنه ابتسم بخبث وهو يأخذ الفرنكات الخمس، وشحذ عينيه الصغيرتين الخاليتين من الاهداب، وقال وهو يقترب منك كانه يتفحص شيئا في عينيك:
- ما أريده منك ليس هذه الفرنكات الهزيلة وانما شيء أهم وهو ان تلحقني بالعمل بوابا أوعساسا في بيت السنيورة بعد ان يستقر بك المقام سائقا رسميا لها. 

- اذهب يارجل وانزع من رأسك هذه الشكوك التي ستتحول إلى نار تحرقك ان شاء الله. عندما وضعت رأسك على الوسادة ليلا كنت سعيدا بما اتخذته من تدابير تضمن لخطتك النجاح، فالاماني لا تتحقق بمجرد رفع اليدين اثناء الصلاة والتوسل إلى الله بان يجيب الدعاء، لأن هذا الدعاء نفسه لابد ان يدعمه صاحبه بالعمل، ليبرهن أمام ربه انه جدير بعونه ونصرته. كما عبر عن ذلك سيدنا النبي للاعرابي الذي يريد ان يتوكل على الله في حماية ناقته قائلا له "اعقلها وتوكل". ومنذ ان دخلت معترك الحياة في المدينة تعلمت الا تترك الامور للصدفة وحدها، ولابد ان تفعل شيئا لتحريك هذه الصدفة لكي تكون لك لا عليك. لن يمر وقت طويل باذن الله حتى تأتي استقالة عياد الفزاني وتنتهي اجراءات انتمائك للحزب الفاشي، وتحقق لنفسك الانتقال من حياة الطبقات السفلى، المدفونة في قبر سيدنا نوح، إلى شرائح اجتماعية أوفر حظا، وأكثر يسرا ورفاهية، وبلوغ تلك المشارف العالية التي لا يبلغها إلا قلة من الليبيين اصحاب الحظوة والنفوذ.  

ليقل رفيقك سالم ما شاء قوله من كلماته الكبيرة الهادرة الفارغة من المعنى والمضمون، فكل ذلك لم يعد يثيرك أو يجعلك تحس بالذنب من مواقفك، كما حدث منذ ساعات قليلة مضت عندما جاء إلى لقاء الغابة غاضبا صارخا كمن لدغته عشرة ثعابين في وقت واحد، قائلا دون ان يعير انتباها لمن يمكن ان يسمع كلامه من الوشاة والمخبرين:
- هل حقا أصيحت عضوا في الحزب الفاشي؟
انكرت أمامه ان تكون لك اية علاقة بمثل هذا الحزب وسالته مستنكرا عمن نقل إليه هذه الاكاذيب.
- ليس هناك من الليبيين من لم يسمع بالخبر فقد حرص الشاويش عنتر على نقله للجميع فردا فردا، ليبرهن لهم على الحضيض الذي وصلت إليه. قابلت انفعاله الشديد باعصاب باردة، وحاولت ان تنتزع الضحك من وسط هذه العاصفة التي يثيرها سالم في وجهك اعتمادا على الشاويش عنتر:
- لا ارى الانضمام للحزب الفاشي من زاوية عنتر حضيضا، وانما قمة عالية لا يحلم بالوصول إليها، واقسم لك صادقا انني شخصيا لا اعرف أنني أصيحت عضوا في الحزب الفاشي فكيف استطاع هو ان يعرف عني شيئا لا اعرفه عن نفسي؟
- لا تحاول ان تغطي عين الشمس بالغربال، لقد تقدمت انت بالطلب وباشروا هم تحرياتهم عنك، التي قادتهم لسؤال الشاويش عنتر عن التزامك العسكري، وولائك للوطن الام إيطاليا، ولعل صاحب القميص الأسود الذي جاء يتحرى عنك لم يقل له صراحة عن سبب التحريات ولكنه استخدم حاسة الشم القوية التي يملكها، حتى عرف السبب وجاء مغتبطا ينقله الينا، ويقول بانه اثنى بالغ الثناء على ولائك الشديد لإيطاليا وتفانيك في خدمتها. 

- ليس مستغربا من الشاويش عنتر ان يقول عني ذلك.
- ولم يعد مستغربا منك ان تأتي بمثل هذه الافعال المعيبة.
قال بصوت هادىء يخالطه شعور بالاسى ثم اضاف:
- لست هنا لكي اعاتبك أو الومك، لأن الأمر هذه المرة اكبر من أي لوم أوعتاب، جئت فقط لاتأكد وها انا قد فعلت.
ادار ظهره ومضى أوقفته قائلا:
- تمهل قليلا لتسمع رأيي.
- لا أريد أن اسمع منك شيئا ولن تسمع انت مني كلمة بعد اليوم، واذا رأيتني صدفة في الطريق فارجو الا تبادر باطلاق السلام، لأنني لن ارد عليك.
اعترضت طريقه، وعندما رفض الوقوف سرت بمحاذاته وحين اسرع الخطى مضيت تلاحقه وتسرع الخطى مثله قائلا:
- كن حنبليا واخلاقيا وشديد التطرف في الوطنية كما تشاء ذلك لن يغير شيئا من حقائق الحياة وحقائق الواقع التي تمنعك من ان تكون غير ما يريدون هم ان تكون، انت ذاهب بمشيئة الله إلى بر الأحباش ماذا تراك فاعل هناك؟ ذاهب هناك لتقتل اناسا لا تعرفهم ولا قضية لك معهم، ولا ضغينة بينك وبينهم، كل جريمتهم انهم يدافعون عن بيوتهم وقراهم ضد الغزاة، ستقتل كل من تستطيع قتله منهم، لأنك لو لم تفعل ذلك فسيقتلونك هم لتموت موتة قذرة لا شرف فيها ولا كرامة. لا خيار أخر أمامك ايها الرجل الشريف إلا أن تكون مجرما يقتل اناسا ابرياء. فما الذي تقوله الوطنية والأخلاقيات عن هذه المهمة؟ انك تساق إلى هذه الحرب قسرا، نعم، ولكن هذا لا يمسح أو يلغي قذارة المهمة، ولذلك اقول بان أي شيء يفعله إنسان مثلي من أجل ان يتجنب الذهاب، مهما كان بشعا سيكون اقل بشاعة وقذاره واثما من المشاركة فيها، هل فهمت لماذا قدمت طلبا للحزب الفاشي؟ انني لا اعرف عن الفاشية أو حزبها اللعين شيئا يغريني بالأنضمام إليه لا اعرف الا جانبها البشع الكريه الذي اباد نصف هذا الشعب، ولكنني انضم إليها باعتبارها شرا اهون من شر آخر، رضيت بان انغمس في متستنقع يصل مستواه إلى صدري لكي لا اغرق في مستنقع يفوق مستواه مستوى رأسي واموت مدفونا في قذارته وعفونته. هل عرفت الان السبب؟
- لا اعرف الا شيئا واحدا وهو انك إنسان لا امل فيه وان طريق الهوان الذي اخترته طريق لا حدود له ولا نهاية.

عندما مضى عنك لم تكن غاضبا منه، ولا غاضبا من نفسك تعرف انه سالم الفتى الذي يحمل نقاء وسذاجة أيام الطفولة في أولاد الشيخ، والذي لم يخرج من قماطه القروي كما فعلت انت، وانه لن يطول به الوقت حتى يصطدم بالحقائق الصلبة كالصخور التي سوف تدمي جبينه وتقنعه بان واقع الحياة لا علاقة له بتلك المثاليات التي تعلمها في زاوية سيدي السني القرآنية. المشكلة انك عندما عدت إلى العنبر وجدتهم جميعا يقاطعونك ويتجنبون الحديث معك، ويرفعون انوفهم إلى السماء تأففا ونفورا منك . القيت التحية فابوا جميعا أن يردُّوها، ورغم غرابة ان يسهو الجميع عن الرد فقد اعتبرته سهوا غير مقصود، وكررت القاء التحية ثم اردفت ذلك بسؤال تعمدت ان يكون مباشرا عمن رآى الشاويش عنتر، لا لأنك حقا تبحث عنه وانما للتأكد من ان زملاء العنبر كلهم قرروا وضعك تحت المقاطعة، وعندما تيقنت من ذلك ووقفت تنظر إليهم ذاهلا مستغربا من مثل هذا السلوك الذي يسلكه ضدك مجموعة من الاشقياء المندورين لحياة البؤس والقهر، اراد كل واحد منهم ان يمنح نفسه شرف ان يكون شريفا ووطنيا على حسابك انت، ونسى الأرض الموحلة التي يمشي ويجلس وينام فيها، واتخذ من هذه القصة فرصة لاظهار انه أكثر شرفا ووطنية منك، اردت ان تنفجر فيهم لاعنا الأرض التي حملتهم واسقف البيوت التي اظلتهم والاباء والامهات الذين انجبوهم، ولكنك منعت نفسك من الانفجار غضبا لكي لا تعطي لموقفهم منك أهمية لا يستحقها.  

اطفأت نور العنبر وتمددت فوق سريرك ورأيت ان رد الفعل المناسب هو ان تضحك هزءا وسخرية منهم نعم، لأن حجم المفارقة كان كبيرا لا يستدعي أي ردَّ فعل من طرفك غير الضحك، ولذلك صرت تقهقه بأعلى طبقات صوتك لاشعارهم بان ما فعلوه كان مجرد نكتة في نظرك، وهو فعلا كذلك اذ انهم يستهزئون بشيء لا احد منهم يملك القوة أو الجرأة أو الشجاعة على فعله، انهم ضعاف وانذال وجبناء، وفوق ذلك يجعلون من هذه الخصال الذميمة مصدرا للفخر ويقاطعونك لاثبات انهم أهل الشهامة والنخوة، بينما العكس هو الصحيح وانك انت الذي ابى ان يكون فردا من افراد القطيع، واتخذ طريقه وحيدا وبعيدا عنهم، وسيكون طبيعيا بعد ذلك ان تتركهم يسقطون في دوامة الموت والدم، وتنجو وحدك من هذا المصير. وستكون انت الذي يضحك كثيرا أولا واخيرا. جلجلت ضحكاتك في ظلام العنبر دون ان تسمع ردا من احد وكأنما ازال الضحك كل الشوائب التي تركتها في نفسك كلمات سالم، ومقاطعة زملاء العنبر، فوضعت رأسك على الوسادة وانت تشعر بارتياح عميق، تماما كما حدث عندما اتخذت قرارك بالانضمام إلى حزب الاقوياء، لأنك لم تفعل ما فعلت بناء على ارادة احد غيرك، او لمصلحة انسان سواك، ولكنك فعلته بدافع مبرر ومشروع تباركه ملائكة الرحمن وهو انك تريد الخير لنفسك ودفع الشر والاذى عنها. انك ما تزال عريفا للعنبر وبامكانك ان تبحث عن ذريعة لتأديبهم. لكن أي تبليغ يجب ان يذهب إلى الشاويش عنتر ولعلهم دبروا معه مكيدة ضدك، والا ما تجرأوا على اتخاذ هذا الموقف العدائي منك، والخير كل الخير ان تترك الامور تمضي الان حتي تحين الساعة المناسبة للانتقام. 
 

 

 

(5)

 

في الصباح تسارعت وتيرة الاحداث بشكل ازال من نفسك كل احساس بالطمأنينة والامان وجعل كل شيء مهددا بالانهيار والضياع، فقد صدرت الأوامر للمعسكر الذي تنتمي إليه بالاستعداد للرحيل إلى بلاد الأحباش خلال ثلاثة أيام. وبدأت الترتيبات منذ الصباح لتنفيذ الأمر، وعند ما اردت مغادرة المعسكر وجدت من يستوقفك عند البوابة ليبلغك بالتعليمات التي تمنع أي احد من مغادرة المعسكر قبل ان يأخذ حقن التطعيم، لأن هناك لجنة طبية بدات تباشر عملها داخل المعسكر، وهي تريد ان تفرغ سريعا من هذه المهمة، للإلتحاق بمعسكر تاجوراء. لم يكن أمامك الا الاستسلام للأمر الواقع ومحاولة الانتهاء من عملية التطعيم سريعا، متحججا أمامهم بان لديك عملا ينتظرك في قصر الحاكم، مدركا ان كل ساعة تفوت تنقص من فرص البحث عن وسيلة ناجعة تخرجك من هذا المأزق. كان النصف الأول من النهار قد انقضى عندما استطعت اجتياز البوابة إلى الخارج، ومعنى ذلك ان يوما من الأيام الثلاثة أوشك ان ينقضي دون ان تحقق فيه شيئا. ومسرعا ذهبت إلى مقر عملك بامل ان تستفيد مما تبقى من اليوم، وبأقصى ما لديك من قوة وبسرعة صعدت السلالم تطرق بيت حورية. ترددت حواء في ادخالك لأن السنيورة مازالت تأخذ حمامها، دفعت الباب قائلا بان لديك خبرا لا يحتمل التأجيل، ولابد من ابلاغها اياه في الحال. جلست في الصالون يأكلك القلق، غيرقادر على ان تسيطر على اعصابك أو تمنع يديك من القيام بحركات لا معنى لها فهما تتناوبان على ضرب الركبتين بقوة وعصبية الانتقال الى هرش الرأس بلا مناسبة ثم فجأة قفزت واقفا وانت تسمع صوت سيدة البيت يسبقها قبل ظهورها أمامك حيث كنت جالسا تسأل عن طبيعة هذا الخبر العاجل الذي جئت به إليها.  

عقدت لسانك الدهشة وانت تراها تقف في الصالون بهذه الصورة، فلم تستطع الرد عليها بكلمة واحدة كأنما اصابك البكم. لأول مرة ترفع السنيورة حورية الكلفة بينها وبينك وتخرج إليك مباشرة من الحمام وهي لا ترتدي سوى فوطة بيضاء تحيط بجزء من جسمها وتترك اجزاء أخرى من الجسم تشع وتتوهج وتصدر اضواء تبهر القلب وتعشي البصر وتشل ملكة التفكير لديك. رأتك مرتبكا عاجزا عن النطق، فسألتك ان تجلس وجلست هي قبالتك، وقد انحسرت الفوطة عن احدى ساقيها إلى ما فوق الركبة بمسافة قصيرة لكنها مدمرة. نظرت إليها مصعوقا وهي على هذا الوضع فلم تر غير الفتنة القاتلة، كررت هي سؤالها عن طبيعة هذا الخبر العاجل، ولكن أي خبر يمكن ان يصمد أمام هذا الهول العظيم. هل يمكن لساق عارية لامرأة جميلة ان تدفع بإنسان إلى الاغماء؟ هذا ما احسست به فعلا، وانت تحاول ان تتمالك اعصابك، وتمنع جسمك من التداعي والسقوط. وبانفاس لاهثة، ووجه ادرته بعيدا عن اشعاعات جسمها، ومصدر الغواية الكامن في سمانة ساقها، ابلغتها بخبر الاستعدادات الجارية للسفر إلى الحبشة خلال فترة مداها ثلاثة أيام، وانك احد الذين شملتهم اجراءات التطعيم ضد الأمراض المستوطنة هناك، باعتبارك ضمن كشوف المسافرين. ودون ان تعرف تفسيرا للابتسامة التي استقبلت بها كلماتك، وحالة الاسترخاء التي لم يطرأ عليها أي تغيير باخبار الفاجعة التي تواجهك، واصلت انت تذكيرها بما رأيته احد اسباب المحنة:
- لم يبق غير ثلاثة أيام . فقط ثلاثة أيام.
رأتك تعلق بصرك بها مستنجدا متوسلا، فلم تزد على ان قالت:
- ثلاثة أيام وقت طويل جدا ان كنت لا تعلم .قالت جملتها ونهضت واقفة ودخلت إلى جناح النوم وهي تجفف شعر رأسها بطرف الفوطة، دون ان تفهم انت ما تعنيه حورية بهذه الجملة. هل معناها انها تريدك ان تبقى في خدمتها، وستسعى وفقا لذلك إلى تأجيل رحيلك؟ وهل سيكون هذا التأجيل اذا حصل مؤقتا ومشروطا بالمدة المحددة التي جئت لقضائها في خدمتها؟ ام تراه اعفاء من الحرب كما تريد وتتمنى؟ انها حتى لم تسألك عما تريد، او تفهم ما تريده هي منك. ولكن ما هذه الحالة الغريبة التي هزت كيانك بعنف وشراسة عندما رأيتها تخرج من الحمام؟ وجعلتك تقف أمامها اشبه بورقة تواجه اعصارا؟ يقينا ان ماحدث لك ليس مجرد استجابة ذكورية طبيعية لفتنة امرأة، أو تأثرا بما احتواه الموقف من عناصر الغواية. انه بالتأكيد ليس نتيجة اعجابك بامراة كنت دائما تنبهر بجمالها، وما ان رأيت مساحة عارية من جسمها حتى التهبت مشاعرك وتعاظم اعجابك وتحول إلى اشتهاء للجسد نفسه، ماحدث كان شيئا اكبر من ذلك، شيئا لا يمكن وصفه الا بانه حالة مرضية. هذا العرق الذي تفصد غزيرا من جسمك، وهذا الارتعاش الذي هز كل اطرافك بالاضافة الى ما اعتراك من ذهول ودوخة وعجز عن النطق. اشياء لا تحدث الا عند الاصابة بحادث مرضي عارض لقد صرت مدركا منذ وقت مضى الحيز الكبير الذي تحتله الغريزة الجنسية في تكوينك، ومدى قوة وضخامة الطاقة الجنسية لديك، وما حدث كان عملية استفزاز مفاجأة وقوية لهذا الجانب أو لهذا الوحش الجنس يالكامن في شعورك ولا شعورك، الذي عودته بوجبات منتظمة من العلف الجنسي ثم أوقفت فجأة هذه الوجبات، خاصة وان ما رآه الوحش أمامه، مطروحا على الكرسي الأحمر في ركن الصالون الفاخر، لم يكن علفا كذاك الذي تعود قضمه واجتراره، بل كان مائدة ملكية احتوت اشهى وارقى انواع الاطعمة في الدنيا.  

لقد مضت الآن اربعة اسابيع، الهتك خلالها واجبات العمل الجديد عن تناول أي طعام جنسي، رغم الاتفاق الذي عقدنه مع نورية بان تزورها كل أسبوع. انت الآن في عداد الذاهبين إلى الحرب، وإلى حين اشعار آخر يتأكد فيه اعفاؤك من هذه المهمة فان عليك ان تتصرف وفق هذا السياق، وتقوم بزيارة توديعية لكل معارفك ممن قد لاتعود لرؤيتهم مرة أخرى. ولأن لقاء حورية على تلك الصورة المغرية، وضعك في حالة استثارة جنسية، فستجعل زيارة نورية هي أول الزيارات. ليس فقط لدواعي الجنس، ولكن لأنها امرأة اعطتك وقتا طيبا أكثر من أي إنسان آخر في هذه المدينة، وكانت دارها مكانا تلتقي فيه بالمتعة والراحة، دون اية منغصات، ولذلك فمن حقها عليك، ان تقصدها قبل غيرها لتقول لها وداعا وتشكرها على كريم عطاياها. في المرتبة الثانية تأتي ثريا، ليس لأنها اقل شأنا، فالعكس هو الصحيح. انها الارقى والأجمل والاثيرة إلى قلبك بين كل النساء، لكن دواعي الغريزة ا كثر الحاحا، اما دواعي الحب فهي أكثر ثباتا وديمومة. ثريا مصدر من مصادر الامل والسعادة في حياتك، ولكن احساسا فاجعا بالفقدان يراودك كلما اطل طيف هذه المرأة، وملأ اركان الذاكرة. هل كان كل هذا سيحدث لو ان فتحي لم يسبقك إليها؟ بالامس فقط سألتك السنيورة حورية عن الزواج الذي تأخر بك، فلم تتزوج في سن مبكرة على عادة أهل الريف. كانت المناسبة عندما اخذتها لحضورحفلة خطوبة لصديقة إيطالية من صديقاتها، اقامته في النادي الإيطالي، بجوار مسرح الغزالة. 

- أهل الريف يتزوجون عادة مبكرا، فما الذي جعلك تخالف هذه العادة؟
- لم يحدث نصيب.
- وماذا عن المستقبل؟
- انه بيد الله. الذهاب إلى الحرب لا يعطي الإنسان فرصة للتفكير في مثل هذه الامور.
- اذن فكل شيء مؤجل إلى حين العودة من حملة الحبشة.
- هذا اذا كانت هناك عودة.
- تقديرات العسكريين تقول بانها لن تستمر الا لمدة اسبوعين او ثلاثة اسابيع، لأنه لا مجال للمقارنة بين القوات الإيطالية وقوات الحبشة. 

لم يكن قد تحدد اذ ذاك موعد الرحيل إلى الحبشة، وكنت قد بدأت تنسج حبائل الخطة التي تضمن لك البقاء، دون ان تسأل تدخلا مباشرا منها، مؤجلا ذلك إلى وقت آخر، مبتدئا بالعمل على إبعاد السائق عياد الفزاني من طريقك، فلا يبقى من خيار أمام حورية غير استبقائك، فإذا بالاحداث تداهمك كالسيل الجارف، قبل ان تجني نتائج هذا التدبير. كنت موجودا في السيارة بمفردك مع السنيورة حورية في طريق الذهاب للحفل والعودة منه، وكانت ترتدي فستان سهرة أسود فسفوريًا يتهدل فوق جسمها، ويصل إلى اخمص قدميها، وتضع في عنقها لؤلوة كبيرة واحدة، في حين اختارت لشعرها تسريحة لها شكل التاج ولجعل هذا التاج اقرب إلى الحقيقة، رشقت فيه بروشا ذهبيا له فصوص بلورية تلمع وتضيف اضواء والوانا لالوان واضواء فستانها وعقدها، مما زاد من جمالها وتألقها، وهي تقف بين المدعوين اثناء الحفل الذي اقيم في حديقة النادي، إلى حد احسست معه بالفخر، لحظة ان دعاك احد عمال النادي مع بقية السائقين لتناول مشروب الفرح بالداخل، والتباهي لكون هذه المرأة التي تألقت كالجوهرة بين صفوة نساء المجتمع الإيطالي هي ليبية مثلك، تنتمي لأبناء وبنات جنسك. 

سألتك وانتما في طريق العودة ان تقود السيارة ببطء عبر طريق الكورنيش لاستنشاق نسمات البحر في هذا الليل الربيعي الجميل، ورغم انها لم تتبادل معك غير كلمات قليلة حول موضوع الزواج، إلا أنك احسست ان هذا ليس كل ما هناك، وان لديها شيئا تريد ان تفضي به إليك ولم تستطع، لعله امر يتصل بعلاقتها بالحاكم الإيطالي، تود ان تخرجه من صدرها لإنسان من أبناء جلدتها يكون محل ثقة من جانبها، ولم تجد أمامها إنسان سواك تقوله له، وعندما همت بان تفعل ذلك تذكرت ان ما بينكما من علاقة وتفاوت في المكانة، لا يسمحان بمثل هذه المكاشفة والحميمية، كان ذلك بالامس فقط وها هي اليوم تخرج إليك ترتدي فوطة الحمام وقد كشفت عن جزء من بلور جسمها الشفيف تشوبه حمرة الشفق في ساعة الغسق، لتقول لك سطرا آخر من هذه الرسالة الغامضة التي اختارت تبليغك بها على اقساط. انك لا تدري ما الذي حرك لديها موضوع الزواج، ليفاجئك هذا السؤال تطرحه عليك امرأة مبهجة، سامقة، لها جمال عيني حورية وسحر ابتسامتها. لو كانت لديك فرصة للزواج من امرأة مثلها، لتزوجتها اليوم، حتى لو كان السفر إلى الحرب غدا. ليلة واحدة تعيشها بين احضانها تساوي عمرا باكمله، ولكن حذار، حذار، من ان تدع بصرك يزوغ ويمتد إلى ممتلكات أهل القوة والجبروت، أو تفكر في الاقتراب من العابهم الجميلة عندئد لا تلومن الا نفسك، اذا سحقوك تحت نعالهم بلا شفقة ولا رحمة. 

سيحين بعد قليل، موعد ذهابك إلى نورية، فلتكن هذه المرأة المنذورة للأوقات الطيبة التي تعاشرك معاشرة المحبين لا معاشرة زبائن السوق، هي أقصى ما تطلب نيله من متعة في هذه الأوقات المعتمة، التي لم يتبين فيها الخيط الابيض من الخيط الأسود . لم تكن تتوقع ان تجد احدا من الناس يرى في السفر إلى بر الأحباش شيئا يوجب الفرح، حتى سمعت مختار العساس يقول:
- افرح ياسي عثمان فقد جاء اليوم الذي تنتظره، وصار الذهاب إلى حرب الحبشة حقيقة، بعد ان كان امنية من الامنيات.
- ما هذا الذي تقوله ياعمنا الكبير؟ هل صار الذهاب إلى حرب الحبشة مبعثا للفرح وحلما من أحلام العمر؟ أخبرني بالله عليك كيف يستقيم هذاالكلام؟
- كيف لا يستقيم يا ولدي عثمان؟ فهو باب للرزق فتحه الله لامثالك من الشبان المحظوظين. سبق لك ان سمعت كلاما عن زيادة المرتب للمجندين عند التحاقهم بالجبهة، دون ان تعطي اهتماما كبيرا للموضوع، أو تسأل عن تفاصيله، فهل هناك حقا ما يثير الاهتمام والفضول فيما يخص هذه الزيادة؟
- عن أي رزق تتكلم بالله عليك؟
- انك لا تأخذ وانت تحت التدريب غير ثلاثين فرنكاً في الشهر، اليس كذلك؟ تصور ان هذا المبلغ سيتضاعف اثناء الحرب ليس مرة أو مرتين وانما أكثر من عشر مرات، أي يصبح ثلاثمائة فرنك قابلة للزيادة اذا ما ابليت بلاء حسنا في القتال جلب لك العلاوات والترقيات، وهي فرنكات يمكنك ان تحتفظ بها كاملة غير منقوصة، لأنك لن تحتاجها في طعام ولا لباس ولا مأوى، فكيف اذا استغرقت الحملة اربعة أو خمسة اعوام؟ ستعودون أكثر ثراء من الكونتيسة نفسها.

كان مبلغ الزيادة الذي قاله مختار العساس، مبلغا كبيرا حقا. وكنت على جهل بوجوده، إلا أنك استغربت لهذا الحماس الزائد عن الحد، الذي يتحدث به الرجل عن هذه الزيادة
- لا تنس ياعمنا مختار انها الحرب، وان احتمالات الموت في الحروب تكون أحياناً اكبر من احتمالات النجاة.  

لم يعر مختار العساس انتباها لما احتواه كلامك من استنكار واستهزاء بمنطقه، واعتبر ان ما قلته مناسبة للافاضة والاطناب في منافع الذهاب إلى الحرب:
- اذا ما حان أجلك هناك، فسيكون موتك هذه المرة مورد رزق لأهلك يبقى معهم إلى آخر اعمارهم، ومناسبة لتوديع الفقر إلى الابد باذن الله، لأنه سيصرف لهم معاش شهري بقيمة نصف المرتب الذي كنت تتقاضاه هناك ولمدة اعوام كثيرة يحددها القانون. ومضي يعدد المدد التي يصرف فيها المعاش والتي تختلف من رجل ترك ارملة واطفال، إلى رجل مات أعزب وسيكون من حق ابيه وامه الاستفادة من معاشه، إلى ثالث له اخوة يعولهم، وقاطعته قبل ان يكمل حديثه:
- تبدو خبيرا في هذه الحسابات وكانهم أوكلوا صرف المعاشات إليك فما الحكاية بالضبط؟
- كنت قد عرفت هذه المعلومات من حارس يأتي إلى هذا المكان مع المارشال بالبو، وتكونت صداقة بيني وبينه .ثم أخبرك بان الكلام الذي سمعه عن مزايا العمل في الحبشة اغراه بطلب الانضمام إلى الحرب، وسعى لدى الحارس الإيطالي ان يتوسط لديه كي يعمل مدنيا مع جيش الحملة، مستفيدا من خبرته في البناء أو عاملا في المطابخ، أو مخازن علف الحيوانات المستخدمة في الحرب، لنشأته في مجتمع البادية والرعي، ورغم ان الحارس وعده خيرا، إلا أن مختار العساس ونتيجة لسنه المتقدمة وبرد العظام الذي يعاني منه، عدل عن الفكرة متنازلا عن أحلام الثراء، راضيا بالرزق الذي كتبه له الله في هذه البلاد، قائلا لصاحبه الإيطالي ما قاله الفار الذي خرج من محل اقامته في دكان الحلاقة، تحت اغراء صديق قاده إلى سوق للمواد الغذائية يمتلى ء بالالبان والزيوت والجبنة والزبدة، اذ قال لصاحبه الذى أطبقت عليه إحدى المصائد المنصوبة ونجا هو:
- اعيش هانئا، العق جلدة المسن في دكانة الحلاقة، خير الف مرة من أن تطبق علىّ إحدى المصائد المنصوبة في دكانة الاجبان والالبان. 

مختارالعساس على مشارف الستين من عمره، جاء إلى طرابلس منذ سبع سنوات، وشارك في المراحل الاخيرة لتشييد هذا البناء، ولأنه لا يملك بيتا ولا أهلا في طرابلس، بقى عساسا للعمارة يقيم وحيدا بغرفة في الجاراج، يحرس مدخل العمارة والسيارات التي يضمها الجاراج ليلا. عاش ثلاثة اعوام بمعسكر اعتقال العقيلة، فقد اثناءها كل افراد عائلته، والدته وزوجته واطفاله الثلاثة فصدر امر بالافراج عنه، واستخدامه عاملا مع شركة المقاولات الإيطالية التي كانت هذه العمارة واحدة من انشاءاتها. تترقرق عيناه بالدموع عندما يأتي حديث الذكريات عن معسكرالعقيلة وتداعياته المؤلمة، قائلا في لهجة مريرة:
- سامح الله سيدي عمر.
وسيدي عمر الذي يطلب له السماح هو الشهيد عمرالمختار، وكنت تسأله في بداية عهدك بمعرفته بعض الاسئلة التي تصدمك اجابته عنها.
- كأنك تلوم سيدي عمر عما حدث لك.
- وهل اصابنا ما اصابنا الا من تحت رأسه.
وتقول له مفجوعا ومندهشا:
- العَنْ الشيطان يا رجل. اتلوم عمر المختار على ما ارتكبه في حقك السفاح جريسياني؟
- وكيف الوم عدوا اعرف بداية انه ما جاء الا للتنكيل بأهل البلاد؟ انني الوم من كان الأولى برحمتنا وتجنيبنا ما نعاني من بلاء فلا يأبه لحالنا.
- وهل فعل عمر المختار شيئا غير انه دافع عن أرضكم وكرامتكم؟
- كان هو مصدر البلاء الذي لحق بنا. فبسبب هذا الدفاع الذي تقول عنه، جاء جيش جراسياني يصادر مواشينا ويهد بيوتنا ويسوقنا رجالا ونساء واطفالا إلى معسكرات الموت والتعذيب والأوبئة، باعتبارنا رهائن حتى تنتهي حركة العصيان والتمرد. لكن عمر المختار رفض ان يفك اسر هؤلاء الرهائن. كتبنا إليه رسائل الاسترحام، لكي ينجينا من حياة المعتقلات، وارسلنا له الرُّسل نشرح ما يعيشه الاطفال والنساء من عذاب، وما نقاسيه جميعا من شقاء، وسألناه ان ينزح مثل بقية زعماء الجهاد إلى خارج البلاد ان لم يكن يريد الدخول في اتفاقيات مع الطليان، لأنه لم يعد هناك جدوي من حربه، الا المزيد من العذاب و الموت والقهر لأهلنا .-
لاتنس انه قضي شهيدا؟
- كان مطلبه شهادة يتاب عليها من الله، وندفع نحن الثمن من عائلاتنا التي هلكت، و بيوتنا التي خربت، وحياتنا التي افسدها عناد شيخ في السبعين .تحلو لك مناكفة رجل مثل مختار العساس، موزع الولاءات اباد الإيطاليون أهله، فاستسلم للامر الواقع، ورضى بالحياة خادما لهم، وكنت قد وجدت نسخة من قصيدة الشاعر احمد شوقي في رثاء عمر المختار فجلست لحفظها عن ظهر قلب، ولم تجد مكانا افضل من جاراج العمارة لاستذكارها أمامه بصوت عال:-
يا ايها السيف المجرد بالفلا تكسو السيوف على الزمان مضاء
خيرت فاخترت المبيت على الطوى لم تبن جاها أو تلم ثراء
فكان يفهم سطرا ولايفهم الاخر، ومع ذلك كان يهز رأسه تأثرا قائلا:
- رحم الله سيدي عمر، كان رجلا ولا كل الرجال.
- الم تكن تلومه على المآسي التي وقعت لك ولاسرتك؟
- نعم الومه، ولا زلت الومه، ولكن ذلك لا يعني انه لم يكن فارس الفرسان.

لمختار العساس احاديثه وذكرياته التي لا تمل سماعها لأنه كلام ممزوج بروح الدعابة التي تذيب مرارة الاحزان في هذه الذكريات، ولولا هذه الروح لكان اسرع إلى اللحاق بعائلته الهالكة منذ اعوام واعوام. لم يكن هناك طعام في معسكر الاعتقال يقدمونه لهم، وكان مطلوبا من كل عائلة اسيرة ان تتدبر حياتها بحفنة من الشعير، لا تسد رمق الاطفال فما بالك بالكبار، وتسأله كيف اذن استطاع ان يعيش؟ وماذا كان يأكل؟ فيجيب بانه يدين بالفضل لاطباق الارز اللذيذة التي كان يأكلها اثناء الليل، وتنظر إليه مستغربا، ومتسائلا عن مصدر هذه الاطباق فيقول ضاحكا:
- الارز الالهي الشهي الذي تقدمه ملائكة الرحمن للجياع اثناء النوم. 

هذا الطعام وحده هو الذي ابقاني على قيد الحياة .قاومت اغراء الحديث الشائق، وانتزعت نفسك انتزاعا من جلسة مختار العساس وذكرياته، لأن لديك مشاويرك الخاصة التي لا تحتمل الانتظار، فقد اضحى الوقت محسوبا بالدقائق، وانت تتأرجح بين الامل والرجاء، لا تدري ما سيكون مصيرك بعد يومين. اراحك ان تعرف ان ليس للسنيورة حورية مشاوير مسائية تحتاج فيها لخدمتك، فسلمت مفاتيح السيارة للعساس وخرجت. لم يستطع حديثه عن الثروات التي يجنيها الذاهب إلى الحرب، أو تلك التي ينتفع بها أهله، بعد ان يسقط قتيلا في الميدان، ان يجعلك تتردد أو تتراجع عن فكرة الهروب من هذه المهمة الكريهة، باية وسيلة تقدر عليها، حتى لو كانت المكر والخديعة، كما فعلت مع عياد الفزاني، سائق حورية الرسمي، وكانت آخر هذه المساعي استنجادك بحورية نفسها، علها تهرع إلى عونك باعتبارها المرأة الاقرب إلى قلب الحاكم العام، وما تبقى فهو مسألة افلاك تدور في قبة الكون، كما يقول الحاج المهدي، تصنع للبشر اقدارهم، وترسم لهم مسارات حياتهم، ولا يملكون لها ردا ولا دفعا، ولوح محفوظ، مسطور فيه ارزاق الناس وآجالهم منذ الازل فما عليك بعد ان بذلت ما في وسعك، إلا أن توكل الأمر لصاحب الأمر، وخالق هذا الكون، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ليقرر بشأنك ما يشاء، وان تذهب في الحال لتوديع من يجب توديعه، توقعا للأسوأ، ولكي لا تفاجأ بانتقالك إلى ميادين الحرب دون ان ترى من تحب رؤيته. 

ليتك تستطيع الذهاب إلى "أولاد الشيخ" التي تبقى رغم ضيقك بها، وهروبك منها، تحتل موقعا في قلبك لا يستطيع ان يحتله اي مكان آخر، وطالما أن الوقت الذي تبقى لايتيح فرصة توديع أهلك هناك، فلا اقل من ان يكون وداعك شاملا لكل من عرفت في طرابلس، المدينة التي جئتها هاربا، لاجئا، فوجدت فيها، رغم المعاناة، أهلا ورزقا وقلوبا عطفت عليك ستودع كل هؤلاء الذين عرفتهم فيها، وستودع عبرهم ومن خلالهم، وطنا تغيب شمسه وراء سح-ب الاحتلال السوداء، وتنسحب أرضه من تحت اقدام اصحابه الحقيقيين، ومع ذلك يبقى رغم الجراح والسحب السوداء والأرض المسروقة والمحروقة، وطنا لك ولأهلك، لا تملكون وطنا سواه.

وهو قبل ان يكون حجرا وشجرا وترابا وسماء وهواء ونجوما وشمسا وبدرا، فهو بشر وقلوب ومشاعر واحاسيس. انه اسلاف ماتوا، وتركوا انفاسهم معلقة في هوائه، وبعضا من دمائهم وعظامهم، ممزوجة بترابه، وركاما من أحلامهم وامالهم التي ظلت رغم سقوطها كأشجار الأوراق الذابلة، مختلطة بامشاج هذه الأرض، ومن حصيلة هذا كله، تشكلت في ذهنك ملامح هذه البلاد التي يسمونها ليبيا الوطن الذي يبدو لك في لحظات الاحباط والتعب النفسي، كأنك انفصلت عنه وانفصل عنك، أو كأنك جعلت لنفسك كيانا مستقلا عن كيانه، ونظرت لمصلحة هذا الكيان الصغير الذي هو ذاتك، باعتباره شيئا مستقلا ومنفصلا عن كيان الوطن ومصلحته. هذا الكيان الذي لا يهمك شأنه ولا تضع له في حسابك حسابا ولا اعتبارا، تحت مبرر انك لا تملك شيئا تعطيه له، و لا يملك هو شيئا يعطيه لك، ومنذ سقوطه تحت سنابك خيل الغزاة، سقطت وتلاشت الاعتبارات الوطنية، لتترك المجال مقتصرا على اعتبارات المعيشة، وضمان لقمة العيش، والكفاح من أجل البقاء فقط . انك لم تنخرط في جيش الطليان لأن لديك ولاء لسياستهم أو قناعة بعدالة الحروب التي يخوضونها لتوسيع امبراطوريتهم، وانما جئت إليهم جائعا تبحث عن كسرة خبز، وخائفا تبحث عن الامان، ويائسا سدت في وجهك المنافذ والطرقات، الا طريق الانتحارأو طريقهم، فاخترت الانضمام إليهم كبديل للانتحار، فمن اين لفتى يرزح تحت أكداس الفقر والهوان مثلك، ترف ان يكون وطنيا؟

وها انت اليوم، بعد ان اكتشفت ان ما فعلته، لم يكن هروبا من الانتحار وانما وقوع فيه، حاولت ان تنجو بجلدك عارفا انك لا تهرب منهم، الا إليهم، ولا تنجو من فخاخ الموت هذه، الا لتسقط في فخاخ أكثر رعبا، ولكي تتفادى الذهاب إلى حرب الحبش، كان لابد ان تذهب إلى حزب الفاشست، فانت محاصر بهم أو حسب التعبيرات التي تقولها امك اشبه بمن يجد نفسه داخل حبة لوز مرة. فالبلاد بكل ما فيها من سهوب وسهول ووهاد وجبال وصحارى وسماء ونجوم، اضحت مكانا ضيقا، ضئيلا، يطفح بالمرارة مثل هذه الحبة المرة من اللوز المقفولة على ابن البلاد. هاهو مختار العساس يضع اللوم على الشيخ الشهيد عمر المختار، الذي حارب الطليان حتى مات صريعا على ايديهم. ويضع مأساة اسرته في عنقه، فبسبب ثورة المختار حدث ما حدث من اعتقال لأهل البادية، أودى بامه وزوجته واطفاله الثلاثة إلى الهلاك. واذا كان عمر المختار قد حقق جدارته الوطنية بالتضحية بروحة، فهل تنكر على مختار العساس الذي عاش مصارع أهله فردا فردا على يد الطليان، وكاد يصرع مثلهم حقه في نصيب من الوطنية يساوي نصيب عمر المختار رغم انتقاده له؟

جند رمضان السويحلي عشرة الاف مقاتل من فقراء الليبيين، ليحاربوا في صفوف الإيطاليين ضد أبناء بلادهم، وسار بهم إلى أرض المعركة في ابار القرضابية وانتظر حتى الدقائق الاخيرة التي سبقت نشوب القتال ليكاشف هؤلاء الجنود بخطته السرية التي تقضي بالانضمام إلى المجاهدين، والارتداد لضرب الجيش الإيطالي، الذي يشكلون فصيلا من فصائله. وهكذا وجد ذلك المواطن الذي باع روحه للشيطان، وجاء للحرب تحت راية المستعمرين، نفسه مجاهدا يحقق اقوى عملية انتقام من اعداء الوطن، ويصنع ضدهم اعظم انتصار تحقق في تاريخ المقاومة الشعبية الليبية. فإلى أي صنف ينتمي هذا الجندي الذي دخل المعركة خائنا للوطن وخرج منها شهيدا أو بطلا من ابطال النضال؟ هناك ثلاثة جياد كما سمعت شيخا من شيوخ القرية يقول لوالدك، هي جياد العجز والخوف والجوع، تتولى قيادة العربة في مثل هذه الأزمنة الموحلة، الموسومة بالقهر وسيطرة المحتلين وهزيمة المقاومة. وهي التي تحدد مصائر الرجال، ومواقفهم وأحياناً تحدد أيضاً مصارعهم، ولعل مرحلة العجز الكامل التي وصل إليها الوطن، تعفي مواطنا مثلك من ذلك الاختيار الصعب الذي واجه الناس منذ اعوام قليلة مضت، عندما لا تزال جدوة المقاومة تشتعل، بين ان يكونوا مع المقاومة ضد الطليان أو مع الطليان ضد المقاومة. استوى الجميع الآن، بما في ذلك ابطال حملوا السلاح ضد الطليان فطاردهم حتى اخرجهم من الحدود، وحكم عليهم بالاعدام، هاهم يستجيبون الآن للعفو الذي اصدره بحقهم موسيليني، ويتدافعون للعودة، والبحث عن عمل يطعمون منه اطفالهم لدى سلطات الاحتلال.

الوطن الوطن لكل إنسان مكان ينتمي إليه ودائرة من الأهل والمعارف والاصدقاء، ولد وتربى وعاش بينهم، وهذا المكان وهذه الدائرة من البشر هما الوطن، المكان شكله والناس محتواه. انه بالنسبة لك في هذه اللحظة وقبل يومين من احتمال رحيلك إلى الحبشة هو نورية التي تعمل في حي الدعارة وتعيش على امل الفوز برخصة رسمية تمكنها من ممارسة هذا العمل علنا بدل البقاء معرضة للمطاردة والابتزاز، حين تعمل عاهرة دون ترخيص. انها رغم حقارة المهنة، امرأة ليبية، لا احد يمكن ان ينكر عليها هويتها، أو يلغي انتسابها وانتساب ابنتها وردة ورئيستها شريفة إلى هذا الوطن. ثم ثريا، التي تمثل لك حبا مشنوقا وحلما اجهضه عبث الأيام وتظل، برغم الالم الذي عانيته من أجلها أكثر النوافذ المطلة على رحاب الوطن نورا وهواء وبهجة، اما والدها الحاج المهدي، صانع النعال الجميلة الذي يعبق بدفء الابوة، كيف لا تعتبره أهلا ووطنا وتذهب لتوديعه نيابة عن كل ذويك وافراد اسرتك، ممن تعذر عليك توديعهم، ولن تتأخر في توديع أولئك الذين عبروا في حياتك عبورا سريعا، منذ انتقالك إلى طرابلس سواء في وكالة الشوشان أو كوشة عبدالله أولدى عمي الشارف، بائع الشاي في الباب الجديد. ستذهب لمصافحتهم جميعا قبل السفر، لأنهم يمثلون شيئا عزيزا في حياتك، وجزءا من ذكرياتك في طرابلس، دون ان تنسى عبد المولى الشحاذ الذي كان دليلك في التعرف على المناطق الخفية المجهولة داخل هذه المدينة. أو رفاقك في بيت حورية مثل حواء التي اذاقتك الوانا من الحلوى الليبية لا تعرفها بيوت الريف، واصنافا من الطعام الشهي لم يسبق لك أو لاحد من أهلك واسلافك، ان ذاق مثلها، والصبي الزنجي مرجان، الذي مازال يتكلم العربية بلكنة افريقية اعجمية والذي لا يرفض لك طلبا وانت تسأله ان يفسح لك مكانا أكثر قربا من حورية، خاصة عندما تنازل عن شراء الصحف وقضاء بعض الحوائج لتقوم بها انت كذريعة لأن ترى السنيورة كل يوم. ومختار العساس، بحقده الناري على عمر المختار وحكاياته المعجونة، كخبز الافران الشعبية، بجمر ورماد السنين. ثم حورية، السنيورة الجميلة الفاتنة حورية، هذه القطعة من الدانتيلا الثمينة، التي تشكل بكل ما يحيط بها من ترف وبذخ جزءا من نسيج هذا الوطن، بالوانه المتعددة، انها حتى وهي تعيش في بيت الحاكم الإيطالي، وتنام في فراشه لا تستطيع إلا أن تكون امرأة ليبية، ويكفي دليلا على ذلك احساسات الفرح التي تقفز من عينيها، وتنير ملامحها كلما سمعت حديثا للمارشال بالبو يحمل وعدا بالخير لأهل بلادها، فتاتي لتعيده في مجالسها كأنه الغناء.

ذهبت إلى الباب الجديد، يسوقك نداء الرغبة، مختلطا بنداء الواجب آملا الا تكون هذه الزيارة هي آخر لقاء بينك وبين المرأة التي استضافتك على موائد انوثتها، ومنحتك لحظات من اللذه لم تذقها مع امرأة سواها. وصلت إلى شارع سيدي عمران، ثم إلى زنقة البهلول التي تتفرع منه، حتى وقفت أمام الباب الازرق ذي العروة النحاسية، فامسكت بالعروة وطرقت الباب. خرجت لك شريفة، تجر ثقل اللحوم الكثيرة التي تكسو عظام جسمها، تقودك إلى غرفة السقيفة، وتسألك متوسلة ان تقنع نورية بالبقاء في البيت، وان تقلع عن افكارها الرعناء بترك هذه المهنة، لأنها لن تجد عملا يدر خيرا كثيرا مثل هذا العمل، خاصة وان الرخصة الرسمية التي تأخرت مدة طويلةهي الآن في طريقها إلى الصدور، بعد ان جاء طبيب حي الدعارة وقام باجراء الفحص النهائي، على كل نساء البيت، وهذا الاجراء هو آخر ورقة في ملف التأهيل للرخصة، بعد ان تم استكمال كل الاجراءأت الأخرى التي من بينها ان تكون المرأة التي تدخل رسميا إلى هذا المجال قد ضبطت أكثر من مرة في حالة تلبس بالفعل الفاضح مع احد الرجال. والحمد لله فان جميع نساء البيت قد ضبطن بدل المرتين اللتين تشترطهما الحكومة، خمس وست مرات. ونورية، كما تقول السيدة شريفة، هي نوارة البيت التي تجتذب اغنى الزبائن دائما، واذا كان الاقبال عليها شديدا في أوقات التخفي والعمل السري، فما بالك بعد ان يصبح العمل علنيا تحت الاضواء الحمراء، وبمعرفة واشراف الحكومة. كنت تعرف ان نورية هي الأوزة التي تبيض ذهبا لصاحبة البيت، إلا أن لهذه الثرثرة هدفا آخر بجوار الضغط على نورية لكي تبقى، هو ان تلهيك قليلا حتى تنتهي نورية من الزبون الذي معها غير ان خبر وصولك تسرب إلى نورية فطردت الزبون الذي خرج، محتجا غاضبا طالبا ان يسترد ثمن المضاجعة الناقصة الذي دفعه سلفا.

وجاءت كالعاصفة تنتزعك من أمام سيدة البيت انتزاعا، وتدفعك بقوة نحو غرفتها وهي تصرخ احتجاجا على غيابك الذي طال لأكثر من شهر، رغم الاتفاق الذي يقضي بان تزورها مرة كل أسبوع.

عرفت منها وانتما داخل الغرفة انها ذهبت تبحث عنك في معسكرات الطليان، ولأنها لم تكن تعرف عنك شيئا سوى انك مجند اسمه عثمان، فقد كانوا يردونها وهم يسخرون منها، لأنهم لا يعرفون عن اي عثمان تتكلم، واخيرا تذكرت صاحبك السائق ماريو فذهبت تبحث عنه في الورشة الحكومية، ولم تستطع العثور عليه الا مساء الامس. ومنه اخذت المعلومات عن المعسكر الذي تتبعه، ورقم العنبرالذي تقيم به، وذهبت هناك للسؤال عنك فابلغوها بان موعد الزيارة هو يوم الغد. كنت تنصت دهشا لما تقوله هذه المرأة المجنونة، غير مصدق انها ذهبت وراءك إلى كل هذه الاماكن، ولا تعرف سببا لهذه الشحنات الانفعالية الغاضبة التي تقذفك بها لمجرد انك تأخرت ثلاثة أو اربعة اسابيع عن المجيء إلى هذا البيت من بيوت الدعارة السرية. رأيتها تواصل تقريعها لك، فقاطعتها بغضب يماثل غضبها, متسائلا عما جرى حتى تفعل هذا كله بحثا عنك؟ وما الذي تبتغيه من ملاحقتك والتشهير بك بين زملاء المعسكر؟

انطفأت الرغبة الجارفة التي ساقتك إلى بيتها. ولم يبق في ذهنك سوى حرقة السؤال عما تريده منك امرأة ليس بينك وبينها سوى دقائق المتعة التي تبيعها لك مقابل سعر معلوم، فاذا انقضت تلك الدقائق واعطيتها تلك الدراهم، انتهى أي التزام لك نحوها، ولم تعد هناك اية ذريعة تبيح لها ان تطوف المدينة بحثا عنك. كلمتها بكل هذا الوضوح، لتبديد اية أوهام في رأسها لكن كلامك لم يفعل شيئا الا تأجيج مشاعرها، فاجهشت بالبكاء وهي ترتمي على صدرك. صبرت عليها قليلا حتى هدأت ثم دفعتها عنك، وأجلستها على السرير تطلب منها تفسيرا لما حدث، سحبت من حقيبة يدها منديلا مضت تجفف به دموعها. ثم عادت ترمي ذراعيها حول عنقك، وتلصق جسمها بجسمك دون استجابة منك، قائلة بانها لم تعد تطيق معاشرة أي رجل غيرك. وانها على مدى اللحظات المتفرقة التي قضتها معك نما حبها لك حتى ملأ كل اركان القلب، وازدادت حبا لك بعد ما حدث من تعارف بينك وبين ابنتها وردة، التي احبتك هي أيضا، وتعلقت بك تعلق الطفللة بابيها. ولأنها لم تكن راضية بانتهاج هذا الطريق أو الحياة في هذا الحي، فقد احست بحبها لك نورا يسطع في قلبها، ويبشرها بحياة أكثر طهارة ونقاء. وسمعت هاتفا من السماء، يدعوها لأن تنتقل وتعيش في كنف الرجل الذي احبته، من أجل ان تكرس كل حياتها له ولابنتها، وللطفل الذي ستنجبه منه، وتتوب لله توبة نصوحا لا رجعة فيها.

وهذا هو ما ارادت ان تخبرك به، فانتظرت مجيئك أسبوعا بعد أسبوع، ومع كل يوم يمر كانت تعاني مزيدا من الكدر والضيق لأنها كرهت الاقامة في هذا المكان، وتريد ان ترحل عنه بأقصى سرعة، صحبة الرجل الذي احبته، ولن تحب احدا سواه. وهذا ما دفعها للبحث عنك باية وسيلة، لأنها اعدت لكل شيء عدته فالمكان موجود، والمال الذي تحتاجه حياتكما المشتركة موجود. 

كان وقع هذا الكلام غريبا على اذنيك لأنه لم يحدث خلال اللقاءات التي تمت بينكما، وما دار فيها من احاديث، ان اشرت من قريب أو بعيد إلى احتمال ان يكون بينك وبينها أي نوع من الارتباط، غير ذاك الذي يتم في حدود مهنتها كامرأة عامة، تبيع الأوقات الطيبية للزبناء. فما الذي زرع في رأسها فكرة من هذا النوع، حتى تأتي تتحدث عن قرار اتخذته بينها وبين نفسها للارتباط بك، وتبلغه لك باسلوب لا يترك لك مجالا للمناقشة، ولا ينتظر الا ابداء الفرح والسعادة لأنها اصطفتك من بين كل رجال الدنيا لتكون الرجل الأول والاخير في حياتها، والاب الثاني في حياة ابنتها. لم تشأ ان تصدمها بالتعبير عن مشاعرك الحقيقية، التي تستنكر استنكارا كاملا مثل هذا الارتباط، وافهامها انك لا تأتي لممارسة الحب معها الا مرغما تلبية لضرورة حسية جسمية صرفة، تعلم علم اليقين انها اثم وخطيئة، تصلي بعدها وتستغفر الله كثيرا راجيا منه ان يعفو عنك، ويعجل بهدايتك. وابلغتها بدلا من ذلك انك لم تكن لتمانع لو لم تكن محكوما باشد القواعد العسكرية تزمتا وانغلاقا وهي للاسف الشديد لا تترك في وقتك وقتا لهذا الارتباط، أو تعطيك ترف العيش بعيدا عن المعسكر ونظامه الحديدي. وظنا منها ان ما تقوله مجرد اعذار لحرج الزواج من امرأة لها ماض كماضيها، اسرعت قائلة بان ما تريده منك ليس بالضرورة زواجا بعقد شرعي، لأنها تعرف ما يمكن ان يثيره مثل هذا الزواج، من مشاكل عائلية لإنسان قادم من اعماق الريف الليبي، فهي لا يهمها الزواج، بقدر ما يهمها ان تكون معك دون غيرك من الناس، وان يضمكما بيت قائم على الحب. قالت ذلك باعتبارها تقدم حلا سحريا، يعفيك من الاعتذارعن قبول عرضها، فلم يعد هناك، مقابل هذا التنازل من جانبها، مجال لتقديم اية مبررات تمنع من تحقيق هذا التلاحم الجسدي والتواصل الروحي المادي والمعنوي بينك وبينها.

انه بلا شك عرض سخي من امرأة عاشقة، يسعد بقبوله أي فتى يعيش ظروفا كالتي تعيشها، ولكنك لن تستطيع إلا أن تكون قاسيا معها، ومع نفسك، وترفض هذا العرض السمح الكريم. لم تكن تريد ان تعتذر لها بسبب ذهابك المحتمل إلى حرب الحبشة في اليومين القادمين، لأنه لو نجحت المساعي وتحقق لك البقاء في طرابلس، فلن يحول حائل دون ظهورها من جديد للمطالبة بتحقيق وعد الاقتران بها، إلا أنها ارغمتك على استخدام هذا العذر لأن درجة الانفعال العالية، التي عالجت بها الموضوع، تحتاج إلى تقديم عذر قوي يتناسب مع قوة اللحظة الدرامية، ويفلح في قفل هذا الموضوع قفلا نهائيا. اذ لم يعد أمامك وانت ترى امرأة تعبر عن عواطفها نحوك بهذا الفيض من الدموع إلا أن تستخدم حديث الحرب والموت والسفر المخيف إلى المجاهل الافريقية البعيدة كمبرر للفراق، وهو فراق ستحرص تمام الحرص على ان يبدأ منذ الآن، وفي التو واللحظة، لأن امرأة كهذه لابد ان تحسم معها الأمر حسما قاطعا ونهائيا، والا استمرت في ملاحقتك وتسميم حياتك.

جازفت ورميت أمامها بخبر ذهابك القريب إلى الحبشة كسبب قاهر يمنعك من تحقيق حلم الاقتران بها، ويفرض عليها ان تنساك منذ هذه اللحظة، لأنه لا فائدة من انتظارك راجيا لها التوفيق في العثور على إنسان افضل منك تحبه ويحبها، ويشاركها في بناء عش المستقبل. ظلت المسكينة تبكي وتردد كلمتي "غير معقول" دون ان تفهم انت ما تعنيه بهذه الجملة، فهل هو مجرد تعبير عن الاحساس بالصدمة، ام انها فعلا لا تصدق ما قلته لها ولا تراه معقولا، انكفأت بجسمها ورأسها على المخدة تبكي ووجدتها انت فرصة للانسحاب، فغادرت البيت مسرعا متظاهرا انك لم تسمع النداءات التي صرخت بها وراءك تريدك ان تعود. كنت فعلا تريد ان تهرب من هذا الجو المليء بالتوتر، الذي خلقته لك نورية، رغم انك جئتها مشوقا للقائها، دون ان تعلم بحالة الخبل التي المت بها. ستقطع هذه العلاقة القائمة على الجنس التي تجمع بينك وبينها، حتى لو بقيت في البلا د، ولن يكون الجنس مشكلة بالنسبة لك عندئد، لأن هناك تدابير أخرى يمكنك ان تفكر فيها. انت الآن على مفترق طرق، فاما أنك ذاهب للحرب لتبدأ مرحلة جديدة في حياتك، وفصلا آخر من فصول عمرك. واما أنك ستحصل على الاستثناء الذي ترجوه، وعندها يمكن ان تفكر جديا في الاستقرار والزواج وتأسيس بيت خاص بك كما يفعل بقية الناس، ممن وصلوا إلى سنك ولهم دخل ثاب تمثلك، ولن تكون الفتاة التي تبني بها مشكلة، لأنه بعد ان ضاعت منك ثريا فكل النساء سواء.  

كنت عازما على الذهاب إليها في الحال، لتتنعم برؤية عينيها وتوديع والدها، ولكنك كنت متوترا، مهموما بما فعلته معك نورية متمنيا ان ينتهي جنونها عند هذا الحد، فقررت اختيار وقت آخر غير هذا الوقت، ربما غدا، أو بعد غد من أجل ان يكون وقتا رائقا، يليق ببهاء وعذوبة امرأة مثل ثريا، ولعل الافضل أن تذهب إليها، بعد ان تتأكد من مصيرك أولا، فاما أن تذهب لتوديعها وتوديع أهلها، وداع مسافر للحرب، أو تشركها معك في فرحة بقائك بطرابلس. لم تشأ ان تعود مبكرا إلى المعسكر، لأنك تكره ان تجد نفسك جالسا داخله، في مواجهة حفنة من الأوغاد يقاطعونك ويرددون حولك الشائعات. والافضل الا تعود الا بعد ان يكونوا جميعا قد غطسوا في نوم مليء بالكوابيس، إذ ما هي الأحلام السعيدة التي يمكن ان تزور إنسانا يسوقونه إلى ساحات الموت والدم والبارود. ستتجنب الاحتكاك بهم، والدخول في صراعات معهم مادام الفراق بات قريبا، ورفقة الاقامة في عنبر واحد تقترب من نهايتها، ستبحث عن أي مكان تقضي فيه هاتين الساعتين الباقيتين على موعد النوم، ولن يكون صعبا ان تقضيهما متسكعا في الشوارع. 

 

 

(6)

 

لاحت لك وانت تترك الازقة الضيقة للمدينة القديمة اقواس سوق المشير وقبابه، فتذكرت المقهى الشرقي الذي يقع في قلب هذا السوق، والذي احضرت إليه حورية مرة للمشاركة في حفل عشاء، دون ان تجد فرصة لترى شكله من الداخل، وقد مررت به أكثر من مرة، ووقفت أمام بابه تتفرج على صور المطربين والموسيقيين الذين يقدمون البرنامج الفني، متهيبا فكرة الدخول، لأنه مكان للسائحين الاجانب والمستوطنين الإيطاليين الذين يريدون قضاء ليلة شرقية، ولاصحابهم من أهل البلاد ممن يملكون المال والمناصب الكبيرة، وانت لست من هؤلاء ولا من أولئك. لا يمكن ان تكتمل صورة سوق المشير الا بهذا المقهى فهو السوق العتيق الذي اعادت السلطات الإيطالية بناءه على طراز شرقي صميم، واعطته طابعا معماريا يمثل روح المدينة، وشخصيتها العربية الصحراوية، وتراثها الاسلامي، وتتخصص دكاكينة في عرض وصناعة المشغولات المحلية، من اكلمة وسجاجيد وتطريز على المناديل والمفارش ونقش على الصحاف والاطباق وتصاوير والوان شعبية تقليدية مرسومة على مشغولات من سعف النخيل واعواد القصب علاوة على سروج الخيل والجمتها وما يضاف إليها من زينة وزخارف وصناعة انواع من الطنافس والحشايا والوسائد، وانوال متخصصة في المنسوجات الحريرية لملابس الرجال والنساء، والوان من الحلي والتحف المصنوعة من الفضة والذهب والعاج وانواع متعددة ومتنوعة من الات الموسيقى الشعبية بحيث يأتي السائح إلى طرابلس فلا يجد فقط الجزء الإيطالي الحديث في جهة، والاحياء الشعبية العربية القديمة بفقرها وبؤسها وخرائبها، وانما يجد بناء عصريا يمثل الشرق بالوانه الفاتنة ونكهته المميزة في المعمار والسلع التقليدية، نظيفا، مزوقا، جاهزا لتلبية احتياجات السائح وارضاء فضوله.  

وبعكس الدكاكين الكثيرة الموجودة في شارع الملك فيتوريو ايمانويل وميدان الكاتدرائية، وساحة إيطاليا، التي تقدم خمورها صحبة الموسيقى الغربية، وتتجه إلى جمهور إيطالي تخاطبه بمفرداته التي يفهمها، في فنونه وتراثه الشعبي، فقد تم الحرص على انشاء هذا الملهي باجواء شرقية لا يخالطها أي شيء غربي ويقدم الوانا من فنون الشرق في مجال الاستعراضات والموسيقى والرقص والغناء غير موجودة في أي مكان آخر في طرابلس. وتشجيعا لهذا الملهى حرصت الادارة الاستعماريةعلى اقامة كثير من المآدب الرسمية فيه مما دفع الشركة التي تملكه، لوضع موظف تشريفات على الباب يرتدي البزة التقليدية لسلاح الفرسان، وهو البرنس الأسود المقصب بخيوط الذهب والفضة. صعدت الدرجات الرخامية القليلة التي تؤدي إلى البهو الجميل لسوق المشير، المسقوف بقباب تتخللها دوائر من الزجاج الملون، فاذا بك وسط ردهة تشبه ردهة قصر من ملوك الشرق مبلطة بزليج ابيض وأخضر، ومحاطة بافريز من الرخام البني اللامع، بينما تزينت بعض جدران البهو بلوحات صغيرة من الفسيفساء، المأخوذه من المدن الاثرية، والجداريات التي تحمل التكوينات والزخارف التي يشتهر بها الفن الاسلامي المشرقي، وتنعكس الاضواء القادمة من مصابيح وثريات الكهرباء المتدلية من السقف والمبثوثة بكثرة في زوايا البهو على بياض واخضرار الزليج والوان الفسيفساء والرخام وزخارف الجداريات لتمنح المكان جوا حالما ينأى به عن العوالم الفقيرة العتيقة التي يعلوها الغبار وصدأ السنين التي تحيط به. ولتأكيد هذا الجو الاسطوري الباذخ، توسطت المكان نافورة كبيرة تحيط بها حلقة من المزهريات المثبتة في الأرض تطل منها اغصان نباتات مزهرة، تضيف جمالا إلى جمال الاقواس الراقصة من الماء التي تصنعها النافورة ويصدر عنها صوت كانه يصدر عن اندياح الموج في خلجان البحر يكسر حدة صوت المطارق القادم من بعض المشاغل ودكاكين الصاغة والحرفيين التي تبقى مفتوحة خلال الفترة الأولى من الليل، اما تلك الدكاكين المقفلة فقد تركت اغلبها واجهات مضيئة تعرض فنونها وصناعتها التقليدية حتى بدا السوق وكانه معرض مفتوح لهذا النوع من الفنون.  

اتجهت قبل أي مكان آخر، إلى احدى النوافير الصغيرة الاربعة الموجودة في اركان السوق، التي تؤدي بجوار قيمتها الجمالية وظيفة عملية لزوار السوق، ممن يريدون إطفاء عطشهم من الماء العذب، القادم مباشرة من بئر بو مليانة، حيث شربت حتى ارتويت، وشعرت كان وجودك في هذا المحيط الجميل وإطفاء ظمئك من هذا الماءالصافي، قد ازالا الكدر الذي كان يملأ صدرك منذ قليل. ها هو مكان في مدينة طرابلس يمنحك احساسا بفخر الانتماء إليه، ويشيع في نفسك الزهو بشخصية بلادك الليبية العربية الاسلامية المشرقية، كما هي مجسدة في الفنون التي تراها أمامك. انه سؤال الوطن مرة أخرى ومن زاوية مختلفة هذا الذي جئت تبحث عن وجهه المختفي خلف سحب الاحتلال وتتلمس رؤيته، غائما سديميا، لدى الناس الذين تعرفهم، والاماكن التي تألفها، بما في ذلك حي البغاء، وامرأة من نسائه هي نورية. ها هو وجه الوطن هنا يشرق متألقا، ويتخذ شكلا أكثر وضوحا وجمالا، ويتجسد أمامك عبقا ولونا وصوتا ولعل حرقة الفراق القادم وفجيعته، هي التي ساقتك دون ان تدري إلى هذا المكان، لتملأ رئتيك من عبير الاسلاف الذين ابتدعوا هذه الوسائل والادوات، وهذه الطرائق والاساليب لمعيشتهم. اناس تشعر من خلال اختراعهم لفنون الزخارف والارابيسك انهم كانوا يملكون فائضا من الوقت يكرسونه لمثل هذه الفنون التي لا تجلب نفعا عاجلا ولا تلبي احتياجا معيشيا ولا تسد ضرورة من ضرورات حياتهم اليومية، وتحتاج بجوار الوقت والموهبة والحس الجمالي للصبر وسعة البال والمزاج الرائق وكان هناك بالتأكيد، من الغلال التي تطرحها الأرض بما يفيض عن حاجة الجميع، فينصرفون للاهتمام باشياء غير تحصيل الرزق وتدبير الحاجات المعيشية قبل ان تأتي أوقات أخرى، يتكاثر فيها البشر ويزحمون وجها لأرض، ويمنحون الأولوية لما تفرضه دواعي المعيشة والصراع من أجل البقاء، على حساب الحس الجمالي وتلبية احتياجاته. 

اطلت الوقوف أمام الحوانيت والجداريات تتأمل أوجه الجمال فيها، وتستمتع بعبق هذه المأثورات الشعبية، متوقعا منها ان تشحذ نفسك بما تحتاجه من عزيمة، تواجه بها الحدث الجلل الذي يتهدد حياتك، وقد استقر قرارك على الدخول إلى هذا الملهى، الذي اعتبرته دائما اعلى من مستواك. الا انك عندما سألت على بطاقة الدخول وجدتها لا تزيد عن خمس فرنكات فدفعتها ودخلت. لم يكن حانة ولم يكن مسرحا، لم يكن مطعما ولم يكن مقهي كما يحمل اسمه المراوغ الملتبس، بل كان خليطا منها جميعا مع قيمة مضافة، لأنك لم ترها في أي من تلك الاماكن ولا تستطيع تحديدها تحديدا دقيقا، لأنها تشمل جو المكان وشكله ومحتواه. لم يكن جيد الاضاءة، ولم يكن معتما، وانما توزيع عادل للاضاءة والعتمة، بحيث تربع الضوء في منتصف الصالة وتراجعت العتمة للزوايا والاركان الكثيرة ذات المستويات المتعددة ارتفاعا وهبوطا، لأن هناك من زبائن المحل من ينشد هذه العتمة، كي تعطيه شيئا من الخصوصية اثناء جلوسه في صحبة احدى مضيفات الملهي. لم يكن واسعا ولا ضيقا، لأن اتساعه حاصرته الزوايا والفواصل والحواجز، التي تمنح احساسا خادعا لكل واحد من هؤلاء الزبائن المصاحبين لفنانات المحل انه قد استفرد وانعزل بالمرأة التي يريدها رغم الجو الحافل بالضجيج والعامر بالساهرين، وفي ذات الوقت تعطي هذه الزوايا امتدادات للمكان واحساسا بالاتساع. وهو لم يكن مزدحما ولا فارغا، فرغم ان الموائد مشغولة إلا أن ذلك لا يحول دون ظهور طاولة شاغرة حال دخول زبائن جدد.  

كانت جدران الملهى مغلفة بالخشب الارابيسك بزخارفه التقليدية الكثيرة، تأكيدا للطابع الشرقي للمحل وكانت اغلب الكراسي في شكل دكك خشبية، ترتفع اشبارا عن الأرض، تغطيها الطنافس والحشايا. وكانت الطاولات هي الأخرى توازيها ارتفاعا فبدت قريبة من شكل الطبليات االتي تستخدمها الأوساط الشعبية للطعام. وتحت دائرة الضوء في المكان المخصص للعروض الفنية ظهر العازفون السبعة الذين يشكلون التخت الشرقي ويرتدون الزي العربي الليبي، القميص والفرملة والسروال المزخرف والطاقية الحمراء التي يتدلى منها البسكل الجميل بخيوطه السوداء. وامرأة، على جانب من البدانة، تقف أمام التخت، تغني وقد ارتدت فستانا يسفر عن كتفيها وجزء من صدرها والعرق يسيل منحدرا من نهديها، فتمسحه بمنديل تحتفظ به طوال الوقت في يدها، رغم المراوح الكبيرة التي تئز في سقف الملهى، ومروحة السعف الصغيرة الملونة التي تنش بها على وجهها
فتنا النخل والديس وتعدينا لحقنا الندم ياريتنا ولينا
كانت تغني واعضاء التخت يرددون معها مطلع الاغنية وكان العرق الذي فشلت مراوح الحديد ومروحة السعف في ازالته، يؤدي وظيفة جمالية، لأنه يعطي صدرها لمعانا ودسامة ويجعله أكثر فتنة واغراء.عرفت عندما سألت احد الجرسونات انها مطربة الاعراس الذائعة الصيت مسعودة الراحلي، اشهر المطربات الليبيات القادمات من حارة اليهود:
صب العسل يا بير بو مليانة طفلة صغيرة قاعدة بحدانا

اغنيات من البيئة المحلية مغموسة في شجن الأيام الخوالي، اخذت مقعدا محاديا للبار، وليس بعيدا عن التخت وجلست ترتشف كأسا من الكازوزة الباردة و تستمع للغناء، و ترقب هذا الخليط من الاجناس إيطاليين وليبيين ويهود ومالطيين، وعدد قليل من السيّاح الذين يضعون على رؤسهم الطواقي المزركشة والطرابيش الحمراء التي يبيعها كشك أمام الملهى، يصنعون ضجيجا دوليا لتعدد الالسنة التي يتكلمون بها، ويرددون أحياناً مقاطع الغناء مع المطربة، بشكل ممسوخ، لأنهم لا يفهمون من كلماتها شيئا، ومع ذلك فهم مستمتعون بما يسمعون، ويخلقون جوا فرائحيا احتفاليا يؤكد معنى اللهو واللعب الذي من أجله كان هذا الملهى.  

اكتشفت وجود عازف من بين اعضاء التخت تعرفه، وتعاملت معه اثناء خدمتك في دكان الحاج المهدي، حيث كان يبيع الخيوط الملونة التي تصلح لتطريز الاحذية، في حانوت تاجر إيطالي، فافرحك هذا الاكتشاف، لأنه جعلك تشعر بانك أكثر الفة مع هذا المكان، واعتصرت ذاكرتك تبحث عن اسمه حتى وجدته: نعمان نعم، نعم، فانت الآن، بوجود صديقك الذي يعزف العود لم تعد غريبا في هذا المجتمع الغريب داخل الملهىالذي لا يشبه من قريب أو بعيد صورة المجتمع الكبير في مدينة طرابلس، فهي مدينة لا تبيح مثل هذا الاندماج بين الناس الذي تراه متحققا في المقهى الشرقي. طرابلس مدينة مقسومة نصفين، وكل نصف مقسوم هو الاخر نصفين، ولعل الأنصاف الاخري مقسومة هي الأخرى في متتالية من الانصاف تبدأ ولا تنتهي، نصف المجتمع الذي لا اجتماع فيه، نساء محبوسات بين جدران البيوت، ورجال محرومين من الحياة الطبيعية، محبوسين هم أيضاً داخل جدران الكبت والحرمان، وهناك قبل هذا التقسيم، نصف متهالك قديم، فقير، يختفي داخل الازقة والزواريب الضيقة الموحلة، هو النصف الليبي الذي يعيش في المدينة القديمة، مع ضيوفه من بعض الجاليات الاجنبية العتيقة، من يهود ومالطيين ويونانيين وارمن وشركس يفصل بينهم أكثر من فاصل. ونصف آخر حديث يملك الواجهات المضيئة، والشوارع الكبيرة الواسعة، والملابس العصرية، هو النصف الإيطالي ويضم هو الاخر اقليات اجنبية تلونت بالوانه وانتمت إلى سياساته، واختارت ان تكون جزءا من مؤسساته وادارته. وداخل القسم الليبي يلتقي الناس عند خط الفقر بينهم من هو اقل فقرا، وبينهم من هو أكثر فقر او يلتقي عند خط اليسر والثراء الإيطاليون بينهم من هو فوق هذا الخط، جالسا فوق جبال السلطة والثروة والجاه والنفوذ، وبينهم من يقعى في دور الخادم تحت اقدام اسياده وينعم معهم بالعيش الرغد والحياة الهانئة. وبين كل هذه الفئات، هناك انواع من الحواجز النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وأحياناً الدينية، التي تتولد عنها الكراهية والتعصب والحقد الاجتماعي أو الحقد التاريخي كما يسمي بعض الليبيين موقفهم من المحتلين الطليان، الا هنا في هذا المكان الذي يمثل جزيرة معزولة عن محيطها مشغولة بضجيجها الخاص الذي يفصلها عن ضجيج العالم الخارجي وقوانينه وتقسيماته، حيث اندمجت كل الطبقات والطوائف والاجناس والاديان في عجينة واحدة لا تنتمي الا لاجواء الحظ والطرب والمزاج .  

حان وقت استراحة التخت فرأيت ان ترسل تحية لنعمان، ملوحا له بيدك، وما أن رآك حتى انتقل من مكانه وجاء مسرعا للترحيب بك، وكأسه ما زال في يده، يسألك بلهفةعن احوالك لأنه لا يعرف عنك شيئا، سوى ان الجنود الإيطاليين اخذوك عنوة من دكان النعال، والحقوك بالتجنيد، وانه هو نفسه لم يسلم من المداهمة، إلا أن عمله الليلي بالمقهى الشرقي انقذه من هذا المصير، اذ حصل له الملهى على تأجيل يتجدد كل بضعة اشهر، ولم تر موجبا لاخباره بتفاصيل ما حدث لك، بعد تلك المداهمة، واكتفيت بان قلت له انك تلقيت تدريبا على قيادة السيارات، وانت الآن مكلف بالعمل سائقا لاحدى السيارات العسكرية، وهو ما اتاح لك حرية الخروج والدخول إلى المعسكر دون التزام بالمواعيد. وأخبرته بانه لوعرفت بامر الاعفاء الذين يعطونه للموسيقيين لسعيت منذ زمن، لاتقان مهنة العزف ولو على الرق أو الطبلة. ولكن للاسف، فات الأوان ووقع الفاس في الرأس. اشار للنادل ان يحضر لك كاس نبيذ من نفس النوع الذي يشربه، فاعتذرت لأنك لا تشرب الخمر، إلا أن النادل كان قد اسرع باحضار الطلب، قبل ان يتمكن من سماع اعتذارك، اردت ان تتأسف فمنعك عازف العود من ذلك. 

- لا تتأسف لمجيء هذا الخير، ساشربه انا مادامت تريد ان تحرم نفسك منه، وساشرب كاسا ثالثا ورابعا فالنشوة شيء عزيز المنال، لا يتحقق الا بالاصرار والمثابرة. ثم اردف بعد ان فرغ من تجرع أول كأس:
- هذه امور ستعرفها قريبا باذن الله لأن الدخول إلى هذا المكان ليس الا محطة أولى على طريق طويل حافل بالمحطات.
- وماهي المحطة الثانية؟
- في حالتك انت ستكون الاستسلام لغواية الكاس . وهي محطة اتوقع ان تصلها قريبا ان شاء الله .
- ثم ماذا؟
- هناك مراتب كثيرة في السمو والعلا لا يبلغ مراتبها العليا الا من صفت روحه وصار ذهنه شفافا مثل هذا الكأس.
- وفي أي مرتبة انت؟
- مازلت في مرتبة قريبة من الأرض، احب ان اسميها مرتبة الموسيقى، اما المراتب العليا فخذ هذا المثال.
واشار بيده إلى ركن من اركان الملهى، فادرت رأسك إلى حيث اشار، ورأيت مقصورة لطاولة يجلس عليها رجل عربي يرتدي الطربوش، صحبة امرأة شقراء، أمامها اكواب الشراب واطباق المزة التي ترافق شرب الكحول تضيء وجه الرجل شمعة انتصبت فوق الطاولة وانعكس نورها على ملامحه، فبدا مرهفا، رقيق الملامح على مشارف الستين من عمره، واختفت ملامح المرأة خلف كراديس شعرها الكستنائي الغزير، التي تهدلت فوق كتفيها واحاطت بنصف جسمها الاعلى وتناثرت اجزاء من هذا الشعر أمام وجهها حتى لا يكاد يبين. واصل نعمان حديثه:
- انه ينتمي لاحدى اغنى عائلات طرابلس. ورث املاكا كثيرة وتفرغ للكأس والنساء منذ ان كان صبيا، وترك كل شيء آخر في الحياة، لا عمل في النهار، لأنه يسهر طوال الليل، وينام فلا يصحو الا مع وقت السهرة، لا زوجة، ولا ولد، ولا مشاكل ولا هموم، لأنه اذا احتاج لمزيد من المال، باع قطعة أرض من املاكه وواصل حياة الترف التي يعيشها. تراه هنا كل ليلة، أول من يأتي وآخر من غادر المكان. حق لرجل مثله ان يترحم كل دقيقة على اسلافه الموتى. وحق لنا ان نحيي عمق وقوة ادراكه للعبة الوجود، لأن هناك من ورث مالا اشقاه واتعبه. انظر إلى تلك الشمعة التي أمامه ستجد ملاصقا لها كومة من الليرات الذهبية يوازي ارتفاعها ارتفاع الشمعة، اتدري لماذا؟
- افدني ارجوك.
- لأن الوقت صحبة هذه المرأة يقاس باستهلاك الشمعة وثمن الجلسة التي تدوم إلى حين احتراق الشمعة، هو كومة ليرات الذهب التي توازيها ارتفاعا، وينقص الثمن أو يزيد حسب المقدار الذي يستهلك من هذه الشموع .كان الثمن بكل المقاييس باهظا باهظا خاصة اذا احتاج الرجل إلى استهلاك شمعة ثانية في نفس الليلة وأحياناً ثالثة يضيء بها بيته عقب انتها ء جلسة الملهي وانتقاله مع المرأة إلى البيت، كما أخبرك نعمان. وهو يعتبر ان هذا الرجل الذي تحولت حياته إلى صلاة خالصة لرب المتعة اللهو والعبث، قد بلغ شأوا عاليا في هذه المدارج التي يتمنى هو نفسه الوصول إليها ذات يوم. وكان السؤال الذي لا سؤال يخطر على البال غيره هو:
- من هي هذه المرأة، التي يستحق الجلوس معها، كل هذا المال؟
- هذه هي استير نجمة طرابلس في عالم الحب والجمال و"عروس العروس " كما يسميها محرر النشرة الإعلانية لمعرض طرابلس التجاري، فطرابلس كما يقول، هي عروس البحر الابيض المتوسط، واستير هي عروس طرابلس. لم تشرق في سماء المدينة الا منذ عام مضى عندما نجحت في ان تكون احدى فتيات الاعلا ن في المعرض التجاري وكان أول من تلقفها مولانا امير البلاد نفسه. سألته هامسا:
- هل تعني المارشال بالبو؟
- وهل هناك امير للبلاد غيره؟ انها آخر عشيقاته، أطلق عليها الملكة استير، حتى صار هذا الاسم ملتصقا بها اينما ذهبت، بل هي نفسها لا ترد على احد لا يخاطبها بلقب الملكة
- تقصد ان تقول انه وبطريقته التهريجية قال مقاطعا:
- طبعا اقصد ان اقول كل ما في بالك، وما لاتستطيع ان تقوله الا في الخفاء، وما تتمنى ان تقوله ولا تستطيع.
- اذن فله عشيقات كثيرات.
- لعله يريد تقليد امراء العرب القدامى الذين يحتفظون بعدد من الجواري يوازي أيام العام، لأن له في كل مكان يتردد عليه واحدة مثل جزيرة فروة، ومرزق، وغدامس، ويفرن وغريان، وبنغازي، ودرنه، اما طرابلس وباعتبارها عاصمة ملكه، فله أكثر من عشيقة من مختلف الاجناس لكي يكون عادلا في معاملة رعاياه. فهناك حورية الليبية، واستير اليهودية، وثالثة مالطية، ورابعة يونانية أو ارمنية لست ادري. 

وعدت لمراقبة الرجل الذي يشتري الدقائق بالفرنكات الذهبية ويقيسها بذوب الشمعة المحترقة والمرأة ذات الشعر الكستنائي الكثيف علك ترى مبلغ جمالها، فلم تفز برؤية شيء من ملامحها الملكية
- هل انت واثق انها عشيقة الحاكم نفسه؟
- وهل تظن ان صاحبنا الليبي هذا يدفع كل هذا المال لولا احساسه بانه ينافس اكبر شخص في البلاد، ويضع رأسه برأسه مرشال الجو نفسه؟ بل ان عمله هذا لا يخلو من دافع وطني لأنه استطاع بما له من اموال ان يشارك الحاكم الإيطالي في حريمه. 

- رجل من ظهر رجل، ولكن كيف يمكن لعظيم ان يترك عشيقته ترافق رجالا آخرين؟
- من هذه الناحية اطمئن فالمارشال أكثر تسامحا من امراء الدولة العربية، ولا يلقى بالا لمثل هذا السلوك من عشيقاته اطلاقا، فهو لا يضيره ان تذهب هذه العشيقة التي لا يراها الا مرات قليلة في العام، للقاء رجل له من الثراء ما يكفيه عناء الصرف عليها. في حلقك اسئلة كثيرة، كنت ستستأنس برأي صاحبك حولها إلا أن نداء الواجب اخذه منك، فقد حانت حصة جديدة للطرب لابد ان يسهم في تنشيطها بعزفه على العود، ومطرب صغير السن اسمه محمد سليم جاء يقدم اغنية مرحة استجاب لها الجمهور بالتصفيق والضجيج:
هلت ليالي ليالي الفرح آه اللي احنا فيها
ولكي يكون الفرح الذي يتغنى به المطرب فرحا حقيقيا بالكلام والفعل أيضاً، فقد خرجت راقصة لها شكل فراشة ترتدي رداء ملونا من قماش شفاف، يكشف من مناطق الفتنة في الجسم أكثر مما يستر، و يصنع لها اجنحة ترفرف بها وتطير بين الطاولات تجامل الزبائن وتتلقى منهم النقوط في شكل أوراق مالية يرشقونها في صدرها. خرجت من المقهى الشرقي دائخا مما رأيت. وقبل ان تخرج القيت نظرة على الملكة استير، فلم تفز بغير صورة جانبية منحتك انطباعا بانها تعتمد في اظهار جمالها على التبرح والتزويق والمبالغة في المكياج
بعكس حورية التي تشع بجمال طبيعي آسر. اذن فحورية ليست الا واحدة من هؤلاء العشيقات الكثيرات اللاتي يحتفظ بهن السيد بالبو جاهزات كالاطعمة المعلبة لتلبية شهواته وصبواته، ويعاملهن باعتبارهن نساء وضيعات يسمح لهن بمعاشرة رجال آخرين، شرط ان يكون الدفع بالليرات الذهبية. لم يكن ممكنا ان تتصور حورية في هذا الدور المهين فلقد اعتبرتها دائما شيئا خاصا، مصونا، وكريما، اختار الرجل صحبتها دون كل نساء الدنيا، لأن بها شيئا يميزها عنهن جميعا.  

ولكن الأمر يختلف الآن، انها بالتأكيد تعرف بامر هؤلاء العشيقات لأن موضوعا كهذا، يهمها أكثر من أي إنسان آخر في الدنيا. ولأن بالبو نفسه، يتباهى بعلاقته النسائية ولا يحاول اخفاءها، وما كان ليطلق لقب الملكة استير على عشيقته اليهودية اذا لم يكن من باب المباهاة والتشبه بامير كان يحتل قلعة طرابلس قبله وله محظية بذات الاسم اسموها الملكة استير لنفوذها وسيطرتها على مقدرات الحكم. احسست كأن تلك الهالة من الاحترام والمهابة التي رأيت فيها حورية، قد صارت تتلاشى وتتبخر، فهي اذن ليست الا امرأة تستسلم في خنوع لحياتها الذليلة، وتضع على وجهها قناع السعادة كنوع من خداع الذات، رغم انها بائسة مسكينة، يكفي انك شخصيا لم تر هذا الرجل يزورها الا مرة يتيمة قبل شهر من التحاقك بالعمل معها، مما يؤكد صحة الكلام الذي قاله نعمان عن عشيقاته الكثيرات اللاتي لا يستطيع ان يلتقي بالواحدة منهن الا مرات قليلة كل عام، ولكن ماذا عن حقيقة انه يترك لعشيقاته حرية ان يصاحبن رجالا آخرين، هل هذا ينطبق على كل عشيقاته بمن فيهن حورية، ام انه امر خاص بالملكة استير فقط التي رآى، عندما ارهقته بطلب المال، ان يضع في طريقها رجلا غنيا وغبيا، يصرف عليها امواله بهذا السفه. انها رخصة لا يمكن الا لرجل مستهتر بكل شيء متحلل من كل القيم، مثل بالبو ان يعطيها لنسائه، فهل استفادت حورية من هذه الرخصة؟
انك لم تر شيئا كهذا خلال مدة وجودك سائقا معها، ولكن هذا لا يصلح دليلا لاي شيء، فانت تعرف اشياء وتغيب عنك اشياء. كان شيئا مثيرا وغريبا، ان تظهر أمامك حورية ذلك الصباح مرتدية فوطة الحمام، يتقاطر الماء من شعر رأسها، ويشع عري كتفيها وذراعيها وساقيها بكل معاني الفتنة والغواية، فهل كان لذلك المشهد صلة بالرخصة التي يمنحها بالبو لنسائه؟ ام انه امر عفوي حدث دون قصد أو تعمد، واذا كانت استير اليهودية قد استخدمت رخصتها في جلب اكبر كمية من الذهب فما الذي تستفيده حورية من رجل مثلك؟ أو ماذا يمكن ان تقول لبالبو اذا عرف انها تستخدم رخصته مع مجند جاء يعمل سائقا مؤقتا لها؟  

(7)

كنت مندهشا وانت تضبط نفسك مشغولا بهذا الموضوع، وانت الذي تهدد حياتك ومستقبلك محنة السفر إلى حرب الحبشة بعد لمحة عين تملأ قلبك مشاعر الحنق والضيق من أجل علاقات وسلوكيات لا تسبب حرجا ولا كدرا لاصحابها انفسهم الذين ينتظمون جميعا كالليرات الذهبية في عقد واحد يشع ويتألق بمعاني الحب والمال والجمال والسلطة بدءا من بالبو إلى عشيقاته وعشاق عشيقاته. فما الذي يهمك في موضوع لا يتصل بك من بعيد أو قريب، ولا يؤثر باي شكل من الاشكال على مجريات حياتك المرشحة لأن تنتهي علاقتها قريبا بهذه المدينة. وقد تلتقي بنهاية مشوارها في الادغال الافريقية. ربما يكون الهدف من هذا الانشغال المرضي بهموم موهومة لبشر آخرين، هو الهروب من هموم حقيقية أكثر قربا والحاحا، واشد ثقلا على العقل والقلب تتصل بالمصير الذي ينتظرك. انها هموم تحاول ان تهرب منها، وتظن انك نجحت في ذلك، الا ان الأمر مرهون بشيء واحد، هو عودتك الى العنبر، لأنك ما أن تضع رأسك على الوسادة حتى تأتي هذه الهموم وتنشب مخالبها كالطيور الجارحة في جوفك، وتملأ ليلك سهدا وقلقا.  

نمت نوما متقطعا، وبمجرد ان طلع الصباح، انطلقت مسرعا إلى بيت حورية، آملا ان تسمع جديدا في موضوع اعفائك من الذهاب إلى الحرب حتى لو كان هذا الجديد هو وصول استقالة عياد الفزاني، التي ستضع بين يدي حورية سببا قويا للمطالبة بابقائك في خدمتها، اما الحزب الفاشي فقد جاء ذهابك إليه متأخرا بحيث لم يعد يجدي كثيرا ان تأتي الموافقة أو لا تأتي. فالسفن التي ستقل الجنود إلى الحبشة راسية الآن في الميناء لتأخذ عبوتها بعد غد، ولم يبق من الوقت ما يتيح لك الاستمتاع بالمزايا، او حتى ارتداء القميص الأسود، والذهاب متنقلا بين المكاتب والمسئولين في اروقة الحزب، بحثا عمن يتوسط لك بالبقاء في طرابلس. 

ما أن وصلت إلى جاراج العمارة، ودخلت حيث تركت السيارة حتى فوجئت بمكانها خاليا، صرخت في فزع تنادي العساس الذي كان يشرب شاي الصباح داخل غرفته، وتسأله وانت تركض نحوه، عما حدث للسيارة، فم يظهر عليه أي قلق وبمنتهى الهدوء مد لك يده بكوب الشاي، قائلا لك بالا تنزعج لأن السيارة في الحفظ والصون. وان كل ما حدث هو ان سائقها الاصلي عياد الفزاني جاء مبكرا ليتسلم مفاتيحها، ووجد انها بحاجة إلى تغيير الزيوت وتعبئة الوقود فأخذها للورشة الحكومية للقيام بذلك. 

وقفت ذاهلا تتساءل عما جاء بهذا الرجل في مثل هذا التوقيت ليفسد كل شيء. اين ترى موقع الخطأ في الخطة التي رسمتها بهدف ازاحته من طريقك؟ هل هي غلطة عبدالمولى الشحاذ وسوء نقله للرسالة؟ ام هو خطأ الرجل الذي حمل إليه الرسالة؟ ام ان عياد الفزاني تلقى الرسالة، ولم يفزعه حديث الحرب، ورأى فيها ما يراه مختار العساس من فرصة للثراء السريع، فجاء متحمسا للانضمام إلى صفوف المحاربين؟ ويكون السحر قد انقلب على الساحر. وما ظننته سببا لابعاده، يصبح هو السبب للتعجيل بحضوره، عموما فان كل هذه التخمينات والتكهنات لا تفيد الآن شيئا، ولن تجعل الرجل ينتني عائدا إلى براري مرزق. لقد وقع المحظور، وعاد السائق الاصلي لاستلام عمله والجلوس أمام مقود سيارته، وانتهى الدور المؤقت الصغير الذي بنيت عليه امالا كبارا. انتهى كما تنتهي دقيقة الحلم التي تأخذ صاحبها إلى عوالم الوهم والخيال، قبل ان تعيده لحظة اليقظة إلى عالم الواقع وأرضه الخالية من الأوهام. كنت ماتزال واقفا وسط الجاراج، متحسرا، متأسفا لما آلت إليه تدابيرك، لا تدري ما ذا ستكون الخطوة القادمةعندما جاء عياد الفزاني يقود السيارة مسرعا، ويدخل بها سقيفة الجاراج مندفعا كالقذيفة، حتى كاد يأخذك في طريقه تحت عجلاتها لولا ان قفزت متفاديا السقوط تحتها. 

بدا مسلكه غريبا وهو يقود السيارة بهذا التهور الذي لا يتفق مع طبيعته الهادئة، ولا سنوات عمره التي تطاول الخمسين، وبعد ان أوقفها وفتح الباب بسرعة، هابطا على طريقة جنود المهمات السريعة ايقنت ان الرجل يهدف إلى استعراض مهاراته ليثبت لك انه أكثر منك جدارة بهذا العمل، وهو امر لا يستحق اثباتا لأنك تعرف افضل من غيرك انه الافضل، ولذلك تقدمت منه مرحبا، تهنئة بسلامة العودة إلى عمله. فاذا به يهمل ترحيبك وسلامك ويترك يدك ممدودة مبسوطةويرفع صوته في وجهك صائحا باقذع عبارات السباب. ثم لا يكتفي بذلك يل يستغل حالة الذهول والمفاجأة التي اصابتك، فيدفعك في صدرك حتى تسقط أرضا ويرتمي فوقك يكيل لك اللكمات والضربات، وقبل ان تتمكن من الرد عليه، أتى مختار العساس ليرفع الرجل ويبعده عنك. ثم يعينك على الوقوف، وتنقية بذلتك من الأوحال التي علقت بها وانت ما تزال ذاهلا، لا تعرف السبب الذي احال هذا الفزاني الطيب إلى كتلة من العنف والشراسة والغل، وردا على مختار العساس الذي كان يسأل الرجل عن سبب هذا الهجوم، تحدث الفزاني وهو مازال هائجا ثائرا، عن كيف ارسلت إليه رسالة كاذبة تحذره فيها من المجيء إلى طرابلس، وتدفعه للاستقالة من العمل، لأن هناك قرارا عسكريا اصدره الحاكم العام، يقضي بذهاب كل السائقين العاملين مع الحكومة إلى الحبشة للمشاركة في الحرب. وصدق هو هذه الرسالة، وحرر استقالة اعطاها لاحد القادمين إلى طرابلس. 

وتصادف ان جاء المارشال بالبو بالطائرة إلى مرزق في نفس اليوم، واحتشد أهل البلاد لاستقباله وتقديم واجب الضيافة له، وكان هو ممن شاركوا في حمل اطباق التمور واباريق اللبن التي يستقبل بها أهل البلدة ضيوفهم،  ولأن المارشال يعرفه سائقا في بيت حورية فسأله عندما رآه، عما يفعل في مرزق، فأخبره بانها بلدته التي جاء لقضاء اجازته بها، إلا أن الاجازة تحولت لطلب اعفاء من العمل، لأنه لا يستطيع وهو في هذه المرحلة المتقدمة من العمر ان يذهب للحرب في بر الأحباش، وضحك بالبو متسائلا عمن يكون صاحب هذه الدعابة الماكرة، لأنه لا وجود لاي قرار يقضي بسفر السائقين الحكوميين إلى الحرب، عندها فقط ادرك الفزاني انه ضحية خدعة دنيئة للاستيلاء على وظيفته، فعاد مسرعا قبل انتهاء الاجازة، وقبل وصول الاستقالة إلى مكاتب الحكومة، واتخاذ اجراء فيها يصعب نقضه، ليستعيد وظيفته التي كاد يفقدها بسبب الكذب والخديعة. وعاودته حالة الهياج والجنون فاخذ مفتاحا كبيرا يستخدم في فك دواليب السيارة، وجاء مستأنفا الهجوم عليك، إلا أن مختار العساس حال بينه وبين الوصول إليك، يسأله ان يلعن الشيطان ويسألك انت ان تبتعد عن طريقه وتغادر المكان لبضع لحظات حتى تنتهي حالة الغضب التي تنتابه. لم تكن تجد في نفسك ادنى قوة للرد عليه أو ادنى رغبة في دخول معركة معه، ربما لأنك تدرك حقيقة الخدعة التي دبرتها له. وانه صادق في كل ما قاله، عدا شيئا واحدًا، لم يفهمه حق فهمه عندما ظنك تريد الاستيلاء على وظيفته، بينما كان هدفك النجاة من الحرب باية وسيلة، وشيئًا ثانيًا لم تفهمه انت، وهو كيف عرف انك انت من ارسل له الرسالة، الا اذا كان مجرد تكهن لأنك المستفيد من هذه الخدعة، أو لأن عبد المولى لم يحرص كثيرا على اخفاء صاحب الرسالة. بينما تذكر انك حذرته من ان يذكر اسمك مقرونا بهذه الرسالة.

المهم ان عياد الفزاني عرف بما حدث. وانه هنا يباشر العمل الذي كنت تقوم به نيابة عنه، وان جهودك كلها وصلت إلى طريق مسدود، ما كان منها متفقا مع الأصول وما كان مخالفا لها. واضحى الذهاب إلى الحرب مصيرا محتوما لا سبيل إلى رده ولا مجال للهروب منه، فيا شماتة الشاويش عنتر فيك. تركت الموقف المتفجر داخل الجاراج وخرجت إلى الشارع بضجيجه وحركته ونوره وهوائه، والفضاءات المفتوحة التي تجاوره، والسما ء الزرقاء التي تعلوه، باحثا عن سبيل لاخراج ابخرة الضيق التي تملأ صدرك انهم في المعسكر يجمعون المجندين، ويزودونهم بالمعلومات التي تهمهم عن رحلة الحبشة، بدءا بنظام الحياة في السفينة التي سيقضون بها أسبوعين قبل الوصول إلى هناك، وعن الطرق التي سيسلكونها بحرا وبرا فيما بعد، وظروف البيئة والمناخ التي سيعيشون تحتها، مع تعليمهم قدرا بسيطا من المفردات والجمل الدارجة بين الناس باللغة الامهرية، تفيدهم عند وصولهم، ومعنى ان يفوتك كل ذلك، بعد ان صار ذهابك معهم يتأكد لحظة بعد أخرى، هو انك ستبقى متخلفا في معلوماتك عن بقية المجندين، عاجزا عن التعامل مع الحالات المستجدة عند محطة الوصول، بالسرعة والكفاءة التي يحتاجها الموقف، كما تدرب عليها البقية، وهو امره تراه معيبا لمن كان مثلك متقدما على أبناء دفعته.  

كنت لا تزال حائرا لا تدري كيف ستواجه الموقف الجديد الذي نتج عن عودة عياد الفزاني إلى عمله عندما رأيت جورجي العجوز المالطي الذي يقوم بتوزيع البريد قادما نحوك وشنطة الرسائل معلقة في كتفه، وقلم الرصاص الكوبيا فوق اذنه، وأكثر من طرد وجواب بين يديه، ينظر لواجهة العمارة ليتأكد من الرقم، ويسألك ان كنت تعرف عثمان الشيخ. فهو وان كان قد التقى بك في هذا المكان أكثر من مرة، وسلمك رسائل ومجلات تأتي بالبريد إلى حورية، إلا أنه لا يعرف اسمك. ترددت قبل ان تفصح عن هويتك، تحرزا وتحوطا مما يأتي به عالم المجهول، وتذكرت انك اعطيت هذا العنوان لموظف الحزب الفاشي، وخمنت ان الرسالة لن تكون من احد غيره، فمددت يدك تتسلم منه الرسالة، بعد ان قلت له انك انت المعني. ووضعت توقيعك في السجل الذي اخرجه من داخل الشنطة، وقبل ان يمضي سألته ان يعينك على قراءة الخطاب لأن حصيلتك من اللغة الإيطالية لا تسعفك لقراءة كل مافيه ولدهشتك البالغة وجدت ان جزءا من الخطاب كان مكتوبا باللغة العربية، فهم يهنئونك بقبولك عضوا في الحزب الفاشي، فرع الشبي-بة الليبية، ويبلغونك بان اتمام مراسم القبول، تقتضي ان تأتي إلى مقر الحزب في الوقت الذي يناسبك خلال ساعات الدوام لاداء القسم باللغتين الإيطالية والعربية، وكانت صيغته كالاتي:"اقسم بالله وبإيطاليا الام، ان انفذ بتفان واخلاص أوامر الزعيم موسيليني، وان ادافع عن إيطاليا، وعن مبادىء الدولة الفاشية بروحي ودمي، وعاشت إيطاليا وعاش الدوتشي". 

تركك العجوز المالطي بعد ان قرأ لك ديباجة الرسالة وهو يضحك في كمه، لأنه احس بما تعانيه من حرج، للورطة التي وضعت نفسك فيها، خاصة لوجود هذا القسم الغريب الذي لا يأتي على ذكر ليبيا من قريب أو بعيد، رغم ان فر ع الشبيبة الليبية هو الذي يطالبك بترديد هذا القسم. ثم تذكرت ان ورود اسم ليبيا في القسم، لن يكون منسجما مع منطق الاشياء. لأن المصالح بين ليبيا وبين إيطاليا قد تتعارض، كما حدث في زمن المقاومة الشعبية، فإلى أي جانب يقف عضو الحزب الفاشي؟ انه حتما سيقف إلى جانب إيطاليا الفاشية وحزبها وزعيمها ضد اية مقاومة أو جهاد. ها هو الحزب الذي ظننته قطعة خشب تقفز فوقها لتنجيك من الغرق في مستنعقات القتل والحرب، لا يكشف الا عن مزيد من الأوحال والأوساخ مقابل لا شيء، لأن العون الذي رجوت ان يأتيك من وراء عضوية الحزب، في الحصول على اعفاء أو استثناء من الحرب لم يعد هناك ما يكفي من الوق تلتحقيقه، ووسط هذا الاحساس بالهوان اشرقت في ذهنك فكرة، تنجيك من وطأة هذه المعاناة وتنآى بك عن هذه العوالم الفاسدة، القاتمة، الكاتمة على القلب، هي فكرة الهروب إلى الصحراء. انك لن تكون أول ولا آخر اللاجئين إليها. فيها بدأت ومنها انطلقت وإليها تعود. ستذهب إلى اعمق اعماقها، حيث لن يستطيع احد من هؤلاء الإيطاليين واعوانهم ان يهتدي إلى وجودك فيها، بل لن يفكر احد منهم في ملاحقتك، عبر تلك المتاهات الصحراوية لأنهم يعرفون ان الصحراء اكبر منهم، وانها ستنحاز إليك ضدهم، ستحميك باذن الله منهم، وتهلكهم جميعا اذا حاولوا الاقتراب منك وانت في حمايتها. ستجد مع الغزلان والوعول والظباء وبقر الوحش، اغناما كنت ترعاها صغيرا ما تزال في انتظارك، ستكون ونسا لك وستحصل من خلالها على رزق كريم يكفي حاجتك ويغنيك عن كل هذه المغانم المغموسة في مياه السباخ.

لم يبق لك الا هذا الحل بعد ان تكسرت الاجنحة التي حملتك قليلا فوق أرض الواقع. وتقوض البناء الذي ظننته سيحميك من غوائل الدهر، ولم يعد لك أي امل في الحصول على شيء يرضي توقك للتفوق والنجاح، أو يوازي ما قدمته لعالم الإيطاليين من تضحيات. فلماذا الاستمرار في طريق التضحية بلا ثمن؟ ومن أجل ماذا تفعل ذلك؟ طالما أن مصيرك يتساوى مع مصير أي إنسان آخر لم يقدم لهم تنازلات، ولم ير منه الإيطاليون الا الحقد والاحتقار. عد إلى صحرائك حيث لن تسمع في تلك الفضاءات والفراغات التي لا يحدها حد، ذكرا لطليان ولا حبشان ولا حكام ولا مارشالات ولا محظيات ولا عاهرات، ولن يسري عليك أي قانون الا قانون الصحراء التي تمنح قاطنيها حرية القلب والضمير فوق حرية الحركة والانطلاق، حيث الإنسان هناك سيد نفسه، والمالك لارادته، لا روابط تربطه الا بشساعة السماء وزرقة الافق، ومشاهد الشروق والغروب واضواء النجوم ليلا، متصالحا مع نفسه، لأنه لا وجود لشيء يكدر هذا التصالح. منصتا للصوت القادم من داخله، لأنه لا وجود لاصوات ناهرة، زاجرة، تأتي من خارجه، متواصلا مع خالقه لأنه لا وجود لحجب وحواجز تعرقل نقاء وصفاء وجمال هذا التواصل. 

إلا أنك لا تدري ان كنت تملك من الشجاعة وقوة العزيمة، ما يؤهلك لتحقيق هذه الفكرة، مهما كنت واثقا من انها حقا طريقك، الذي لا طريق سواه، إلى الخلاص والانعتاق. احسست بان حالة الاختناق التي عانيت منها وانت داخل المرآب تعاودك أكثر شدة وحدة، كأن احدا جاء فجأة ووضع صخرة عملاقة فوق صدرك. لقد تراكمت احاسيس الكدر والضيق والهوان في نفسك، وحدت من قدرتك على التنفس السليم، جاءت حواء عائدة من مشوارها إلى سوق الحوت، تحمل سلة الفاكهة والخضروات، فرأتك تضع يدك على صدرك وتفك ربطة عنقك وازرار قميصك في عصبية وتشنج كي تتيح لرئتيك حرية استنشاق الهواء فأصابها الفزع وتركت السلة جانبا وركضت إليك تسندك و تصعد بك سلالم العمارة لاسعافك هناك، وقفت قبل الصعود تقول لها ان حالتك لا تدعو للانزعاج، وانك ستذهب إلى المعسكر لترتاح هناك، إلا أنك كنت منهكا غير قادر على السير في أي اتجاهاسندت ظهرك إلى الحائط، تحاول استعادة قدرتك على التنفس طبيعيا، ثم طاوعتها على صعود السلم درجة درجة، حتى وصلتما داخل الشقة، وارتميت فوق احد كراسي الصالون. جاءت حواء بكوب الماء ثم اعقبته بكأس الشاي. انتهت حالة الاختناق، واستعدت بسرعة انفاسك المقطوعة وقواك الهاربة الخائرة، فاردت ان تغادر الشقة، شاكرا لحواء صنيعها، إلا أنها اعترضت طريقك قائلة بان السنيورة تريد ان تراك. انت أيضاً تريد ان تراها، ولن تسافر قبل توديعها. ولكنك تعرف انها لا تزال نائمة، وان موعد استيقاظها لن يحين الا بعد ثلاث ساعات، وقبل ان تبدي اندهاشك لما سمعته من حواء، واصلت هي حديثها قائلة بان السنيورة استيقظت على صوت الجلبة التي احدثها دخولكما، وعندما سألت حواءعن السبب، وعرفت بما حدث، ابدت رغبتها بان تراك وتطمئن على صحتك
- هل هي قادمة الآن؟
- لا انت الذي سيذهب إليها.
- في غرفة نومها؟
وضاحكة قالت حواء:
- وماذا في ذلك، تأكد انك لن ترى منها شيئا عدا وجهها. وتحت الحاح حواء سرت مرتبكا محرجا إلى باب غرفتها. فتحت حواء لك الباب وبقيت هي خارج الغرفة، دخلت فإذا بك تدخل بهو المرايا. غاصت قدماك في الابسطة وانعكست صورتك بزوايا مختلفة في أكثر من مرآة القيت التحية باتجاه السرير الفاخر، العظيم الحجم الذي تتماوج فوقه الوان الاغطية ذات البريق. وعندما لم تسمع ردا، ادرت جسمك نحو الباب عائدا من حيث اتيت، وقبل ان تخرج جاء صوت حورية هامسا، ناعسا، مختلطا بالتثاؤب، تسأل عما حدث لك. وبسرعة اجبتها بان الأمر لا يستحق ادنى اهتمام منها، وهو راجع إلى انك لم تستطع ان تتآلف مع هذا الشيء الذي اسمه ربطة عنق، ورغم انقضاء مدة طويلة على استعمالك له، فان عنقك ما يزال يقوم بحركة تمرد وعصيان ورفض لهذا الرباط، ولا يرتاح حتى تقوم بانتزاعه وهذا ما فعلته، عندما جاءت حواء تطلب منك ان ترتاح قليلا داخل البيت نهضت حورية متكئة على مرفقها وهي لا تزال ممدة فوق السرير، ومدت يدها مشيرة باصبعها إلى هيئتك وهندامك. 

- من يراك على هذه الصورة يقول انك نمت البارحة علىالرصيف، فهندامك يعاني حالة اهمال مرعبة، اقترب قليلا. اقتربت بضع خطوات، فسألتك ان تقترب بوجهك لكي تراه عن قرب، احنيت رأسك نحوها حتى صار قريبا منها. فمدت يدها تتحسس دقنك وصدغيك، في حين سرت في جسمك قشعريرة الموت. لم يكن بطن يدها المخملي وهو يمر على وجهك غير مادة مشعة مهلكة تزلزل كيانك كله، فاستعنت بأقصى ما لديك من قوة الارادة لكي تبقى ثابتا في موضع الانحناء، كان يجب ان تسقط أو تتعرض لاي عارض نفسي يعطل حواسك عن العمل، ولكنك بجلد وقوة منعت نفسك من الانهيار
- لا تقل انك حلقت وجهك هذا الصباح. 

وكأنما احست حورية بالازمة الحسية والنفسية التي صنعتها لك، فارادت ان تمهلك قليلا، ترفع يدها عنك، وتعفيك من الحديث، حتى تستعيد قدرتك على النطق، وذلك بان رفعت صوتها تنادي حواء التي لم تكن بعيدة عن الباب، فدخلت بسرعة واقتربت منها تتلقى أوامرها:
- اذهبي حالا واعدي الحمام لعثمان، ضعي له ما يحتاجه من ادوات الحلاقة والكولونيا الرجالية لكي يستعيد نشاطه وحيويته. استطعت اثناء ذلك وببط ء شديد ان ترفع هامتك وتعود للوقوف مستقيما كما كنت، وبدافع الخجل حاولت الاعتذار عن استخدام حمامها، وحمام المارشال وادوات حلاقته واستحمامه
- تعلم انني دائما اثني على نشاطك والتزامك أمامه، فلا اريده ان يأخذ عنك فكرة خاطئة، اذا جاء اليوم ورآك بهذا الشكل المرعب. لم تكن تعلم حقا ان هناك ملاكا يرعاك ويهتم بامرك إلى هذا الحد، ويذكر اسمك في حضرة ملك من ملوك الأرض مثل السيد بالبو. ومهما كانت النتائج التي انعكست عليك من خلال هذا الثناء قليلة، فان ذلك كرم منها وجميل لن تنساه. عادت حواء لتقودك إلى حمام غير الحمام الملاصق لغرفة نوم حورية، وتريك المناشف والارواب والعطور وادوات الحلاقة، وقد امتلأ الحوض ماء ساخنا يتصاعد منه البخار وتتكدس فوقه الرغوة تصنع جبلا من البياض، وفاحت منه رائحة اشبه بشذى الياسمين. اقفلت حواء عليك باب الحمام، ثم عادت بعد دقيقة واحدة تسألك من خلف الباب، ان تعطيها بذلتك الرسمية كي تقوم بازالة البقع، منها وكيها، كما طلبت غياراتك الداخلية كي تغسلها مع بقية الغسيل الذي بين يديها، و تطمئنك عندما رأتك مترددا، قائلةانها هيأت لك غيارات جديدة. 

كنت مسوقًا كالسائر في نومه، مستجيبا لغواية اللحظة الباذخة، وتعليمات الخادمة المطيعة لأوامر سيدتها، غير قادر على التفكير أو التدبر فيما سيحدث لو جاء المارشال ووجدك عاريا في حمام بيته، تستخدم عطوره واروابه وامواس حلاقته، وبسرعة خلعت كل ما فوق جسمك من ملابس ورميت بها من فرجة الباب إلى حواء، وقفزت عاريا في الحوض، مانحا نفسك لمتعة هذه المياه الساخنة المعطرة برحيق الياسمين، لم تنس طبعا انك في وضع غريب يدعو إلى القلق وقد يجر عليك توابع وتبعات شديدة الخطر، مما ينقص من متعة هذا الترف، ويجعلك ترهف اذنيك محاولا ان تلتقط كل حركة خارج الحمام لكي لا تداهمك الاحداث وانت غافل عنها. انتهيت بسرعة من حلاقة وجهك واخذ حمامك وانتظرت ان تأتي حواء بالبذلة والغيارات الجديدة وعندما تأخرت شغلت نفسك بوضع الكولونيا على وجهك، وتمشيط شعرك ووضع الدهون عليه.

طرقت الباب حتى جاءت حواء وسألتها ان تسرع باحضار ملابسك لأنك جاهز للخروح، فكان ردها الذي لم تتوقعه، هو انه لديك الروب فضعه فوق جسمك واخرج. ما الذي تقوله هذه المرأة المعتوهة التي ابقتك عاريا حتى من ملابسك الداخلية، ثم تريدك ان تخرج مرتديا هذا الروب الابيض الابتر، الذي لا يزيد عن كونه فوطة حمام، و لا يفلح في ستر محاشمك، الا اذا انكمشت بداخله قابضا بكلتا يديك على طرفيه. لعلها لا تعرف ان الروب يضيق عليك، ولكن فكرة ان تخرج بالروب في حد ذاتها فكرة تنقصها اللياقة ومع ذلك فهي تصر على خروجك، لأنك لا تستطيع، حسب قولها، ان تواصل البقاء في الحمام، خاصة وان هناك كأسا من الشاي اعدته لك وهي لا تريد اعادة تسخينه، استجبت لما تطلب منك، وخرجت تشد الروب على جسمك، وقرفصت فوق احد كراسي الصالون محرجا، مبتهلا إلى الله الا يداهم البيت طارق، ويراك على هذا الحال وتكون مشكلة. 

وبدل ان تأتي حواء بكاس الشاي الذي وعدت به، جاءت تقول بان هناك افطارا كاملا في انتظارك ولكن ليس هنا، وانما صحبة سيدة البيت في غرفة نومها. جلست في مكانك رافضا ان تتحرك قائلا لحواء بانه يستحيل ان تذهب إلى السنيورة حورية في غرفتها وانت بهذه الصورة، حتى لو سمحت هي بذلك، فلن تسمح انت انها امرأة بريئة، لا تقرأ العواقب، ولا تعرف ما يملأرؤوس الناس من مكر وخبث، ولو حدث ان جاء طارق حتى لو كان سائقها الفزاني أو عامر العساس ولمح موقفا كهذا لملأ الدنيا شائعات عنها، فما بالك اذا كان هذا الرجل مبعوثا من المارشال، أو ان المارشال نفسه دخل على حين غفلة، الن تكون عندئد كارثة عليها وعليك؟ فما حاجتها لأن تضعك وتضع نفسها في هذا الموقف الخطير؟

صحت غاضبا في وجه حواء ان تحضر لك ملابسك وهددت بان تدخل وتفتش عنها بنفسك لأنك لا تستطيع ان تفهم لماذا تتأخر بها عليك، واذا لم تقم بتنظيف البقع وكي البذلة حتى هذه اللحظة، فلماذا لا تحضرها لك كما هي لتستطيع ان تلبسها وتقابل السيدة؟ وقبل ان تفعل شيئا ازاء تنفيذ تهديدك، جاء صوت حورية من الداخل يسألك أن تحضر إليها حالا. فلم تجد بدا من الامتثال لغواية الصوت وقوة الجاذبية التي يحملها. كانت حورية عندما وصلت الى باب غرفتها تقف وسط الغرفة تحيط بها المرايا، وقد ارتدت روب الحمام مثلك وادركت فور ان رأيتها انها خرجت لتوها من الحمام، تفوح منها رائحة الصابون العطري، ولا يزال شعرها مبللا وقد ازدادت بشرتها توردا بسبب المياه الساخنة، فبدت متألقة متوهجة كعروس ليلة جلوتها، رغم انها لم تكن تضع مكياجا غير المكياج الطبيعي الذي حباها به خالق الكون، وميزها بسحره عن بقية النساء. فاجأتك بضحكة كرنين اجراس العيد:
- هل البرد شديد إلى هذا الحد؟
- أي برد؟
- هذا الذي يجعلك منكمشا، مرتعشا، ممسكا الروب بأصابع متشنجة.

ابتسمت ابتسامة باهتة، ردا على حديثها، دون ان تقوى على قول شيء. أجلت بصرك في الغرفة تبحث عن الافطار الموعود، لكي تتمكن من الجلوس، املا في ان يعفيك هذا الجلوس من حرج الوقوف منكمشا داخل الروب، ولكنك لم تر افطارا داخل الغرفة. لم تر سوى السرير الذي تتماوج فوقه شراشف واغطية براقة لها لون اللهب، وانتبهت إلى ان الباب صار مغلقا عليكما، ولا ثالث معك انت وحورية سوى الشيطان، الذي لابد انه كان شريكا أساسيا في اعداد المشهد بهذا المستوى من الحرفية والاتقان، والذي تؤكد النصوص الدينية وجوده قائلة بانه "ما اجتمع رجل وامرأة الا وكان الشيطان ثالثهما". وها انت وحورية، رجل وامرأة، يرتدي كل منهما فوطة الحمام، داخل غرفة نوم مغلقة، ليأت الآن أكثر ملائكة السماء نزاهة ونقاء، اذا اراد، وسيجد فيما يراه الآن شيئا يثير الشبهة والشكوك، يستحق ان ينقل عنه صورة إلى رب السماء لا تحمل أي معنى من معاني البراءة والفضيلة.

لست بحاجة لأن تخمن بعد الآن، ان كل ماحدث معك منذ ان دخلت هذا البيت، كان بناء على خطة وتدبير، بما في ذلك انتزاع ملابسك وتركك عاريا الا من هذه القطعة، فما الذي تريده حورية منك؟ بل ما حاجتها إلى رجل مثلك؟ انك لست سيدنا يوسف، جمالا ووجاهة، فلماذا تأتي امرأة العزيز وسيدة سيدات الغواية عبر التاريخ لتقول لك هيت لك؟ دارت الاسئلة في رأسك كما تدور أوراق الشجر المرميةعلى الأرض مع هبوب العاصفة حالة من الفزع ممزوجة بشيء من الفضول والاثارة انتابتك عندما لامست بأصابعها أصابعك تطلب منك الاسترخاء فلا تزيدك الملامسة الا تشنجا وتوترا. انك لا تستطيع ان تنزع قبضتك عن الثوب، لأنك لو فعلت لانفرجت فتحة تظهرعري الجزء الأمامي من جسمك. هاهي ترفع بصرها مع قامتك وتعيده حتى اخمص قدميك، تتأمل كل شيء فيك كأنها تراك لأول مرة. حلت بكما لحظة صمت وتأمل، اعطتك هدنة كنت تريدها لكي تعيد بها شيئا من النظام إلى فوضى المشاعر والاحاسيس التي غمرتك، وتهيء خلالها نفسك إلى التكيف مع المشهد المثير الغريب الذي وجدت نفسك مقذوفا فيه على حين فجأة مع المراة التي كثيرا ما كانت هي مادة أحلامك. اما الآن فلعل الحلم يباشر دخوله في صيرورة الانتقال إلى مادة أخرى هي تلك المصنوعة من نسيج الواقع، وترى نفسك تعيش حالة ثالثة، منزلة بين المنزلتين، منزلة الحلم ومنزلة اليقظة، منزلة الحقيقة ومنزلة الخيال دون ان تعرف حتى الآن ماهي الخطوة القادمة.

فانت لا تستطيع ان تجازف باية مبادرة، أو تفعل شيئا أكثر من انتظار ما يحدث لك، مهما كان الفعل المطلوب فانت هنا مفعول به، أكثر من كونك فاعلا. لكن لا يهم، المهم ان يحدث الفعل. هل هو الحب ما يدفعها لان تفعل ذلك؟ ام مجرد تسلية ونزوة عابرة؟ ام هو نوع من التحدي للمارشال، وتريد استخدامك كاداة في هذا التحدي؟ مهما تكن دوافعها، فانك لن تستطيع الا الامتثال لارادتها قائلا لها، بصوت أو بدون صوت، انك مجرد ذرة تسبح في فيض النور القادم من جبينها، ذرة صغيرة ضئيلة تدور في فضاء كونها البديع الجليل ثملى برحيق حبها السماوي. ولو اشارت إليك من أقصى اطراف الأرض لجئتها طائرا حتى تهبط جاثيا تحت قدميها، يحرقك الشوق لأن تحسو قطرة واحدة من رضابها ثم تموت بعدها سعيدا راضيا لأنك تكون عندها قد حققت أجمل أحلامك في الحياة. وذاهلا، عاجزا عن تصديق ما يجري، رأيتها تنضو الروب عن جسمها، لتبقى في تمام عريها تحررت من حاجز الثوب الذي يحجب سحر الجسد المتفجر غنجا وغواية، فتجلى في كامل بهائه، وعنفوانه، ومجده الأنثوي كما خلقته العناية الالهية، وارادته ان يكون هذه الحورية التي لم ترها من قبل بهذه الصورة الا في الخيال، مصقولة، لامعة متوهجة باضواء فتنتها، تشرع أمامك اسلحتها الفتاكة النهدين، والخصر، والبطن، والسرة، والفخدين، والردفين. كل هذه الاسلحة التي كانت اسرارا لا تصل إليها العيون مدفونة تحت اغلى وارقى الملابس، هي الآن مشحوذه، مجلوة متحفزة للانقضاض، والافتراس، فلا شيء في الأرض ولا في السماء يمكن ان يكون اشد منها، هلاكا، وارهابا. ولا كائن في الأرض أو في السماء يمكن ان يعصمك من الأنسحاق تحت جبروت قوتها وطغيانها. 

وقفت تنظر إليها ذاهلا صامتا كأنك تمثال من الشمع بينما مدت هي يدها إلى الروب الذي ترتديه تشده إلى اسفل حتى ارتمي فوق الأرض، ودنت هي منك قطعة من جهنم الحمراء تحتويك وتشبك أصابعها بأصابعك وتلصق صدرها بصدرك وبطنها ببطنك وفخديها بفخديك وتضع وجهها فوق وجهك وشفتيها فوق شفتيك، وشعررأسها يغطي راسك، ويحجب عنك رؤية الاشياء التي حولك، ويفتح أمامك نوافذ على عوالم أخرى كما يفعل السحر، فرأيت في قباب السماء انجما تتوالد من انجم وتصنع كونا جديدا جميلا، واقواس قزح يضرب بعضها بعضها، فتتفجر ثورة من الالوان والتكوينات الجمالية، تصنع فجرا مبهرا للبشرية عامرا بازهى الرؤى، وينتج عن تصادمها موسيقى صاخبة قادرة على ايقاظ روح الفرح والحب في الكون. تنتشي لدى سماعها كائنات الطبيعة من أشجار وجبال وانهار وبحار وكواكب ومخلوقات الله التي تسبح وتجري وتزحف وتطير، وتخرج سعيدة جذلى تشارك في الرقص والعزف والانشاد. 

بينما خرجت انت من حالة الذهول والاندهاش، وصدمة المفاجأة المفرحة المرعبة لتدخل مع حورية في لعبة الممارسة الجنسية بكامل عنفوانها وصبواتها، تحتويها بأكثر قوة مما احتوتك، وتسمع طقطقة عظامها وانت تهصر قدها بكل ما لديك من قوة، وقد اختلطت اهات اللذة باهات الالم الصادرة عنها، وتعجن ملامح وجهك في ملامحها، وفمك في فمها، وتسحق صدرها باضلاعك، وتنفث كل ما في جسمك من لوعة وحرقة وكل ما اختزنته مسام هذا الجسم من كبت وحرمان صهدا ساخنا لافحا يخترق جسمها، ويوقظ ما فيه من حرقة وظمأ وشوق وحنين للقاء الشبع والارتواء والانتقام من أيام المسغبة التي عاشها القلب ناسيا ان هناك في الكون احدا غيركما، وقد وضعت كل كائناته ومظاهره انفسها تحت امركما، واسلمت قيادها لكما تلعبان بالاجرام والافلاك، و تحرقان بها البحار والمحيطات، وتنقلان سكان الغابة إلى اعماق البحر، وقاطني البحر إلى الغابة، وتجعلان الأرض غطاء والسماء بنجومها وشموسها وبدورها فراشا، وتعيدان تشكيل الكون وصياغته بالطريقة التي تشاءان.

نسيت انك كنت تهجس بالطارق الذي يمكن ان ياتي ويفسد متعة هذا اللقاء، لأنه لا امكانية لوجود مثل هذا الطارق، ولا سبيل لأن يخترق هذا الغلاف من الطاقة الحارقة الناتجة عن لقائكما، واذا حدث بمعجزة ما ان اخترق طوق النار الذي تصنعه هذه الطاقة حولكما، فانك الآن قادر على ان تحيله في الحال إلى حجر، حتى لو كان هذا الطارق ذلك الرجل الذي يدعي حيازته واحتكاره لجسد حورية، باعتباره حاكما جبارا مدججا بالسلاح، لأنك انت اليوم أكثر منه قوة، واعظم منه سحرا، وستحيله هو وسلاحه إلى تمثال من رخام. هذه المرأة لك، وانت لها، وقد اكسبك هذا اللقاء كما اكسبها هي أيضاً، هوية جديدة، تجعلكما تنسيان من هي بالنسبة إليك، ومن انت بالنسبة إليها. وليس لك ان تذكر الآن إلا أنها بين يديك جسد يغمرك بشظاياه وبروقه، ويذيقك من حلاوته المسكرة ما تتنشي به الروح وما يغرق الجسد في نشوة لا وجود لها الا في فراديس السماء.  

استيقظت الرغبات الجنسية النائمة في جسمك كما يستيقظ البركان، ولم تعد قادرا على ردع قوة الشهوة التي تجعلك تضاجعها مضاجعة اشبه بالاغتصاب مما استثارها قليلا، وجعلها تبدو وكانها لا تريد ان تذهب باللعبة الجنسية إلى نهايتها، أو لعلها ارادت ان تمنح وقتا أكثر للمعانقة والقبلات والمداعبات واللعب اللذيذ الجميل ولا تريدك ان تصل بها إلى ذروة الانتشاء قبل موعدها، بينما سيطرت عليك رغبة الوصول إلى ذروة الاكتمال بنية ان تبدأ دورة ثانية وثالثة. لكنها لم تفهم، فهي لا علم لها بما تتوافر عليه من قدرات جنسية استثنائية، ولذلك اشتدت درجة مقاومتها لك ووصلت الى ان دفعتك عنها وانتزعت جسمها من جسمك فيما بدا واضحا انها غير راضية عن هياجك وعنفك واستعجالك في افراغ ما لديك من رحيق الشهوة.

ولكن الأمر لم يعد خاضعا لارادتها. وبقوة وسرعة، اعدت الجسم الذي انفصل عنك للالتحام بجسمك رغم المقاومة واستخدمت تقنية سبق ان نجحت معك في معالجة مثل هذه الحالة، اذ وضعتها بينك وبين الجدار وهي تحاول ان تنتزع جسمها مرة اخرة وتضربك ضربا ضعيفا، لكنك استطعت اختراقها فاستسلمت لمقتضيات اللذة، وتوقف الضرب وتلاشت المقاومة واستمرت تتأوه وتتنهد في وهن واعياء تعبيرا عن استمتاعها بلحظة الشبق، وقد تداعى جسمها من وطاة الانتشاء، فاتكات به عليك، وعلقت ذراعيها بعنقك. ولم تكن انت تحتاج الا لهذه الاستثارة، للقيام بالاختراق الثاني الذي شاركت فيه حورية بقدر اكبرمن الاهات والشهقات والتنهدات، وقد استحال جسمها بعد هذه الدورة الثانية إلى جسد من الزبدة الذائبة في لهب الشبق والوصال المتجدد. ولم تعد تستطيع المحافظة على توازنها برغم استنادهاعلى جسمك، فصارت تتداعى في طريقها إلى السقوط. فلم تمنعها بل سقطت فوق الأرض ملتحما بها ملتصق الجسم بجسمها، وبشهية مفتوحة لمزيد من الاختراق، وانفاس تخرج من صدرك لافحة ساخنة، وثبت فوقها هاصرا نهديها، شاربا رضاب شفتيها، تتشمم عبير جسمها، وتحرص على شده إليك وتدليكه بكل جسمك، حتى فرغت من اختراقها للمرة الثالثة.

بقيت بعدها ساكنا لعدة دقائق، مسندا رأسك فوق نهديها، متلذذا بحركة النهدين وهما يخفقان صعودا وهبوطا قبل ان تحملها بين زنديك وتضعها فوق السرير، وتنام بجوارها، مستمتعا هذه المرة بوجودك معها فوق نعومة الافرشة والوسائد وشراشف الحرير واهتزاز السرير، وسماع صوت الموسيقى الراقصة المرحة، قادمة من جهاز المذياع خارج الغرفة، حتى اشتعلت الرغبة فقطفت زهرتها الحمراء المتوهجة في اختراق رابع. رأيت حورية بعد متعة المضاجعة الاخيرة تغمض عينيها في اغفاءة هانئة وهي تتمدد عارية فوق السرير، وطيف ابتسامة ترفرف فوق شفتيها فكرهت ان توقظها، رغم شهيتك المفتوحة لممارسة الجنس معها مرة خامسة وسادسة وسابعة. تركتها تنام، وتسللت خارجا إلى الحمام فاغتسلت على عجل ووجدت الملابس نظيفة مكوية جاهزة فارتديتها وغادرت البيت.  

اندفعت هابطا السلالم مسرع الخطى، وغادرت العمارة لا تلتفت شمالا ولا يمينا سائرا باتجاه الشاطىء. احسست انك بحاجة إلى البقاء مع نفسك في مكان منعزل بعيد، غير اماكنك المألوفة، حيث لا احتمال لأن يقطع عزلتك أي إنسان، وصحبة البحر الذي تشعر معه دائما بالانسجام والتوحد مع زرقته اللانهائية وموجه الذي يركض ليصل الازل بالابد في رحلة لا تنتهي، و لا تتوقف. ذهبت إلى هضبة سيدي الشعاب واخترت موقعا معزولا فوق الهضبة وجلست متكئا فوق صخرة، تحيط بها صخور اكبر حجما تمنحك ظلا وتحجبك عن الناس القادمين للصلاة في الجامع من أكثرمن اتجاه، الا اتجاه البحر الذي جعلته قبلتك. ترنو باستمتاع إلى هذا الفضاء الازرق الممتد بلا حدود الا حد الافق، وترقب حركة الموج ودخول وخروج المراكب إلى الميناء وترى في البعيد، القوس الذي تنحنى عنده السماء وتمد ذراعين تحتضن بهما كوكب الأرض وقد امتزجت زرقتها بزرقة البحر في عناق اشبه بعناق العشاق. 

تحاول ان تستعيد شيئا من التوازن بعد ذلك البركان ولحظته النارية الهمجية الممتعة المرعبة المباركة المهولة التي زلزلت كيانك. مضى الوقت دون ان تشعر بمروره. أمامك البحر ومن حولك الصخور والفراغ، وانت واهن منهك لا ترغب ان تقوم من مكانك. كان ماحدث في غرفة نوم حورية، قد استنفد طاقتك، وافرغك من اية قدرة على الحركة. انك لن تعود إليها، ولن تطأ قدماك عتبات بيتها بعد الآن. فانت ذكر النحل الذي اخصب الملكة وعليه ان يموت. كنت هناك بديلا لسائقها الغائب، وها قد عاد السائق الاصيل إلى عمله، وانتهت المهمة المؤقتة التي انتدبت للقيام بها، واستلمت مكافأة نهاية الخدمة، التي كانت اكبر واعظم مما يمكن ان يتوقعه إنسان مثلك.  

ومستعيدا في ذهنك ما حدث في تلك اللحظة الخارجة عن سياق الزمن، يمكنك ان تقول انه لم يكن مجرد نزوة من نزوات أهل المال والجمال والنفوذ ماحدث. سبقه ترتيب وتدبير وسوابق قادت إليه. إلا أنك لم تكن في موقع يسمح لك بتفسيرها تفسيرا صحيحا الا الآن وانت تقوم باعادة ترتيب الاحداث، لتعرف ان اللحظة التي جاءت من خارج السياق، هي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من السياق كما رسمته سيدة البيت. هذا كل ما تستطيع الوصول إليه. لأن جوانب أخرى لا تزال خفية، قد لا تعرفها ابدا وقد لا يعنيك ان تعرفها، لأنها تتصل بعلاقتها بالرجل الكبير نفسه، اما بالنسبة إليك، فانه يمكنك اعتبار ما حدث نوعا من انواع الوداع العنيف المثير منحك احدى ابهج لحظات العمر وهيأك للذهاب إلى الحرب، بشي ء من الرضا، بعد ان قطفتهذه الثمرة النادرة من شجرة اللذة التي لا تنمو الا في حقول الفردوس. وعليك ان تكون كثير الشكر والامتنان لملائكة الفرح والسعادة التي خصتك بهذا الوابل من الغيث السماوي يطفيء عطشك، ويروى أرضك المجذبة المقفرة، وينهي جفاف أيامك ويباسها. من يجرؤ على القول ان ماحدث هو عمل من اعمال الغواية التي تعزى لتأثير ابالسة توسوس في صدور الناس. لست انت من يوافق على ان هذه التجربة الجليلة الجميلة التي تشبه الجلوس على مائدة من موائد الجنة يمكن ان تنسب إلى أي شيء آخر غير النعم الالهية العلوية، السماوية.  

انت لا تقول هذا الكلام لمجرد الاحساس بانك وصلت إلى مصالحة بين ضميرك الديني وبين حاجات الجسد وشهواته الترابية، واعتبارك ان النشاط الجنسي لجسم كشيء ينفصل عن حاجات الروح، باعتباره يكتسب تبريره من هذه الخامات والمعادن والاملاح التي صنع منها الجسد. لا تقوله، اطلاقا، لهذا السبب، لأنك لا تجد في التجربة التي عشتها في غرفة نوم حورية أي انفصال بين الروح والجسد. فكلاهما كان في حالة انتشاء بهذا اللقاء ولا تستطيع ان تقيس فعل الحب مع حورية بذات المقاييس التي قست بها الممارسات الجنسية التي قمت بها في اطراف الغابة، أو تلك التي مارستها في بيوت الدعارة السرية بشارع سيدي عمران.  لحورية نصيب من اسمها ككائن ينتمي إلى كائنات الفراديس الالهية، وزمن الاغتراف من نعمائها لا يمكن ان نقيسه الا بالمكانة التي تحتلها الحوريات في التراث الديني والتراث الشعبي. مع كل الممارسات الجنسية السابقة، كنت تشعر بالاثم وتعتقد ان جسمك قد تدنس بهذا الفعل، وتدعو الله في صلاتك بعد ذلك ان يغفر لك ما ارتكبت من معصية.  ولكن الأمر يختلف هذه المرة، فليس في عقلك أو ضميرك ذرة احساس واحدة بالاثم، مما فعلت مع حورية. ما تشعر به هو احساس بالسمو وفائض من الفرح، يثقل جسمك ويعجزه عن الحركة ويبقيه في هذه الحالة من الاسترخاء والخدر. لعله نوع من خداع النفس أو حالة من حالة الزهو لأنك اقتطعت نصيبا من المائدة التي يستأثر بها الحاكم الإيطالي للبلاد.  

 

 

(8)

 

بقيت في مكانك الى ان انقضى النهار ثم تحاملت على نفسك حتى نهضت وتمشيت قليلا على الشاطيء، وقد بدأت الشمس الغاربة تضع لمساتها الجمالية فوق قوس الافق، وترسم بازهى الالوان لوحة الغروب التي تبعث في النفس أكثر المعاني جمالا وجلالا. ممزوجة بشيء من الاسى الشفيفف سرت مبتهج-ا تدندن لحنا مرحا لاغنية شعبية تقول كلماتها:
خلوني ف حالي يا لصحاب خلوني ف حالي انا مشغول بعشق الغوالي
ظللت تراقب مشهد الغروب وما يحدثه من استنفار لعناصرالجمال في السماء وما تعكسه من تكوينات لونية مبهجة على سطح البحر، حتى ليبدو كانه عالم سحري، خارح عالم الواقع الذي نعيشه، وتقضى هذا الوقت الطويل، وانت علىعلى الشاطيء، دون ان تسأل خلاله عن طعام أوشراب، رغم انك لم تتناول منذ الصباح الباكر غير كوب الشاي الذي اخذته من مختار العساس، والاخر الذي احضرته لك حواء، لأن حالة الاكتفاء التي شعرت بها لم يحدث لها أي تغيير. واحساس الشبع والارتواء ظل ملازما لك طوال الوقت منذ لقائك الحميم مع حورية.  

اقفلت عائدا إلى المعسكر بمجرد ان بدأت العتمة تزحف على الأرض والبحر، عدت مبكرا لأن الليلة هي الليلة الاخيرة التي تقضونها فوق اليابسة وما أن يأتي مساء الغد حتى يكون كل أهل المعسكر قد احتوتهم السفن الخمس الراسية في الميناء. كان أول من صادفك وانت تدخل المعسكر هو الشاويش عنتر واقفا بمفرده قريبا من البوابة، مما اعطاك احساسا بانه جاء خصيصا لانتظار عودتك، ربما لابلاغك بسرعة الاستعداد للسفر، متشفيا لأن كل ما بذلته من جهد في الحصول على إعفاء أو استثناء قد وصل إلى طريق مسدود، ولذلك فقد كرهت حقا ان تراه في هذه اللحظة، وادرت وجهك شمالا ويمينا بحثاعن أي شيء تتخذه ذريعة للانشغال عنه وتفادي الحديث معه، فلم تجد. بادرك بالتحية العسكرية التي عادة ما يبادر بها العسكري الاصغر رتبة من هو اكبر منه رتبة. 

- ماهذا ياشاويش عنتر انك الاكبر رتبه فلماذا السخرية؟
- انك تستحق هذه التحية عن جدارة، لأنك الاكبر عقلا والأكثر حيلة ودهاء ومكرا، حتى وان كنت اصغر رتبة . 

- انها الليلة الاخير التي نقضيها سويا في هذا المعسكر، فدعها تمضي على خير عافاك الله - وهل هناك غير الخير يا اخي عثمان، لقد اثمرت خطتك الجهنمية، وحققت نتائجها الهائلة، فهنيئا لك.
مد الشاويش عنتر يده مصافحا فلم تجد بدا من مصافحته كارها
- عن أي شيء تتكلم؟
- اتكلم عن عضوية الحزب الفاشي وسرها الباتع القاطع، فقد صدق من قال لا يفل الحديد الا الحديد.
- دع عنك ترويج هذه الاشاعات التي جلبت لي نقمة زملائي في المعسكر
- انني لا الومك ولا احسدك وانما اغبطك و افرح لك، أما زملاء المعسكر الذين تتحدث عنهم، فكل واحد يتمنى لو كان حلوفا مثلك.
قالها ضاحكا، وهو مازال ممسكا يدك . انتزعت منه يدك غاضبا، وهممت بان ترد على الوصف القبيح الذي وصفك به. إلا أنه استبق كلامك مسرعا:
- لا تغضب ياعثمان، بل افرح وزغرد، ان كان لك لسان امرأة يصلح للزغاريد، فقد جاء منذ ساعتين فقط قرار استثنائك من الذهاب إلى الحرب في بلاد الحبشة، انهم يسمونه تأجيلا. ولكنه في الحقيقة اعفاء، وهو امر لم يحدث لاحد في هذا المعسكر الا لك، وقرار لا يحمل الا اسما واحدا هو اسمك بتوقيع الحاكم العام نفسه، هل عرفت الآن كيف ان لبطاقة الحزب فعل السحر؟
انضم إليكما حشد من المجندين، تعرف بعضهم ولا تعرف بعضهم الاخر، وجميعهم سمعوا ما قاله الشاويش عنترعن الاستثناء الذي صدر بشأنك، مما جعلك متحفزا لاي استفزاز يصدر عن احد منهم، أو اية كلمة جارحة تعليقا على القرار، لترد عليه بحسم وعنف وقوة، إلا أن ردود فعلهم جاءت معاكسة لما توقعت، فكلهم مدوا ايديهم يهنئونك ويعربون عن مشاعر الغبطة بما حدث لك، ويعتبرون ان ما فعلته بالانضمام للحزب الفاشي من أجل النجاة من الحرب كان مكرا هزمت به مكر الإيطاليين، وحيلة تغلبت بها على مخططاتهم لقتل الليبيين. لقد نجوت بنفسك ولا يسعهم الا الاعتراف بنجاحك فيما خططت له، لأنهم جميعا يودون من اعماق نفوسهم، لو فعلوا مثلك. فالحياة افضل من الموت، والبقاء بعيدا عن الحرب خير من الاحتراق في جحيمها، وحلوف حي خير من اسد ميت كما عبر الشاويش عنتر ضاحكا، فضحكت معه هذه المرة بعد ان تأكدت من صدق ما يقوله، عن افلاتك من المصير المحزن الذي لم يستطع احد غيرك الافلات منه، مستعيدا في ذهنك انه كثيرا ما سمعته في الماضي يستخدم كلمة حلوف في معرض الثناء وقوة الصبر والمجالدة، ولم تجد داعيا لتصحيح فكرته الخاطئةعن بطاقة الحزب ومفعولها السحري، أو تذكر له انك لم تتسلم هذه البطاقة بعد.

وشجعك هذا الموقف المؤازر لموقفك الذي ابداه الحاضرون ان تبحث عن سالم بامل ان يكون هو الاخر اقل حدة وغضبا، وأكثر تفهما لموقفك فى ضوء النتيجة التي وصلت إليها، خاصة وهي الليلة الاخيرة لتواجدكما في مكان واحد. ولم يكن ذهابك اليه بهدف ان تأخذ منه شهادة براءة على ما فعلت، فهو لن يعطيها لك، وانت لن تطلبها منه لأن افكارك تختلف عن افكاره ولا مجال للتصالح بينهما، ولكن هناك دائما مجال للتصالح على المستوى الشخصي والإنساني فلا يذهب إلى الحرب غاضبا منك. لم تستطع العثور عليه، فعدت متأسفا إلى العنبرالذي تقيم فيه، والذي وجدته شبه فارغ لأن اغلب المجندين، تم تكليفهم للعمل ساعات اضافية لنقل التجهيزات وتعبئة العتاد وافراغ المخازن ونقل ما بها للشاحنات، قائلين لهم بانهم سيعوضون السهر هذه الليلة بأيام نوم كثيرة داخل السفينة.في الصباح لم يكن لديك ما يكفي من الوقت للسؤال عن سالماذ كان لابد، تأكيدا لقرار الاعفاء، ان تذهب في ساعات الدوام الأولى، لتجديد انتسابك لقسم السائقين بادارة المواصلات وانهاء الاجراءات المتعلقة بذلك.  

اخيرا تحقق حلمك بالبقاء في طرابلس دون ان تعرف على وجه اليقين صاحب الفضل في هذا الاعفاء، فهو بالتأكيد ليس الحزب، كما كان يظن الشاويش عنتر، لأنك لم تصبح عضوا بعد، ولم تفصح لاحد فيه عن رغبتك في الحصول على اعفاء من الذهاب للحرب، ولا يبقى في ذهنك شخص غير حوريه التي ترى شخصيا انه لا وجود لاحد يمكن ان يهتم بتلبية رغبتك غيرها، خاصة وانه لا معارف لك بين ذوي النفوذ والمسئولية لتنقل اليهم هذه الرغبة، وتستبعد طبعا ان يكون الحاكم العام الذي اعد لك مهمة هناك خاصة بكتابة التقارير، يمكن ان يبادر من تلقاء نفسه بمحاباتك بمثل هذا الاستثناء من أجل مهمة أخرى لا تعرفها ارادها لك، الاحتمال الذي لا وجود لاحتمال غيره هو ان حبيبته الغالية اقنعته بجدوى هذا الاستثناء، ولكن ماهي هذه الاسباب التي اقنعته بها؟ هذا ما لا تستطيع التكهن به الآن. وايا كان الأمر فقد علمتك الاشهر الماضية ان لا احد في هذه المدينة وداخل هذا النظام الذي يحكمها يخدم احدا بلا مقابل. وان الذي ابقاك لم يفعل ذلك خدمة لك أو لمصالحك وانما خدمة لاهداف تخصه، رأى ان وجودك هنا يحققها له بافضل مما لو ذهبت إلى هناك. انها قاعدة للتعامل لا تزعجك ولا تثير لديك رفضا ولا نفورا، هذا ما طلبته، وهذا ما حصلت عليه، راضيا دائما بدفع الثمن الذي يجب عليك دفعه.

عندما حان الوقت للقاء حورية، كسائق يعمل تحت امرتها، ويتلقى تكليفه بالعمل منها، رغم وجود السيارة في حوزة سائقها الاصلي، صعدت إلى شقتها في وقت يتفق مع انتهائها من افطارها، فوجدتها تستقبلك في الصالون وقد اتخذت سمتا باردا، جادا، لا اثر فيه ولا اصداء لما حدث بينكما صباح الامس داخل غرفة نومها، وكانها تريد ان تشعرك بضرورة ان تفصل فصلا كاملا بين العمل كسائق لديها، وبين ذلك الجانب الشخصي ولحظته المفصولة والمعزولةعن زمن العلاقة العملية والوظيفية. استقبلتك جالسة في كرسي الصالون وانت واقف أمامها بزيك الرسمي، تعبر لها عن بالغ الامتنان والعرفان بالجميل لما بذلته من جهد اثمر في صدور هذا القرار الذي يقضي باعفائك من الاعمال القتالية في الحبشة، واستبقائك في هذه الوظيفية المدنية عندها، وتعرب لها عن استعدادك لأن تكون على الدوام خادما مطيعا لها، ولصاحب الفضل الأول في اصدار القرار المارشال ايتالو بالبو. سألتك، بعد ان فرغت من كلامك ان تجلس، وامرت حواء ان تحضر لك فنجانا من الشاي، ثم قالت لك بان قرار الاعفاء لا يصدر الا ومعه مسبباته القوية، كالمرض الطارىء أو الحادث الخطير الذي يعيق الإنسان عن العمل بينما لا يحتاج التأجيل لاي اسباب غير حاجة العمل، وكلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة وهي ان تبقى هنا في طرابلس. 

ثم انتقلت فجأة، ودون تمهيد، إلى ما حدث بينكما صباح الامسوكأنها ضجرت من اساليب التمويه والمماطة، التي تبعدهاعن الهدف، قائلة:
- لاشك انك عرفت الآن، وربما قبل الآن، وقبل ان يحدث ما حدث بيننا بالامس، انني احتفظ لك بمكانة خاصة في قلبي. انتهى الحديث الهامشي، الذي لم يكن الا غطاء لهذا الحديث الذي يتصل بجوهر ما يجمع بينكما، ويصب مباشرة فيما تريده منك سيدة هذا البيت، وربما فيما كان هو السبب وراء استبقائك في طرابلس. احسست انت برعشة في اطرافك افلحت في السيطرة عليها، كما افلحت في السيطرة على الاستثارة الجنسية التي استحدثتها في جسمك. وخطرت على ذهنك خاطرة سمعتها من من مدرسك ماريو، وهو يتحدث عمن سبق له معاشرتهن من النساء، قائلا، بانه كلما التقى بواحدة منهن احس بان لغة التخاطب والتواصل بينه وبينها تنتقل من المستوى العقلي والشفهي، إلى مستوى التخاطب عن طريق الاجهزة التناسلية. فهي بعد ان تعرفت على بعضها في معاشرة جنسية تكتسب حساسية التواصل والحوار فيما بينها وبدرجة أكثر صدقا من حوار الالسنة والكلمات والعقول. بقيت صامتا منصتا لما تقوله السيدة بلسانها، وقد بدا واضحا انها لم تكمل ما تريد ان تقوله لك، دون ان تنتسى مواصلة الانصات لتلك الاتصالات الخفية المجهولة بين الاجهزة التناسلية.

لم اكن أريد أن يصل الأمر الى هذا الحد الذي وصل إليه بالامس، وبعد ان حصل، تمنيت لو حدث في الحلال وعلى سنة الله ورسوله. لم تستطع ان تسيطر على الافكار التي استدعاها حديثها عن الشرع والسنة واقحام الله والرسول بكل ما يمثلانه من قداسة في مثل هذه المسألة، ورغم الفارق بين علاقتها بالمارشال والعلاقة العابرة التي سمحت لك بها، لم تفهم كيف ترى حورية هذا الفارق فيما يتصل بقضية الحلال والحرام، أو لماذا يكون الحلال مطلوبا في حالة، ولا يكون مطلوبا في حالة أخرى. هل لأن شراكة الدين والوطن التي تجمع بينكما تشترط ان يكون هذا النوع من العلاقات في الحلال، بينما يتمتع الاجنبي برخصة الاستثناء من هذا الحلال؟ هل هذا ما قاله له عقلها حقا؟ ام للحديث صلة بما تقوله اعضاء أخرى أيضاً. انتظرت حورية حتى وضعت حواء الشاي وانصرفت، قبل ان توصل حديثها: 

- ارجو ان تفهم موقفي، انني امرأة تحن إلى ان تحقق امومتها وان يكون لها طفل تحمله في بطنها تسعة اشهر وتحضنه وترضعه وتربيه وتراه يكبر وينمو أمام عينيها. وهذا الطفل لابد ان يكون نتاج علاقة شرعية، ومن صلب رجل احبه، ينتمي إلى ديني وملتي كما يفرض الشرع، هل فهمت؟ طبعا فهمت، فهى لم تترك شيئا غامضا، كما لم تترك لك فرصة للرد، لأنها استمرت في الحديث الذي يعفيك من أي رد قبل ان تستجمع شتات ذهنك: 

- المارشال يفهم ذلك تماما، فانا وهو لا نستطيع ان نتزوج لاسباب معروفة، لا اظنك تجهلها، وانا لن ارتكب جرما في حق طفل المستقبل بانجابه سفاحا. المارشال، بحسه الإنساني وقلبه الكبير، يفهم هذه الحاجة لامرأة مثلي، ترى سنوات عمرها تمضي، دون ان تستمتع بحق الامومة. انت أيضاً لست اقل رقة وإنسانية من المارشال، وتفهم توق امرأة مثلها لأن تكون اما، وتعرف أيضاً ان هذا التوق للامومة شرط أساسي لا تكتمل انوثة المرأة الا به. ما لم تستطع فهمه حتى الآن، أو لعلك تفهمه، لكنك تريد ايضاحا أكثر، وتحديدا ادق، هو ما تريده حورية منك بالضبط. وان كان بامكانك طبعا ان تدرك، ان امر اعفائك من الذهاب إلى الحبشة في هذه الدفعة، لم يكن مجردا من الغايات. وان احدى هذه الغايات، أو اهمها يتصل بما تقوله حورية الآن. هناك مهمة لا تقل خطورة عن القتال فوق هضاب الحبشة، مرشح انت للقيام بها فوق هذه الهضاب العسلية للأنثى الجميلة التي تجلس أمامك على مقعد مطلية حوافه بماء الذهب ومغطاة اخشابه بالقطيفة الحمراء. ظلت حورية صامتة يغمرها نوع من الاسى الشفيف فلم تستطع ان تبقى انت أيضاً صامتا، وجازفت بالقول:
- انت ما شاء الله في سن الصبا والجمال، وأمامك سنوات كثيرة قبل ان تشغلي نفسك بالانجاب والرضاعة.
- ارجو الا اكون قد أصبحت اما منذ صباح أمس، لأن ما حدث بيننا حدث دون تمهيد، فلم اتخذ اية احتياطات.

وقبل ان تمنحك اية فرصة لكي تتأمل ما تعنيه بهذه الكلمات التي قالتها، نهضت وهي تقول:
- سنواصل الحديث فيما بعد، فلابد ان لك اصدقاء مسافرين تحرص على توديعهم في الميناء.
قالت ما قالته، بما يعني انها قد اعطتك جرعة تكفي لهذا اليوم، ولا تريد افسادها بالمزيد الذي ستتركه لحصة قادمة، مما يدل على ان أيام عملها بالتمريض لم تذهب هباء، وتعرف جيدا كيف تعط يالجرعات في موعدها. 

المهم انك خلال هذه المدة القصيرة التي استغرقها اللقاء، كنت تشعر ان الاثارة التي تنتقل إليك من خلال تواصل الاعضاء التناسلية أكثر جمالا ولذة، وأكثر وضوحا وصدقا من حديث الافواه والعقول، وان هناك توافقا وانسجاما بينها لا تراه متحققا على بقية المستويات التي تتعامل بلغة المراوغة والحيلة واكتشاف مواقع الضعف واكتساب النقاط في صراع الارادات. ستذهب إلى الميناء، لا لتوديع احد، ولكن لتتأكد فقط من انهم فعلا قد رحلوا، وانك فعلا مازلت واقفا على الأرض باقيا في طرابلس. امسكت باكرة الباب استعدادا للخروج، فاستوقفتك حورية لتقول لك بانك ستتقاسم العمل مع عياد الفزاني، وستترك لكما وضع جدول لهذا التقسيم بدءا من الغد. 

ندما ذهبت إلى الميناء، كانت السفن قد اخذت حمولتها، ومكبرات الصوت المبثوثة في الشوارع والميادين تنقل كلاما لاحد الخطباء، ممن جاءوا للمشاركة في توديع الدفعة الأولى من الجنود الليبيين الذاهبين للمساهمة في الحملة الحبشية. وكان يتحدث بلغة عربية فصيحة، بالنيابة عن اهالي الجنود، ويعبر عن افتخاره بالرسالة الحضارية، التي يذهب هؤلاء الجنود البواسل لتقديمها للشعب الحبشي الصديق. فهو شعب يعيش في اسواق النخاسة، يباع ويشترى على ايدي تجار الرقيق من اعضاء الاسرة المالكة. وستكون رسالة إيطاليا الفاشية وجنودها البواسل ومنهم هؤلا ء الابطال المغاوير من أبناء ليبيا هي انقاذ ذلك الشعب من معاناته ونشر السلام والعدل والامن بين ربوعه، تحت الراية الثلاثية الالوان. لم يكن يعنيك هذا الكلام وما فيه من كذب وتدليس بعد ان نجوت من خدمة هذه الرسالة الحضارية الفاشية ولم تكن متحمسا للدخول في هذا الزحام، الذي يصنعه رجال يرتدون البرانس والعباءات، ونساء يرتدين الملاحف والاردية، هم اهالي هؤلاء الجنود المسافرين، ولكنك تذكرت شيئا اشعل في قلبك الحماس لولوج هذا الزحام، اذ لابد ان تكون ثريا موجودة هنا مع عائلتها وعائلة زوجها فتحي، لالقاء نظرة عليه قبل الرحيل، فلعلها تكون باذن الله نظرة اخيرة على الزوج الذي سيلقى مصيره الفاجع في أرض الأحباش، وسيكون شيئا جميلا ان تلتقي بها وسط هذا الزحام.

لن تصافحها بيدك فقط، بل ان جسمك كله يمكن، بفضل هذه الحشود المتلاطمة، ان يصافح جسمها مصافحة حميمة، وينعم بسخونته اللذيذه المثيرة. فكرة هائلة، مدعومة بقدر كبير من النذالة، ولكن متى كانت النذالة بعيدة عنك، وعن هذا المحيط الذي تعيش فيه، حتى تدعي انت أو أي احد غيرك النبل والشهامة. ها هي الاجواء المثقلة بالنذالة أمامك متمثلة في هذا العرس الكاذب الذي يقام لشبان يذهبون كقطيع الاغنام إلى المسلخ، وهذا الصوت القادم عبر مكبر الصوت لواحد يتكلم كاذبا عن هذه المناسبة السعيدة وسط هذه المناحة التي تقيمها امهات المجندين، ويتكلم باعتباره من أهل المجندين، فهل حقا هو من أهلهم؟ مفتخرا بحضارة القنابل التي ستحرر أبناء الشعب الحبشي. نعم ستقتلهم ليكون هذا القتل انعتاقا لهم من العبودية. فلماذا اذن لا تسبح في بحر النذالة كغيرك من السابحين؟ ولماذا لمن يرتكب النذالات الكبيرة، ان يتعفف عن ارتكاب نذالة صغيرة مثل الترصد للمرأة التي يحبها حبا مشنوقا بائسا يائسا، والالتصاق بها وسط الزحام والاحتكاك بجسمها من الخلف إلى حد الاستمناء. ثريا التي اقترنت في ذهنك بالعذوبة والشفافية، لا تستحق معاملة كهذه المعاملة الرخيصة، مهما كنت نذلا مع الاخرين. اذ ان مجرد التفكير في لقائها بهذه الصورة المبتذله اهانة للعاطفة التي تدعي انك تحملها لها، ام تراك لم تعد قادرا على التعامل بالقواعد المعروفة لهذه العاطفة التي اسمها الحب، بعد ان رأيت كل شيء يعرض في سوق البيع والشراء، حتى العواطف والاحاسيس والقلوب والضمائر.  

هاهي الخطة المغلفة بورق مفضض، التي اعدتها لك حورية، تتكشف ورقاتها الفضية واحدة بعد الأخرى، حيث ستحتاج وانت تدخل هذه اللعبة ان تكون مسلحا باكبر قدر من النذالة. ستمثل في البداية دور الابله الذي لا يعرف ما يدور حوله أو ما يريدون منه، إلى ان تتكشف أمامك كل ابعاد اللعبة، تحت أكثر الاضواء سطوعا وقسوة، لكي تبدأ اللعب عندئد من موقع القوة. لهذا الزحام رائحة تعرفها جيدا، لأنها رائحة العوز والفاقة. القميص الذي يبقى حتى يذوب فوق جلد صاحبه، لأنه لا يملك قميصا سواه، والعرق الذي يتراكم فوق الجلد، لأنه إنسان لا يملك صابونا يزيله به. ستصيبك هذه الرائحة بالدوار ان لم تخرج الآن من هذا المكان الخانق وتذهب لمباشرة مهام عاجلة، يجب ان تكرس لها ما تبقى من النهار، وان تترك رؤية ثريا ليوم آخر، تكون فيه جاهزا بكامل لياقتك للقائها. وأكثر هذه المهام استعجالا الآن هي تدبير مكان يؤويك، بعد ان رفع الجيش الإيطالي الغطاء الذي كان يحميك من شراسة السوق، يعفيك من التفكير في مشاكل السكن والطعام والملابس. انت الآن خارج الجيش مؤقتا، أو بالاحري جندي في مهمات غير عسكرية، وبامكان الجيش ان يستردك متى شاء، اما الآن وخلال فترة الاستثناء أو التسريح المؤقتة، فان عليك ان تتولى تدبير نفسك بنفسك، والاعتناء بشراء وتحضير طعامك، وغسل ملابسك، لأن المعسكر الذي كان يؤويك سيخضع منذ الغد لاعمال الصيانة، وتجهيزه ليكون قاعدة عسكرية إيطالية، لها مهمات غيرالمهمات القديمة للمعسكر، ومعنى ذلك انه لن تكون هناك دفعات أخرى تذهب لحرب الحبشة بحجم هذه الدفعة التي ضمت ما مجموعه خمسة عشر الفا من كافة مراكز التدريب في شرق البلاد وغربها، سيكون هذا العدد هو مساهمة ليبيا الفاشية وحاكمها ايتالو بالبو، في الحملة الإيطالية لاحتلال الحبشة، مع امكانية ارسال اعداد قليلة ممن يمكن تدريبهم في مراكز التدريب المحلية.

تمنيت لو كان بامكانك ان تحصل على اجازة قصيرة، تذهب خلالها لزيارة الأهل في أولاد الشيخ، الذين يعتقدون انك الآن في الطريق إلى ميادين القتال في الحبشة، إلا أنك تعرف بان اجازة كهذه غيرممكنة، فقد سعت حورية لاصدار قرار التأجيل بحجة ان هناك عملا يحتاجك احتياجا ضروريا، فكيف يستقيم اعطاء الاجازة، مع هذا الترتيب، الذي ابعد عنك اهوال الحرب. ثم ما الذي طرأ على عقلك وجعلك فجأة تحب "أولاد الشيخ" التي خرجت منها هاربا، ناقما على حياتك فيها غاضبا على حياة البؤس، والخمول والكسل العقلي، التي يعيشها أهلها بمن فيهم والدك وامك، اللذين كرهت ما فعلاه بك، وما سبباه لك من شقاء عانيت منه منذ أيام الطفولة وإلى آخريوم خرجت فيه من القرية بسبب فراقهما، فمن اين، ومنذ متى ولدت لديك هذه العاطفة نحو "أولاد الشيخ" حتى تحن إليها؟ انه نوع من الضعف، والشعور الطفولي، الذي لا يليق برجل مثلك، ومن واجبك نحو نفسك، ان تتحرر منه، لكي تعود شديدا، قويا، قادرا على التعامل مع الاخرين بنفس العملة التي يصرفونها لك، وستكون ظالما لنفسك مستهينا بحقها، اذا لم تستخدم اسلوب المعاملة بالمثل مع من يصرف لك شقاء وقسوة، وهو ما تستحقه بيئة الاهمال والخمول والبؤس والتعاسة في أولاد الشيخ، فاتركها للاهمال والنسيان كما تركتك، ولا تقل ابي وامي فهما أيضاً يستحقان معاملة من جنس المعاملة التي قدماها لك، واعتن بنفسك ومستقبلك فأمامك حياة جديدة، وافاق أكثر رحابة واتساعا، تحتاج لأن تسخر لها كل جهدك، وتنصرف بعقلك وقلبك وجوارحك للاستفادة منها والاستمتاع بها، وتأكيد مكانتك في هذه البيئة المدنية الجديدة التي صرت فردا من افرادها. لم يبق لك إلا أن تسرع الآن بالذهاب إلى فنادق المدينة القديمة وخاناتها العتيقة في باب البحر، التي كانت تستقبل أهل القوافل بمواشيهم في أزمنة مضت، واصابها في السنوات الاخيرة شيء من التجديد والتطوير، فتخلت عن استقبال المواشي، واحالت الاسطبلات إلى مقاهي ومطاعم شعبية، أو إلى مخازن وحوانيت، وصار الاقبال عليها كبيرا بعد انتهاء الحرب بين الليبيين والإيطاليين، وعودة الناس للاشتغال بالتجارة والزحف على المدينة من الاطراف والارياف للعمل والاقامة بحيث يصعب كما يقول العالمون بهذه الامور، وجود اماكن. ما ترجوه حقا هو ان يوفقك الحظ، للعثور على غرفة بدءًا من اليوم، لأنك حتى لو حصلت على اذن بالبقاء في المعسكر ليومين أو ثلاثة فانك لن تقوى على البقاء بمفردك، وسط تلك المتاهة التي لم تعد تليق الا باقامة الاشباح. 

 

 

(9)

 

بعد بحث استغرق عدة ساعات، عثرت على فندق لم يمر بمرحلة التحديث والتطوير، أي انه مازال يحتفظ بباحة صغيرة يخصصها لمن جاء راكبا جملا أو حصانا أو حمارا، أو حاملا بضاعته على بهيمته، حيث سيجد سائسا يعتني بحراسة هذه الدواب، وما تحتاجه من عليق، فهو آخر فندق في طرابلس يقدم هذه الخدمة، ويرمز وحده لما تبقى من تلك الدور والحضائر والاسواق التي تقع في نهاية طريق القوافل، ولم تبق منها الا اسماؤها، مثل سوق المواشي الحالي، الذي مازال رغم تبدل طبيعة المهمة التي يقوم بها يسمى سوق العبيد لأنه كان في عهود سالفة سوقا للرقيق. وبرغم بدائية الفندق، فقد اعتبرت نفسك محظوظا لوجود غرفة شاغرة فيه، لأنه يقع اسفل هضبة باب البحر، غير بعيد عن الميناء، في نصف المسافة بين بنائين أصيحا من الرموز الحضارية للمدينة القديمة، احدهما جامع عتيق هو جامع قرجي، بمعماره الخاص ومنارته المتميزه عن كل منارات المدينة بمستوياتها المتعددة، وما للجامع من قيمة تاريخية واثرية ودينية، وبين بناء اثري روماني يقولون انه اقدم بناء في مدينة طرابلس هو قوس الامبراطور ماركوس أوربليوس الذي خصص الإيطاليون فريق عمل يقوم الآن بترميمه وترصيف الباحة المحاذية له، وزراعة أشجار الورد حوله ليكون مركز استقطاب سياحي. ولهذا لم تتردد في اخذ هذه الغرفة الكائنة في الدور الثاني التي تطل على الرواق المطل بدوره على الباحة الداخلية المفتوحة التي تتوسط المبنى وفق الطراز المعماري لقصور وعمائر المدينة القديمة. وتصادف ان يكون هذا المكان الذي يقع فيه الفندق هو احب جزء من طرابلس إلى نفسك، وجاء الفندق ليؤكد هذه المعاني التي يمثلها موقعه بالنسبة إليك. فهو حلقة وصل بين الصحراء والبحر، وبين القديم والحديث، وبين أهل الريف وأهل المدينة، وبين زمن طرابلس الذي يعود إلى فجر التاريخ، وزمنها الاسلامي الوسيط وعصرها الحديث، ودون ان تعطي كبير اهتمام لنوع الغرفة التي كانت ذات جدران اكلت الرطوبة قشرتها الجيرية، ومحت الطلاء الأخضر، الذي كان يغطي خشب بابها وشباكها خالية من أي اثاث غير دولاب قديم وسرير وفراش، فذهبت مسرعا وقبل ان تقفل الحوانيت ابوابها، واشتريت مبيدا للحشرات لمقاومة البق والبراغيت التي رأيت اثارها على الحائط واشتريت موقد غاز البريموس الذي ستطهو عليه منذ اليوم طعامك، مع معدات الطهي والطعام، دون ان تنسى مصباح الغاز، وتركت التموين إلى يوم آخر كنت قد استأجرت دراجة، لقضاء هذه المشاوير المسائية التي كان من بينها مشوار اخير إلى المعسكر لاحضار شنطة ملابسك.

اكتشفت في صاحب الفندق رجلا شديد المرح، بمثل ما هو شديد البدانة، يسمونه الكبران، ويسمون فندقه فندق الكبران، لأنه كان رئيسا لاحدى ورديات العمال في الميناء، قبل ان يتفرغ للعمل بفندقه رغم انه لا يزال يرتبط باعمال تتصل بالشحن، وتسريح البضائع ويجعل من غرفة بالطابق الأرضي، مكتبا لادارة الفندق وتصريف شئونه التجارية الأخرى. قضيت الساعات الأولى من الليل تستكشف المنطقة التي صارت موطنا لك، واجواء الفندق الذي يؤويك حيث استضافك الكبران في مكتبه، الذي يتحول اثناء الليل إلى غرفة للسمر، ولقاء الاصدقاء، يلعبون الورق ويرتشفون كؤوس الشاي بالفستق السوداني، ويستمعون إلى حديث الكبران الذي يملك شهية مفتوحة للكلام، واختراع الحكايات ويتوفر على مجموعة افكار لاصلاح العالم، يرجو الله ان يحييه حتى يحققها. أويت إلى سريرك متأخرا، ولأنك تمشيت كثيرا اثناء البحث عن فندق، ثم قطعت بعد ذلك وقتا تقود الدراجة، متنقلا بين شرق المدينة وغربها فقد اسلمك الانهاك إلى نوم عميق لم تستيقظ منه الا بعد فترة من ميعاد صحوك المعتاد، وذهبت إلى بيت حورية متأخرا نصف ساعة عن موعد الدوام، وما أن وصلت حتى وجدت مختار العساس وعياد الفزاني يقفان أمام العمارة بانتظارك، وسمعت الفزاني يقول بانه ذهب إلى المعسكر يبحث عنك، فعرف انك غادرته إلى محل اقامة جديد، وانه ظل حائرا ماذا يفعل، حيث انه مكلف بابلاغك منذ البارحة ان تأتي مبكرا هذا الصباح، لأن هناك مهمة وقع الاختيار عليك للقيام بها.

كنت ادركت منذ اللحظات الأولى لوصولك وقبل ان تسمع ما قاله الفزاني، ان الحاكم العام موجود ببيت حورية، ولابد انه قضى الليل معها، لأنه لايمكن ان يكون قد صحا مبكرا وجاء إليها. عرفت ذلك من وجود ثلاث سيارات عسكرية رابضة في الشارع، وعدد ظاهر من الحراس المتناثرين أمام العمارة غير السريين المبثوثين في المنطقة. وفهمت من عياد، ان المارشال بالبو سيحتاج اليوم إلى سائق عربي يأخذه في سيارة مدنية، لحضور عيد الربيع الذي يقام في واحة جنزور، وقد وقع الاختيار عليك لتولي المهمة. لم يكن بامكانك ان تقول شيئا، سوى الاعتراف للسائق الفزاني بانه الاجدر بتولي هذه المهمة، بحكم الخبرة والاقدمية. فقال بان القرار في هذا الموضوع ليس لك أو له، وانما لصاحب الشان الذي وضع مواصفات لهذه المهمة، من بينها ان يكون السائق من أهل المنطقة، مجاملة لجمهور الاحتفال من الطرابلسيين. وباعتبارك من منطقة طرابلس فانت اقرب من رجل مثله قادم من فزان البعيدة، ثم انه يفضل سائقا عسكريا يعرف اساليب المقاومة والدفاع عند حدوث أي طاريء، على سائق مدني مثل عياد الفزاني. شعورك بالغبطة لهذا الاختيار، كانت تخالطه نسبة من الشك والريبة، الا انك لم تشأ ان تشغل نفسك بالبحث عن الدوافع وراء هذه التدابير، فالافضل والاسلم، ان تحتفي بهذا الاختيار، مستفيدا من التعبير الشهير الذي يردده الشاويش عنتر "ارخي روحك تعوم" لأنه، كما يقول للمجندين لاشي يقود الى الغرق، مثل التشنج والتوتر ومقاومة التيار.

جاء احد الحراس الإيطاليين يسألك ان تستعد بالسيارة التي اعتنى مختار العساس بغسلها وتنشيفها ورشها من الداخل بعطر له نكهة المسك، وما أن اخرجتها لتقف على باب العمارة حتى جاء ثلاثة من الحراس لتفتيش السيارة وفحصها للتأكدمن سلامتها، وخلوها من أي شيء مريب، ثم قام احدهم بتفتيشك انت أيضاً تفتيشا شخصيا، مما جعلك تشعر بشيء من الغيظ، إلا أنك كتمته، وحاولت ان تفهم الدوافع لعمل هؤلاءالحراس. عدت للجلوس اما مقود السيارة، وجلس احد الحراس المسلحين في المقعد المجاور لك. تحركت السيارات العسكرية، فوقفت احداها أمامك ووقفت الثانية والثالثة خلف سيارتك. وقرأت انت في سرك سورة الفاتحة والاخلاص واية الكرسي والمعوذتين، واستنجدت بالولي الصالح سيدي عبد السلام الاسمر طالبا منه ان يشد ازرك، لكي لا تنهار وتفقد اعصابك وانت تقود السيارة التي تحمل فرعون هذا الزمان، فيفتك بك هؤلاء الزبانية الذين يحيطون به. وبعد انتظار نصف ساعة جاء المارشال ترن ضحكته عاليا، وتلمع اسنانه البيضاء وسط لحيته الداكنة السواد، يرتدي بزته العسكرية، يمسك باحدى يديه سيجارا وباليد الاخري يسحب خلفه حورية التي تحاول ان تجاريه في خطواته السريعة القوية تثب وثبا رشيقا في فستان له طيات جميلة، تنحدر من عنق الفستان إلى حوافه السفلى تختلط فيه الدوائر الزرقاء والبيضاء، كحركة الموج، يهفهف حول جسمها، وله حزام ابيض يشد بقوة على خصرها الذي ضاق حتى كاد يختفي، قبل ان ينتشر الفستان ثانية بطياته الكثيرة التي ترقص، وتتماوج، حول ساقيها، وكان لحذائها النسائي الابيض، بكعبه الطويل، ايقاع متوافق مع دقات اقدام المارشال القوية، بينما يتماوج شعرها الأسود وتتناثر خصلاته وتتراقص فوق وجهها الضاحك الصبوح، وتمشي مشيتها السريعة بايقاعها الراقص، فتبدو كانها كائن مصنوع من موجات الضوء والهواء. 

هبط الاثنان السلالم الرخامية لباب العمارة، واجتازا الردهة الصغيرة التي تشكل جزءا من الرصيف أمامها فاسرع احد الحراس لفتح بابي السيارة الخلفيين لهما. وانطلق الموكب الرئاسي عبر فياكانيفا ثم كورسو سيشيليا متجها إلى قرية جنزور. حانت منك التفاتة لحظة ركوب المارشال السيارة، واصطدمت عيناك بعينيه العميقتين المتوهجتين كشعلتي لهب، فسرت في جسمك رعشة كأن تيارا كهربائيا يسري مع نظراته، وتهادى صوته قويا، عريضا وهو يحادث حورية، حديثا متصلا، حماسيا، لم تفهم منه الا اشاراته لروما، وإلى اسماء قادة في الحزب والحكومة يغيظونه ويعاكسونه، لأنهم لا يفهمون طبيعة هذه البلاد، وحجمها الهائل وما يقتضيه ذلك من انفاق لاعمارها. بينما تقود انت السيارة مستنفر الاعصاب، لم تتحرر بعد من حالة التوتر، حتى كدت وانت تلاحق السيارة العسكرية التي أمامك، ان تصطدم بها لحظة ان هدأت من سرعتها في احدى المنعطفات.

ادركت حورية مدى التوتر الذي يعتريك بسبب وجود الحاكم العام، فارادت ان تتبسط معك قائلة، بان سعادة الحاكم العام، كان يريدك في مهمة على جانب كبير من الدقة والخصوصية في الحبشة، ولكنها اقنعته بان وجودك هنا سيكون أكثر نفعا. اردت ان تشكرها وتشكر سعادة الحاكم العام، إلا أن الكلمات ابت ان تخرج من حلقك، فواصلت هي الحديث، تتساءل هذه المرة عن المكان الذي انتقلت إليه، بعد ان تركت المعسكر، فافلحت بعد جهد ان تنطق اسم المدينة القديمة، وعندما ترجمت حورية طرفا من حديثها معك إلى المارشال بالبو، جلجل صوته بالافكار والخواطر التي اثارها في ذهنه اسم المدينة القديمة، قائلا بان كل حجر في المدينة القديمة له قيمة تاريخية ثمينة تتضاءل أمامها قيمة أي انجاز معماري يحققه المحدثون في الجزء الجديد من المدينة. وقد حرص كما حرص اسلافه الثلاثة فولبيودي بونو، وبادوليو، على ان يكون الجزء الحديث، منسجما مع عراقة الجزء القديم، ويبدي اسفه لأنه على كثرة جولاته التي شملت كل شبر في ليبيا من ادناها إلى اقصاها مازال حتى الآن، لم يدخل المدينة القديمة، ولم يذهب ابعد من سوق المشير والسرايا الحمراء. ربما لأن الحواري الضيقة التي لا تتسع لمرور السيارة، هي التي جعلت الضباط المسئولين عن امنه الشخصي، يرغمونه على تأجيل الزيارة كلما هم بان يذهب إليها، ولم يبق أمامه الا حل واحد، هو ان يهرب من هؤلاء الضباط، ويدخلها معتمدا على خبرة دليل من أهل البلاد، ليزور القنصليات القديمة، والاسواق المسقوفة التي تبيع الصناعات التقليدية، ودور العبادة واقدمها جامع الناقة الشهير والمعبد اليهودي بالحارة الصغيرة، والبيوت ذات الابراج والقباب التي سحره منظرها، وهو يراها من الجو، اثناء تحليقه بطائرته فوق طرابلس.

تذكرت وانت تستمع إلى حديثه الذي فمهت اغلبه، لأنه يتحدث عن موضوع مألوف لديك، ان الإيطاليين جميعهم يتجنبون دخول المدينة القديمة، بل انه خلال الاشهر التي اقمتها في كوشة الصفار، لم يحدث ان رأيت جنديا أو دركيا إيطاليا واحدا يدخل المدينة القديمة، حتى مهمة حفظ الامن، ظلت متروكة لعناصر ليبية في هذه المدينة. الحالة الوحيدة التي رأيت فيها جنودا إيطاليين يدخلونها هي حالة المداهمات التي كانت تقوم بها فرق مسلحة باعداد كثيفة، وتتولى التقاط الشباب من الشوارع والبيوت وارغامهم على الدخول إلى الجندية. عدا ذلك فانها بقيت حكرا على أهلها الليبيين، ومن احتمى بهم منذ قرون، كالبحارة وصيادي السمك اليونانيين والمالطيين واعضاء الجالية اليهودية الذين جاء بعضهم منذ الامبراطورية الرومانية وعبر الجموع الغفيرة من لابسي العباءات البيضاء، والتي وقفت على جانبي الطريق لاستقبال الحاكم العام، هاتفة بحياته وحياة الدوتشي. 

مرق موكب السيارات الاربع باتجاه الخيمة التي اعدت كاستراحة للمارشال بالبو . كانت خيمة عملاقة مفروشة بالابسطة الفاخرة، تتوزع في اركانها الارائك وكراسي الفوتيل، كانها بهو باحد القصور، وتتصدر مدخلها باقات ضخمة من الزهور، وفي ركن يحاذي مدخل الخيمة، وضعت طاولة تصطف فوقها دوارق العصائر وسلال الفاكهة . كنت قد أوقفت السيارة أمام الخيمة، حيث كان عدد من اعوان بالبو الإيطاليين قد سبقوه إلى هناك، بعضهم بزيه العسكري، وبعضهم الاخر بالملابس المدنية يصطحبون نساءهم، ويقفون امام الخيمة في انتظاره. وعندما وصل، هرعوا لمصافحته ومصافحة رفيقته و دخلوا جميعا إلى الخيمة. اشار المرافقون إلى المكان المخصص لوقوف السيارة قريبا من مدخل الخيمة، فأوقفتها هناك، لكي تبقى تحت نظر الحراس، متيحين لك فرصة ان تشاهد الحفل دون ان تبتعد كثيرا، أو تغيب عن السيارة لمدة طويلة لأن عليك ان تكون جاهزا في اية لحظة يريد المارشال ان يغادر فيها المكان. وفي قلب الساحة التي يقام فيها الحفل، اصطف عدد من الفرسان يركبون خيولهم، ويرتدون البرانس السوداء المقصبة حوافها بخيوط الذهب والفضة، في حالة استعداد لبدء استعراضاتهم في اعمال الفروسية، أمام المنصة العالية التي تغطيها مظلة من الحصران الملونة لاتقاء حرارة الشمس، كما تغطي بقية الاماكن المخصصة لكبار الضيوف، حيث صفت كراسي الجلد الوثيرة وفي الاعالي ترفرف الراية الإيطالية المثبتة إلى راس سارية تفوق طولا أشجار النخيل المتناثرة في اطراف الساحة.  

لم يغب المارشال طويلا داخل الخيمة، فالحفل لن يبدأ قبل ان ياخذ المارشال مكانه في المنصة. خرج صحبة عدد من اعوانه دون ان تخرج معه حورية التي بقيت صحبة نساء إيطاليات جئن يصطحبن اطفالهن ومضين يتجولن بحرية في المكان. وتقدم المارشال باتجاه المنصة ليجد في استقباله عًددا من رجال الحكم المحلي والشيوخ الذين يشرفون على الحفل. بعضهم يرتدي البذلة والطربوش، وبعضهم العباءة وفوقها البرنس، وقادوه في جولة بين الخيام الكثيرة التي صنعت هلالا يحيط بميدان السباق، ومن حول الخيام احتشد جمهور المواطنين الذين جاءوا للمشاركة في حفل الربيع. امتلأت الخيام بمغنيات الاعراس، يضربن الطبول ويصدحن بالغناء، كما جاء منظمو الحفل بقطعان من الاغنام ومعها رعاتها يقومون بجزها، بما يرافق عملية الجز من غناء واهازيج باعتبارها مظهرا من مظاهر فصل الربيع، وانتشر اعضاء الفرق الفنية الشعبية يرقصون ويغنون ويعزفون المقرونة ويضربون الدربوكة والبندير والطار والصاجات ويصنعون صخبا عظيما. وكان الحاكم العام يمر أمامهم، ويبتسم لهم، ويشير لاحد معاونيه، فيتقدم ليضع نقودا في ايدي هؤلاء الراقصين والعازفين ومغنيات الاعراس، وحان موعد العاب الفروسية فعاد الحاكم العام إلى المكان الذي نصبت فيه المنصة وجلس في الكرسي العالي الذي اعد له وفي مستوىاقل من مستواه صفت الكراسي التي جلس فوقها اعوانه ومضيفوه، وخلفه مباشرة جلست حورية وبقية النساءالإيطاليات، تفصلهم جميعا مسافة عن مضمار السباق تحميهم من الغبار الذي تثيره حوافر الخيل رغم انها أرض مرشوشة بالماء لتثبيت التراب.  

وقد بدأ الفرسان الذين خلعوا البرانس وبقوا في ملابسهم الوطنية، يستعرضون مهاراتهم التي ظل المارشال يتابعها بالمنظار المكبر عند ابتعادهم عن المنصة، فهذا يأتي راكبا جواده ثم فجأة يقف فوق ظهره، ويمضي به الجواد راكضا بنفس السرعة والفارس ممسك باللجام متسمرا بقدميه فوق السرج محتفظا بتوازنه طوال مدة وقوفه، وهؤلاء اربعة أوخمسة فرسان يركضون متحدين ملتحمين، ثم يشبك كل واحد منهم ذراعه في ذراع زميله اثناء ركض الجياد، وهم يصدحون باغنية مشتركة من اغاني الفروسية، في نفس واحد، وايقاع واحد ينسجم مع ايقاع حوافر خيولهم التي مضت تركض كانها جواد واحد له خمسة رؤوسوعشرون قدما، وهذان فارسان يركضان معا مشتبكي الايدي، ثم يقفان فوق ظهر جواديهما ويواصلان الركض معا، يؤديان بايديهما المشتبكة، وهما واقفان فوق الجوادين الراكضين، التحية للقائد الإيطالي، فيلوح بيده ردا عليهما، وتتحرك شفتاه بكلمات الاعجاب التي تضيع في الصخب والضجيج. وقد جاءه هؤلاء الفرسان، بعد نهاية الاستعراض يتقبلون منه التهنئة على مهاراتهم، فدعاهم للوقوف معه على المنصة، لأخذ الصور التذكارية، والمشاركة في تناول المشروبات والمرطبات ودوارق الحليب واطباق التمر، التي احضرها منظمو الحفل لضيوف الشرف، في انتظار الفقرة الثانية التي تلي الفروسية، وهي فرق الاذكار والأناشيد الصوفية التي وقفت في أول الميدان بدفوفها وصاجاتها تستعد لأنشاد مدائحها واذكارها عند مرورها أمام المنصة. وكانت ضحكة المارشال ترن عالية، وسط هذا الجو الاحتفالي البهيج، الذي ينسجم مع مزاج المارشال وحبه الذي اشتهر به للمرح والحفلات الصاخبة.

وفجاة دوى الرصاص الصادرعن حراس المارشال، يغطي على صخب الناس، وموسيقى العرض الذي تقدمه فرقة الاذكار، وسقط مواطن ليبي يرتدي العباءة البيضاء، تحت قدمي المارشال مخضبا بدمائه. فقد رآه هؤلاء الحراس يخرج راكضا من صفوف المتفرجين ويخترق الدائرة المحيطة بالحاكم العام، وقد وضع يده في جيب صدريته لاستخراج السلاح الذي سيغتال به ا لمارشال بالبو فاجهزوا عليه قبل ان يتمكن من ارتكاب جريمته. كنت قريبا من المنصة ترى وتسمع ما يحدث. افزع دوي الرصاص حشود البشر القريبين من الحادث فتفرقوا هاربين يدفع بعضهم بعضا، وهرع الجنود ورجال الدرك لتطويق الحاكم العام وحمايته من أي تهديد، وكان هو قد اسلم نفسه لطاقم الامن الشخصي الذي يرافقه، فاسرعوا نحوه باحدى سيارتهم العسكرية، دون انتظار للسيارة التي جاء بها انطلقت لابعاده عن مكان المحاولة بسرعة فائقة. وتحركت وراءها سيارات كثيرة بعضها عسكر ي وبعضها مدني هي سيارات العساكر ورجال الشرطة، مع سيارات اعوانه الإيطاليين الذين ارعبتهم المحاولة، وخشوا من وجود خطة تستهدفهم فهرعوا إلى سياراتهم، يصيحون بنسائهم ان يقفزن معهم إليها، واندفعوا بها مسرعين غير عابئين بالحشود التي أمامهم، والتي ارغمها الخوف على ان تشق لهم طريقا يشبه المعجزة، وسط الصراخ والعويل. واعتبرها الجائعون والفقراء من أهل المنطقة فرصة للهجوم على الموائد التي تضم المشروبات والحلويات والاطعمة يملأون بها بطونهم، بل عمد بعضهم إلى نقل الكراسي والابسطة والحصران والزرابي، التي كانت جزءا من المنصة. ولم تدر انت ماذا تفعل غير ان تأخد حورية اذا كانت موجودة وتلحق بركب الحاكم العام. 

ذهبت إلى خيمة التشريفات، لتبدأ بحثك عن حورية هناك فاذا بالخيمة قد اجتاحتها افواج من الصبيان الحفاة، الذين يرتدون الاسمال البالية، يطوون الافرشة ويجرون الكراسي ويفرغون اطباق الفاكهة في حجورهم. فلم تقف في وجه احد منهم، لأن كل ما كان يهمك في هذه اللحظة، هو العثور على حورية، التي صرت خائفاعليها، لأنه يمكن لواحد من هؤلاء الثوار الذين ينتمي إليهم صاحب محاولة الاغتيال، ان يعتبرها امرأة مارقة، خائنة لانتمائها الليبي، تستحق القتل. كانت كل السيارات قد غادرت المكان، ولم تبق الا بعض عربات تجرها الخيول، جاء بها بعض الاعيان والشيوخ. لم تبق غير سيارتك رابضة أمام الخيمة تحمل لوحات الحكومة الإيطالية وعلم دولة الاحتلال، وتصلح هدفا مغريا يستقطب مشاعر السخط ضد المستعمرين، الا ان هؤلاء الفتيان الاشقياء من صانعي الشغب، انشغلوا عنها بالغنائم وبعد قليل سينتبهون إليها، لتستقبل غضبهم وحجاراتهم بمجرد الآنتهاء من نهب وتقويض الخيمة، في غيبة رجال الجيش والشرطة، الذين اختفوا متذرعين بحماية الحاكم العام إلا أنك لا تستطيع ان تغادر هذا المكان، قبل ان تتأكد ان حورية قد غادرت في امان هي الأخرى، واثق من انك لم ترها تغادر حتى الآن، ولابد ان تذهب للبحث عنها في الخيام المجاورة ولكنك لا تستطيع ان تترك السيارة قريبا من هذه العصابات.

في هذه الاثناء رأيت شيخا من شيوخ المنطقة، غارقا في الزحام يحاول تهدئة روع الناس، طالبا منهم التزام النظام وايقاف عمليات النهب، فواتتك فكرة استخدامه لحماية نفسك وحماية السيارة والبحث دون خوف عن حورية.وبسرعة اخذت بيده تسحبه باتجاه السيارة وتسأله ان يركب معك، ليستطيع ان يتحرك بسرعة بين الناس يطلب منهم الهدوء، وهذا ماحدث فعلا . نزعت العلم الإيطالي من مقدمة السيارة، واخذت الشيخ معك، وفتحت له سقف السيارة، وسرت تشق به الجموع، وهو يخطب باعلى صوته في الناس، وانت تقود السيارة وبصرك يجول بحثا عن حورية. وتقف أمام كل خيمة من الخيام التي احتمى بها اصحابها منالفوضى وفضلوا البقاء حتى تنتهي حالة الفزع، والرجل يحاول ان يرفع صوته فوق الصخب والضجيج. يسأل الناس ان يعودوا في هدوء إلى بيوتهم، والا استفزوا الحكام واجبروهم على انزال عساكرهم لمعاقبتهم وتأديبهم بالحديد والنار. 

وكان الشيخ بين الحين والاخر يضرب كفا بكف متأسفا على الرجل الذي مات ظلما. وعندما استفسرت منه عما يقصده، افهمك ان المسألة لم تكن محاولة اغتيال كما اعتقد الحراس الذين أطلقوا النار، فالرجل كان مواطنا عاطلا عن العمل اسمه معتوق، تستعين به مدرسة جنزور الابتدائية في اعمال التنظيفات بين الحين والاخر، وهو يسعى مع المدرسة ان يحصل على عمل دائم كاحد السعاة دون فائدة. وقد أخبروه ان الحاكم قادم إلى جنزور، وكتبوا له التماسا يقدمه إليه ليأمر بتعيينه في المدرسة، وعندما قتل كانت يدهما تزال قابضة على الالتماس الذي ظنه الحارس سلاحا. واصلت قيادة السيارة انت الاخر بشيء من العصبية، قابضاعلى مقودها بأصابع متشنجة، تشعر بالغيظ والاسى مما حدث. 

وفجأة وسط الضجيج، تناهى إليك صوت حورية تناديك لحظة مرورك أمام احدى الخيام. أوقفت السيارة تمد بصرك إلى مصدر الصوت، فرأيتها وقد احتمت بمجموعة من مغنيات الاعراس، واندست بينهن متظاهرة بانها واحدة منهن لكي تخفي نفسها عن بعض الرجال الغاضبين مما عرفت انهم يبحثون عنها ويهددون بقتلها. 

اقتربت بالسيارة من مدخل الخيمة إلى الحد الذي استطاعت فيه حورية ان تقفز مباشرة إلى المقعد الخلفي وتدس جسمها بين الكراسي لكي لايراها احد من الجمهور الذي يهددها، ودون ان تنذر الشيخ بما ستفعله، هبطت بقدمك عنيفا على دواسة الوقود لتزأر السيارة وتقفز، وتصنع حالة من الفزع بين الناس الذين تقافزوا شمالا ويمينا تاركين لها الطريق، ولم تقف لتسمح للشيخ الذي صار يصرخ غاضبا طالبا النزول الا بعد ان ابتعدت السيارة أكثر من ميل على مكان الحفل كان المكان خاليا، فادرت رأسك تسأل حورية ان تستقيم في جلستها، فوجدتها منكفئة على وجهها فوق المقعد الخلفي تبكي بكاء صامتا، وما أن رأت الشيخ يغادر السيارة حتى تحول بكاؤها الصامت إلى نواح وصراخ.

تحركت بالسيارة قليلا خارج الطريق العام، وساعدتهاعلى ان تتمدد وترتاح في المقعد الخلفي، ووجدت زجاجة ماء في الصندوق الخلفي للسيارة، فسالتها ان ترش شيئا من الماء على وجهها، يساعدها على الانتعاش. وبعد ان عادت إلى الجلوس، فتحت شنطتها واخرجت قنينة عطر صغيرة استعانت بها على العودة الى حالتها الطبيعية ونشرت بها عرفا زكيا داخل السيارة. كانت تعرف ان المارشال بالبو بخير، بل تعرف أيضاً ما صار يتردد بين الناس عن الخطأ الذي وقع فيه الحراس عندما قتلوا رجلا بريئا واحدثوا كل هذه الفوضى. كان الشيء الذي افزع حورية أكثر من أي شيء سواه هو انها سمعت صوت رجل يبحث عنها وهو يحمل فاسا في يده مهددا متوعدا، يريد ان ينتقم لشرف الليييين الذي دنسته عشيقة بالبو، التي اصطحبها معه إلى هذا الحفل. حدث هذا بعد ان خلا المكان من العساكر ورجال الشرطة فاستغل الرجل هذا الوضع، وجاء لخيمة الشرف يبحث عنها. ولولا ان احدى الزمزامات اشفقت عليها، ووضعتها بين نساء فرقتها، لتصرف انظار هذا الرجل ومن كانوا معه عن حورية لكانت قد تحولت إلى اشلاء تحت ضربات الفأس. 

سألتك حورية عندما أوصلتها إلى بيتها، الا تذكر شيئاعما رأيت، لأن النفخ في هذا الحادث ونشر اخباره بين الناسلن يكون في صالح العلاقة الإنسانية القائمة على الود والتفاهم التي افلح المارشال في تحقيقها بين عنصري الوطنمن ليبيين وإيطاليين، "ولا يجب ان نترك حارسا غبيا يفسدها". هكذا كانت تقول، وامتثالا لتعليماتها لم تفتح فمك بكلمة واحدة عن الحادث حتى لمختار العساس وعياد السائق وهما يسألانك في فضول، عن السبب الذي جعل الباشا الكبير لا يعود معكما كما كان متوقعا، وعن الحالة المرضية التي اعترت حورية حتى اضطرت إلى الاتكاء عليك، وهي تخرج من السيارة وتصعد الى بيتها، لم تقل لهما شيئا، واسرعت بالعودة إلى الفندق حيث احتفظت بصمتك، وقررت الا تقابل احدا ذلك المساء لكي لا تكون شريكا في جلسة يثار فيها الموضوع.

ولعل هذا التكتم هو الذي جعل اهتياج العواطف اثناء الليل يزداد حدة، فامضيت ليلة عامرة بالكوابيس. كان بطلها ذلك الرجل القتيل، الذي ارتدى لهذه المناسبة عباءة نظيفة، وجاء يملأ قلبه العشم في مروءة الحاكم الإيطالي الذي سيحقق له حلم ان يصبح عامل تنظيفات بمدرسة جنزور، فاغتالت حلمه البسيط رصاصات حارس مذعور. وكانت صورة معتوق المسكين وهو ينكفيء جثة هامدة فوق البساط، وقد اطل وجهه المتعب العامر بالتجاعيد بعينين جاحظتين رعبا، وفم مشدوه، ومفتوح بصرخة تجمدت فوقه إلى الابد، هو آخر ما وعته الذاكرة لحظة الاستيقاظ. وعرفت عندما ذهبت فور استيقاظك تشتري الصحف المحلية من عربية وإيطالية، لترى ما حدث من اصداء على صفحاتها ان ما قالته لك حورية قد تحول إلى سياسة رسمية، وان ستارا من الصمت اسدل فوق الحادث، فلم تأت على ذكره هذه الصحف، ولم تتكلم عنه اذاعة الراي المحلية التي جلست في المقهي تسمع فقراتها الاخبارية الصباحية تنتال من مكبر الصوت المتبث في برج الساعة.

ووصلت إلى البيت لتسأل عن صحة حورية، فوجدت بانتظارك امرا عاجلا منها، تركته لك مع حواء، وهو ان تأخذ السيارة وتذهب إلى بيت الشيخ البلبال في زنقة شائب العين وتحضره لها على عجل رغم امتهانها العمل في المستشفيات الإيطالية كممرضة، فان ولاءها بقى لهذا النوع من العلاج الروحي الذي يقدمه رجال من أهل الله مثل الشيخ البلبال واشباهه. لم تكن المسافة بعيدة، ولم يكن الزقاق الذي يقع فيه بيت الشيخ يتسع لمرور السيارات، ومع ذلك اخذت السيارة لأن هذه هي تعليمات السنيورة حورية الدائمة لك كما حدث من قبل، عندما ذهبت لاحضار سيدة التفصيل والخياطة أو فنى تركيب الستائر أو غيرهما، ممن كان من السهل عليك الذهاب لاحضارهم من اماكن قريبة، لا تحتاج لاستخدام السيارة، إلا أنها الزمتك بان تذهب إليهم بها، كنوع من التعبير عن احترامها لهم. فالناس يحبون ان يجدوا سيارة في انتظارهم، وبعضهم يحب ان يراه الناس راكبا مثل هذه السيارة الفارهة. وهي لا تريد ان تبخل عليهم بمثل هذه المتعة، التي لا تكلف شيئا.

الشيخ البلبال ليس من هذا النوع الذي يتباهى بالمظاهر الدنيوية، ولن يهمه ان يأتي راجلا أو راكبا افخر السيارات، وعندما ذهبت إليه وضعت السيارة قريبا من ميدان الساعة، ودخلت إلى الزقاق، وجدته واقفا بانتظارك أمام باب بيته، مرتديا جلبابه وطاقيته الابيضين شاكرا لك صنيعك لأنك جئت تماما في وقتك، كنت تعرف ان السنيورة حورية لم ترسل له خبرا مسبقا باحتياجها إليه، وانه لا يملك هاتفا يمكن ان تهاتفه به، وانما هو هاتف من الغيب يزوده بهذه المعارف والمعلومات التي لا يعرفها الا من لديه اتصال بالعلم اللدني. قال بعد استوى جالسا على المقعد المجاور لك:
- اذن فقد احزنك مصرع معتوق المسكين على يد حراس المارشال، ما اعظم جهل هذا الحاكم الإيطالي عندما يخشى الموت على ايدي الليبيين، وهو الذي لن يموت الا على ايدي جنوده الإيطاليين. انهم هم، ولا احد غيرهم، من سيطلقون عليه النار ويردونه قتيلا.  

ارسل كلام الشيخ ارتعاشة هزت جسمك كله. ان احدا لا يجرؤ على ذكر الفاجعة التي حدثت بالامس، فما بالك بذكر المصير المرعب الذي ينتظر حاكم البلاد على ايدي جنوده مستقبلا.  ليته لم يقل ما قاله أمامك لأنك ستكون مرغما على ان تحتفظ بهذا السر في صدرك، ولا تبوح به ابدا. لهؤلاء الناس من أهل الله اساليب في البوح والتعبير تختلف عن بقية الناس، ولهم سبل لا احد يمكن ان يتنبأ بها، والا لماذا اختارك ليقول لك هذه النبوءة الخطيرة، هل لأنه رآك حزينا لمقتل الرجل البريء، فارادك ان تطمئن لأن هناك انتقاما عادلا ينتظر الحاكم الذي تسبب في المأساة؟ لم تجرؤ على ان تتفوه أمامه باي تعليق، ولم تجد في نفسك القوة لأن تسأله السؤال الذي يستدعيه حديثه، وهو موعد تحقيق هذه النبوءة، ولم يتفوه هو باية كلمة أخرى . 

استغرق في صلواته وتسابيحه التي لم يكن يقطعها الا بنداءات تشبه الصراخ "الله حي، الله حي" "مدد يا اسيادنا مدد" "دستور ياسيدي الشنشان، ياللي راقد في دحمان" "تستور ياسيدي منصور، ياللي نورك اعظم نور" امضى الشيخ وقتا يزيد على ساعتين، داخل الب-يت مع حورية، وآثر بعد انهاء مهمته، ان يعود إلى بيته على الاقدام فتركته وشأنه، وصعدت الدرج للقاء حورية التي ارسلت لك مرجان يستدعيك.  

لم تشأ اثناء حديثها معك ان تتوقف كثيرا عند حادث الامس. اشارت إليه اشارة عابرة وهي تنقل إليك امتنان الحاكم العام، بما فعلت عندما ابيت ان تهرب أمام المشاغبين، وبقيت بينهم تبحث عن حورية، حتى وجدتها وانقذتها مما كان يتهدد حياتها. كان واضحا انها تجاوزت تلك الازمة النفسية الناتجة عن فزع الامس، وافلحت في استرداد طبيعتها المرحة، المتفائلة المحبة للحياة شكرا للشيخ البلبال، الذي مازالت رائحة اعشابه ذات العبير الطيب تعبق في انحاء البيت، تمارس تأثيرها المهدىء للاعصاب، وتغري بالاستلقاء فوق احدى هذه الكراسي المريحة. انتبهت وانت تستسلم مرغما لحالة الاسترخاء الذهني الناتجة عن تأثير هذه الرائحة، إلى حورية تضع بين يديك مظروفا كبيرا مليئا بأوراق نقدية، ظهرت حوافها واضحة، تعيدك إلى حالة اليقظة والانتباه، فتتفرس في الظرف مأخوذا ومندهشا، متسائلا عن الغرض من اعطائك هذا الظرف، لأنك لا يمكن ان تتصور انه لك، ولابد انه مبعوث عن طريقك لاحد الناس. إلا أن حورية مضت تؤكد انه لك، قائلة بانها مكافأة رمزية خصك بها الحاكم العام، نظير موقفك الشجاع يوم امس. اعتذرت عن قبول النقود، وانت تعيد إليها الظرف قائلا لها بان ما فعلته لم يكن يعدو القيام بواجبك، وان ما تتقاضاه من مرتب، وما تلقاه من حسن المعاملة، يفيض ويزيد عما تقدمه من عمل لها، وان ما تشعر به من فرح وانت تخدمها يكفي وحده ليكون الهبة التي لا تريد شيئا سواها. كنت تقول هذا الكلام صادقا، إلا أنك على ثقة من انها لن تسترد الظرف بل ستلح عليك في أخذه، وهو ما حدث فعلا. 

 

 

(10)

 

ولم تصدق، عند ذهبت بالنقود إلى السيارة، واخرجتها من الظرف تعدها، انها تصل إلى هذا المبلغ الكبير الذي يساوي مرتبك الشهري لأكثر من عامين. نقود كثيرة، كثيرة، لاتدري ماذا تفعل بها، أو كيف ستقوم بانفاقها . قررت ان تكون حكيما فتضع نصف النقود جانبا وأن تعطي لنفسك متعة وحرية التصرف في النصف الثاني. كان الوقت أوان القيلولة، ولم يكن هناك احد قريب منك غير مختار العساس، الذي دخلت عليه غرفته فوجدته مستغرقا في اغفاءة القيلولة. ايقظته ووضعت في حجره كومة من الفرنكات، بلغت أكثر من مائة وخمسين فرنكا، أعطيتها إيّاه وهو يفتح عينيه في حالة من الذهول بين النوم واليقظة لا يدرى ان كان ما يحدث حلما أوعلما. ويسأل عما حدث، فقلت له هامسا، منحنيا برأسك إلى الناحية المعتمة من الغرفة، لتعطي الموقف لون الحلم والأوهام، انها الملائكة التي تطعم الناس ارزا اثناء النوم، قامت بتعديل اسلوبها، عندما اكتشفت ان النقود تجلب سعادة أكثر مما يجلبه الارز، واستبدلت به نقودا، فلا تستيقظ، وواصل النوم لتحصل على مزيد من الفرنكات. رأيت وانت تغادر الجاراج عياد الفزاني قادما، وكدت تدخل يدك في جيبك لتدفع له جزءا من النقود، إلا أنك تذكرت اللكمات التي انهال بها عليك منذ يومين، فقررت الامتناع عن اعطائه شيئا، لأن هناك اناسا اقرب إلى قلبك واجدر منه بمشاركتك هذه النعمة. اتفقت معه على تقسيم العمل بينكما فاختار لنفسه العمل في الفترة الصباحية، على ان يترك لك فترة المساء وما يتبعها أحياناً من مهمات ليلية، فوافقت، رغم ان هذا الترتيب سيحرمك من وجبتي الافطار والغداء الشهيتين المجانيتين في بيت حورية، واتفقتما أيضاً على ان يبدأ تنفيذ هذا النظام منذ الغد، تاركا له مفاتيح السيارة ليكمل عمل اليوم بدلا منك، وقبل ان تغادر باب البيت، رأيت حواء عائدة بسلالها من سوق الحوت فاخذت كومة الأوراق المالية التي كنت ستعطيها للفزاني ورميت بها إليها. 

سرت في فيا كانيفا، منتشيا، منتقلا منه إلى شارع الملك فيتوريو ايمانويل، تتأمل نوافذ الحوانيت وتبحث عن افضل الطرق لانفاق المبلغ الضخم الذي قررت انفاقه من منحة المارشال . سترسل الجزء الاكبر منه لأهلك في "أولاد الشيخ" تمسح به قليلا من البؤس عن اطفال العائلة، ولكي يصل المبلغ حقا لهؤلاء الاطفال، فلن ترسله نقودا يستأثر بها الكبار وانما في شكل ملابس والعاب وحلوى ومواد غذائية علهم يعيشون يوما من الأيام التي حلمت بها في طفولتك وانت ترى الالعاب في ايدي الاخرين أو الحلوى أو التفاح ولا تستطيع الحصول على شيء من هذه الاشياء. عندما ذهبت في الصباح التالي إلى وكالة الشوشان، اندهش الناس الذين يعرفونك، لأنك لا تزال موجودا في طرابلس فقد ذهب في اعتقاد الجميع، بما في ذلك أهلك في أولاد الشيخ انك الآن في عرض البحر، ضمن المسافرين إلى بر الحبشان. ابلغتهم ان قرارا صدر في آخر لحظة، يقضي بتأجيل سفرك لاحتياجهم إلى سائق في هذه الفترة، وسألت الذاهبين إلى البلدة ان يبلغوا ذلك لوالدك، وعرفت ان هناك سيارة نقل ستسافر ببضائعها إلى هناك آخر النهار، فاخذت معك عتالا يجر عربة يد، واتجهت إلى أول دكان للمواد الغذائية، تملأ العربة دقيقا وسكر وزيتا وبسكويتا وحلوى، وتأخذ سلة كبيرة تملأها بالفواكه الموجودة في السوق مثل الموز والتفاح والعنب، وكيسا من الخبز الإيطالي الذي لا يباع الا في طرابلس. ثم اشتريت من دكانة الملابس كمية كبيرة من ملابس الاطفال والصبيان من مختلف الاحجام نسائية ورجالية، وكمية مثلها للكبار من الملابس الشعبية العربية التي يرتديها الناس في البلدة وما يناسب اذواقهم من الوان. واشتريت من عربات الشارع التي تبيع العاب الاطفال مجموعة من العرائس وسيارات اللعب والزمارات والبالونات، وقسمت كل ما اشتريت إلى قسمين متساووين، احدهما ارسلته إلى بيت والدك واطفاله واسرته، والثاني لبيت امك واطفالها واسرتها، ورجعت وانت سعيد بحجم المفاجأة الهائلة التي سيعيشها اخوتك الصغار المتوزعون بين البيتين. 

لابد لك الآن بعد ان اطمأن قلبك لما فعلته بحق الاسرة الكبيرة في القرية، ان تطمئن أيضاً إلى حال اسرتك الصغيرة في المدينة، التي لا تعرف اسرة سواها وهي اسرة الحاج المهدي. انتظرت حتى فتحت المتاجر بعد استراحة الظهيرة، وقصدت شارع كوشة الصفار حيث احضرت عتالا ممن يسمونه حمال بوعديلة، ومررت على دكان الجزار، فوجدت لديه خروفا صغيرا استحسنت فكرة شرائه كاملا ليكون وقع المفاجأة أكثر قوة من مجرد قطع من اللحم مهما كانت كميتها، القيت به في سلة العتال واضفت إليه ما يساعد على طهيه، من زيت وسمن وطماطم معجون وعدد من اكياس المكرونة، دون ان تنسى شراء ما يكمل طقوس الموائد من شاي وسكر وفستق سوداني، ومن دكانة الخضار والفاكهة ملأت سلة أخرى حملتها بيد وباليد الأخرى لفائف اشتريتها من تاجر الملابس التقليدية فستانا نسائيا يليق بامرأة شابة مثل ثريا، ورداء للام وجلابية نوم للاب، واتجهت بما تحمله إلى زنقة بنت الباشا يتبعك العتال الذي ظن انك تذهب بهذه الحمولة خاطبا، فلم ترد على سؤاله ولا على التهاني التي مضى يزفها إليك بهذه المناسبة، إلى ان وصلت به بيت الحاج المهدي، فغمرت وجه العتال علامات الدهشة، لأنه يعرف صاحب البيت، وان آخر بناته تزوجت منذ اقل من عام مضى، ثم انفرجت اساريره وكأنه وجد الجواب الذي يطلب تأكيده منك، متسائلا عما اذا كانت هذه الابنة قد طلقت وجئت انت لخطبتها؟ فلم تزد على ان قلت متمتما كلمة لم تشأ ان يتبينها، قلت له من صميم قلبك "يا ريت".

توقعت طبعا ان تغمر أهل البيت حالة من الاستغراب والاندهاش لدى رؤيتهم لهذه الهدايا، التي تكلفت اموالا كثيرة، والتي لم يتعود ان يهاديها الناس لبعضهم الا عند الشروع في خطبة أو زفاف. وهيأت نفسك للرد على مثل هذا الاستغراب فقد اردت ان تحتفل بنجاتك من مواجهة اهوال الحرب بوليمة تتفق وهذه المناسبة. توكلت على الله وطرقت الباب، وقد توقعت ان يكون وجه ثريا هو أول وجه تراه، إلا أن الصبي كان اسبق منها لفتح الباب. وقبل ان تسأل الصغير ان يخطر أهله بوجودك امرت العتال ان يفرغ حمولته في السقيفة ويمضي. مغمورا بالفرح ركض الصبي يبشر أهله ورجع بسرعة، يقودك إلى المربوعة حيث يجلس والده. عرفت بعد ان دخلت وجلست ان الحاج المهدي صار يجد صعوبة في المشي، بسبب المضاعفات التى تركها له برد العظام. وجدته جالسا على المندار يستند بظهره إلى وسادة وضعها بينه وبين الحائط، يحاول ان يبدو متماسكا، وهو يعزو ما حدث له لارادة الله ومشيئته. ونبرة اسى وانكسار تخالط صوته، طبعا لا شيء فوق ارادة الله، ولكن ماهي التدابير التي تمت لتعويض مصدر رزق العائلة الذي توقف بمرض الاب؟ لم يكن أمام العائلة إلا أن ترضى بذهاب الصبي إلى الدكان بدلا من مواصلة دراسته في الكتاب، لا لكي يصنع النعال أو يقوم باصلاحها كما كان يفعل والده، فهو لا قدرة له على ذلك، ولكن ليحاول بيع ما تبقى من نعال أو أخرى يزوده بها اصحاب والده من صانعي الاحذية، مقابل هامش ربح بسيط. جاءت ثريا وامها لتحيتك وهما في دهشة لأنك لم تسافر مثل فتحي إلى الحرب، وتسألان عما اذا كانت السفن التي حملت المجندين قد تراجعت عن السفر فاسرعت باخبارهما، وقبل ان تراودهما اية آمال كاذبة عن نجاة زوج ثريا من الحرب، بان الاعفاء الذي صدر لم يشمل احدا غيرك. وقالت الام ما معناه ان ذلك ليس امرا غريبا مادمت الوحيد الذي كنت تخرج كل يوم من المعسكر. ولم تشأ ان تسهب في شرح الظروف التي ادت إلى هذا الاستثناء.

كما لم تبادر باية اشارة إلى الهدية التي احضرتها لهم اذ وجدتهم يتقبلونها دون اعتراض، لأن ظروفهم فيما يبدو لم تكن تسمح بترف التمنع والتعزز عن قبولها. بل هم لم يسألوا حتى عن المناسبة التي استدعت احضارها، فقد رأوا في مرض الاب سببا كافيا لمثل هذه الاعانة. كل ما سمعته كلمة عتاب من الام لأنك تكلف نفسك كثيرا كلما جئت لزيارتهم، اتبعتها بجملة شكر وامتنان ودعاء بان يجزل لك الله العطاء، ويفتح في وجهك ابواب الخير. قالت ذلك وهي تهيء لنفسها مجلسا في ركن الغرفة لاعداد الشاي، وبجوارها جلست ابنتها التي احضرت طبق الكاكاوية، لتقشيره وتحميصه، ولم يشأ الصبي ان يصبر حتى يأتي موعد تفقد العائلة لما جئت به من الهدايا فبحث حتى وجد كيس التفاح الذي اخذ منه واحدة، وجاء يقضمها، وبدا لك جليا انك موضع حفاوة وترحيب من كل افراد العائلة، وانك لا تخطىء في حقهم أو حق نفسك عندما تتصرف باعتبارك عضوا في هذه العائلة. إلا أن احساسك الغامر بالبهجة لما وجدته من قبول واحتفاء يتعارض مع جو الكآبة الذي يسيطر على البيت ويغطي وجه اصحابه، بمن فيهم ثريا التي ازدادت خلال هذين اليومين نحولا وضعفا، وصار وجهها أكثر شحوبا، وفاضت عيناها الجميلتان بالاسى. ولم تشأ ان تترك الحديث يتلون باجواء أهل البي-ت، ويمضي بالاتجاه الذي يريدونه، والذي ينحصر في انشغالهم بمرض الاب، وغياب زوج الابنة، وايقاف دراسة الطفل، وسوء دخل الدكان، وانطلقت تتحدث عن كرامات الشيخ البلبال، وقدرته على ان يتنبأ بالمستقبل، وحقيقة انه يعرف من اسرار هذا العالم مالا يعرفه سواه. ونصحت الاب المريض ان يسعى للاستفادة من بركاته، فهو يسكن في حي مجاور، ولن يتردد في زيارة سريعة لهذا البيت، وانتقلت للحديث عن انواع السيارات الجديدة التي تتسلق الهضاب، وتطوي الأرض الوعرة، وعن الاجهزةالحديثة التي تمثل آخر مخترعات الاجانب، وهي هذه الاجهزة التي تتكلم وتغني كما رأيتها في محلات الإيطاليين مثل الحاكي والمذياع، وعاد الاشراق إلى وجه ثريا التي قالت باسمة:
- لا يتحدث الناس هذه الأيام الا عن الحاكي الذي يغني، وكلما ظهرت اغنية جديدة في الاعراس قالوا انهم اخذوها من الحاكي حتى صرت اتشوق إلى ان اسمع هذا الحاكي، وارى شكله كيف يكون.

قلت لها ان الحياة مع الحاكي سيكون لها طعم آخر لأن بامكانها ان تأمر كل مطربي الشرق ان يغنوا لها لأن كل اغانيهم مطبوعة في اقراص سوداء اسمها اسطوانات. ما أن تضع الواحدة في الحاكي حتى تنطلق تدور وتغني. انتهى دور الشاي الثالث الذي يأذن بنهاية الجلسة، ولكن ذهنك ظل مشغولا بدورة الاسطوانة تحت ابرة هذا الحاكي الذي يغير شكل الحياة ويجعلها أكثر جمالا واقل ضجرا وسأما. سألتك الام ان تأتي في الغد لتتناول معهم وجبة الغداء، وتشارك في استهلاك شيء من هذه اللحوم الكثيرة التي جئت بها، فأرجأت العزومة يوما واحدا، لأنك صممت على أن تعود إليهم بعد يومين بهدية أخرى، هي هذا الحاكي الذي تحلم ثريا بان تراه وتسمعه، وان يكون موعد الغداء مبكرا قليلا بسبب ما لديك من عمل مسائي. ستحقق لها هذه الامنية دون ان يكلفك ذلك عنتا ولا مشقة، فالنقود التي تكفي لشراء الحاكي موجودة، وعشاق الحكايات يقطعون البحار السبعة ويهدون الجبال والاسوار العالية، ويعرضون حياتهم للمخاطر والهلاك لمجرد الفوز بابتسامة، أو نظرة رضا من حبيباتهم، فكيف تبخل بمبلغ لديك ما يوازيه عدة مرات، تشتري به هدية للمرأة التي تحب، خاصة وانها أكثر امرأة في العالم احتياجا لمثل هذا الحاكي، فهي تجلس اليوم كاملا داخل البيت لا عمل ولازوج ولا اطفال، عدا أبًا مريضًا مشمولا بعناية الام، وصبيًا يذهب لقضاء جل يومه في الدكان. فما الذي بقى لمثل هذه المرأة الوحيدة الحبيسة بين الجدران، غير الضجر. سيكون الحاكي حلا سحريا لمشكلة ثريا، سيحدث انقلابا في حياتها، ويبدد قسوة الواقع الذي حولها بايقاعات الموسيقى وجمال الغناء بالوانه المرحة المبهجة.

انها خدمة إنسانية، ستقابل بها الله يوم القيامة، وستبقىعلامة مضيئة وراسخة في ذاكرة ثريا، ستذكرك بها إلى آخر العمر. انت تحبها حبا بلا أمل، كلاكما يعرف ذلك. وكأي حب في الدنيا، له في النهاية مستحقات لابد من تسديدها، دون اعتبار للارباح والخسائر، ودون ان ينتظر مقابلا لما اعطى. ما شجعك أكثر على شراء الحاكي، هو ان تاجرا ليبيا اسمه المشيرقي، افتتح في الفترة الاخيرة متجرا محاذيا لمتاجر الطليان في كورسو سيشيليا، يتخصص في بيع هذه الاجهزة الحديثه مثل المذياع والحاكي والة الخياطة ومستلزمات هذه الاجهزة من محولات وبطاريات واسطوانات وغيرها، وله زبائن من أبناء البلاد، مما يعني ان هذه الاجهزة لم تعد حكرا على الإيطاليين واثرياء اليهود.  

وكنت تعرفت في وقت سابق على احد أبناء المشيرقي واسمه الهادي، الذي ابلغك بان لديهم تخفيضا خاصا لليبيين، فجاء التفكير في شراء الحاكي فرصة للاستفادة من هذا التخفيض. كانت الارفف المخصصة للاسطوانات تمتلىء باسطوانات الاغاني الإيطالية، بينما احتلت الاسطوانات العربية ركنا صغيرا وفهمت من صاحب الدكان ان اغلبها تحتوي على اعمال الفنانين المصريين، وكان اندهاشه كبيرا عندما عرف انك لم تسمع من قبل بفنانين مثل سلامة حجازي وسيد درويش وفتحية احمد وصالح عبد الحي ومنيرة المهدية ويوسف المنيلاوي وام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجاة علي وزكريا أحمد ومنيرة المهدية، وهم مطربون وملحنون يعرف اغلبهم معرفة شخصية، فمنهم من جاء إلى طرابلس وقدم حفلاته علىمسارحها، والتقي به عندئد، أو عند زيارته إلى مصر ومشاهدة حفلاتهم هناك. واراك مجموعة الصور التي تجمعه مع بعضهم معلقة في احدى اركان الدكان، ولهم جميعا اعمال غنائية وموسيقية موجودة على هذه الاسطوانات التي يبيعها في الدكان، وهو يأسف لأن الفنانين الليبيين لا يجدون من يسجل اعمالهم، وعدا المطربة اليهودية مسعودة الراحلي، وزميلها المطرب صهيون محلولة، فانه لا وجود لشيء ليبي عدا اغنية واحدة سجلها الشيخ على هنكه في المانيا، أو مجموعة اسكتشات واهازيج سجلها مطرب وملحن مهاجر إلى تونس اسمه بشير فهمي. قائلا بانه سيسعى لاقناع والده بانشاء شركة لتسجيل اسطوانات للفنانين الليبيين امثال عثمان نجيم، وكامل القاضي، وشاكر المرابط، ومحمد سليم واحمد شاهين كي يعرف العالم العربي، ان في ليبيا ابداعا فنيا راقيا. 

ثم ساعدك في اختيار الاسطوانات التي تشتريها لهؤلاء الفنانين المشرقيين وللاغاني التي سجلتها في تونس المطربة مسعودة الرحلي، والاغنية المشهورة للمطرب صهيون محلولة "حوت يأكل حوت، وقليل الجهد يموت" واغنية الشيخ علي هنكة "بنات في برلين يا ما جملهم حرامات بالفضة في خواصرهم" واسطوانات أخرى سجلتها اذاعة الراي لاهازيج الطرق الصوفية ومدائح المنشدين وموسيقىالحضرة العيساوية، ونماذج من العزف المنفرد على الات شعبية مثل المقرونة والغيطة وآلات الايقاع واغاني بشير فهمي وبينها "يابنت عمي محلاكي" و"الطير اللي يغني وجناحه يرد عليه" واغنية سبق ان سمعتها له في بيت حوريه وهي "الحرة اللي عشقت في وصيف" وقبل ان تجازف بانهاء هذه الصفقة، واردت ان تعرف بان نقودك تكفي كل هذه المشتريات، فسألته عن الثمن، وعندما اجرى حسبته وذكرلك المبلغ بعد انقاص الخصم، وجدت بان ما لديك من مال يكفي لشراء أكثر من جهاز، فمنحته النقود سعيدا بانك سوف تصنع بهذا المبلغ الزهيد احدى أجمل المفاجآت لثريا.

اراد الرجل ان يجاملك فاضاف إلى الاسطوانات التي دفعت ثمنها اسطوانة أخرى على سبيل الهدية، تحتوي ترتيلا للقرآن الكريم بصوت مقريء مصري اسمه محمد رفعت. وحرصا على التوقيت الذي يعطي للمفاجأة قوتها، لم تشأعندما وصلت إلى بيت الحاج المهدي في الموعد المحدد للغداء ان تفتح صندوق الورق المقوى الذي احتوى الجهاز فور وصولك. ادخلته معك، وتركته مغلقا، موحيا بانه شيء اشتريته لبيتك، ولم تجد وقتا لحمله إليه قبل الغذاء. وجلست مع الحاج المهدي حول قصعة البازين التي احتوت لحما يكفي لإشباع عشرة أشخاص، اكلت بشهية مفتوحة، واعتبرت وجودك في هذا البيت، قريبا من ثريا وأهلها، عيدا، وحان موعد الشاي فانتظمت الحلقة التي ضمت الاب والام وابنتهما وابنهما. وبصمت مددت يدك إلى صندوق الحاكي تفتحه كان صاحب الدكان قد أوضح لك كيفية تشغيله، وهيأه ليكون جاهزا للعمل، وما عليك إلا أن تضع الاسطوانة وتضع عليه الرأس ذا الابرة الذي في نهاية الذراع، ليغني. وكانت الاسطوانة التي اخترت ان تبدأ بها، هي تلك التي تحتوي تراتيل قرآنية من سورة الرحمن، ولم ينتبه الجميع الا وهذا الصوت الشجي الذي يبدو كانه قادم من السماء يجلجل في وسط الغرفة" «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان».

كان وقع المفاجأة عظيما، أكثر مما توقعت، فقد مرت لحظة صمت وذهول وانصات، قبل ان ترتفع صيحات الدهشة من الجميع، ونهض الحاج المهدي من مكانه، وكأنه لم يعد كسيحا، ثم عاد يلهج باسم الله، في حالة من الاستغراب كانه يشهد احدى المعجزات، كذلك الام التي خالط رد فعلها شيء من الخوف، وظلت تبسمل وتحوقل، كانها في حضرة عمل من اعمال الجن، ولا غرابة ان يكون استقبال الام والاب بهذه الطريقة، لأنهما يجهلان ما يحدث على مستوى هذه الاختراعات الحديثه، عدا ما ذكرته عرضا في حديثك منذ يومين. فتركت لابنتهما مهمة ان تشرح لهما عمل الحاكي. وانتهت الايات المسجلة على الوجه الأول، فلم تدر الوجه الثاني وانما أنتقلت إلى اسطوانة أخرى، واناشيد جماعية خفيفة ذات ايقاع سريع من المأثور الأندلسي الذي يغنيه أهل طرابلس في الافراح و الاعياد مثل "ياهلالا غاب عني واحتجب" و "ولما بدا يتتني"  "ويا ضبية الواد " والقصيدة الشهيرة التي وجدت معانيها تطابق حالتك "ياليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده". 

انتهت لحظة الاحساس بالصدمة، لتفضي إلى احساس عارم بالفرحة، فقد بدأ افراد العائلة يستوعبون ما يحدث، ويندمجون معه، ويعبرون عن بهجتهم باحضارك لهذا الاختراع العجيب إليهم، لينقل اصوات اعظم المغنين والمقرئين إلى بيتهم. تجولت معهم بين عدة انواع من الغناء الشعبي والديني، تاركا الاغاني الشرقية التي تتحدث عن الغرام الصريح، لكي تستمتع بها ثريا عندما تختلي بنفسها مع الحاكي. 

كنت سعيدا باجواء البهجة التي اثارها الحاكي في بيت سكنته الكآبة منذ ان اقعد المرض صاحبه، واحسست ان الثمن الذي دفعته فيه، كان زهيدا جدا، بجوار ما ادخله إلى هذا المكان من سرور وبهجة، وانك عملت عملا من اعمال الخير تتاب عليه عند الله، وعندما انتهيت من رشف كوب الشاي الثالث المخلوط بالكاكاوية، نهضت واقفا تطلب الاذن بالخروج، فارتفع أكثر من صوت يذكرك بانك نسيت ان تعيد الجهاز إلى صندوقه، وتأخذه معك، فقد ظن الجميع انك استعرته من رؤسائك في العمل لعدة ساعات وستعيده إليهم. ودون ان تصحح لهم ظنهم، انحنيت واخذت الجهاز بين يديك وبدل ان تعيده إلى الصندوق، اتجهت به إلى دولاب صغير في ركن الغرفة يصلح مكانا للجهاز، وسألت ثريا ان تأتي بقطعة قماش تفرشها للحاكي، اذ ليس من العدل ان نأتي به من بيته الاصلي في روما، لتسليتنا والتسرية عنا، دون ان نعتني به ونحسن وفادته، وعندما وجدت ان كلامك لم يكن مفهوما افصحت لهم بانك لم تأت به إلى هذا البيت لكي تعيده وانما جئت به لكي يبقى، لأنك اشتريته أساسا لتقديمه هدية لهم.

وكأن تيارا كهربائيا صعق كل افراد العائلة في لحظة واحدة فانتفضوا يصرخون برفض الهدية في نفس واحد، بمن فيهم الصبي الصغير الذي كنت تظنه اقل ادراكا من ان يعي مثل هذه الامور، ولأول مرة يعلو صوت الاب الذي كان واهنا ضعيفا، وينطلق قويا جليا يطلب منك ان تأخذ الحاكي معك لأنك انت الأولى به، والاستمتاع بتراتيله وغنائه. كان الحاكي ما يزال بين يديك وانت تدير بصرك بينهم، مندهشا لهذا الرفض والاستنكار الذي لم تتوقعه، وتقدمت ثريا ترفع الصندوق من الأرض، ترجوك ان تضع فيه الحاكي وتأخذه معك. كان هناك اجماع واصرار على رفض الهدية بعكس ما حدث مع هدية اللحوم والمواد الغذائية والملابس، عندما قبلوا بامتنان ما جئت به إليهم، فهل تراهم اعتبروا ان الأمر زاد عن حده حتى صار يثير الشبهة؟ ام انهم وجدوا في جلب شيء يتصل بضرورات الحياة كالطعام واللباس، عملا من اعمال المروءة، وتعميق أواصر الود والصداقة، فقبلوه، بينما رأوا في هذا الجهازالذي ينتمي إلى عالم الترفيه والكماليات شيئا لا يجوز قبوله، أو لعلهم ظنوا ان مثل هذا الجهاز فوق امكانياتك، وانك بعد ان احضرته لتجريبه، وإعطائهم فكرة عنه، تحرجت من اخذه ثانية، فارادوا تجنيبك الحرج والخجل، واعادوه إليك. إلا أنك مازلت جازما في اعتقادك، بان اصلح بيت للاستفادة بهذا الحاكي، هو بيت الحاج المهدي لاستعماله كمضاد للضجر والكآبة، ولذلك رفضت رفضهم، واتجهت بخطى سريعة إلى الباب تاركا الجهاز وراءك، قائلا بلهجة قاطعة، اردتها ان تحسم هذا الموضوع:- لا يحق لي ان استرد الهدية بعد ان وصلت إلى اصحابها. 

نزلت السلالم وثبا، حتى وصلت إلى الشارع، واسرعت مبتعدا، واثقا من انك حققت ما تريد، إلا أن صوتا صادار عن حركة باب البيت الذي تركته، ارغمتك على الالتفات، لترى ان الباب قد فتح، وامتدت منه يد تضع الصندوق الذي يحمل الحاكي أمام عتبة البيت. وقفت في مكانك حائرا، لا تستطيع ان تقرر مايجب عليك عمله، ثم رأيت نفسك تسير باتجاه عتبة البيت وتنحني لنقل الصندوق الذي يحمل الحاكي. كان غريبا هذا الاصرار على رفض هديتك. انه اصرار لا يجدي معه ان تطرق الباب وتحاول اقناعهم بقبوله، لأنهم لن يفعلوا، ولم تجد بدا من ان تستدير وتاخذ طريقك عائدا بالحاكي إلى غرفتك في الفندق  هاهو رفضهم ياتي حاسما قويا يهدد الاسس التي تستند إليها هذه العلاقة، من حيث اردت تعميقها وتأكيدها بمثل هذه الهدية، التي رأوا في قبولها اهانة لهم. لم يكن ممكنا ان تتوقع رد فعل بهذه الحدة، أو ان تعاملك ثريا وعائلتها بهذا القدر من الريبة والشك. كنت قد وطنت نفسك على ان تتقبل الواقع وترضى به، وتكتفي من حب ثريا بهذه اللحظات التي تكون فيها قريبا من بهاء وجهها وصفاء عينيها، وان تستمد متعة الروح من شفافية وعذوبة ابتسامتها، وان تحبها من بعيد هذا الحب الذي لا يرتجي وصالا. كنت قد سمعت في احدى الاغاني المشرقية مقطعا يمجد حب الروح لأنه هو الحب الخالد، ويهزأ من حب الجسد لأنه حب زائل، فوجدته مقطعا يليق بك وبقصة حبك لثريا. وقررت ان تراها دائما هكذا، وان تعلو وتتسامى بحبك لها ليصل إلى هذه المرتبة السامية، بعد ان ضاعت منك المراتب الدنيا. 

انها أيضاً تستطيع ان تحبك حبا روحيا، لا يتعارض مع التقاليد ولا يسبب لها ضيقا ولا حرجا، أو يجلب لوما من ضمير أوعذول، ومهما كانت قوة العاطفة التي حملتها لك قبل الزواج، فان موقفها بعد ذلك ظل دائما موقف القبول والالفة مما يوحي بانها وجدت لنفسها صيغة تريحها ولا تشكل عبئا على ضميرها. وهي تلتقي بك سعيدة بهذا اللقاء، رغم ارتباطها الشرعي برجل آخر بالنسبة للاسرة، فان صداقتك لها سابقة لزواج ثريا، وعملك صبيا لوالدها جعلك قريبا منه، إلى حد انه كان يرى فيك ابنا ثانيا له، فلا ضير اذن ان تعتبر علاقتها بك، وشعورها نحوك، ينتمي لهذا النوع من العلاقات الاخوية، ان كان ذلك يسعدها فهو لا يضع قيدا على مشاعرك، ولا يحد من حريتك في ان ترى هذا الحب في أي ضوء تشاء، وكيفما كانت رؤيتك لنوع المشاعر التي تحس بها ثريا نحوك، أوتلك التي يحس بها والدها وبقية اسرتها، فانها لا تبرر ولا تفسر هذا الموقف الرافض لهديتك. العودة إلى الفندق بمثل هذا الجهاز، ليس امرا سهلا فقد اقترنت مثل هذه الاشيا ء بالترف والغنى، ووجودك في هذا الفندق الرخيص، مصطحبا معك آلة تغني وتعزف الموسيقى سيثير القلق والريبة، ولن تستطيع اخفاءه لأنه كائن حديدي ناطق مثير للصخب والفوضى، والحل الذي لا تملك حلا سواه، هو ان تتولى اشهاره بدلا من اخفائه، وان تخبر صاحب الفندق واعوانه عنه، وعن طريقة وصول هذا الحاكي إليك بما يساعد على اعتبار ملكيتك له امرا عاديا لا يثير ريبتهم.  

ولأن الاحساس بالضيق ظل ملازما لك منذ خروجك من بيت الحاج المهدي إلى ان وصلت الفندق، فقد اردت استثارة صاحب الفندق لتحريك روح المرح والدعابة لديه، عل ذلك يزيل عنك ما تشعر بهمن ضيق. كان الكبران كعادته، يملأ بجسمه العريض حيزا كبيرا من غرفة المكتب التي تواجه المدخل، يراقب منها الخارج والداخل إلى الفندق. توجهت مباشرة إليه قائلا له ولمن معه من رفاق اللعب والسهر
- احزروا ماذا يحمل هذا الصندوق؟
- وما اهمية ان نعرف أو لانعرف؟ هل سنتقاسم محتوياته معك؟
- نعم سننتفع جميعا بها، رغم امتلاكي لها.
فرد واحد من اصحابه
- ليته يكون مليئا بالحلويات، نحن نأكلها، وانت تملكها، مارأيك؟
فعارضه الكبران
- انه شيء آخر اظن انني اعرفه، واذا اخذنا حجمه الكبير وقولك اننا سننتفع به، وهذه الشخبطات على الصندوق، فسأقول انها نوع حديث من الشوايات الاجنبية .وقال احد اصحابه ضاحكا
- هذا هو الكبران، لا يتكلم الا بمنطق البطن المتلهفة لاكل اللحوم
- انه ليس شواية ولا حلوى انظروا!
اخرجت الجهاز من الصندوق، ووضعته فوق الطاولة، فاضاف صديق الكبران

- يبدو صعبا ان نعرف ماهو حتى بعد رؤيته، لأنني شخصيا لم ار شيئا شبيها له من قبل. لم تقل شيئا، فتساءل الكبران، وهو يقلب الجهاز
- اليس هذا هو ما يسمونه جرامافون؟
وعلق احد الحاضرين
- اذن هو ذلك الشيء الذي نسمع صوته قادما من مطاعم ومقاهي وفنادق الطليان
- كيف حصلت عليه؟
قالها الكبران بلهجة تحمل الشك والريبة
- انها صفقة . فقد اهداه رجل موسر لاحد اقاربه الفقراء، وهؤلاء الاقارب عرضوه باقل من نصف ثمنه فاشتريته
- حسنا فعلوا، وحسنا فعلت، اما كان الأولى بهذا القريب الغني ان يقدم لهم آلة خياطة يستعينون بها على هم الزمان؟
- الا تظن ان مثل هذا الحاكي أكثر قدرة على محاربة هم الزمان من الة الخياطة؟
- لو كان الأمر كذلك ما باعوه لك
- باعوه لأنهم لا يعلمون قيمته
- دعنا اذن نرى هذه القيمة
- سترى ذلك في الحال
وضعت الاسطوانة وادرت الجهاز، فلعلع صوت الآنسة أم كلثوم في اغنيتها المرحة الراقصة "على وطني المحبوب وديني" يبعث في الفندق الناعس روحا جديدة، وجاء الناس من داخل الفندق ومن خارجه، يتحلقون حول الحاكي حتى ضاقت بهم الغرفة فصاروا يتزاحمون خارجها، وامسك صائد سمك مالطي اسمه توني بايدي اثنين من رفاقه الليبيين، يصنعون حلقة راقصة وسط باحة الفندق تمضي على ايقاع الاغنية، وتتسع حتى تشمل عددا كبيرا من الموجودين والكبران يتمايل ويتراقص بجدعه الغليظ مع اللحن ويردد كلمات الاغنية بصوت اجش، سعيدا بهذا الجو الاحتفالي الذي صنعته قطعة الحديد التي جئت بها واحد اصحابه يعلق على غنائه قائلا
- يجب من اليوم ان نسميك الكروان بدلا من الكبران
وكان اجمل ما في هذه الحلقة الراقصة انها جمعت بين عديد الاعراق والاديان والالوان ففيها الليبي المسلم والمالطي اوالايطالي المسحي مع تاجر يهودي جوال وصائد سمك زنجي انتبهت إلى ان موعد ذهابك إلى العمل قد حان، فلم تشأ ان تقطع متعة هؤلاء المحتفلين. تركت الجهاز في رعاية الكبران وتسللت إلى غرفتك ترتدي زيك الرسمي، وتذهب مسرعا لاستلام عملك. كنت مترددا بين البقاء داخل السيارة تنتظر التعليمات وبين ان تصعد إلى البيت لتسأل عن حال السينورة وتطمئن إلى انها قد تعافت تماما من آثار وتوابع ذلك اليوم. أو لعل الافضل ان تعترف لنفسك بحقيقة نواياك وهو انك في شوق إليها، تأمل ان تكتحل عيناك برؤية عينيها . لم تستطع ان تصل إلى قرار، فاردت الاستعانة براي مختار العساس الذي خبر هذه الحالات أكثر منك، وعاشر هؤلاء الناس زمنا طويلا ورغم ان الجاراج ليس وقفا على استخدام حورية فقط، وانما هو مفتوح لاربع أو خمس سيارات أخرى يملكها تجار لهم حوانيت في نفس العمارة، وان تبعية الحارس الرسمية للشركة العقارية الحكومية المالكة للعمارة إلا أنه ليس مسؤولا أمام أي احد غير حورية، فهو مكلف بخدمتها وحراسة سيارتها، واستلام تعليماته منها. كان لا يترك الجاراج لاي مكان آخر، فهو اما بغرفته داخل الجاراج أو جالس على الدكة الخشبية أمامه، مرتديا بذلته العربية البيضاء مع الفرملة البنية أو الزرقاء، والطاقية الحمراء، وبين اصبعيه سيجارة ورق البافرا التي يتفنن في لفها ويجيد امتصاص رحيقها بنهم وشراهة.

افسح لك مكانا على الدكة الخشبية بجواره، وعندما جلست التفت شمالا ويمينا وقال هامسا
- ما بي مرض غير دار العقيلة، وحبس القبيلة،وبعد الجبا عن بلاد الوصيلة، هل تعرف قائل هذه الابيات التي تصف الحياة التي عشناها داخل معتقل العقيلة؟
- لا اعرف!
- سيدنا الشيخ رجب ابو حويش، رجل من أهل الله وأوليائه الصالحين نفعنا الله ببركاته، هو قائل هذا الشعر، كان موجودا معنا في معتقل العقيلة، و استغل الوقت الضائع داخل المعتقل في تعليم الناس القراءة والكتابة، والح علي الحاحا قويا ان اتعلم، فكنت اسخر من دعوته قائلا "بعد ماشاب دخل الكتاب" وها انا اليوم شديد الندم على هروبي منه، لأنني لو درست لكان لي مصير آخر غير العمل عساسا
- لا تندم يا عمي مختار فلقد درست انا القرآن وعرفت القراءة والكتابة واشتغلت بمهنة لا تحتاج لمثل هذه المهارة
- كنت على الاقل عرفت كيف اقرأ كتاب الله واملأ به فراغ أيامي. سخرت من دعوة سيدي رجب، لأنه لم يكن لي عقل قادر على فهم أي شيء في جهنم تلك. كانت مهمتي في المعتقل نقل الموتى ودفنهم في الخلاء. لم اكن وحدي كان هناك عشرة رجال آخرون يعملون معي طوال النهار، لأن الموتى كانوا كثيرين، ويحتاج دفنهم لأكثر من هذا العدد. كنا ننقل كل يوم ما معدله مائة وخمسين شخصا، ولم يكن الوقت يسعفنا لحفر قبورهم، فكنا نبحث عن منخفض من الأرض ونهيل عليهم التراب، وكانت الضباع والثعالب والذئاب وجوارح الطير تتولى تكملة المهمة
- لقد مات كل افراد عائلتك هناك فهل شاركت في دفنهم؟
- لم استطع في البداية دفن شقيقتي مريم، التي كانت أول من انتقل إلى رحمة الله، وتم عقابي بمائة جلدة، وابقائي مربوطا في الشمس لأنني امتنعت عن العمل، وعندما لحق بها والدي بعد عدة اسابيع، رأيت ان اشارك في دفنه، لا خوفا من العقاب، ولكن لكي اعتني به، واحفر له قبرا حقيقيا يحميه من وحوش الصحراء، واقرأ على روحه بعض السور والادعية، واتأكد ان وجهه متجه صوب القبلة، وبعد ذلك شاركت في دفن كل افراد الاسرة، والدتي واخواتي وزوجتي وأولادي الثلاثة ثم زوجتي الثانية وابنتي
- ها انت ياعمي مختار تعود لاستذكار تلك الاحداث الحزينة
- اعطني احداثا مفرحة وانا استذكرها بدلا منها. مهنة العساس مهنة قاسية، لأنك تبقى وحيدا مع نفسك اغلب الوقت، ومع الوحدة تنهمر مثل هذه الذكريات دون استئذان
- انت في حاجة إلى الترويح عن نفسك أحيانا ً، بدل البقاء في هذا الجاراج أربعًا وعشرين ساعة في اليوم
- إلى اين تريدني ان اذهب؟
- سنتفق يوما على اخذك في جولة، اما إلى شاطيء البحر أو إلى نزهة في الريف، أو لمشاهدة فيلم في سينما الهامبرا. اترك الأمر لي
- ذهبت مرة إلى السينما وعندما وجدتهم يعرضون فيلما عن القرى الجديدة للمستوطنين الطليان، كرهت ان استمر في المشاهدة، وخرجت
- ذلك لم يكن الفيلم وانما مادة دعائية يعرضونها قبل الفيلم
- هذا ما حدث
ثم اغرورقت عيناه بالدموع وعاد لحديث الموتى الذين كان يدفنهم في معتقل العقيلة، فقد ظل اسير اللحظة التي استعادها ولم يستطع الخروج منها، وعندما حاولت تغيير الموضوع وسؤاله عن حورية، لم يزد على ان قال انها ذهبت هذا الصباح في زيارة إلى المستشفى، ورجعت وهي في حالة طيبة. وعاد مباشرة للحديث عن ذكرياته، وواصلت انت الاستماع إلى هذه الاحداث المؤلمة المفزعة التي وضعتك انت أيضاً في مزاج لا يصلح معه التفكير في الذهاب لاي مكان آخر، غير الجلوس بجواره أمام الجاراج. فالاحداث التي يرويها لم يكن قد مضى غير زمن قصير على حدوثها، وابطالها مازالوا احياء سواء كانوا الجلادين أو من نجا من الموت من ضحاياهم، والظروف التي انتجت هذه المآسي يمكن ان تتكرر، في ظل أي صدام يحدث بين عناصر من أهل البلاد والمحتلين
- لا اعاد الله تلك الأيام!
كنت تسأل نفسك وانت تراه يستعيد ذكريات الفواجع التي مرت به، ان كان ثمة متعة في استذكار الالم، لاصراره دائما على اعادة عرض شريط الموت والمعاناة في احاديثه كما لم تستطع الوصول إلى فهم مسألة أخرى، هي كيف امكنه ان يجد مساحة في عقله وقلبه تتصالح فيها تلك الفواجع مع صانعيها، فيهنأ بالعمل مع الإيطاليين في هذا الجاراج، بل والرغبة في الانضمام إلى جيشهم كما سبق وحاول ذلك
- هل تعلم من أول من ابلغني بخبر الافراج عني؟
- من؟
- سيدي رجب ابو حويش. كان رجلا صالحا ورآى في الحلم انني سأخرج، وقال لي قبل أسبوع من خروجي، ابشر يامختار فقد جاءك الفرج، وطلب مني ان اذهب إلى تاجر في سوق الظلام، بعلامة من عنده، ليعطيني خمس ليرات ذهبية اتدبر بها حياتي لأنه كان يعرف بانني ساخرج حافيا، عاريا، لا املك بارة واحدة، وليس على ظهري الا قميص ممزق الاكمام . ليتني استطيع ان ازوره في بنغازي وانتفع ببركاته.

فجأة اهتز السكون في الشارع الجانبي الذي تجلسان فيه وتحول الهدوء إلى نشاط وصخب. توقفت سيارة عسكرية أمام مدخل العمارة، وقفز منها اربعة جنود ممن يعملون حراسا لدى المارشال بالبو، يضربون بلاط الشارع بأعقاب احذيتهم حتى تهتز الأرض، وينتشرون في أكثر من اتجاه. وجاء احدهم إليكما، يسألكما أن تخليا الشارع وأن تدخلا إلى الجاراج اذا اردتما، فاخترت انت ان تذهب وتجلس أمام مقود السيارة، مدركا ان الحاكم العام قادم لزيارة صاحبته هذا المساء. وصلت سيارة لانشا بيضاء ذات زجاج أسود يخفي من بداخلها وخلفها سيارة عسكرية ثانية، هبط المارشال من المقعد الخلفي للسيارة المدنية، مرتديا ملابسه العسكرية، ودخل محفوفا ببعض حراسه إلى العمارة في حين ظل بقية الحراس في الشارع. 

بقيت انت ملازما مقعدك لا تغادره، في حالة استعداد وترقب لاداء أي مهمة . قبل انقضاء ساعة واحدة على دخوله، ظهر المارشال يسبقه حراس ويتبعه آخروه، هابطا سلالم البناية. واتجه يضرب الأرض بخطواته القوية متجها إلى السيارة البيضاء التي انطلقت به مخفورا بسيارتيه العسكريتين. اختفى موكب المارشال بذات الطريقة الصاخبة التي جاء بها، وعاد الشارع إلى سكونه. بدأت العتمة تزحف على الدنيا، وتحاصر مصابيح الشارع تمنح الابنية مظهرا مختلفا عن مظهرها اثناء النهار، وتزرع احاسيس الوحشة في القلوب. حمدت الله ان مرت زيارة المارشال بسلام دون تكليفات أو مهمات جديدة بالنسبة إليك، توقظ في ذهنك الذكريات الاليمة للمهمة السابقة، وقد تصنع ذكريات مؤلمة جديدة. 

 

 

(11)

 

وجاء مرجان مهرولا يسألك ان تلبي نداء سيدته السنيورة حورية. بوثبات سريعة صعدت درجات السلم، لاحقا بمرجان الذي سبقك لفتح الباب- جاء المارشال لمجرد الاطمئنان على صحتي، فمازلت منذ الحادث لم استعد كامل لياقتي
- من يراك بهذا البهاء لا يسعه إلا أن يصلي على كامل النور
- شكرا للشيخ البلبال، فقد كان لاسلوبه في العلاج الروحي واستخدامه للاعشاب و سور القرآن فضل اخراجي من حالة الكآبة
- دون ان ننسى اطباء مستشفي كانيفا
- لم اذهب هناك للعلاج وانما لغرض آخر، هو الاطمئنان على ان غلطة ذلك اليوم، التي لا ادري كيف حصلت، لم تترك بذرة طفل في احشائي
- انني آسف اذا تسببت في أي حرج لك
- ليس هذا ما اقصده وانما أريد أن نبني علاقة سليمة على اسس قوية في ظل الدين والشريعة، لاقفل صفحة من حياتي، وابدأ معك باذن الله صفحة جديدة. انني احب ان يكون لي طفلي، بل اطفالي، ولكن من زوج ينتمي إلى أهلي وديني ويتزوجني على سنة الله ورسوله، هل فهمت؟
- طبعا فهمت
- هل تعلم شيئا؟ الشيخ البلبال نفسه يقول ان الانجاب والامومة وتلبية حاجة المرأة الطبيعية لأن يكون لها طفل، طريق مضمون للعافية النفسية وسلامة الروح والجسد، يجب ان نحرص على حضوره عقد الزواج كواحد من الشهود، فانا اتفاءل به. 

بدأت تسأل نفسك ان كان هذا هو ما استدعتك إلى بيتها من أجله منذ بداية البداية لهذه العلاقة، وان كان دورك في العملية قد تم رسمه وتحديده، ربما دون ان يحتاج الأمر إلى معرفة رايك في الموضوع، في حين واصلت هي الكلام- الجميل في الموضوع كله، ان ايتالو صار متفهما تماما لهذه الحقيقة، حقيقة ان حياتي لا يمكن ان تستمر إلى الابد بهذه الطريقة، وانه لابد لي من احقق هذا الحلم بالامومة قبل فوات الاوان
- وهل سيطيق المارشال فراقا للمرأة التي فضلها على نساء العالمين؟
- لا تنس ان له زوجته واطفاله الثلاثة الذين يجب ان يهتم بهم أكثر وسيعوضونه عن الفراغ الذي ساتركه في حياته، سنستمر اصدقاء فقط. 

مرت لحظة صمت قبل ان تشير إليك بان تجلس بجوارها ففعلت وضاحكة مرت باصبعها على جبينك قائلة
- ما هذه التقطيبة التي لا معنى لها؟اخذت وجهك ووضعته بين يديها، واقتربت بوجهها منك حتى كاد يلامس وجهك
- ماذا؟ هل انت غبي إلى هذا الحد؟ ام انت تتغابى؟ الطفل الذي اريده هو انت، قبل أي طفل احتاجه لتلبية نداء الامومة، وهو أيضاً اريده منك انت، اريد فعلا ان اطوي هذه الصفحة مع المرشال، لابدأ حياة زوجية طبيعية، شرعية تباركها الملائكة في السماء، ويعترف بها الناس في الأرض، اليس هذا حقا من حقوقي؟ هل تراه كثيرا على امرأة مثلي ان تطلب ذلك؟
- لا، بل اراه كثيرا على رجل مثلي ان يفوز بامرأة مثلك. 

الصقت جسمها بجسمك، ووضعت فمها على فمك، وسرت السنة اللهب الحمراء في جسمك، فاحسست انك تحترق وعظامك تتحول إلى احطاب مشتعلة. بقيت على هذا الوضع بضع لحظات قبل ان يستقطب بصرك وشعورك مفترق النهدين في صدرها، فمددت يدك في لهفة تتحسس هذا المكان، وتطوي خصرها بذراعك الأخرى لتدني صدرها من صدرك. أوقفتك وانتشلت جسمها من بين احضانك وانتقلت للجلوس في المقعد المقابل. كانت حواسك في حالة استثارة، وشهوتك في حالة اهتياج. اردت ان تنتقل قريبا منها، فاشارت لك بيدها ان تبقى في مكانك- لن يكون ذلك الا في الحلالارغمت نفسك على البقاء جالسا في مقعدك، ورفعت بصرك إلى بيضة النعام المتأرجحة من سقف الغرفة، لتهرب إليها باحاسيس الخيبة والاحباط، في حين اعادت حورية تسوية شعرها وهندامها واستوت في جلستها وقد اتخذت مظهرا أكثر جدية وتكلمت بلهجة رسمية قائلة- هذه امور تستطيع ان تنتظر قليلا. هناك الآن ما هو أكثر استعجالا واريدك ان تنصت جيدا لما اقوله لك. قالت كلماتها ببط ء شديد، مصحوبة برفع حاجبيها على طريقتها عند اظهار الاهتمام بشيء ما، وبدات انت تدريجيا تخرج من الحالة الشبقية النارية، التي وضعتك فيها حورية، واخرجتك منها إلى جليد الاهمال واللامبالاة باعصاب حديدية، تحاول تركيز انتباهك في الموضوع الجديد التي اعطته صفة الاهمية والاستعجال
- انها مهمة اختارها لك المارشال، وهي في غاية السرية والخطورة لأنها تتصل بامنه الشخصي، ولو لم تكن موضع ثقته الكاملة ما اختارك لها. ومستذكرا ما حدث في الرحلة إلى جنزور، ومنتهزا حميمية الجلسة قلت لها هامسا
- مهما كانت هذه المهمة، فسأكون أكثر سعادة لو اختار لها شخصا غيري
و جاء ردها سريعا وحاسما
- لا تعد إلى قول هذا الكلام ابدا. لأن مثل هذه الثقة هي حلم أي إنسان في الدنيا، وستعلم مستقبلا قيمتها كما ستعرف الجهد الذي بذلته شخصيا من أجل تأكيد هذه الثقة لدى المارشال
- قولي اذن بسرعة ما هي هذه المهمة، واريحي عقلي قليلا
- باختصار فقد قرر المارشال ان يزور المدينة القديمة متنكرا، ولن يعرف احد خارج الدائرة الخاصة جدا من اعوانه، بهذه الزيارة إلا أنت، ولن يرافقه خلالها احد سواك، وسيطوف فيها بعفوية وحرية، متخلصا من كل قيد رسمي، ومن طوابير البشر الذين يحاصرونه بهتافاتهم ويلاحقونه بطلباتهم، سيذهب لتفقد كل الاماكن المهمة التي يسكنها العرب والاجانب، قوس الصرارعي، كوشة الصفار، الاربع عرصات، الحارة الصغيرة والكبيرة، باب البحر، سوق الترك وبقية الاسواق، ويريد ان يرى جامع الناقة، وجامع قرجي، وكنيسة العذراء، والمعبد اليهودي، والمباني القديمة لقنصليات فرنسا وبريطانيا والبندقية وامريكا، كما يود ان يزور بيتا عاديا تسكنه عائلة ليبية. هذه مجرد فكرة أولية لكي تذهب وترسم خط الزيارة، بحيث يستفيد المارشال من كل دقيقة يقضيها هناك. للزيارة هدفان أولهما أن المارشال يريد ان يقضي لحظات متحررا من روتين الحياة الرسمية في مكان لايعرفه فيه احد، والثاني هو استكمال معرفته بالعاصمة التي يحكمها وبهذا الجزء الحي من تاريخها.

اصابتك حالة من الرعب وانت تجد نفسك مكلفا بمثل هذه العهدة الغالية، التي يمكن ان تكون اغلى عهدة في العالم، لما للمارشال ايتالو بالبو من اهمية دولية، إلا أنك تذكرت امرا ازال الفزع من قلبك. تذكرت نبوءة الشيخ البلبال التي لن تجرؤ على قولها لاي إنسان في الدنيا. وحيث انه لن يموت الا على ايدي جنوده الإيطاليين، فلا مجال للخوف عليه اثناء تجواله في المدينة القديمة بين الليبيين. لاحظت حورية كيف انفرجت اساريرك بعد تعتيم وتقطيب، فابتهجت لذلك
- واضح انك سعيد بالمهمة
- الاهم هو تأمين سلامة الحاكم العام
- لا تقلق من هذه الناحية، فستكون هناك ترتيبات امنية تحسبا لحدوث أي طارىء
- ومتى موعد الزيارة باذن الله؟
- يريدها ان تكون يوم الاحد فهو وان كان يوم عطلة في الدوائر الحكومية إلا أنه يوم عمل عادي في الاسواق والمواقع التي سيزورها
- تعلمين ان الاسواق جميعها تقفل ساعة القيلولة، وعليه ان يبدأ نهاره مبكرا اذا اختار الفترة الصباحية
- نعم سيكون موعد الزيارة صباحا، فالمساء يفضي إلى الليل والليل لا أمان له .اردت ان تسألها عن ساعة اللقاء يوم الاحد وتفاصيله، فقاطعت قائلة
- اليوم هو الخميس، وأمامنا غدا وبعد غد لضبط تفاصيل الزيارة، ولكن احذر ثم احذر ثم احذر ان تتسرب منك كلمة واحدة عنها لاي إنسان في الدنيا. لديك ما يكفي من الوقت لزيارة المواقع المهمة مسبقا وتحديد الطريق لزيارتها بدقة.

خرجت من بيت حورية وعقلك مقسوم نصفين. نصف يملأه العرض الذي قدمته لك حورية، والنصف الآخر زيارة الحاكم العام إلى المدينة القديمة، واختيارك دليلا لزيارته داخل هذه المتاهة الصغيرة من الازقة والحواري والزواريب المتداخلة في بعضها البعض. أول الموضوعين مؤجل، لم تناقشه حتى بينك وبين نفسك لأنه لا تنفع فيه الاجابات السريعة، ولا يجب ان يحتل حيزا من عقلك، الذي يجب ان تسخره كله، في هذين اليومين القادمين، لزيارة المارشال. ثم ان حورية امرأة تختلف كثيرا عن نورية التي ما أن قدمت لك عرضا بالزواج حتى رفضته منذ أول لحظة، دون تردد أو تفكير، ودون حاجة لاجراء أي حسابات. الأمر مع حورية أكثر صعوبة وتعقيدا، واي خطأ في العملية الحسابية سيكون ثمنه باهظا، ولذا فانها مسألة تستحق ان تعطيها عقلك كاملا، حال ان تنتهي من هذه المهمة العاجلة. سيكون امرا صعبا ان يصدر الرأس امرا لنفسه وهو الذي تعود ان يصدر الأوامر لبقية اعضاء الجسم. ولكن لابد من المحاولة وتاجيل موضوع على حساب الاخر، وفقا لأولويته . انك لا تعرف ثلاثة ارباع المواقع التي قالت حورية ان الحاكم العام يريد زيارتها، ومعنى ذلك انه لابد ان تستغل ما تبقى من الوقت افضل استغلال في اجراء تمارين أولية على الزيارة والتعرف على هذه الاماكن، وتحديد اقصر الطرق التي تقود إليها لكي تفوز برضا الحاكم العام.
اصعب بنود الزيارة هو تدبير بيت من بيوت المدينة القديمة تقطنه اسرة ليبية ليزوره، ويتعرف إلى اسلوب حياة هذه الاسرة لأنك لا تعرف من هذه البيوت الا بيت الدعارة السرية في سيدي عمران لصاحبته السيدة شريفة، ولعله الاجدر بزيارة حاكم مثله يحب الأوقات الطيبة، من أي بيت آخر مثل بيت الحاج المهدي الذي لا يمكن اعتباره بيتا من بيوت المدينة التقليدية، فهو جزء من الطابق العلوي لاحد البيوت تم تلفيق مدخل له وسلالم لن تتسع لمرور رجل مكتنزالجسم مثل الحاكم العام. عدت إلى فندق الكبران بعد ان اشتريت من دكانة البقالةالمجاورة له، رغيف خبز وقليلاً من البصل والخيار والطماطم والفلفل الأخضر، بما يكفي لاعداد طبق الشرمولة مع كمية ضئيلة من الزيت والملح، مؤجلا برنامج الطهي واعداد الوجبات الساخنة إلى وقت أكثر يسرا. تناولت بسرعة هذا العشاء الخفيف ووضعت السخان فوق موقد البريموس لاعداد الشاي، واخذت تقرا ايات من القرآن الكريم، تستعيد بها شيئا من هدوء البال، بعد ان ارهقت عقلك هذه الاخلاط من القضايا الامنية والسياسية والغرامية: 

«ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ان الله بالغ امره، قد جعل الله لكل شيء قدرا»
كنت قد نسيت تماما جهاز الحاكي، الذي لا يزال وديعة لدى صاحب الفندق، ولم تذكره لأنك عندما دخلت، كان الفندق صامتا، وكان باب غرفة الكبران مواربا، وكنت في مزاج لا يسمح بالاختلاط أو الحديث مع احد فجئت للاختلاء بنفسك في غرفتك ما جعلك تذكره الآن هو هذه الاصوات التي انفجرت فجأة، يختلط فيها صوت المجاميع النسائية مع زغاريد الافراح وايقاعات الدفوف والطبلة والعزف على المقرونة وهو ما ظننته في البداية موكب عرس يمرق أمام الفندق، سرعان ما ينحسر وعندما استمر الصخب بنفس القوة، تذكرت الحاكي وانتبهت إلى ان الصوت قادم منه، وان هناك بين الاسطوانات، واحدة تحمل تسجيلا لعرس بدوي. ها قد احضرت بنفسك الالة التي ستقلق نومك وتطرد هدوء الليل من حولك، لا حل الا بان تهبط الآن إلى الطابق الأرضي، وتسترد هذه الالة، لتصبح انت المتحكم الوحيد في تشغيلها بما يتفق مع أوقات النوم واليقظة، والسكون والحركة، ستتمهل قليلا ريتما تنتهي، من تناول كأس الشاي الذي تشعربمسيس الحاجة إليه، ثم تهبط لايقاف هذا العرس، إلا أن العرس وقبل ان تغادر غرفتك تحول إلى نوبة مألوف بدفوفها وصاجاتها واذكارها. نوبة تكاد تكون حقيقية لا مجرد صوت يصدر عن اسطوانة، لأن كل من كان موجودا من شلة الكبران شارك في ترديد مقاطع منها، فهي كلمات مشهورة يحفظها سكان المدينة ويتغنون بها في المناسبات الدينية والاجتماعية كما أنها تثير كوامن الشجن، وتحرك الوجدان بمعانيها ذات الطابع العاطفي الحزين، رغم ان الجميع عندما وصلتهم كانوا يغنونها ضاحكين هازلين، وبكثير من الفرح الذي يتعارض مع كلماتها:
د معي جرى على صحن خدي كالمطر
كان الكبران جالسا على الأرض، محاطا برفاقه، أمامه قنينة من اللاقبي المستخرج من جمار النخيل، يسكب منها في كاس من الحجم الصغير يطوف به على المجموعة
- ارى شيئا آخر يجري غير الدموع التي تتحدث عنها الأنشودة
- انه لاقبي حلو لا يغضب الله ورسوله تفضل ذق منه رشفة ان كنت لا تصدق. مد لك يده بكوب من رحيق النخيل، اخذته ووضعته على شفتيك لاختبار صدق الرجل فوجدت ان ما قاله، كان كان كذبة حمراء. لأنه لم يكن حلوا، كما هو اللاقبي في مراحله الأولى البريئة وانما هو اللاقبي بعد ان تخمر وتنمر وصار حامضا، مسكرا يحرق الصدر ويقلب المخ
- انه اشد حموضة من الخل.ادعى الكبران الدهشة وهو يضحك
- سبحان الله . فلماذا إذن اجده حلوا في فمي مثل روزاتا الفرح، ام تراني تحولت إلى رجل من أهل الله، ممن تتحول الخمور في افواهم إلى شهد. 

لأول مرة تعرف ان الكبران صاحب مزاج في الخمر، لأنك رأيته في الليالي الماضية مولعا بلعب الورق، حيث لا كأس يدور الا كاس الشاي بجولاته الثلاث. ادرك ما تفكر فيه، فنظر إليك باسما، وهو ما يزال يتمايل بجسمه الكبير مع اللحن، مرددا مع الاخرين كلمات الأنشودة. ثم قطع الغناء قائلا
- انني مثلك من حزب الشاي، ولكن الشاي لا ينسجم مع الطرب والغناء. انه كأس نشربه على شرف هذا الجهاز البديع.

وارتفع صوت زميل له يغني بصوت اجش يعلو على صوت الحاكي اغنية شعبية تلتمس الاعذار لشاربي الخمر
- يا نار الحي يا اما يا اما يا نار الحي، وشربت الروم راد الله علي يا اما يا اما
لم تهبط من غرفتك الا لكي تسترد هذا الجهاز الذي يراه الكبران بديعا، غير ان الجرأة لم تواتك لافساد السهرة على اصحابها. فتركتهم وقفلت راجعا إلى مهجعك. في الصباح اعترض الكبران طريقك لحظة مغادرتك الفندق قائلا
- الجرامافون!
لم يكن في رأسك مساحة لاي شيء آخر غير زيارة الحاكم العام وما تقتضيه من اعداد
- لنترك الموضوع إلى المساء
ولكن الكبران لم يكن في رأسه شيء آخر الا هذا الجهاز
- أريد أن اشكرك لأنك جعلتني اتعرف على هذا الشيء العجيب، فقد رأيت بنفسي كيف تغيرت الحياة في ا لفندق بسببه
- دع هذه الاشياء للفنادق الحديثه، اما فندق الكبران العربي الذي يمثل قطعة من التاريخ الليبي بقوافله القادمة من الصحراء، فان ما يحتاجه ليس هذا الحاكي وانما الحكواتي الذي يقرأ السيرة الهلالية ورأس الغول
- صدقني ان جهازك الهمني افكارا جديدة سأبدأ في تنفيذها قريبا، إلا أن الموضوع يتوقف على موافقتك أولا
قلت له مستغربا
- أوافق على ماذا؟
- سأحول ركن المواشي إلى موقف للسيارات، والسطح إلى مقهى حديث يطل على الميناء، يأتيه السياح للفسحة والاستماع إلى موسيقى الشرق والرقص على انغامها
- لم تقل لي أوافق على ماذا؟
- على ان يبقى هذا الجرامافون ملكا للفندق وتأخذ انت المبلغ الذي
فعته بالتقسيط
- لدي موعد عاجل الآن وسنتكلم ليلا في الموضوع
انها ورطة أخرى لست انت المسئول عنها، ولا الكذبة البيضاء التي قلتها له حول الطريقة التي حصلت بها على الحاكي. وانما بالبو، فهاجس التحديث والتجديد صار نوعا من الهستيريا لدى قاطني هذه المدينة، وقصة نجاح المشيرقي الذي تحول من صاحب دكانة عطارة في شارع النخلي، الى صاحب مغازة لبيع اجهزة المذياع والات الخياطة وغيرها من ادوات منزلية كهربائية، يغري الكثيرين بتقليده وقد رآى الكبران الميناء تضاف اليه المباني والأرصفة ومراكب المرشدين الجديدة الحديثه، ورأى بجواره قوس ماركوس أوريليوس، أو مخزن الرخام كما يسميه أهل المدينة تزال من تحته اكوام الاتربة وتغرس مكانها جنينة ورد محاطة بالزليج الملون، وسمع الدعاية التي تقول السياح قادمون، فركبه عفريت التجديد، وما أن رآى الحاكي حتى ظن أن العناية الإلهية أرسلت إليه الوسيلة التي يبدأ بها مرحلة التحول الكبير. 

تركته وذهبت تسأل أهل الدكاكين المجاورة عن قنصليات فرنسا وبريطانيا والنمسا والبندقية ومعبد اليهود وكنيسة العذراء وجامع الناقة وقصر يوسف القرمانلي، وغيرها من اماكن لم تكن تظن أنها متباعدة عن بعضها البعض إلى هذا الحد، وأن المدينة القديمة بهذا الاتساع الذي لايمكن ادراكه الا في حالة وجود إنسان مثلك يريد ان يعرفها من أولها إلى آخرها. فذهبت مهرولا بينها، تتصبب عرقا، تحاول ان تكسب الوقت، فتتوه أحياناً وتسأل لتعود من حيث أتيت، تتلمس طريقك نحو الخريطة التي تريد وضعها للزيارة، ورجعت بعد قضاء نصف النهار في البحث والتنقيب عن اهم معالم المدينة، متعبًا، دائخًا تشعر بانك افشل إنسان يمكن أن يختاره بالبو للقيام بالمهمة، وبأن عليك، ضمانا للنجاة من العقاب، ان تعترف منذ الآن بفشلك وعدم صلاحيتك للمهمة، لكي يختار لها إنسانا سواك. وزاد الأمر سوءا، انك انهيت الجولة بحضور صلاة الجمعة في جامع الناقة، وكان الخطيب معاديا لإيطاليا، ملأ خطبته النارية تعزيرا للناس الذين استكانوا لحكم الكفار، وطالبهم اما بالتصدي للمستعمرين، واما بترك البلاد، لأنه لا يصح للمسلم ان يعيش ذليلا في بلاده الاسلامية، تحت سيطرة حاكم اجنبي مختتما خطبته بالاية الكريمة التي تقول: "الم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها". المشكلة طبعا ان يحدث معه هذه المرة ما حدث في مرات سابقة، عندما كان اعوان السلطة ياتون إلى بيته ليلا لاعتقاله لأنهم لو اعتقلوه هذه المرة أيضاً، فيسجد الحاكم العام في انتظاره شارعا مستنفرا ومعبأ ضد الايطاليين. استطعت في جولة اليوم ان تتعرف على المواقع التي ستشملها الزيارة، ولكن معرفة اقصر الطرق التي يمكن استخدامها للانتقال بين هذه الاماكن، هو ما يستلزم الحصول على مساعدة احد المتخصصين في جعرافية المدينة القديمة يقضي معك جل ساعات النهار في رسم خط الزيارة وتحفيظه لك عن ظهر قلب شارعا شارعا. ولن يكون هذا الاختصاصي الذي تثق تمام الثقة في انه سيقوم بالمهمة خير قيام غير واحد من العتالين ممن يضعون السلال على ظهورهم، فهو يقوم بتوصيل الخضار والفاكهة وحاجات البيوت التموينية من السوق، إلى مختلف بيوت المدينة، ومن مصلحته ان يتقن اقصر الطرق التي توفر له الوقت والجهد. وهو الذي ستقوم باستئجاره لهذه المهمة يوم الغد.  
لم يكن لدى السنيورة حورية شيء جديد تقوله لك حول الزيارة المرتقبة، عندما قابلتها مساء، عدا ان الحاكم العام لن يكون مستعدا خلال الزيارة، لاسباب امنية وصحية، ان يتناول أي طعام أو شراب، وهو لا يريد أن يصطحب أحدا من مرافقيه ممن يذهبون عادة معه، ويتناولون قبله أي طعام أو شراب يقدم اليه. وكان لابد ان تشركها معك في حيرتك، فهي تعرف طبيعة الليبيين المضيافة، خاصة وان الجولة تتضمن زيارة سريعة لاسرة ليبية، فكيف سيتم علاج الموقف؟ العلاج الذي اقترحته حوريه هو ان يتظاهر الحاكم العام بانه يقوم بفعل الاكل أو الشراب، وعليك ان تتدخل لمساعدته في اتمام المهمة، فقد يأخذ كاس الشاي، وعليك ان تأخذه منه لترده لاصحاب الدار أو الحانوت فارغا بعد ان تشربه أو ترميه دون علمهم. ضحكت لأنها ارادتك ان تتقن في يوم واحد مهارات مثل خفة اليد وخداع البصر، التي يقضي السحرة والحواة عمرا في تعلمها، ولكن ماذا عن العائلة التي سيزورها؟ كنت تتمنى لو ان القنصليات القديمة، مأهولة بالعائلات بحيث يصبح من الممكن استئذانها في دخول المكان ويتحقق مع هدف زيارة الموقع الاثري، زيارة العائلة الليبية، إلا أن هذه القنصليات تغيرت طبيعتها دون ان تتحول إلى بيوت سكنية، فاحداها تحولت إلى مدبغة للجلود، وعلى الحاكم العام ان يتحمل رائحتها الكريهة اذا اصر على زيارتها، وأخرى صارت مصنعا يملكه تاجر يهودي لتحضير نوع من الخمر المحلية الرخيصة اسمه البوخة. والانجليزية تهدم ركن منها فاقفلت، ووضعت قيد الصيانة.

ولا تعرف من العائلات الليبية الا عائلة الرجل الذي كنت تعمل لديه مساعدا في صنع الاحذية، وهو رجل طريح الفراش يعيش مع زوجته وابنته التى ذهب زوجها إلى الحبشة وطفل في العاشرة، في بيت صغير لا يزيد عن ثلاث غرف. ورأت حورية ان هذه هي العائلة المثالية التي يحب المارشال ان يزورها، فلا حاجة لزيارة البيوت الكبيرة التي سيراها عندما يذهب إلى بيوت وقصور القناصل، وسيسعده ان يتعرف إلى عائلة ينتمي احد رجالها إلى الجيش الإيطالي المحارب في الحبشة. لم تقل لحورية شيئا عن علاقتك بهذا البيت واصحابه أوعن سوء الفهم الذي حدث منذ يومين بسبب الحاكي والحاجة لازالته قبل زيارة الحاكم، وهو ما رأيت ان تمنحه أولوية على أي شيء آخر، ليس رغبة في ارضاء المارشال وانما ارضاء لثريا، وما ستتركه هذه الزيارة من اثر عليها وعلى نظرتها لك، عندما تعلم انك اصطحبت حاكم البلاد إلى بيتها. لأن هذه الزيارة لن تبقى سرية لوقت طويل بعد حدوثها، وسيأتي وقت للحديث عنها دون حرج أو خوف. استأذنت حورية في ان تترك العمل مبكرا لمزيد من الترتيبات للزيارة. 

وذهبت بعد العصر بقليل تدق باب الحاج المهدي. لم تكن قد اعددت ما ستقوله بالضبط لتبرير زيارة الرجل الغريب. إلا أن رأسك لم يكن خاليا من بعض العناوين التي تأمل ان تعثرعلى تفاصيل لها اثناء الحديث مع الحاج واسرته. جئت بيدين خاويتين، لا تحمل معك شيئا مما تعودت ان تأتي به على سبيل الهدية، كلما طرقت باب هذا البيت، لأنك على ثقة من ان اية حزمة تحملها حتى لو كانت بصلا، ستوقظ لديهم مشاعر الخوف والحذر. وعندما فتحت لك الام الباب ودخلت إلى غرفة الحاج لم تسأل مجرد السؤال عن ثريا، أو تظهر شيئا من اللهفة لرؤيتها لتزيد الام اطمئنانا، بان لديك مهمة جئت من أجلها لا مجرد ذريعة لكي ترى ابنتها، وبعد الاستفسار عن صحة الحاج، دخلت بسرعة في الموضوع، قائلا للرجل وزوجته، بانك قابلت تاجرا من خارج البلاد يعرف الحاج المهدي، وتعامل معه في أزمنة سالفة، وعندما سمع بانه متوعك صحيا اصر على زيارته، وقد جئت تطلب له الاذن لكي يأتي غدا قبل الظهر. سالك الحاج عمن يكون هذا الرجل ومن أي بلد جاء، فتذرعت بانك قابلته على عجل عبر تاجر صديق هو الذي أخبره بانك تعرف عنوان الحاج. 

وضعت العائلة أمام الأمر الواقع، وفرضت عليهم الزيارة، وابلغتهم قبل ان تذهب، بان الزائر على سفر، ولن يكون لديه وقت لتناول أي طعام أو شراب، انما هي دقائق يؤدي خلالها واجب المعايدة وينصرف، ورغم ان الحاج المهدي عاد يلح في معرفة هوية الزائر، إلا أنك لم تستطع إلا أن تكون غامضا، لأنك لا تدري على اية صورة سيأتي، واية البسة سيرتدي، كما جازفت باختراع هذه الصداقة بينه وبين الحاج، واثقا من ان الحاج الذي التقى في دكانه بخلق كثير، لن يستطيع ان يكتشف زيف هذا الادعاء. وعرجت على مطعم شعبي لليهودي "شلومو" تحت برج الساعة تناولت عنده طبق الفاصوليا بالكرشة الذي يشتهر به. وتعمدت ان تبقى في الشارع خلال الجزء الأول من الليل تطوف شوارع المدينة القديمة بحرية أكثر، ووقت اقصربعد ان اقفلت المتاجر، وفرغت الاحياء والشوارع من زحامها، كما أن الرجوع متأخرا إلى الفندق، سيعفيك من ثرثرة الكبران الذي ركبته لوثة الحاكي، واضحى مجنونا من مجانينه، يريد الاستيلاء عليه باية طريقة. مستكثرا على نفسه دفع مبلغ من المال لشراء حاك جديد، فاتحا أمامك معركة لا تملك وقتا لخوضها الآن، وترغب في تأجيلها إلى ما بعد يوم الزيارة. تسللت عائدا إلى غرفتك بعد ان نام الجميع، وصحوت مبكرا جدا لكي تواصل مهمة الاعداد لخط الزيارة. جئت بعتال من مواليد المدينة القديمة، لا من الوافدين اليها من خارجها، اسعده ان يجد زبونا مثلك يعطيه اجرة النقل دون ان يكلفه بنقل اية حمولة. بدأت معه الجولة من باب الحرية حيث يشكل قوس الصرارعي مدخلا طبيعيا للمدينة القديمة، يليه قوس المفتي ومفترق طرق الاربع عرصات مرورا بالمعالم التي يريد الضيف زيارتها، وصولا إلى باب البحر ثم الخروج عبر طريق هابط إلى منطقة الميناء، عدت معه عبر نفس الطريق ثم تركته لتقطع المسافة من نقطة البداية إلى نقطة النهاية بمفردك، وعدت مرة ثالثة لمزيد من التأكيد، حتى شعرت انك اتقنت الدرس الذي قدمه لك الحمال بوعديله، وحفظته عن ظهر قلب. ولم يعد أمامك الآن ان تصرف جزءا مما بقي معك من نقود على حلاقة شعرك وشراء بذلة جديدة تليق برجل سيرافق الحاكم العام. - لم نضع في اعتبارنا ان الزيارة ستكلفك نقودا. 

هذا ما قالته حورية عندما اريتها البذلة التي اشتريتها لكي ترتديها عند مرافقتك للمارشال. اضافت وهي تتحسس قماشها الناعم
- ذوقك يماثل ذوقي، فانا أيضاً احب الازرق الفاتح، واكره الالوان القاتمة
- اذن فانت توافقين عليها
- هل ترغب في ان ترتديها الآن؟
- يكفي اني قستها في الدكان ووجدتها تلائم مقاسي
- مبروك، احسب انك بدأت تخرج من ثوب السائق، إلى ثوب رجل اكبر مقاما
- اعتبر نفسي إنسانا محظوظا لأنني اعمل سائقا لديك، ولا اريد مقاما اكبر من هذا المقام
- دعنا نتفق الآن على الترتيبات الاخيرة لزيارة الغد. ستأتي هنا قبل العاشرة بقليل . تؤجر كروسة من أمام السرايا وتأتي بها لتقف أمام باب العمارة بالضبط، ستصعد انت إلى الشقة للقاء المارشال ومصاحبته بعد ذلك في العربة إلى النقطة التي ستبدأ منها الجولة، ثم تدع العربة تذهب لتنتظر عند نقطة الانتهاء. ثم قامت فاحضرت خريطة لمدينة طرابلس، وسألتك ان تحدد لها فوق هذه الخريطة، وبقلم أحمر جاءت به، الخط الذي تقترحه للزيارة. رسمت لها خط الزيارة كما اقترحها عليك العتال لعرضها على الحاكم العام، الذي سيرى ان كان سيجري عليه أي تعديل أو اضافة. حذرتك حورية من ان تنسى نفسك وتتفوه باية كلمة اثناء مرافقتك له، تشير إلى هويته واذا كانت هناك ضرورة لمخاطبته باسم ما أو واجهكم موقف ما يقتضي تقديمه لاحد الناس فسيعطيك هو، عندما تراه غدا، تعليماته بهذا الشأن. وقبل ان تغادر بيتها فتحت حورية حقيبة يدها، واخرجت مجموعة أوراق مالية، سألتك ان تبقيها معك، وعندما ترددت في اخذها، أخبرتك بانها لا تعطيها لك لتنفقها على نفسك، وانما لتكون تحت تصرف المارشال، فيما اذا احتاج لصرف أي مبلغ اثناء الجولة، لتتولى انت الدفع بما في ذلك اجرة الكروسة. 

لم يكن هناك ما يملأ ذهنك بعد ان غادرت بيت حورية الا دقات الساعة التي تحدد ما تبقى من الزمن لبداية الزيارة، وتدنيك ثانية بعد الأخرى، من هذا الموعد الخطير، الذي سيكون حدثا مهولا في حياتك. ذهبت مباشرة إلى روضة سيدى الحطاب القريبة تصلي ركعتين لله، وتسأل الولي الصالح بجاهه عند ربه ان يحرسك ويحميك ويعينك في ان تمضي الجولة دون مشاكل. نمت نوما متقطعا، راودتك خلاله أحلام كثيرة، كلها تدورحول جولة الغد مع المارشال، تصورها قبل حدوثها، وتصور المارشال الذي يأتي متنكرا في اشكال غير آدمية، فهو حينا في صورة طائر كبير يهبط من السماء، له ريش ومخالب الطيور ووجه إنسان هو وجهه الحقيقي، وفي صورة أخرى يصير ثورا له قرنان، تزين عنقه النياشين العسكريه، أو تراه فيلا له خرطوم في شكل بندقية ويرتدي خوذة عسكريه، أو رجلا يرتدي بذلة مارشال الجو له رأس ثعبان يبرز من فمه نابان ازرقان يجري نحوك لافتراسك وأنت تجري مستنجدا بسيدي الحطاب.  

انتهى الجزء الثاني من (خرائط الروح)