تأخذنا الباحثة المغربية في رحلة تاريخية تتناول فيها سيرورة فن الارتجال المسرحي، وتبدأ رحلتها من العروض الأوربية الريفية إلى الكوميديا ديلارتي الايطالية، وتتمهل عند آلية هذه العروض وتقنياتها الفنية وطبيعة شخوصها ومفهوم المتعة والاحتراف، والمؤثرات التي تركتها في المسرح الغربي.

الارتجال في المسرح الغربي

نجـوى خالـدي

الحديث عن الإرهاصات الأولى لظاهرة الارتجال يأخذنا إلى الغوص في بحر عميق ونبش ماض بعيد، والبحث في الذاكرة المسرحية عن هذا الشيء الذي استطاع أن يخلق مسرحا متميزا. ولا يمكننا أن نتحث عن الارتجال دون أن نستحضر ما كان للكوميديا ديلارتي Commedia Dell Arte من دور في بناء المسرح الارتجالي، فهي النواة الأولى لهذا النوع من المسرح، والخطوة القوية التي جعلته على هذه الصورة التي نجدها اليوم أمامنا.

يرى تشلدرون تشيني أن الارتجال بدأ مع المهازل الأتيلية الريفية والتي أطلق عليها هذا الإسم لمجيئها من قرية أتلا في كامبانيا، وبحكم موقعها القروي فقد كانت تعالج القضايا التي يعاني منها المجتمع الريفي، فرغم أن هذه القضايا كانت تتميز بكونها ذات قالب ثابت لا يتغير، فقد كان الممثلون أحرارا يرتجلون ما يشاؤون، كما تميزت هذه المهازل بوجود شخصيات مشهورة وثابتة كـ(الزوج الغبي، والولد الغني، والشخص النهم..) إضافة إلى ارتداء هذه الشخصيات لأقنعة في احتفالاتها.

من هنا نلمس الطلائع الأولى للملهاة المرتجلة التي تعتبر روما مكان ولادتها، هذه الملهاة التي غزت شوارع روما وأسرت قلوب حمهورها بمسرحياتها الخالدة، يقول تشلدرون تشيني عنها: "كاد تطورها يتم دون أن يعرف الحوار المكتوب لقد كانت تمثيلية مسرحية صرفة، تمثيلية مسرحية أصيلة إلى الحد الذي يثير العجب، تتسم بما كانت تتسم به مسرحيات هذه الفترة من خشونة وإسفاف وفجور، لقد كانت في أوائل عصر النهضة تمثيلية سوقية خالية من الاستخفاف والتهكم، تمثيلية تعبيرية ومسلية إلى حدود التسلية، وكان الإخراج المسرحي في مسارح البلاطات يتطور بوصفه فنا من فن الزخرفة، وعرضا جديدا يعنى بناحية الفخامة والأبهة التي توائم حياة السرف ومظاهر الترف التي كانت تتنافس فيها أسر الأشراف والنبلاء، لقد كان المسرح يقوم بدوره البراق في تقديم التحرر الإنساني"(1).

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الملهاة كانت تنطلق من إثني عشرة حفلة تمثيلية تطن طنين النحل، لكن واحدة فقط من بين تلك الحفلات هي الحفلة المفضلة، والرمز المجسم لفرحة العيد المليئة بالمرح واللعب، وذلك لما كان يحافظ عليه ممثلوا كوميديا ديلارتي من حيلهم القديمة وارتجالهم المهزلة بكل ما أوتوه من قوة وفن وسوقية يمتزج بعضها ببعض، فكنت إذا مررت بشوارع روما أيام أعيادها تجد الميادين والأرصفة مليئة بممثلين سخروا كل طقاتهم لإرضاء جمهورهم القادم من كل مكان.

إن الملهاة شيء يجب أن ينظر إليه باعتباره مسرحا خاصا، أي باعتباره لم يوجد قط مسرحا مكتوبا أو مسرحا منظريا استعراضيا.

فالملهاة المرتجلة ماهي إلا أشياء بسيطة إذا اجتمعت كونت لنا مسرحا متميزا، هذه الأشياء المتمثلة في وجود رصيف للعرض وممثلين للأدوار وفعل، وهكذا نحصل على ملهاة مرتجلة بكل بساطة.

والملهاة المرتجلة تترجم عادة بالملهاة الحرفية (الحرفة) أو ملهاة الارتجال والمقصود بالحرفة هنا كما يوضحه لنا تشلدرون تشيني: "إنها مسرح المحترفين الفنيين، وعمل أهل الحرفة الواحدة وليس يكفي أن يكون الممثل محترفا بالمعنى الحديث لكلمة اللاحتراف، بل يجب أن يكون واسع التجربة شديد المرانة، بوصفه ممثلا ومخرجا يستطيع أن يرتجل دوره من لا شيء، اللهم إلا خلاصة للمشاهد بعينها في ذهنه، إنه لم يكن ثمة في الواقع نص مكتوب بأيدي ممثلي الملهاة المرتجلة، بل كان ما كان هناك مجرد (سيناريو) معلق خلف المنصة وعلى الممثل أن يستكمل الباقي في ابتكاراته الشخصية ومما يفيض به ذكاؤه ومما في جعبته من حيل"(2)، وهنا نستحضر الممثل في عصرنا الحاضر، الذي تقدم إليه الكلمات مكتوبة فتنحصر مهمته في تفسير تلك الكلمات، في حين أن ممثل الملاهي الإيطالية في القرن السادس عشر، يصنع دوره بنفسه مع كل حركة يقوم بها على خشبة المسرح، مع كل صرخة تنبعث من أعماقه، فنلمس ذلك النمو الخفي للدور لحظة بلحظة.

والعادة في الملهاة أن يكون الممثل على إطلاع بنهاية الفعل والغرض منه، لكنه لم يكن يدري ما سيقوله زملاؤه، لأنه هو وزملاؤه كانوا يرتجلون هذه الأقوال مما تعيه ذاكرتهم من الحوار التقليدي المحفوظ من جهة، ومن خطبه وأحاديثه هو التي أصبح لها فعلها وأثرها من كثرة التكرار، فالقاعدة في هذه الملاهي لا تعتمد على نص ثابت، إنما تقترح فكرة تعتبر أرضية للعرض الارتجالي ككل.

كما تميز ممثلوا هذه الملاهي بإهمالهم للتعابير التي تظهر على الوجه، لأنهم كانوا يرتدون أقنعة، هذه الأقنعة مع اللباس الذي كان يناسبها، كانت تمثل شخصية معروفة لدى الجمهور أي من خلال القناع واللباس فقط دون إعارة الإهتمام لما وراء ذلك، كشخصية (الطبيب من بولونيا، والضابط الإسباني الكذاب الفخور..)، وكانت تستند لممثل الملهاة مهمة صعبة تتمثل في ضرورة إثارة الضحك من صميم الشخصية التي يمثلها فهو الذي يثبتها، وهو الذي يصنع منها كاريكاتيرا يستطيع من خلالها خلق التواصل مع الجمهور، يقول فليب مونيه: "وقد كانوا جميعا ممثلين صامتين وبهلوانات وراقصين وموسيقين وممثلي ملاهي في آن واحد، لقد كانوا أساتذة الضحك العظام وزراع الأنس والإنشراح، وخدام الملأ الأعلى الذي لا تراه العيون. ملوك الإلهام إنهم لم يكن عليهم إلا أن يتسلموا السيناريو الذي سوده أحدهم لهوجة فوق ركبتيه، ثم يراقبوا مديرهم المسرحي في الصباح ليعدو مجمل العقدة الروائية، ثم يعلقوا الورقة (اللافتة) بحيت تكون في متناول أي يد عند الأجنحة (الكواليس)"(3). إضافة إلى كل هذا كان ممثلو الملهاة المرتجلة يمتلكون من الحكايات والمحفوظات الشيء الكثير، ومن التشابيه والاستعارات ما يجعلهم يسترسلون في الحديث دون توقف، ومن ألوان القذف والتشهير والكراهية والحب والسعادة ما يجعل المتفرج يقف مشدوها أمامهم، وكان كل ما يقدمونه في كل هذا بعيد كل البعد عن أي تكلف أو صنعة، فإبداعهم كان يولد في لحظته وللحظته.

فكوميديا ديلارتي استطاعت أن تترك بصماتها القوية وتأثيرها في معظم مسارح العالم سواء الألماني، أو الإنجليزي أو الإسباني، مما يعكس أهميتها وقابليتها للتعبير عن روح العصر كما تعتمد جورج ساند من خلال قولها: "إنني متأكدة بأن في الماضي بذورا سوف تؤتي أكلها في المستقبل بمسرح ارتجالي متحرك، بالنسبة للحوار مع بقاء هذا الارتجال مرتبطا بسيناريوا مهيأ بإمعان وروية، إن الكثير من الممثلين اليوم يتمتعون بالثقافة والذكاء، والمواهب اللازمة لهذا العرض، لكن حصر هذا التمثيل بالمسرحيات المعدة من قبل لا يسمح لهم بإظهار وتطوير مواهبهم"(4).

وأخيرا، رغم ما عرفته الملهاة المرتجلة من ازدهار وتطور، فقد كانت نهايتها أشد بؤسا، وأوجع في النفس حزنا وألما، فخلال القرن الثامن عشر زالت الابتكارات الجديدة، وذبلت روح هذه الملهاة، وهبطت الملهاة الحرفية إلى هاوية هذه الأنماط الفجة العتيقة، وفي كثير من الأحيان إلى هاوية الأنماط الشهوانية الداعرة التي ازدهرت منها تلك الملهاة، ولقد كانت هذه الشهوانية بصفة خاصة هي التي أدت إلى إنهيار النهائي الذي آل إليه أمر تلك الملهاة.

فبعد هذه الرحلة القصيرة مع تشلدرون تشيني نسجل أن الملهاة المرتجلة قد تدرجت من النشأة إلى الازدهار ثم إلى التدهور، لندرك أن الرحلة لم تكن سهلة بالنسبة إلى من حاولوا وضع ركائز لهذا الفن الذي تخطى الحدود الإيطالية ليشمل معظم الأقطار.

 

(باحثة أكاديمية مغربية، باريس)

 

المصادر والمراجع:

(1) تشلدرون تشيني، المسرح في ثلاثة ألاف سنة، ترجمة: خشبة دريني، مراجعة: علي فهمي، الجزء الأول، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، 1998، ص:376.

(2) نفسه، ص:326.

(3) نفسه، ص:326.

(4) جورج ساند، نقلا عن ليون سانصوبيل، تاريخ المسرح، ترجمة: خليل شرف الدين ونعمان أباضة، منشورات عويدات، بيروت، لبنان 1960، ص: 160-161.