يقدم هنا الباحث والجامعي المصري قراءته لجزء من مدونة روائية تسعى لتتبع مسارات الروح في مراحلها أو منازلها المختلفة، ويتناول مسألة فاعلية الميثولوجيا فيها، وأهمية تعدد اللغات والرواة بها وتعدد مستويات الحدث وتنوعه وفترته الزمنية. مما أتاح للجوانب الميثولوجية أن تنهض بدور فاعل فى الهندسة المعمارية.

فاعلية الميثولوجيا فى رواية «كابتشينو: حكاية روح»

عايدى على جمعة

(كابتشينو) هو الجزء الثالث من حكاية الروح لفتاة تدعى سهر قدمها المؤلف السيد حافظ بعد أن قدم الجزء الأول والثانى بعنوان (قهوة سادة) و(نسكافيه). والرواية تستعرض قصة روح سهر التى تعتنق مذهب الموحدين والذى يعتمد على أسطورة أن الروح تأخذ سبع فرص فى الحياة وتنتقل من جسد إلى آخر عبر العصور حتى تصل فى المرحلة السابعة إلى مرحلة التطهر لتدخل الجنة، وفى الجزئين الأولين قدم الروح الأولى وهى قصة نفر مع إخناتون وقدم أيضا الروح الأخيرة وهى سهر أما فى كابتشينو فهى الروح الثالثة قصة نور مع موسى عليه السلام.

فى رواية "كابتشينو" للسيد حافظ لايبدو الراوى الواحد هو النمط المعتمد، وإنما هناك أكثر من راو، مما كان له إسهامه الواضح فى عدم السير فى اتجاه واحد، وفى هذه الرواية يتوزع دور الراوى على نوعى الجنس البشرى، وذلك من خلال الراوى الذى ينتمى لعنصر الرجل كما بدا من خلال فتحى رضوان خليل أو كاظم والراوى الذى ينتمى للمرأة كما بدا من خلال شهر زاد. وبدت ـ نتيجة لوجود أكثر من راو واختلاف النوع والمنطلقات ـ البنية المكانية متعددة، كما بدت أيضا البنية الزمانية متداخلة، ولها مساحة كبيرة جدا تصل إلى آلاف السنين، حيث نهض إبراهيم فتحى أحد أبطال الرواية برواية جزء كبير من الأحداث الحاضرة، فى حين نهضت شهر زاد ـ ولا تخفى دلالة الاسم ـ إحدى الشخصيات الأساسية فى الرواية برواية أحداث قديمة تدور حول قصة الحب العميقة بين نور ـ الفتاة اليهودية التى اتبعت النبى موسى ـ ومحب القائد الفرعونى الذى لايؤمن بتعاليم النبى موسى، وهى تقص ذلك على سهر إحدى الشخصيات المحورية فى الرواية، حيث ترى شهر زاد أن نور هى روح سهر تجلت فى الزمن القديم، وظل السرد متواليا بين الأحداث القديمة والأحداث المعاصرة على مدار الرواية.

 كما أن هناك فى هذه الرواية استدعاءات صوتية متنوعة، قديمة وحديثة، عربية وأجنبية، شعرية ونثرية، مما أظهر الراوى بسمة الديمقراطية واتساع الصدر، بحيث يفسح المجال الواسع لأصوات غير صوته. وقد كانت هناك هوامش كثيرة على متن الرواية، وهذه الهوامش كان لها راو مختلف يبدو من سماته أنه مؤلف الرواية نفسه، وكانت هذه الهوامش غير مرتبطة ارتباطا ظاهرا بمتن الرواية، وإنما تستدعى بنية السيرة الذاتية،بما لها من طابع توثيقى أو تعليقى أو بوح ملئ بحس الشجن والنشيج مما ساهم فى التعددية الصوتية، وتعدد أشكال الراوى فى الرواية وما يتعلق بها من هوامش. وفتح نتيجة لذلك قنوات كثيرة للتلقى لدى القارئ، لأنه يتلقى سردا متوازيا ومتواليا ومتفرعا.

ومما يلفت النظر بقوة فى رواية (كابتشينو) هو بنيتها الفكرية، فالدلالة المركزية فيها هي انتقالات الروح عبر سبعة أجساد وحيوات مختلفة كى تنال التطهر، ومن ثم الخلود، وهذه فكرة ميثولوجية، مما جعل الرواية تسبح فى جو مختلف عن الأجواء الواقعية التى كرستها الرواية المصرية المعاصرة، وجعل الرواية على الرغم من ضخامتها حيث وقعت فى 401 صفحة لاتكتمل بذاتها، وإنما تصبح جزءا من سبعة أجزاء كاملة كلها تتعقب حياة سهر فى كل جزء، أو فى كل حياة عاشتها، وتتتبع روحها فى كل جسد عاشت فيه، وينقل فى كل جزء عصرا مختلفا عاشت فيه روح سهر، وتتعرض لاختبارات حقيقية فى كل عصر، هذه الاختبارات تشعل جسد سهر فى كل مرة حتى يبقى منها الجوهر الفرد وهو روحها، وقد خلص من الشوائب العالقة به وأصبح متطهرا، وجديرا بنيل الخلود.

ولم يقتصر الأمر على سهر فقط الشخصية المحورية فى رواية (كابتشينو) وإنما رأينا تجاوب سيد حافظ نفسه قبل بداية الرواية أو فى عتباتها الأولى مع هذه الرؤية، حيث يقول فى ص 7 "لست مؤهلا إلا لكتابة شئ عن نفسى إننى أؤمن بأن روحى ستنتقل فى جسد آخر فى زمن آخر ومكان يقدرها ويمسح الله بيديه عليها . . إنه يعلم أنها تواقة للجمال المطلق فى كل شئ . . إنه يعلم ما شاهدته فى مصر والوطن العربى من عذابات . . إن روحى تعذبت من الغباء والقبح وغياب الضياء والبهاء . . وغياب الأنبياء"

لقد انسحبت هذه المقولة على العالم الروائى لرواية كابتشينو وطبعتها بطابعها. وقد بدا العالم الروائى ذا معمار خاص. وسيدهش المتلقى من هذه القدرة الهائلة على التتبع والاستقصاء والتنوع، وكأنه يقرأ فى كتاب الحياة وليس فى رواية. فعمل سيد حافظ ينتمى إلى المشروعات الكتابية الكبرى التى تتبع الشخصية عبر عصور وأزمان مختلفة، وتتبع مرورها بأحداث وأجسام مختلفة. وقد تميزت رواية (كابتشينو) بالاستدعاءات الصوتية المتنوعة وذات الكثرة الواضحة. وهذه الاستدعاءات الصوتية تكشف عن تفاعل ثقافى خلاق من الراوى مع ما يتردد من أصوات غير صوته المتفرد، مما أعطى للسرد فى هذه الرواية زخما واضحا، أدى إلى اتساع مجراه كما أدى أيضا إلى عمقه. وكان له دور فاعل فى عدم السير فى اتجاه واحد، مما يجعل المتلقى يتلقى هذا العمل وهو أكثر احتشادا، وفى حالة استنفار لقنوات التلقى المتعددة لديه.

وقد كان استدعاء الآية 85 من سورة الإسراء "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فى بداية الرواية ذا ثقل دلالى خاص، وكأن الذات الساردة تنطلق بالمتلقى من مركز قار، مضمونه أن الروح لا يعلم أمرها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا مالا يختلف عليه أحد، وقد أثبته القرآن الكريم من خلال هذه الآية الكريمة، ومن هنا فلا داعى للعجب من نص الرواية حينما يكرس وجود سبع حيوات لروح سهر عبر أزمان مختلفة، وفى أجساد مختلفة، وبأسماء مختلفة، ومع وسط اجتماعي مختلف. وكأنه يعلم الطبيعة العامة لأغلب المتلقين من حيث عدم الإيمان بهذه الفكرة أصلا، بل وقد يثور بعضهم بأثر من منظوره الدينى الخاص، فساقهم إلى نوع من التأنى قبل ثورتهم.

وقد حظيت الاستدعاءات الصوتية الشعرية بحضور فذ على مدار الرواية كلها، وقد بدا ذلك ذا إسهام واضح فى الدلالة الكلية التى تشعها الرواية، لأنها رواية تنهض بتتبع الحياة لروح فتاة، وليس الشعر ببعيد عن هذا الجو الطقوسى الذى تسبح فيه الرواية. وإذا كانت اللغة النثرية تتوازى مع العالم المعيش لسهرفإن اللغة الشعرية بما تحمله من أجنحة خيالية تتوازى مع روح سهر فى عصر موسى عليه السلام. والدلالة الناتجة عن تعدد عالمين تعيشهما هذه الروح. وبذا لم تكن اللغة السردية تمضى في اتجاه واحد، وإنما جمعت بين النثر والشعر. مما أوحى بتداخل العوالم، ووجود ظاهر وباطن. وأعطى امتدادات زمنية بينها تجاوب، و كان للصوت الشعرى دور مهم فى هذا التجاوب.

ولم تكن هذه الاستدعاءات الصوتية الشعرية خاصة بالشعراء المصريين فقط، وإنما كان للشعراء العرب حظهم الكبير فى هذه الاستدعاءات، فوجدنا أصوات سيف الرحبى وعماد على قطرى وعبد الكريم برشيد وغيرهم من الشعراء والكتاب. كما أن الشعراء الأجانب لهم حضورهم أيضا، ولكن جاء صوتهم فى نسخته المترجمة إلى العربية، وليس فى نسخته الأصلية بلغتهم الأم. وكان لوجود الأصوات الشعرية الكثيرة والمتنوعة دور واضح فى قطع الحدث، ثم وصله بعد ذلك. وكأن الرواية تستغرق فى جو غامض يتواءم مع جو الحياة السابقة لروح سهر، هذا الجو الذى تستدعيه شهر زاد، وكأن هذه الرواية ـ باستدعائها لاسم شهر زاد ـ تطمح فى أن تكون رواية الروايات على طريقة ألف ليلة وليلة الخالدة.

وقد بدت ثيمة المعاناة الرهيبة ـ فى هذه الرواية ـ للمصريين فى هذا العصر وفقرهم وخروجهم من بلدهم إلى بلاد أخرى من أجل الحصول على الرزق الذى عز عليهم فى بلدهم متوائمة مع الدلالة العامة فى الرواية التى تكرس لمعاناة سهر، وكأن نيران المعاناة الدائمة تنهض بمهمة التطهير من أجل دخول الجنة. كما تكرس الرواية لدلالة جلد الذات المصرية بصورة فى غاية الحدة، حيث تتمركز الدلالة فى هذه البؤرة، وعلى مدار صفحات الرواية، نجد الهامش الذى يمثل صدى بعيد النغمات لما يدور فى المتن يلقى باللائمة على المصريين، من ذلك ما جاء فى الهامش رقم 5 من الرواية، حيث يقول " اكتشفت أن أول من فكر فى الاستيلاء على الحكم بالخديعة هم الفراعنة فقد قام ست بخديعة أوزوريس أخيه ووضعه فى الصندوق . . وألقى به فى النيل .. ولما عادت الحياة له بدموع زوجته إيزيس قام مرة أخرى ست ومزقه أربعين جزءا ودفن كل جزء فى قرية من قرى مصر. . إذا نحن من اخترعنا خدعة الاستيلاء على الحكم وعلمناها العالم".

ويقول فى الهامش رقم 41 من الرواية: " نحن المصريون (كذا) أول من اخترع السجون فى العالم. . سيدنا يوسف فى السجن . . مع أن القضاء الشامخ فى عهد العزيز قال إنه برئ. وسجن 7 سنوات. ونحن أول من أخذ الثأر فى العالم ثأر حورس وقتل عمه ست. . ونحن أول من أرسل الله لهم نبيا سيدنا إدريس ليهدينا من الفساد. ونحن أول من اخترع الظلم منذ 7 آلاف سنة . . اقرأ كيف كانوا يجمعون الضرائب من الفلاحين فى عهد الفراعنة قبل إخناتون وبعده . . منشأ كل ضلالة من هنا ومنشأ كل فكرة طيبة كانت من المسلمين غير العرب لأن العرب أسوأ من المصريين وأول من أفتى بالإرهاب والقتل كان إماما من مصر فى عهد سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه حيث أفتى إمام مصر آنذاك بقتل سيدنا عثمان بن عفان ومن قتل سيدنا عثمان بن عفان كانوا 32 شخصا منهم 28 مصريا . . نحن العرب واليهود تركيبة واحدة اقرأ التاريخ يا عزيزى جيدا "

وبذا يبدو أن أرض مصر تمثل المطهر الذى يحترق فيه الطيبون من أبنائها، وهذه الدلالة تتواءم مع الدلالة العامة للرواية، حيث تسبح شخصية سهر المحورية فى جو من المعاناة والحرمان، تماما مثل الطيبين من أبناء مصر فى هذا الزمن الصعب. ومما يلفت النظر بقوة أيضا فى رواية "كابتشينو" تعدد المستويات اللغوية فيها، حيث بدا السرد منتميا للغة الفصحى، سواء كان السارد متمثلا فى شخصية ذكورية هى فتحى رضوان خليل أو كاظم، أو كان متمثلا فى شخصية أنثوية هى شهر زاد، وسواء كان السرد يستدعى أحداثا منتمية إلى الجانب التاريخى القديم، فى عصر سيدنا موسى عليه السلام، أم كان منتميا إلى اللحظة الراهنة، ولكن الحوار لم يسر على نمط واحد، حيث بدا الحوار بالفصحى عند تناول الأحداث التاريخية وبالعامية الشامية عند تناول الأحداث الراهنة. مما كان له الأثر البالغ فى تعدد المستويات اللغوية فى هذه الرواية وعكس بالتالى تعدد مستويات الحدث وتنوعه وفترته الزمنية. ومن هنا يبدو بوضوح ما نهضت به الجوانب الميثولوجية من دور فاعل فى الهندسة المعمارية لرواية كابتشينو.

 

كلية الإعلام/ جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب